الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3- الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى
* الأستاذ المراغى فى مدرسة الشيخ محمد عبده:
لم نعرف من رجال هذه المدرسة رجلاً تأثر بروح الأستاذ الإمام، ونهج على طريقته من التجديد واطراح التقليد، والعمل على تنقية الإسلام من الشوائب التى أُلصقت به، وتنبيه الغافلين عن هَدْيه وإرشاده، مثل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى عليه رحمة الله ورضوانه.
تربَّى هذا الرجل فى مدرسة الأستاذ الإمام، وتخرَّج منها وهو يحمل بين جنبيه قلباً مليئاً بالرغبة فى الإصلاح، والثورة على كل ما يقف فى سبيل الإسلام والمسلمين.
هذا القلب الفتى، العامر بما فيه من حب للخير ورغبة فى الإصلاح، دفع بالرجل إلى ميدان الحياة الاجتماعية، وترقَّى به فى مراتب المناصب الدينية، وأخيراً وقف به عند الغاية، فإذا بالرجل شيخاً للأزهر، وإذا بروح الإصلاح والتجديد تتدفق من فوق منبره، وعلى قلوب طُلابه وغير طُلابه، ثم تنساب جارفة إلى نواح من الحياة المختلفة، فتعمل فيها عمل السحر، والحياة والنور.
لم يلازم الشيخ المراغى أستاذه الإمام ملازمة طويلة كما لازمه الشيخ رشيد، ولم يجلس إليه كثيراً مثلما جلس، ولكنه كان على رغم ذلك أعمق أثراً وأكثر تحقيقاً لما تهدف إليه هذه المدرسة من ضروب الإصلاح وصنوف التجديد، والسر فى ذلك - كما يظهر لنا - هو تقلب الشيخ فى مختلف المناصب الدينية الكبيرة، ثم ما كان فيه من جاذبية وقدرة على استجلاب قلوب سامعيه واستمالتها إليه، مما أجلس بين يديه الملك، والأمير، والوزير، والشيخ الكبير، والطالب الصغير، ورجل الشارع.
جلس هؤلاء جميعاً يستمعون إليه ويأخذون عنه، فكان الميدان فسيحاً أمام الشيخ، يلقى فيه بآرائه وأفكاره، فتجد الدعوى قبولاً من مستمعيه، ورواجاً عند مريديه.. ثم لا تلبث أن تنتشر فتعم كل شىء.
وإذا كان كتاب الله هو الدستور الذى شرعه الله تعالى للأُمة الإسلامية، وجعل فيه خيرها وسعادتها فى الدنيا والآخرة، فِلمَ لا يكون هو الباب الذى يصل منه الشيخ إلى ما يرجوه من خير، وما يهدف إليه من إصلاح.
* *
* إنتاجه فى التفسير:
طرق الشيخ هذا الباب، فعقد دروساً دينية فى تفسير القرآن الكريم، استمع إليها الكثير من الناس على اختلاف طبقاتهم، من الملك إلى رجل الشارع كما قلت، وأُذيعت هذه الدروس أيضاً فى كثير من ممالك الأرض، ودول الإسلام، وأخيراً طُبعت هذه الدروس، ووُزِعَّت على الناس ليعم نفعها، ويزداد أثرها.
لم تكن هذه الدروس على شىء من الكثرة، ولم يكن مقدار ما تناولته من آيات القرآن بالمقدار الكبير، الذى كنا نرغب ونطمع فى أن تُزَوَّد به المكتبة الإسلامية.
نعم.. لم تتناول هذه الدروس من آيات القرآن إلا مقداراً قليلاً، وإذا نحن ذهبنا نستقصيه فإنَّا لا نجده أكثر من شرحه لقوله تعالى فى الآية [177] من سورة البقرة:{لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب}
…
إلى قوله: {أولائك الذين صَدَقُواْ وأولائك هُمُ المتقون} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [133-138] من سورة آل عمران: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض}
…
إلى قوله: {هاذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيتين [13، 14] من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً}
…
إلى قوله: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [151-153] من سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
…
إلى قوله: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [183-186] من سورة البقرة: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}
…
. إلى قوله: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [24-29] من سورة الأنفال: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}
…
إلى قوله: {والله ذُو الفضل العظيم} .
وشرحه لسورة الحجرات، وشرحه لسورة الحديد، وشرحه لسورة لقمان.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [160-165] من سورة الأنعام: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
…
. إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات {199-206] من سورة الأعراف: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف}
…
إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [30-34] من سورة فصلت: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا}
…
إلى قوله: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
وشرحه لأوائل سورة الأعراف إلى قوله فى الآية [9] : {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولائك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [112-123] من سورة هود: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}
…
. إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيتين [58، 59] من سورة النساء: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا}
…
إلى قوله: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآية [17] من سورة الرعد: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}
…
. إلى قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [83-88] من سورة القصص: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلَا فَسَاداً والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ}
…
إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [1-10] من سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ}
…
. إلى قوله: {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [63-77] من سورة الفرقان أيضاً: {وَعِبَادُ الرحمان الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً}
…
إلى قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} .
وشرحه لسورة العصر.
وشرحه لسورة الملك.
هذا هو كل ما للأستاذ المراغى رحمه الله من إنتاج فى التفسير، وهو على قلَّته عمل كبير وعظيم، بالنظر لما يهدف إليه من إصلاح، وما يحمل فى طيَّاته من توجيه حسن فى التفسير.
وحسب الشيخ أن يكون قد لفت قلوب كثيرة من المسلمين إلى القرآن، بعد أن أعرضوا عن هَدْيه، وضَلُّوا عن إرشاده، وتلك حسنة نرجو له برها وذخرها عن الله.
* *
* منهجه فى التفسير:
يتتبع الإنسان إنتاج الأستاذ الأكبر فى التفسير، ويستقصى ما عرض له من آيات القرآن الكريم، فيلحظ أن الشيخ - رحمه الله تعالى - كان يختار لدروسه من آيات القرآن ما تتجلى فيه دلائل قدرة الله وآيات عظمته، وما تظهر فيه وسائل هداية البَشر، ومواضع العظة والعبرة، كما يلحظ أيضاً أنه وجَّه جانباً كبيراً من عنايته إلى الآيات التى يجمعها وقضايا العلم الحديث صلة القُربى، ليظهر للناس أن القرآن لا يقف فى سبيل العلم، ولا يصادم ما صح من قواعده ونظرياته، وذلك بما يهديه الله إليه من الدقة فى التوفيق بين قضايا القرآن، وقضايا العلم الحديث.. دقة لا يبلغ شأوها، ولا يدرك خطرها إلا مَن شغل نفسه، وكدَّ فهمه فى هذا السبيل.
* *
*مصادره فى التفسير:
وأعتقد أن الشيخ رحمه الله كان يستند فى تحضير دروسه على كتاب الله تعالى بجمع ما كان من الآيات فى موضوع واحد. لعل ما أُجمل فى موضع فُسِّر فى موضع آخر، وما أُبهم فى آية بُيِّنَ فى آية أخرى، وكان يستند أيضاً إلى ما صح من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان السَلَف الصالح من الصحابة والتابعين، ثم على أساليب اللُّغة وسنن الله فى الكون، ثم على ما كتبه قدماء المفسِّرين، ولكنه لم يلغ عقله فى هذا كله، بل كان يضع هذه المصادر كلها أمام نظره، ويعرض ما فيها على قلبه وعقله، فما أعجبه منها أقرَّه، وما لم يطمئن إليه نبذه وأعرض عنه.
لم نسمع عن الأستاذ المراغى رحمه الله أنه فسَّر القرآن بدون أن ينظر أولاً فيما كتبه المفسِّرون، ولم يبلغنا عنه أنه ادَّعى لنفسه أنه أتى بما لم يأت به الأوائل فى التفسير، بل على العكس من ذلك وجدناه يعترف بالفضل للأقدمين، ولا ينسى ما
كان لهم من مجهود طيب وأثر محمود، وذلك حيث يقول عن تفسيره:"ما هو إلا ثمرات من غرس أسلافنا الأقدمين، وزهرات من رياضهم".
لم يتحامل الشيخ رحمه الله على المفسِّرين كما تحامل غيره، ولم يرم فى وجوههم بالعبارات القاذعة اللاذعة، بل كان عفا فى نقده، نزيهاً فى عبارته، وهذا أدب ما أجمله بالعلماء، وبخاصة مع أسلافنا ومتقدميهم.
* *
* موقفه من مُبهمات القرآن:
هذا
…
وإن الأستاذ المراغى رحمه الله قد نهج فى تفسيره منهج شيخه، فوجدناه لا يخوض فى مُبهمات القرآن بالتفصيل، ولا يدخل فى جزئيات سكت عنها القرآن، وأعرض عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزج بها فى تفسيره، ولا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه، حتى يجعل منها شروحاً لما أجمله القرآن وسكت عن تفصيله، فلهذا نراه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [133] من سورة آل عمران:{وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
…
نجده يقول بعد أن ينتهى من تفسير الآية ما نصه: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنَّة مخلوقة الآن، لأن الفعل الماضى يُفْهم هذا. غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} ، فلا يدل على خلقها الآن، والبحث فى هذا لا فائدة له، ولا طائل تحته".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [183] من سورة البقرة: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ}
…
. الآية، وجدناه يقول: "
…
ونحن لا نعلم ما هو الذى فرضه الله على الأُمم السابقة من قبل، أهو شهر رمضان كما قال بعض الناس؟ أم غيره؟ وليس لنا ما يهدينا إلى شىء مُعيَّن من دليل يطمئن إليه القلب. والتشبيه لا يدل على المماثلة فى كل شىء، فنحن نؤمن بأن صوماً فُرِضَ على الأُمم السابقة، لا نعلم مقداره ولا كيفيته. ولا يزال الصوم معروفاً عند الأُمم الأخرى على أوضاع مختلفة".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [12] من سورة لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة أَنِ اشكر للَّهِ}
…
. الآية، وجدناه يقول ما نصه: "اختلف الناس فى لقمان هذا هو مَن هو؟ ومن أى الأُمم هو؟ فقيل: إنه من بنى إسرائيل، وقيل: إنه كان عبداً حبشياً. وقيل: إنه أسود من سودان مصر. وقيل: إنه يونانى. ومن الناس مَن
جعله نجاراً، ومنهم مَن جعله راعى غنم، ومنهم مَن قال إنه نبى، ومنهم مَن قال إنه حكيم. وكل هذه أقوال ليس لها سند يعول عليه، وبعد أن وصفه الله بالحكمة فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأُمم، ولا يضع من قدره أنه كان زنجياً مملوكاً".
* *
* عنايته بإظهار أسرار التشريع:
كذلك نجد الأستاذ الأكبر يهتم فى تفسيره اهتماماً كبيراً بإظهار سر التشريع الإسلامى، وحكمة التكليف الإلهى، ليُظهر محاسن الإسلام، ويكشف عن هدايته للناس.
فمثلاً عندما تعرَّض لآيات الصوم فى سورة البقرة، نجده يفيض فى سر الصوم وحكمته فيقول: "الصيام أحد الأركان الخمسة التى بُنِى عليها الإسلام، وهو رياضة بدنية، وتهذيب خُلُقى، وتطهير روحى، وذلك أن الاسترسال فى الشهوات، والانغماس فى اللَّذات حجاب بين الروح وبين الكمالات القدسية والفيض الإلهى، يعوقها عن تلقى الإلهام وعن لذَّة الاتصال، ولذلك يلجأ أرباب المقامات والعارفون إلى الصوم، كلما أحسوا بُعْداً عن الذات الإلهية، وانزعج خاطرهم شوقاً إلى القرب منها.
"وفى الصبر على الحرمان من اللَّذات التى تنازع إليها النفس، وتقتضيها الطبيعة، تربية للإرادة، وتقوية على المضى فى العزم، وعدم نقض العقد والعهد إذا وسوس الشيطان وزيَّن للنفس الخروج عن العهود، لما فيها من المشقات، وفى تقوية الإرادة على هذا النحو إعداد لتلقى التكاليف الإلهية بالقبول والطمأنينة، وتثبيت لمَلَكة المراقبة والخوف من الله، وتقوية لخُلُق الحياة، وفى هذا كل الخير، وبه تتحقق تقوى الله، وتستعد النفس للسخاء، والبذل والتضحية، إذ دعا الداعى، وحان وقت الفصل بين شجعان الرجال وجبنائهم، وبين كرامهم وأنذالهم.
"وليس يخفى أن كل شىء فى هذه الحياة ممكن. الفقر بعد الغنى، والمرض بعد الصحة، والذلة بعد العز، والنزوح عن الأوطان بعد الطمأنينة فيها، وتغلب الأعداء بعد الغلب عليهم وقهرهم
…
وما إلى ذلك ما هو بسبيل أن يعرض للإنسان. وعروض هذه الأشياء على نفس مدللة، وجسم مترف، ينام بقدر، ويأكل بقدر، ويمرح فى اللَّذات بين الأهل والعشيرة، قد يصدمه صدمة لا يقوى على احتمالها، أو يسوق إليه الجزع ويورثه اليأس.
لذلك كله اقتضت حكمة الحكيم العليم، أن يجعل من العبادات ما يروض
الأجسام ويهذب الأخلاق، ويطهر الأرواح ويزكيها.. وكان من هذه العبادات الصوم.
"وكما عَنِى الإسلام بتزكية الأرواح وتهذيب الأخلاق، فقد عَنِى بتربية الأجسام، وحرَّم كل ما هو ضار بها، وأباح الطيبات وكل ما هو نافع ومفيد، ذلك أن الإسلام يريد رجلاً عاملاً فى الحياة، مهذب الأخلاق، طاهر الأعراق، قوياً لا يهاب الموت، يدفع عن الدين ويدافع عن الوطن، ويذود عن العشيرة، ويريد رجلاً رحيماً حسن المعاشرة، سلس القياد لأهله، وعشريته، وبنى وطنه، يريد رجلاً لا تلهيه الدنيا عن الاتصال بالخالق وأداء حقوقه
…
" إلخ.
* *
* معالجته للمشاكل الاجتماعية:
كذلك نجد الشيخ المراغى رحمه الله يعرض لمشاكل المجتمع وأسباب الانحطاط فى دول الإسلام، فيعالج كل ذلك بما يفيضه الله على قلبه وعقله ولسانه، من هداية القرآن وإرشاده.
ولقد كان الأستاذ رحمه الله بصيراً بمواطن الداء، وأسباب الشفاء، فكان يهدف فى دروسه إلى علاجها واستئصالها، وكان كثيراً ما يوجه الخطاب إلى أرباب الحل والعقد فى الدولة - وهم غالبية المستمعين له - ويُلفت أنظارهم إلى ما فى أعناقهم من أمانات، وما عليهم من تبعات، ثم يأخذ بيدهم إلى حيث يكون صلاحهم، وصلاح مَن تحت إمرتهم ورعايتهم
…
يدفعه فى هذا كله إخلاصه لربه، ولوطنه، ولأُمته.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [13] من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً}
…
. الآية، نجده يقول: "
…
والحكمة فى هذه الشرائع الإلهية: أن الإنسان إذا تُرك إلى مداركه الحسية ونظرياته العقلية، ضلَّ وكره الحياة، وكان أشقى من أنواع الحيوان، وشقاؤه يكون من ناحية العقل نفسه، فقد دلَّت التجارب على أن العقل غير المؤيَد بالشرع الإلهى يذهب مذاهب شتَّى، منها الصواب ومنها الضلال، وهو فيما عدا المحسَّات والماديات ضلاله أكثر من صوابه. وهذه آراء العلماء فى الفلسفة والأخلاق، يشبه بعضها هذيان المحموم، وبعضها لا يُدرَك له محصل على كثرة ما يقولون من مقدمات وبراهين. وهذه مذاهب الاجتماع قديمها وحديثها، لم تسعد الأُمم بها، فلا بد من هداية تصدر عن المعصوم يحملها من عند الله العلى الحكيم. وقد دلَّت التجارب أيضاً على أن الأُمم التى عملت بالهدى كله أو بعضه سعدت بمقدار ذلك الهدى الذى عملت به.
"وأما أنه لولا الدين لما احتمل الإنسان هذه الحياة، فإنها على قصرها مملوءة
بالمصائب والويلات، فمن فقر مدقع، إلى مرض مزمن، ومن فقد الأهل والعشيرة، إلى فقد العزة والجاه، ومن شرف رفيع، إلى ذلة ومهانة.. واحتمال هذا كله إذا لم يكن أمام الإنسان أمل ينتظره، وحياة دائمة فيها سعادة دائمة ليس فى طاقة الإنسان، فالاعتقاد بالآخرة يرفه العيش، ويجعل المؤمن فى سعادة نفسية، ويقويه على احتمال الصعاب، وعلى الصبر على معاشرة الناس، فلا بد من نظام يُعتقد فيه العصمة من الخطأ، ويُهدر معه حكم العقل إذا حصل تعارض بينهما، فإن دائرة العقل محدودة، وهى قاصرة عن إدراك خفايا المستقبل.
"وإذا قيل: إن التدين مُقيِّد للحرية، ومانع من التمتع باللَّذات، فكيف تكون فيه السلوى والعزاء؟ فالجواب: أن الإسلام أباح الطيبات وحرَّم الخبائث، ولم يحظر من اللَّذات إلا ما يضر الإنسان، وليست السعادة فى حرية البهائم، بل فى حرية يسبح بها فيما فيه خيره وسعادته، ويحظر عليه فيها ما فيه ضرره وشقاؤه، وقوام آداب الأُمم وفضائلها، التى قامت عليها صروح المدنية الحقة مستند إلى الدين، وبعض العلماء يحاول تحويلها عن أساس الدين، وبناءها على أساس العقل والعلم، غير أنه لا شبهة فى أن الأُمم التى تروم هذا التحول تقع فى اضطراب وفوضى لا تعلم عاقبتهما، وليس من الميسور أن تُبنى للعامة قواعد الفضيلة على أساس علم الأخلاق، أو أية قاعدة علمية أخرى، ولكن من الميسور دئماً أن تُبنى قواعد الفضيلة على أساس العصمة للدين، فالذى يحاول العلماء: وهم وخيال".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [185] من سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} .. نجده بعد أن يشرح الآية، ويذكر ما فى القرآن من هداية يقول: "هذا هو القرآن الذى سعد به المسلمون بحياة روحية هى المثال الأعلى للنفس الإنسانية، وبحياة جثمانية طاهرة بريئة، وبحياة علمية لا يزال ما بقى من نورها يستمتع به الناس، وهو موضع للعجب، ومثار للإكبار والإجلال.
"سعدوا به حقبة، ثم انحرفوا عنه فعاقبهم الله بما هم فيه من ذل وهوان، حتى أصبحوا يخافون تخطف الناس لهم، وصاروا فى حاجة إلى غيرهم فى كل مرافق الحياة، ووصل بهم الجهل إلى حد أن ظنوا أن كل ما عند غيرهم خير يُجلب، وكل ما عندهم شر يُنبذ، وأنه لا حياة لهم إلا بالقدوة.. القدوة حتى فيما علم غيرهم شره وفساده، وحاولوا نبذه وطرحه، وقد أصبح المسلمون مُثلاً سيئة للإسلام، يحتج بهم عليه والدين منهم برىء.
"الدين يطلب رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن
ينتظر، رجالاً باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنَّة، رجالاً خلقاء بأن يكونوا خلفاء عن الله فى الأرض، يعلمون سرها، ويُسخِّرونه للخير ودفع الأذى، يدفعون عوادى الزمان بمناكبهم كأنهم بنيان مرصوص، يعرفون للكرامة قدرها، وللعزة موضعها، ويميزون بين الأعداء والأصدقاء، ويعلمون أن متاع الحياة الدنيا قليل، وأن الآخرة خير وأبقى".
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [25] من سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
…
. الآية.
وجدناه يقول بعد ما شرح الآية: "ذكر الله - سبحانه - الكتاب والميزان والحديد وقرنها بعضها ببعض، فالكتاب: إشارة إلى الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف. والميزان: إشارة إلى سلوك الناس على وفق هذه الأحكام. والحديد: إشارة إلى ما يحملهم على اتباع هذه الأحكام إذا تمردوا، والله سبحانه - وهو العليم الحكيم - لا يضع للخلق من القوانين إلا ما فيه مصلحتهم، وخيار الخلق تكفيهم تلاوة الكتاب وعلمه لاتباع ما فيه، وغيرهم لا بد له من وازع، وهو سلطان الحاكم المشار إليه بالحديد، ولذلك وُجِدت التعاذير فى الإسلام، ووُجِدت الحدود. أما ترك الناس أحراراً من غير وازع. فهو ضار بالمجتمع الإنسانى، وموجب للتراخى فى إقامة العدل واتباع القانون، جُرِّب هذا فى العصور المختلفة، وقامت الشواهد الناطقة فى العصر الحديث عليه. وعُلِم أن الأُمم التى لم تحط أخلاقها بوازع، انحدرت إلى الدرك الأسفل وأضلتها الشهوات وقد كانت دُرَّة "عُمَر" سلكاً قوياً للنظام الإسلامى فلما رُفِعَت ضعف ذلك الرباط".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة لقمان: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ}
…
. الآية، نجده يقول: ".. من الناس فريق مؤمن بالقرآن إجمالاً وبرسالة محمد، ويعظمها ويجلهما فإذا قلت له: لِمَ لا تقطع يد السارق؟ وتحد القاذف؟ ولِمَ لا تُحَكِّم القرآن فى الحياة ونحن مؤمنون به؟ هزَّ كتفيه وابتسم، أو زاد: إنها رجعية لا يحتملها تمدين العصر الحديث!!.. أليس هذا استهزاءً بالآيات. واشتراءً للباطل؟ وضلالاً عن سبيل الله؟
"هناك مُقلِّدين للمذاهب فى العقائد والأحكام، إذا عُرِضت عليهم الآيات الدالة على فساد مذاهبهم، وَلَّوا عنها وإن كانوا لا يسخرون بها، بل يسخرون بمن يعرضها، أليس هذا شراء للباطل وبيعاً للحق بغير علم؟
"هناك مذاهب ابتُدعت فى الدين للضلال والإضلال بسبب السياسة، وفسر مبتدعوها الآيات فى التأويل ليردوها إلى مذاهبهم المبتدعة وجاء أتباعهم فقلدوهم.
"أما المبتدعون فأمرهم واضح.. اشتروا الضلالة بالهُدى.
"وأما الأتباع فكان عليهم أن ينظروا فى الآيات ويتدبروها عملاً بقوله سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، فهم أيضاً اشتروا الضلالة بالهُدى ولهم بعض العذر".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة الحجرات: {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ}
…
. الآية، نجده يقول: ".. وللتثبت فى الأخبار فضيلة ليست كثيرة عند الناس، وأكثر الناس يقعون فى تصديق الأخبار من حيث لا يشعرون، ولبعض مهرة الكاذبين حيل تخفى على أشد الناس تثبتاً من الأخبار.
"وكثيراً ما يقع عدم التثبت من العظماء الذين يملكون النفع والضرر يجيئهم ذلك من ناحية استبعاد أن يكذب بطانتهم عليهم وهو مدخل للخطر عظيم.
"والذين هم فى أشد الحاجة إلى العمل بهذه الآية هم الذين بيدهم مقاليد الأُمور؟ وبيدهم الضر والنفع. أما الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً فحاجتهم إليها أقل من حاجة هؤلاء.
"والآية - على العموم - أدب عظيم لا بد منه لتكميل النفس، وإعدادها لتعرف الحق والبُعْد عن مواطن الباطل".
* *
* توفيقه بين القرآن والعلم الحديث:
هذا.. وإن الأستاذ المراغى رحمه الله كان مع اعتقاده أن القرآن قد أتى بأُصول عامة، لكل ما يهم الإنسان معرفته والعلم به، يكره أن يسلك المفسِّر للقرآن مسلك مَن يجر الآية القرآنية إلى العلوم، أو العلوم إلى الآية، كى يُفسِّرها تفسيراً علمياً يتفق مع نظريات العلم الحديث.
نعم.. كره الشيخ هذا المسلك فى التفسير، وجهر بخطأ أصحابه المولعين به، وكرر هذا فى مواضع كثيرة، فكان مما قاله فى بعض المواضع من دروسه فى التفسير:"وُجِد الخلاف بين المسلمين فى العقائد والأحكام الفقهية. ووُجِد عندهم مرض آخر هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليُرجع إليهم، وتأويله لبعض النظريات العلمية التى لم يقر قرارها، وذلك خطر عظيم على الكتاب، فإن للفلاسفة أوهاماً لا تزيد على هذيان المصاب بالحمى، والنظريات التى لم تستقر لا يصح أن يُرَد إليها كتاب الله".
ولكن الأستاذ المراغى مع هذا كله كان يرى أن يكون مفسِّر كتاب الله على شئ من
العلم ببعض نظريات العلم الحديث، ليستطيع أن يأخذ منها دليلاً على قدرة الله، ويستلهم منها مكان العبرة والعظة.
كان الشيخ يرى هذا، ويعتقد أنه هو المسلك السليم لفهم القرآن الكريم، فجهر به فى أحد دروسه فى التفسير فقال:"ليس من غرض مفسِّر كتاب الله أن يشرح عالَم السموات، ومادته وأبعاده، وأقداره، وأوزانه، لكنه يجب أن يلم بطرف يسير منه، ليدل به على القدرة الإلهية ويشير إليه للعظة والاعتبار".
ثم وجدنا الأستاذ المراغى بعد هذا يشرح قوله تعالى فى الآية [10] من سورة لقمان: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} شرحاً يقوم على هذا المبدأ الذى ارتضاه فقال: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} السموات مجموع ما نراه فى الفضاء فوقنا من سيّارات، ونجوم وسدائم وهى مرتبة بعضها فوق بعض تطوف دائرة فى الفضاء، كل شىء منها فى مكانه المقدّر له بالناموس الإلهى ونظام الجاذبية، ولا يمكن أن يكون لها عَمَد، والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدَّر لها.. فإذا قيل: إن نظام الجاذبية وهو الناموس الإلهى قائم مقام العَمَد ويُطلق عليه اسم العَمَد جاز أن نقول: إن لها عَمَداً غير منظورة، وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شىء مادى تعتمد عليه، وجب أن نقول: إنه لا عَمَد لها، وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها، والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام ليست إلا هباءة دقيقة فى الفضاء".
ثم قال: "قرر الكتاب الكريم أن الأرض كانت جزءاً من السموات وانفصلت عنها، وقرر الكتاب الكريم أن الله {استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] ، وهذا الذى قرره الكتاب الكريم هو الذى دل عليه العلَم وقد قال العلماء: إن حادثاً كونياً جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها، وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطواراً تكسرت وصارت قطعاً، كل قطعة منها صارت سيَّاراً من السيَّارات، وهذه السيَّارات طافت حول الشمس وبقيت فى قبضة جذبتها، والأرض واحدة من هذه السيَّارات فهى بنت الشمس، والشمس هى المركز لكل هذه السيَّارات.. فليست الأرض هى مركز العالَم كما ظنه الأقدمون، بل الشمس هى مركز هذه المجموعة، والشمس وتوابعها قوى صغيرة فى العالَم السماوى، وأين هى من الشِعْرَى اليمانية التى قال الله سبحانه فيها:{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49] ، فهذا النجم قدرته على إشعاع الضوء تساوى قوة الشمس (26) مرة، وقدرته على إشعاع الحرارة مثل قدرته على إشعاع الضوء، فلو فُرض أن الشِّعْرَى اليمانية حلَّت محل الشمس يوماً من الأيام، لانتهت الحياة فجأة، بغليان الأنهار، والمحيطات والقارات الجليدية التى حول القطبين،
وضوء الشِّعْرَى اليمانية يصل إلينا بعد ثمان سنوات، وضوء الشمس يصل إلينا بعد ثمان دقائق، فانظر إلى هذا البُعْد السحيق.
"وليست الشِّعْرَى اليمانية أكبر نجم فى السماء، فهناك بعض النجوم قدرتها تزيد على قدرة الشِّعْرَى أكثر من عشرة آلاف مرة.
"وعظمة السماء ليست فى الشمس وتوابعها، كلا
…
إن عظمتها فى مدنها النجومية، فى أقدارها، وأوزانها، وأضوائها، وأبعادها، على اختلاف أنواعها.
"وهناك نجم يسمى "الميرة" أكبر من شمسنا بما يزيد عن ثلاثين مليوناً من المرات، وهناك السدائم، وهى قريبة من الخلق أول الأمر، ثم يقف علم الإنسان، والله تعالى وحده يعلم خلقه:{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} . [الكهف: 51] .
{وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 1] : أى خلق الجبال فى الأرض لئلا تميد الأرض وتضطرب، ولبيان هذا يمكن أن نقول باختصار: إن الأرض بعد انفصالها عن الشمس، وعكوفها على الدوران حولها على بُعْدٍ منها، وصلت بعض موادها إلى حالة السيولة بعد أن كانت مواد ملتهبة كالشمس، وتكوَّنت عليها قشرة صلبة بعد تتابع انخفاض الحرارة أحاطت بما فى جوفها من المواد المنصهرة، ثم تتابعت البرودة على القشرة فتجعدت، وحدث من التجعد نتوءات وأغوار، فالجبال الأولى نتوء القشرة الصلبة التى غلَّفت الأرض، وهناك جبال جدَّت عن اشتداد الضغط فى الرواسب التى فى قاع البحر، وجبال نارية جدَّت من خروج الحمم النارية من وسط الأرض وتداخلها فى الطبقات. حتى صارت كأوتاد مغروزة فيها.
"والجبال كلها تتحمل الضغوط الرسوبية على جدرانها، وتوزعها، وتغير اتجاهها، وتكسر حدتها، وتساعد بذلك على بقاء الطبقة المفككة الصالحة للإنبات، والتى يتغذى بواسطتها الحيوان والإنسان، وتحفظها من أن تمور.
"فالجبال أولاً حبست النار فى جوف الأرض، وصيَّرت الأرض بعد ذلك صالحة للحياة، والجبال توزع ضغوط الطبقات، ثم بعد ذلك تكسر حدة العواصف والرياح، فهى حافظة للأرض من الميدان الذى يجىء بأسباب من داخل الأرض، والذى يجىء بسبب العواصف والرياح"
…
وهكذا مشى الشيخ إلى آخر الآية.
* *
* حرية الرأى فى تفسيره:
ثم إن الشيخ المراغى رحمه الله كان كغيره من رجال هذه المدرسة لا يتقيد بأقوال الأئمة، ولا يقف عند مذهب مخصوص، ولا يقول برأى معين إلا إذا اقتنع به، وإلا فلا عليه أن يتركه إلى ما هو صواب فى نظره.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [184] من سورة البقرة: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .. نجده يقول بعد أن يذكر خلاف علماء الفقه فى السفر المبيح للفطر: "وقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة أميال. ورُوى عن ابن أبى شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر فى الميل الواحد، وإذا نظرنا إلى أن نص القرآن مطلق، وأن كل ما رواه فى التخصيص أخبار أحاد، وأنهم لم يتفقوا فى التخصيص، جاز لنا أن نقول: إن السفر مطلقاً مبيح للفطر، وهذا رأى أبى داود وغيره من الأئمة".
ومثلاً عندما تعرّض لقوله تعالى فى الآية [27] من سورة لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله}
…
الآية، نجده بعد أن يبين أن عدد السبعة فى الآية مراد به الكثرة يقول: "وعلى هذا يمكن أن يقال فى أبواب النار، أما الأبواب الثمانية للجنة، فقد أريد بالزيادة فيها على النار أن يدل على أن مسالكها أكثر من مسالك النار، لراحة أهلها، وزيادة العناية بهم.
"وكذلك يقال فى السموات السبع، والأرضين السبع، والعرب تذكر السبعة للكثرة، وتذكر السبعين للكثرة كذلك، ومنه: {استغفر لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [التوبة: 80] ، ومن المعلوم أن الله لا يغفر لهم فى السبعين، ولا فى السبعة الآلاف، ونظيره: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 32] يُراد فى سلسلة طويلة هائلة، ولا يُراد التقدير بهذا العدد".
والواقع أن هناك فرقاً بين ما ورد من نحو قوله: {استغفر لَهُمْ}
…
إلخ، وقوله:{فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} ، وبين ما ورد فى عدة أبواب الجنَّة والنار، وعدة السموات والأرض، فإن الأول ذُكِر فى مقام التهويل، فلا يُراد التحديد وإنما يُراد الكثرة، بخلاف الثانى فإنه ليس كذلك.
ومثلاً نجد الأستاذ المراغى فى دروسه الأخيرة عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [5] من سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ}
…
الآية، يشرح كون النجوم رجوماً للشياطين بما معناه: "أن ما فى السماء من النجوم دلائل قاطعة على تمام قدرة الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى زيَّن السماء الدنيا بهذه الكواكب، وجعلها على هيئات مخصوصة ونظام مُحكم، لتكون
حُججاً دامغة، وأدلة قوية على مَن يجحدون قدرة الله وينكرون وجوده". سمعناه يقول ما هذا معناه، ثم يستدل على ما ذهب إليه بأنهم يقولون: "ألقمته حجراً" يعنى أقمت عليه الحُجَّة فلم يحر جواباً، ثم يستشعر الشيخ بعد ذلك أن فى القرآن آيات كثيرة تصادم هذا الفهم، كقوله تعالى فى الآيات [6-10] من سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَاّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} ، وكقوله فى الآيتين [8-9] من سورة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} .. يستشعر الشيخ مصادمة هذه الآيات لرأيه فيقول ما معناه: "وهناك آيات أخرى فى هذا المقام، تبدو مخالفة لهذا المعنى، ولكن يمكن حملها عليه، وليس فى الوقت متسع لذلك، وسنعرض لها فى موضع غير هذا".
ولست أدرى كيف كان يستطيع الشيخ رحمه الله أن يحمل كل الآيات الواردة فى هذا الموضوع على المعنى الذى قاله حملاً صحيحاً، وهى كما ترى صريحة فى أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع، ثم مُنِعوا من ذلك عند رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فمَن حاول منهم استراق السمع - كما كانوا يفعلون من قبل - رُمِى بشهاب من السماء فحال بينه وبين ما يريد.
وخاتمة المطاف فى هذه الدروس التى ألقاها الأستاذ الأكبر فى التفسير: أنه كان منها - كما قيل - أمران عظيمان لهما خطرهما فى الحياة الدينية: كانت عاملاً قوياً فى توجيه المسلمين ونشئهم الطيب الطاهر إلى الجانب الدينى، ولفت أنظارهم إلى ما فى كتاب الله من تشريع حكيم، وأدب جم كريم، وإشاد قَيِّم مفيد، فحببَتْ إليهم الدين، وزيَّنته فى قلوبهم، وهرعوا إليه يتعرفون حكمه وأحكامه، ويتلمسون بها حياة طيبة ونهضة قوية، أساسها الدين والخُلُق الكريم.
وكانت هذه الدروس أيضاً: منار هدى وإرشاد، يلقى أشعته الوضَّاءة على عقول المشتغلين بتفسير القرآن، فيضىء لهم الطريق الذى ينبغى أن يسلكوه فى فهم كتاب الله، واستخلاص آدابه وأحكامه، خالصة مما جاورها من إسرائيليات وتأويلات أبعدت أهل الدين عن الدين، وشغلتهم فى تفسير القرآن لما لا يَمُت إلى روحه ومعناه،
وكذلك صوَّرت الدين لغير أهله الذين يتحسسون له عيباً صورة لا تتفق وما له من جلال وجمال.
هذا.. وإنَّا لنرجو للشيخ المراغى عند ربه ما كان يرجوه هو لنفسه من وراء مجهوده فى التفسير وهو:
أن يضعه الله سبحانه فى كفَّة الحسنات من ميزان أعماله، وأن يجعله ضياءً ونوراً يسعى بين يديه:{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} . [الحديد: 12] .
* * *