المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اللون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر - التفسير والمفسرون - جـ ٢

[محمد حسين الذهبي]

فهرس الكتاب

- ‌الشيعة وموقفهم من تفسير القرآن الكريم

- ‌كلمة إجمالية عن الشيعة وعقائدهم

- ‌ الزيدية

- ‌قوام مذهب الزيدية

- ‌الإمامية

- ‌ الإمامية الإثنا عشرية

- ‌أشهر تعاليم الإمامية الإثنا عشرية

- ‌الإمامية الاسماعيلية

- ‌موقف الشيعة من تفسير القرآن الكريم

- ‌1- موقف الإمامية الإثنا عشرية من تفسير القرآن الكريم

- ‌2- موقف القرآن من الأئمة وأوليائهم وأعدائهم

- ‌3- تحريف القرآن وتبديله

- ‌4- موقفهم من الأحاديث النبوية وآثار الصحابة

- ‌أهم الكتب التى يعتمدون عليها فى رواية الأحاديث والأخبار

- ‌أهم كتب التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية

- ‌1- مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار (للمولى عبد اللطيف الكازرانى

- ‌2- تفسير الحسن العسكرى

- ‌3- مجمع البيان لعلوم القرآن (للطبرسى)

- ‌4- الصافى فى تفسير القرآن (لملا محسن الكاشى)

- ‌5- تفسير القرآن (للسيد عبد الله العلوى)

- ‌6- بيان السعادة فى مقامات العبادة (لسلطان محمد الخراسانى)

- ‌الإمامية الإسماعيلية "الباطنية" وموقفهم من تفسير القرآن الكريم

- ‌كلمة إجمالية عن الإسماعيلية وعقائدهم وأغراضهم

- ‌مؤسسو هذه الطائفة

- ‌احتيالهم على الوصول إلى أغراضهم

- ‌مراتب الدعوة عند الباطنية

- ‌إنتاج الباطنية فى تفسير القرآن الكريم

- ‌موقف متقدمى الباطنية من تفسير القرآن الكريم

- ‌البابية والبهائية

- ‌كلمة إجمالية عن نشأة البابية والبهائية

- ‌ بهاء الله

- ‌الصلة بين عقائد البابية وعقائد الباطنية القدامى

- ‌موقف البابية والبهائية من تفسير القرآن الكريم

- ‌أبو الفضائل الإيرانى يعيب تفاسير أهل السُّنَّة

- ‌إنتاج البابية والبهائية فى التفسير، ومثل من تأويلاتهم الفاسدة

- ‌الزيدية وموقفهم من التفسير والقرآن الكريم

- ‌تمهيد

- ‌أهم كتب التفسير عند الزيدية

- ‌فتح القدير للشوكاني

- ‌التعريف بمؤلف هذا التفسير

- ‌التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه

- ‌طريقة الشوكانى فى تفسيره

- ‌نقله للروايات الموضوعة والضعيفة

- ‌ذمه للتقليد والمقِّدين

- ‌حياة الشهداء

- ‌التوسل

- ‌موقفه من المتشابه

- ‌موقفه من آراء المعتزلة

- ‌موقف الشوكانى من مسألة خلق القرآن

- ‌الخوارج وموقفهم من تفسير القرآن الكريم

- ‌كلمة إجمالية عن الخوارج

- ‌مواقف الخوارج من تفسير القرآن الكريم

- ‌سلطان المذهب يغلب على الخوارج فى فهم القرآن

- ‌مدى فهم الخوارج لنصوص القرآن

- ‌موقف الخوارج من السُّنَّة وإجماع الأمة، وأثر ذلك فى تفسيرهم للقرآن

- ‌الإنتاج التفسيرى للخوارج

- ‌أسباب قِلَّة إنتاج الخوارج فى التفسير

- ‌هميان الزاد إلى دار المعاد

- ‌التعريف بمؤلف هذا التفسير

- ‌التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه

- ‌حقيقة الإيمان

- ‌موقفه من أصحاب الكبائر

- ‌حملته على أهل السُّنَّة

- ‌مغفرة الذنوب

- ‌رأيه فى الشفاعة

- ‌رؤية الله تعالى

- ‌أفعال العباد

- ‌موقفه من المتشابه

- ‌موقفه من تفسير الصوفية

- ‌موقفه من الشيعة

- ‌رأيه فى التحيكم

- ‌إشادته بالخوارج وحطه من قدر عثمان وعلىّ ومَن والاهما

- ‌اعتداده بنفسه وحملته على جمهور المسلمين

- ‌تفسير الصوفية

- ‌أصل كلمة تصوف

- ‌معنى التصوف

- ‌نشأة التصوف وتطوره

- ‌أقسام التصوف

- ‌أولاً: التفسير الصوفى النظرى

- ‌ابن عربى شيخ هذه الطريقة

- ‌تأثر ابن عربى بالنظريات الفلسفية

- ‌تأثره فى تفسيره بنظرية وحدة الوجود

- ‌قياسه الغائب على الشاهد

- ‌إخضاعه قواعد النحو لنظراته الصوفية

- ‌التفسير الصوفى النظرى فى الميزان

- ‌رأينا فى التفسير الصوفى النظرى

- ‌ثانياً: التفسير الصوفى الفيضي او الإشارى

- ‌حقيقته

- ‌الفرق بينه وبين التفسير الصوفى النظرى

- ‌هل للتفسير الإشارى أصل شرعى

- ‌التفاوت فى إدراك المعانى الباطنة وإصابتها

- ‌التفسير الإشارى فى الميزان

- ‌مقالة الشاطبى فى التفسير الإشارى

- ‌مقالات بعض العلماء فى التفسير الإشارى

- ‌رأينا فى مقالة ابن عربى

- ‌شروط قبول التفسير الإشارى

- ‌أهم كتب التفسير الإشارى

- ‌1- تفسير القرآن العظيم (للتسترى)

- ‌2- حقائق التفسير (للسلمى)

- ‌3- عرائس البيان فى حقائق القرأن (لأبى محمد الشيرازى)

- ‌4- التأويلات النجمية (لنجم الدين داية، وعلاء الدولة السمنانى)

- ‌5- التفسير المنسوب لابن عربى

- ‌ابن عربى ومذهبه فى تفسير القرآن الكريم

- ‌ترجمة ابن عربى

- ‌ابن عربى بين أعدائه ومريديه

- ‌مكانته العلمية

- ‌مذهب ابن عربى فى وحدة الوجود

- ‌مذهب ابن عربى فى تفسير القرآن الكريم

- ‌نماذج من التفسير الصوفى النظرى له

- ‌نماذج من التفسير الإشارى له

- ‌نماذج من التفسير الظاهر لابن عربى

- ‌تفسير الفلاسفة

- ‌كيف وُجِدت الصلة بين التفسير والفلسفة

- ‌كيف كان التوفيق بين الدين والفلسفة

- ‌الأثر الفلسفى فى تفسير القرآن الكريم

- ‌من تفسير الفارابى

- ‌من تفسير إخوان الصفا

- ‌ترجمة ابن سينا

- ‌مسلك ابن سينا فى التفسير

- ‌رأينا فى تفسير الفلاسفة

- ‌تفسير الفقهاء

- ‌كلمة إجمالية عن تطور التفسير الفقهى

- ‌التفسير الفقهى فى مبدأ قيام المذاهب الفقهية

- ‌التفسير الفقهى بعد ظهور التقليد والتعصب المذهبى

- ‌تنوع التفسير الفقهى تبعاً لتنوع الفرق الإسلامية

- ‌الإنتاج التفسيرى للفقهاء

- ‌1- أحكام القرآن - للجصَّاص (الحنفى)

- ‌2- أحكام القرآن - لكيا الهراسى (الشافعى)

- ‌3- أحكام القرآن - لابن العربى (المالكى)

- ‌4- الجامع لأحكام القرآن - لأبى عبد الله القرطبى (المالكى)

- ‌5- كنز العرفان فى فقه القرآن لمقداد السيورى (من الإمامية الإثنا عشرية)

- ‌6- الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة ليوسف الثلائى (الزيدى)

- ‌التفسير العلمى

- ‌معنى التفسير العلمى

- ‌التوسع فى هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به

- ‌الإمام الغزالى والتفسير العلمى

- ‌الجلال السيوطى والتفسير العلمى

- ‌أبو الفضل المرسى والتفسير العلمى

- ‌إنكار التفسير العلمى

- ‌إنكار الشاطبى للتفسير العلمى

- ‌اختيارنا فى هذا الموضوع

- ‌الخاتمة.. كلمة عامة عن التفسير وألوانه فى العصر الحديث

- ‌التفسير بين ماضيه وحاضره

- ‌مميزات التفسير فى العصر الحديث

- ‌ألوان التفسير فى العصر الحديث

- ‌اللَّون العلمى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌الجواهر فى تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوى جوهرى)

- ‌اللون المذهبى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌اللَّون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌اللَّون الأدبى الاجتماعى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌1- الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

- ‌2- السيد محمد رشيد رضا

- ‌3- الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى

- ‌رجاء واعتذار

الفصل: ‌اللون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر

‌اللَّون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر

منى الإسلام من زمن بعيد بأناس يكيدون له، ويعملون على هدمه بكل ما يستطيعون من وسائل الكيد، وطرق الهدم، وكان من أهم الأبواب التى طرقوها ليصلوا منها إلى نواياهم السيئة: تأويلهم للقرآن الكريم على وجوه غير صحيحة، تتنافى مع ما فى القرآن من هداية، وتناقض ما هو عليه من محجة بيضاء، وتهدف إلى ما سوَّلته لهم نفوسهم من نِحَلٍ خاسرة وأهواء!!

منى الإسلام بهذا من أيامه الأولى، ومنى بمثل هذا فى أحدث عصوره، فظهر فى هذا العصر أشخاص يتأوَّلون القرآن على غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم، ويقضى حاجات فى نفوسهم، فأدخلوا فى تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة، تقبَّلها بعض المخدوعين من العامة وأشباه العامة، ورفضها بكل إباء مَن حفظ الله عليهم دينهم وعقولهم.

* *

* الباعث على هذا اللَّون من التفسير:

اندفع هؤلاء النفر من المؤولة إلى ما ذهبوا إليه من أفهام زائغة فى القرآن بعوامل مختلفة، فمنهم مَن حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله سبب لظهوره وشهرته، فأخذ يثور على قدماء المفسِّرين ويرميهم جميعاً بالسفه والغفلة ثم طلع على الناس بجديده فى تفسير كتاب الله

جديد لا تقره لغة القرآن، ولا يقوم على أصل من الدين.

ومنهم مَن تلقَّى من العلم حظاً يسيراً، ونصيباً قليلاً، لا يرقى به إلى مصاف العلماء، ولكنه اغتر بما لديه، فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين فى العلم، ونسى أنه قَلَّ فى علم اللُّغة نصيبه، وخف فى علم الشريعة وزنه، فراح ينظر فى كتاب الله نظرة حُرَّة لا تتقيد بأى أصل من أصول التفسير، ثم أخذ يهذى بأفهام فاسدة، تتنافى مع ما قرره أئمة اللُّغة وأئمة الدين، ولأول نظرة يتضح لمن يطلع عليها أنها لا تستند إلى حُجَّة، ولا تتكئ على دليل.

ومنهم من لم يرسم لنفسه نِحْلَة دينية، ولم يسر على عقيدة معروفة، ولكنه لعبت برأسه الغواية، وتسلَّطت على قلبه وعقله أفكار وآراء من نِحَلٍ مختلفة، فانطلق إلى القرآن وهو يحمل فى قلبه ورأسه هذه الأمشاج من الآراء، فأخذ يُؤوِّله بما يتفق معها، تأويلاً لا يقرره العقل ولا يرضاه الدين.

هؤلاء جميعاً خاضوا فى القرآن على عماية، فلم يراعوا فى فهمه قوانين البلاغة، ولم يدخلوا إلى تفسيره من باب السُّنَّة الصحيحة، وحسبوا أنهم أرضوا ضمائرهم، وأنصفوا البحث الحر، والرأى الطليق.

ولولا أن الله قيَّض لهذا الدين رجالاً يدرسونه ببصائر تنفذ إلى لُبابه، ويدفعهم الإيمان والإخلاص إلى أن يبعدوا عنه هذه الخبائث، التى يُراد أن تُلصق به أو تنزل فى

ص: 383

رحابه.. لولا هذا لأصاب المسلمين من هؤلاء المضللين شر مستطير، ولنتج عن أفكارهم وأهوائهم فتنة فى الأرض وفساد كبير.

وأنا إذ أعرض لهذا اللَّون من التفسير، لا أريد أن أذكر أحداً من أصحابه باسمه ولقبه، إذ ربما كان هذا سبباً للفتنة، وباعثاً على العداوة، وكثير منهم أحياء يُرزقون، ويكفى أن أضع يد القارئ على المراجع التى أنقل عنها تفسير هؤلاء القوم، وآراءهم فى القرآن الكريم، وهى مراجع ميسورة لكل من يريد أن يرجع إليها ويطلع عليها.

وجدنا من أصحاب هذا اللًَّون من ألوان التفسير، رجلاً يكتب بحثاً طويلاً تحت عنوان:"القرآن والمفسِّرون" وفيه يعرض لنواحى التقصير فى تفسير كافة المفسِّرين لكتاب الله تعالى، ويحمل عليهم حملة شديدة نكراء، ويوجه إليهم جميعاً نقده الساخر، ولومه اللاذع، بدون أن يستثنى منهم مفسِّراً واحداً على كثرتهم، وكثرة المعتدلين منهم.

رأيناه يتهم المُفسِّرين جميعاً بأنهم تأثروا فى تفاسيرهم بعقائدهم، فأمالوا آيات القرآن نحو آرائهم، فى تعسف ظاهر، وتكلف غير مقبول. ورأيناه يرميهم جميعاً بأنهم كثيراً ما يكتفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند أصلاً، فضلاً عن طمعهم فى تصحيح هذه الأسانيد المكذوبة، ونراه يذكر لهذا الاتهام الأخير مثلاً من أقوالهم فى تفسير قصة أيوب عليه السلام، ثم يأخذ فى تفنيد ما ذهبوا إليه، وإبطال ما قالوا به، بأدلة كثيرة ذكرها، وبعد هذا كله تناول هو قوله تعالى فى الآيات [41-44] من سورة (ص) :{واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * اركض بِرِجْلِكَ هاذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} .

تناول الكاتب هذه الآيات، فشرحها شرحاً يخالف ما ذهب إليه المفسِّرون جميعاً، مدَّعياً أن ما ذهب إليه هو الذى يساير كل ما ورد من آيات القصص فى القرآن، ومؤكداً أنه هو الذى يتفق مع بلاغة القرآن، وقدسية الأنبياء، فقال: "يجب أن ننظر فى الآية نظرة أُخرى - يعنى خلاف ما عليه المفسِّرون - تساير بها نظائرها من آيات القصص، ونحن إذا التفتنا إلى ما فى هذه الآية من أن أيوب عليه السلام قد عَزَى النُصْب والعذاب للشيطان فقال:{مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} كان ذلك مانعاً كل المنع من أن يُراد بالنُصْب والعذاب داء أصاب أيوب، وكان من نتائجه ما ذكره المفسِّرون.. إذ الشيطان لا يملك للإنسان إلا أن ينزغه، ويوسوس إليه، فيلويه عن الخير إلى الشر، وعن العزم فى سبيل الغاية إلى التردد والهزيمة، وإنه ما من نبى ولا رسول إلا وقد نزل به هذا المصاب.. مصاب إعراض الناس واستهوائهم بالدعوة والداعين، وصد

ص: 384

الشيطان لهم عن سبيل الله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52]

الآية، وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة، ولا كان حزنهم الذى كان يبلغ أحياناً حد الإهلاك للنفس إلا لبطء فى سير الدعوة إلى الله تعالى، انظر قوله تعالى:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، وقوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهاذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] ..

ولما كانت الشكوى تُشعر بوهن فى العزيمة، وضعف فى الثقة، وعدم القوة فى السير إلى الغاية، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له:{ارْكُض بِرِجْلِكَ} فالمراد بالركض هنا، عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها، والمضاء بقوة وبغير تردد ولا توان إلى الغاية، فهى كناية من أعذب الكنايات وأروعها، وهى من وادى - شَمِّر عن ساعد الجد. شمِّر عن ساقيك - غير أنها أوفر منها صياغة وترفعاً. إذ من المعروف المشاهَد أن السائر إلى جهة بغير تردد، بل بقوة وعزيمة، ترى لرجليه ضرباً، وتسمع لقدميه على الأرض وقعاً. ولما كان تردد المرء فى غايته، ووهن عزيمته إليها. وضعف ثقته بها، صدأ يغشى الأرواح، ومرضاً يتعب النفوس ويضايق الصدور، كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلاً للروح من صدئها، وشفاءً للنفس من مرضها، ونفعاً لغلة الصدور، لذلك قال الله لرسوله أيوب:{هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ، والآية كما ترى ليس فيها مرجع لاسم الإشارة إلا الركض المفهوم من قوله:{ارْكُض} المكنى به عن توثيق العزم، والأخذ بالحزم، كما هو مقتضى النظم الكريم، الجارى لقواعد اللُّغة، التى تأبى أن يكون لاسم الإشارة مرجع غير هذا من الماء والعين، كما يقتضيه تفسير المفسرين، إذ ليس فى النظم ما يدل عليهما بأى وجه من وجوه الدلالة. ولما كان أيوب عليه السلام باعتباره رسولاً لا بد أن يأتمر فى إخلاص الأنبياء بأمر ربه، بيَّن الله ثمرة جهاده وصبره، ومضاء عزمه، فقال:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} أى هدينا له أهله فآمنوا به واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله، فليس المراد بالهبة ها هبة الخلق والإيجاد، بل هبة الهداية والإرشاد، بدليل تعبيره بالأهل دون التعبير بالذُرِّية والولد، كما فى قوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [مريم: 53] ، إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدى الله بهم، لا أن يُولَد لهم. ولم يتحدث القرآن عن هبة يحيى لزكريا، وإسحاق لإبراهيم إلا لأن هبة الإيجاد فيهما قد تضمنت أمرين عظيمين؛ الأول: أنه قد وُلِد لإبراهيم ولزكريا عن كبر وشيخوخة ويأس وقنوط.

والثانى: أن الموهوب لكل منهما رسول لا ولد عادى.

فموضع المنة فى هذا: كونهما رسولين لا كونهما ولدين".

"ثم بيَّن الله بعد ذلك سيرة أيوب التى أمره أن يسير بها فى قومه، وهى اللين فى القول، والرفق فى الدعوة، والعظة بالحسنى، وتلك هى الخطة التى رسمها الله لجميع

ص: 385

أنبيائه، انظر كيف يقول لموسى وهارون:{اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 43-44]، ويقول لرسوله الكريم:{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لَانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 215] .. وبيَّن الله ذلك فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] ، أى لا ترفع فى وجوه قومك رمحاً ولا عصاً، ولا تُغلظ لهم القول، ولا تخاشنهم فى الطلب، بل لوِّح فى وجوههم بالرياحين والأزهار، ولا تأثم بالغلظة والجفوة، فإنك بخفض الجناح والجدال بالتى هى أحسن تبلغ منهم ما لا تبلغه بالسيف، والعصا، والخشونة، والغلظة.. فانظر إلى ما فى الآية من كناية ما أجملها وأعلاها. وما أخصبها وأرواها، وانظر كم تعطيك على هذا الوجه من فنون البلاغة، وكم تمنحك من جزالة فى الأسلوب، ثم هم - يريد المفسِّرين - بعد ذلك يمسخونها ويشوهونها، فيجعلونها منقطعة عما قبلها، وما بعدها، فتقلق فى مرقدها، وتنبو فى مضجعها، إذ يجعلونها متوقفة فى فهمها على معونة أجنبية من الكلام الذى هى فيه، وذل من أدعى الدواعى لانحطاط الكلام عن المستوى العالى لكلام البَشر، فضلاً عن مستوى الإعجاز الذى يجب أن يكون عليه القرآن الكريم".

"هذا ما رأيت أن تؤول به تلك الآيات، استناداً إلى ما جرى عليه قصص القرآن، وتحامياً لما يترتب على ما فسَّر به المفسِّرون تلك الآيات من خدش قدس أيوب عليه السلام، باعتباره نبياً رسولاً، ومن منافاة ذلك لحكمته السامية، وتفادياً من أن يُحدِّثنا القرآن عن أمر عادى، وهو أن شخصاً مرض ثم دعا ربه فشفاه من مرضه.. ذلك الحديث الذى لا يتحدث به عظيم من الناس فضلاً عن الله تعالى، ولا يُحَدِّث به عن رجل عادى فضلاً عن أيوب الرسول الكريم".

هذا هو التفسير الصحيح فى نظر صاحبه، وأحسب أن القارئ الكريم سوف لا يتردد فى الحكم عليه بأنه تفسير منابذ لبلاغة القرآن، ومخالف لظاهره الذى عُرِف منذ عهد الصحابة والتابعين، وأى شىء يقف فى سبيل المعنى الظاهر حتى نعدل عنه إلى مجاز أو كناية فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول؟ اللَّهم لا شىء إلا دعوى التجديد، والثورة على القديم، والعمل على هدم آراء العلماء الذين عرف الناس مبلغ خدماتهم للعلم، ودفاعهم عن الدين.

ولا أُطيل بذكر ما أُفَنِّد به هذا الرأى الشاذ وما يحمله من دعاوى غير صحيحة على المفسِّرين جميعاً، فقد سبقنى إلى هذا أحد أساتذتى الأجلاء، ولست ببالغ مبلغه من العلم، ولا بآت بأكثر مما أتى به فى الرد على صاحب هذا الرأى.

* *

ص: 386

ووجدنا من أصحاب هذا اللَّون رجلاً آخر دفعه حب التجديد المزيف إلى أن يساير روح الإلحاد ويجارى من يتهمون الشريعة الإسلامية بالقسوة فى أحكامها وحدودها. فراح يتأوَّل آيات الحدود بما يوافق هواه وهوى أصحابه، فحمل الأمر فيها على الإباحة.. وجعل الأمر فى ذلك مُفوَّضاً إلى رأى ولى الأمر وحده، وهو وإن كان قد استعمل الأسلوب اللَّولبى فيما أبداه، وطرح الموضوع الذى عالجه فى صورة سؤال ألقاه شخص خالى الذهن ليتعرف وجه الحق فى المسألة، هو وإن كان قد فعل ذلك مفضوح أمره فصدر المقال يكشف لنا عن نية صاحبه، ويفيدنا بكل صراحة أن الكاتب يريد أن يتأوَّل آيات الحدود بحمل الأوامر الواردة فيها على الإباحة، وإليك ما جاء فى هذه المقالة لتقف على حقيقة الأمر، ولتعرف نية الكاتب وما يهدف إليه فى مقاله..

قال هذا الكاتب تحت عنوان "التشريع المصرى وصلته بالفقه الإسلامى": "قرأت فى السياسة الأسبوعية الغرَّاء مقالاً بهذا العنوان، حوى أفكاراً أثارت فى نفسى من الرأى ما كنت أريد أن أُرجئه إلى حين، فإن النفوس لم تتهيأ بعد لفتح باب الاجتهاد، حتى إذا ظهر المجتهد فى هذا العصر برأى جديد، كتلك الآراء التى كان يذهب إليها الأئمة المجتهدون فى عصور الاجتهاد، قابلها الناس بمثل ما كانت تُقابَل به تلك الآراء من الهدوء والسكون، وإن بدا عليها ما بدا من الغرابة والشذوذ، لأن الناس فى تلك العصور كانوا يألفون الاجتهاد وكانوا يألفون شذوذه وخطأه، إلفهم لصوابه وتوفيقه، أما فى هذا العصر، فإن الناس قد بَعُد بهم العهد بالاجتهاد، حتى صار كل جديد يظهر فيه شاذاً فى نظرهم، وإن كان فى الواقع صواباً وما أسرعهم فى ذلك إلى التشنيع والطعن فى الدين، والمحاربة فى الرزق، فلا يجد من يرى شيئاً من ذلك إلا أن يكتمه أو يُظهره بين أخصائه، ممن يأمن شرهم ولا يخاف كيدهم، وتضيع بهذا على الأمة آراء نافعة فى دينها ودنياها، ولكنى سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين، وسأجتهد ما أمكننى فى أن لا أدع لأحد مجالاً فى ذلك التشنيع الذى يقف عقبة فى سبيل كل جديد".

ثم أشاد بما كتبه صاحب المقال المشار إليه ثم قال: "ولكن يبقى بعد هذا فى تلك الحدود ذلك الأمر الذى سنثيره فيها، ليُبحث فى هدوء وسكون. فقد نصل فيه إلى تذليل تلك العقبة التى تقوم فى سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامى من ناحية تلك الحدود بوجه آخر جديد.. وسيكون هذا بإعادة النظر فى النصوص التى وردت فيها تلك الحدود، لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة، وسأقتصر فى ذلك - الآن - على ذكر ما ورد فى تلك الحدود من

ص: 387

النصوص القرآنية، وذلك قوله تعالى فى حد السرقة:{والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 38-39]، وقوله تعالى فى حد الزنا:{الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] .. فهْل لنا أن نجتهد فى الأمر الوارد فى حد السرقة وهو قوله تعالى: {فاقطعوا} ، والأمر الوارد فى حد الزنا وهو قوله تعالى:{فاجلدوا} فنجعل كلاً منهما للإباحة لا للوجوب، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر فى قوله تعالى:{يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلَا تسرفوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31] ، فلا يكون قطع يد السارق حداً مفروضاً، لا يجوز العدول عنه فى جميع حالات السرقة، بل يكون القطع فى السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه فى بعض الحالات إلى عقوبات أُخرى رادعة، ويكون شأنه فى ذلك شأن كل المباحات التى تخضع لتصرفات ولى الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان. وهكذا فى حد الزنا سواء أكان رجماً أم جَلْداً، مع مراعاة أن الرجم فى الزنا لا يقول به فقهاء الخوارج، لعدم النص عليه فى القرآن الكريم، وهل لنا أن نذلل بهذا عقبة من العقبات التى تقوم فى سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامى، مع أنَّا فى هذه الحالة لا نكون قد أبطلنا نصاً

ولا ألغينا حداً، وإنما وسَّعنا الأمر توسيعاً يليق بما امتازت به الشريعة الإسلامية من المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان، وبما عُرِف عنها من إيثار التيسير على التعسير. والتخفيف على التشديد".

فأنت ترى من هذا المقال مقدار ما وصل إليه الكاتب من الجرأة على كتاب الله، إذ أوَّل آية السرقة وآية الزنا تأويلاً غير مقبول بأى حال من الأحوال، ومَن ينظر إلى آية السرقة وآية الزنا لا يفهم منهما إلا أن الأمر فيهما للوجوب، فليس لأحد أن يعدل عنه مطلقاً، وذلك الأمر فى قوله تعالى:{فاقطعوا} ، وقوله:{فاجلدوا} وارد فى الوجوب القاطع، فإن بناء الأمر بالقطع فى آية السرقة على قوله:{والسارق والسارقة} ، وبناء الأمر بالجلد فى آية الزنا على قوله:{الزانية والزاني} يصرفه عن احتمال الإباحة إلى الوجوب، وهذا لأن تعليق الحكم على شخص، موصوف بوصف يؤذن بأن المقتضى للحكم هو ذلك الوصف الذى قام بالشخص، وإذا كان ذلك الوصف جناية مثل السرقة والزنا ووضع الشارع لهما حكماً فى صيغة الأمر ولم يذكر حكماً غيره، لا يصح أن يُقال: إن هذا الأمر محتمل للإباحة كما احتملها الأمر فى قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

الآية.

ص: 388

ثم إن قوله تعالى فى آية السرقة: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله} ، وقوله فى آية الزنا، {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} ، وقوله:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} يؤكد أن الأمر فى الآيتين للوجوب لا للإباحة.

ثم إن هناك من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية ما يؤكد كون الأمر للوجوب فى الآيتين.

فهل يجوز للكاتب بعد هذا كله أن يتهجم على آيات الحود بمعول ذلك التأويل الذى تنكره اللُّغة. ولا تقره السُّنَّة ولا يتفق وحكمة التشريع؟ اللَّهم إن هذا التأويل لا يجوز، ولهذا فإنه لم يصادف غفلة من عقول العلماء وأقلامهم، فقام كثير منهم بالرد على صاحبه، وتفنيد ما ذهب إليه، ولقد تنبه القائمون على أمر الأزهر حينئذ إلى خطر هذا الرأى وما يجره على الدين من بلاء. فجوزى صاحب المقال على ما كان منه جزاءً إن كان بسيطاً فى حد ذاته، فهو يدل على أن أفكار الكاتب لم تلق قبولاً ولم تجد رواجاً فى محيط العلماء.

* *

ووجدنا غير هذا وذاك مَن تأثر ببعض الآراء الفلسفية فراح ينكر بعض الحقائق الدينية الثابتة، ويتأوَّل ما ورد منها فى القرآن بما يتمشى مع مذاهب الفلاسفة، فأنكر حقيقة الشيطان، وتأوَّل ما جاء من لفظ الشيطان فى قوله تعالى فى الاية [117] من سورة النساء:{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} ، فقال ما نصه:"والمعنى أن هؤلاء لم يجيبوا حين أشركوا بالله داعى العقل أو داعى الفِطْرة، وإنما أجابوا نزعات الشر المنبثة فى العالَم على مقتضى سُنَّة الله من الابتلاء بعوامل الخير وعوامل الشر، فهم بذلك يتبعون قوة خفية أُطلق عليها كلمة "شيطان" جرياً على عادة العرب المألوفة، إذا كانوا يتصورون قوى الشر شياطين تتحدث وتناجى وتغرى وتدفع إلى ما تريد"..

ثم قال: "هذا هو الشيطان الذى يُلَبِّى المشرك بإشراكه أمره. ويتخذه ولياً بأمره وينهاه".

وفى موضع آخر نجد صاحب هذا الرأى يعود إليه فيؤكده، ولست أدرى ماذا يفعل فى سياق الآية. وفى القرائن التى احتفت بها، والصفات التى انتظمتها مما يؤكد أن المراد هو إبليس، ذلك الكائن الخارجيى المستقل المستتر عن أعين الناس، كما

ص: 389

لا أدرى كيف يفعل بالأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والتى تقرر أن الشيطان حقيقة لها وجود خارجى.

* *

وأنكر بعضهم وجود عالَم الجن، وتأوَّل ما جاء من ذلك صريحاً فى آيات القرآن الكريم، ففسَّر قوله تعالى فى أول سورة الجن:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن}

. الآية، بأن الجن قبيلة من العرب.

وهذا تأويل ينافى صريح القرآن فى مواضع كثيرة، فضلاً عن أنه لا يقوم على دليل يصححه.

* *

ووجدنا غير هؤلاء جميعاً رجلاُ نُكِس على رأسه، فطوَّعت له نفسه أن يخوض فى تفسير كتاب الله على ما به من غواية وعماية، وأخيراً طلع على الناس بكتاب مختصر فى تفسير القرآن الكريم، تفسيراً جمع فيه الكثير من وساوسه وأوهامه، ثم سوَّل له الغرور أن يسميه "الهداية والعرفان فى تفسير القرآن بالقرآن".

أحدث هذا التفسير ضجة كبرى فى المحيط العلمى، وقام رجال الأزهر وقعدوا من أجله، ثم أُلِّفت لجنة من بعض العلماء لتنظر فى هذا الكتاب، ثم لتحكم عليه بما ترى فيه، ثم رفعت اللّجنة تقريرها لشيخ الأزهر إذ ذاك، وفيه تفنيد لآراء الرجل وحكم عليه بأنه "أفَّاك خرَّاص، اشتهى أن يُعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد فى الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه، ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث فى شأنه وترديد سيرته".

ثم صودر الكتاب واختفى عن أعين الناس {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} .

قرأت ما جاء فى تقرير اللَّجنة الأزهرية، ولكننى أردت أن أطلع على الكتاب نفسه، فعملت كل ما أستطيع حتى استصدرت تصريحاً من دار الكتب المصرية بالاطلاع على هذا الكتاب الذى مُنِع من التداول بين الناس.

* *

* حملته على جميع المفسِّرين:

جاءنى الكتاب وقرأت فيه، فوجدت مؤلِّفه قد قدَّم له بمقدمة عاب فيها المفسِّرين وكتب التفسير جميعاً فقال:"وقد بلغ الدس والحشو فى التفاسير أنك لا تجد أصلاً من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة، لهدمه وتبديله، والمفسِّرون قد وضعوا هذا فى كتبهم من حيث لا يشعرون".

* *

* طريقته فى التفسير:

ثم قال بعد ذلك: "فهذا كله - يعنى الدس والحشو فى التفاسير - دعانى إلى

ص: 390

تفسيرى، وأن تكون طريقتى فيه كشف الآية وألفاظها بما ورد فى موضوعها من الآيات والسور فيكون من ذلك العلم بكل مواضع القرآن، ويكون القرآن هو الذى ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله فى الكون ونظامه فى الاجتماع، وقد اخترت أن تكون على عدد الآيات فى المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذى اختاره الله، وليمكن الباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات ليكون على علم تام وهداية واعظة".

ولعل القارئ الكريم يلحظ كما ألحظ أن المؤلف يرمى من وراء قوله: "

ويكون القرآن هو الذى يُفسِّر نفسه كما أخبر الله. ولا يحتاج إلى شىء من الخارج غير الواقع الذى ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله فى الكون ونظامه فى الاجتماع". أنه يريد أن يَهدر صلة السُّنَّة بالقرآن الكريم، وينفى أن منزلتها منه منزلة المبيِّن من المبيَّن. والله تعالى يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .

ويظهر لنا أن المؤلف قد ركب رأسه فراح يهدم سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعترف بما لها من مكانة فى تفسير القرآن الكريم، فقال مقالته السابقة، كما أنه راح يهدم ما للسُّنَّة من المكانة فى التشريع الإسلامى فقال فى قوله تعالى فى الآية [63] من سورة النور:{فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : "يفيدك أن المخالفة المحذورة هى التى تكون للإعراض عن أمره، وأما التى تكون للرأى والمصلحة فلا مانع منها بل هى من حكمة الشورى".. فأنت ترى أنه يجيز مخالفة أمر الرسول للمصلحة، وهذا عناد ومكابرة ومخالفة صريحة لقوله تعالى:{وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ولغير هذا من الآيات التى وردت فى وجوب طاعته عليه السلام وهى كثيرة. ثم أى مصلحة تخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

هذا.. ولا أريد أن أطيل بذكر ما جاء فى هذا الكتاب من أباطيل وأضاليل ويكفى أن أذكر طرفاً مما حواه من ذلك ليتبين القارئ أن الرجل "جامد على المحسوسات، جاحد لكثير مما أخبر به القرآن، منكر لأحكام قررها القرآن والسُّنَّة وأجمع عليها الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم".

* إنكاره لمعجزات الأنبياء عليهم السلام:

وقف هذا الرجل من معجزات الأنبياء عليهم السلام موقفاً شاذاً غريباً. يقوم على إنكارها وجحدها والذهاب بها - عن طريق التأويل الفاسد - إلى أن تكون من قبيل الممكن الذى يدخل تحت مقدور كل إنسان، رسول أو غير رسول، وهو يُصرِّح بهذا

ص: 391

فى كثير من المواضع، فيقول فى بعض المواضع:"وبعد هذا تعلم أن الله ينادى الناس بأنهم لا ينبغى أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه فى دعوته غير ما فى سيرته ورسالته".

وفى موضع آخر يقول: "واعلم أن آيات الله فى نصر أنبيائه لا تناقض سُنَّته فى خلقه وكونه".

وفى موضع ثالث يقول: "وقد كانت كل آياتهم حججاً وبراهين من سيرتهم ورسالتهم. فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها، فتكون هناك علاقة بين الدعوة ودليلها فتدبر".

وفي موضع رابع يقول: "وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم، وصلاح رسالتهم، وأنهم لا يأتون بغير المعقول، ولا بما يبدِّل سُنَّته ونظامه فى كونه".

على هذا الأساس تناول الرجل آيات المعجزات فخرج بها عن مدلولها الحقيقى الذى أراده الله تعالى.

*

* موقفه من معجزات عيسى عليه السلام:

فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [49] من سورة آل عمران فى شأن عيسى عليه السلام: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .. نجده يقول ما نصه: {كَهَيْئَةِ الطير} يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره، {الأكمه} من ليس عنده النظر، {الأبرص} المتلون بما يُشوِّه الفطرة، فهل عيسى يُبرئ هذا بمعنى أنه يُكمل التكوين الجسمانى بالأعمال الطيبة؟ أم بمعنى أنه يكل التكوين الروحى والفكرى بالهداية الدينية؟ {فِي بُيُوتِكُمْ} يعلمهم التدبير المنزلى".

وإذا كان المؤلف قد تردد فى معنى إبراء الأكمه والأبرص هنا بين تكميل التكوين الجسمانى بالأعمال الطيبة، وبين تكميل التكوين الروحى بالهداية الدينية، فإنه ليس تردد الشاك فى أى الأمرين كان. وإنما هو تردد يبدو منه فى صراحة ووضوح ميله إلى أن المراد هو التكوين الروحى لا غير، وإنك لتجده يُصَرِّح فى موضع آخر بأن المراد هو تكميل التكوين الروحى بالهداية الدينية، وذلك عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية

ص: 392

[110]

من سورة المائدة: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي} : "من هذا تعرف أن عيسى نبى أرسله الله إلى بنى إسرائيل ليشفى نفوسهم، ويحيى موت قلوبهم، فآيته فى دعوته وسيرته وهدايته. عاش ومات كغيره من الأنبياء فى بِشريته، فلم يكن خارقاً فى سُنَّته، ولا ممتازاً بما يدعو إلى أُلوهيته وعبادته".

كذلك تجده ينكر أن يكون عيسى عليه السلام قد تكلَّم فى المهد وذلك حيث يُؤوِّل قوله تعالى فى الآية [46] من سورة آل عمرران: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} ما نصه: "فى المهد: فى دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا، علامة على الجرأة وقوة الاستعداد فى الصغر. وكهلاً: علامة على أنه لا يفل عزمه بالشيخوخة والكبر - ويصح أن يكون المعنى: يكلم الناس الصغير منهم والكبير، علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه".

وتأوَّل أيضاً قوله فى الآية [29] من سورة مريم: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} فقال: "أى كان ذاك النهار ولداً صغيراً فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم فهذا ابن حرام".

ولما رأى أن قوله تعالى قبل ذلك فى الآية [27] : {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} لا يتفق مع تأويله السابق تأوَّله أيضاً فقال: "تحمله على ما يحمل عليه المسافر، ومنه تفهم أنه كان فى سياحة طويلة".

*

* موقفه من معجزات موسى عليه السلام:

وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [160] من سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} .. قال: "ويصح أن يكون الحجر اسم مكان، واضرب بعصاك الحجر، معناه: اطرقه واذهب إليه، والغرض أن الله هداه إلى محل الماء وعيونه".

وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [63] من سورة الشعراء: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} قال ما نصه: {البحر} الماء الواسع، {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} اطرقه واذهب إليه، {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} هذا بيان لحالة البحر، يُصوِّره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة، راجع [160 فى الأعراف] ، ثم راجع [طه فى 77، 78] ولتعرف كيف

ص: 393

اهتدى إلى طريق يبس مرَّ منه، واقرأ استعمال الضرب فى السير فى قصة أيوب فى (سورة ص) .

وفى سورة الأعراف عند قوله تعالى فى الآيتين [107، 108] : {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} يقول: "مثال من قوة حُجَّته وظهور برهانه".

وعند قوله تعالى فى الآيات [118-122] من نفس السورة: {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}

إلى قوله: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} .. يقول: "يُصوِّر لنا كيف كشفت حُجَّته تزييف حُجَّتهم حتى سلَّموا له وآمنوا به".

*

* موقفه من معجزة إبراهيم عليه السلام:

وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [69] من سورة الأنبياء: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ}

. إلخ، نجده ينكر أن يكون إبراهيم عليه السلام قد أُلقى فى النار وخرج منها سالماً، وذلك حيث يُؤوِّل الآية بما يخالف الظاهر فيقول:"معناه: نجَّاه من الوقوع فيها - راجع [64 فى المائدة] و [26 فى النحل] ، وترى فى الآية وباقى القصة أن الله نجَّاه بالهجرة وخيَّب تدبيرهم".

*

* موقفه من معجزات داود عليه السلام:

وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [79] من سورة الأنبياء: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ} .. يقول: {يُسَبِّحْنَ} يُعبِّر عما تُظهره الجبال من المعادن التى كان يُسخِّرها داود فى صناعتها الحربية، {والطير} يُطلق على ذى الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيَّارات الهوائية".

*

* موقفه من معجزات سليمان عليه السلام:

وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [81] من سورة الأنبياء: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} نجده يقول: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} الآن تجرى بأمر الدول الأوروبية وإشارتها، فى التلغرافات والتليفونات الهوائية

اقرأ سبأ".

وفى سورة النمل عند قوله تعالى فى الآية [16] : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} .. يقول: {مَنطِقَ الطير} كل من يربى الطير ويؤلِّفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه وماذا يريد، ويمكنهم أن يستعملوه فى الرسائل وغيرها".

وفى قوله تعالى فى الآية [18] من السورة نفسها: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل

ص: 394

قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} نجده يقول: {نَمْلَةٌ} قبيلة، {النمل} قبائل الوادى".

وفى قوله بعد ذلك فى الآية [20] من السورة أيضاً: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لَا أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} .. نجده يقول: {الهدهد} اسم طائر فهل يكون من ذوى الجناحين؟ ويكون كلامه كناية عما يحمل من رسائل؟ أم من الخيّالة؟ السوارى؟ أو الطيَّارين الآخرين؟.. راجع الأنبياء".

وفى قوله بعد ذلك فى الآيات من [38-42] من السورة نفسها: {قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هاذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} .. فى هذه الآيات نراه يقول: {بِعَرْشِهَا} بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول فى البلاد، فطلب الخريطة التى فيها مملكة سبأ ليهاجمها، ويريها أنه جاد غير هازل، {عِفْرِيتٌ مِّن الجن} أحد القوَّاد، ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذى {عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب} من الكتابة والرسم والتخطيط، {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الغَرض أنه يأتى به حالاً وقد أتى به، ويحتمل أنه رسمه فى الحال أو كان عنده مرسوماً، ولو كان عهد الفوتوغرافيا قديماً لصح أن يكون ذلك الرسم بها، وترى أن سليمان يشكر الله على ما فى المملكة من العلماء العاملين فى كل فن، ونأخذ من القصة أن الله يُعَظِّم شأن العلم ويدعونا إلى التمسك بالأسباب الكونية لتشييد الملك وإقامة الدولة، {وَأُوتِينَا العلم} يؤيد لك أن المسألة علمية، {مُسْلِمِينَ} منقادين لله، يعنى أنهم جمعوا بين العلم والتربية على الخُلُق العظيم، وهذا أحسن حافظ لنظام الملك وعزة الدولة".

*

* موقفه من معجزة الإسراء:

وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى أول سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} .. نجده يقول: {أسرى} الإسراء يُستعمل فى هجرة الأنبياء.. انظر [77 فى طه] و [138 فى الأعراف] و [52 فى الشعراء] و [23 فى الدخان] و [81 فى هود]

ص: 395

و [65 فى الحج]، ثم تدبر آخر النحل وعلاقته بالإسراء:{المسجد الحرام} الذى له حُرْمة يُحترم بها عند جميع الناس [217 و 218 فى البقرة] و [25 فى الحج] ، {المسجد الأقصى} الأبعد، مسجد المدينة وقد بارك الله حوله، فكان للنبى صلى الله عليه وسلم هناك ثمرة وقوة، وكان بالإسراء الفتح والنصر فكان ذلك من آيات الله.. انظر [20 يس] و [108 التوبة] ثم ارجع إلى الإسراء فاقرأ إلى [60، 93] ".

* *

* إنكاره للملائكة والجن والشياطين:

كذلك نجد صاحب هذا الكتاب يُؤوِّل الملائكة، والجن، والشياطين، بما لا يتفق والحقائق الشرعية الثابتة.

فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [34] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلَاّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .. نجده يقول: {الْمَلَائِكَةِ} رسل النظام وعالم السنن، وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مُسخَّر له.. راجع [29 فى البقرة] ، ثم انظر [الملك فى 15] ، {إِبْلِيسَ} اسم لكل مستكبر على الحق. ويتبعه لفظ الشيطان والجان، وهو النوع المستعصى على الإنسان تسخيره".

وعند قوله تعالى فى الآية [71] من سورة الأنعام: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ}

الآية، نجده يقول:{الشياطين} تُطلق على الحيَّات والثعابين، تستهوى مَن يتبعها ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها.. راجع [275 فى البقرة] ".

وعند قوله تعالى فى الآيتين [26، 27] من سورة الحِجْر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} .. يقول: "يمثل لك بوصف الإنسان، النوع الهادئ صاحب الطبع الطينى الذى تشكله كما تريد، {والجآن} النوع المتشرد صاحب الطبع النارى، إذا قاربته يؤذيك ويغويك، ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله، والنوعان موجودان فى كل أمة، فتدبر السياق من أول السورة، وراجع القصة فى البقرة".

وعند قوله تعالى فى الآية [17] من سورة النمل: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس} .. يقول: {الجن} يُطلق على العالَم الخفى والظاهر القوى، وجن كل شىء أوله ومقدمته، وجن الجيش قُوَّاده ورؤساؤه، {والإنس} طائعوه ومرءوسوه.. اقرأ الجن".

ص: 396

وعند قوله تعالى فى الآية [158] من سورة الصافات: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} .. يقول: "الجِنَّة أو الجن: سادتهم وكبراؤهم".

وعند قوله تعالى فى الآيتين [37، 38] من سورة (ص) : {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} .. نجده يقول: {الشياطين} يطلقون على الصُنَّاع الماهرين والأشقياء المجرمين، {مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} مسلوكين فى القيود، ومنها تفهم أن سليمان كان يشغل المسجونين من أصحاب الصناعات للانتفاع بهم".

* *

* إنكاره لأحكام من الدين لم ينازع فيها أحد من المجتهدين:

ولقد سوَّلت للمؤلف نفسه أن يتأول بعض آيات الأحكام على غير ما أراد الله، وعلى مقتضى هواه الذى لا يخضع لقواعد اللُّغة ولا لأصول الشريعة!!

* حد السرقة:

فمثلاً عند قوله فى الآية [38] من سورة المائدة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا}

الآية، يقول:"واعلم أن لفظ السارق والسارقة يعطى معنى التعود. أى أن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى: أن مَن سرق مرة أو مرتين ولا يستمر فى السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يُعاقَب بقطع يده، لأن قطعها فيه تعجيز له، ولا يكون ذلك إلا بعد اليأس من علاجه".

* حد الزنا:

وعند قوله تعالى فى الآية [2] من سورة النور: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}

الآية، نجده يقول:{الزانية والزاني} يُطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخُلُقهما، فهما بذلك يستحقان الجَلْد".

* تعدد الزوجات:

فى الآية [3] من سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}

. الآية، نجده يقول:{مِّنَ النسآء} نساء اليتامى الذين فيهم الكلام - هكذا بالأصل - لأن الزواج منهن يمنع الحرج فى أموالهن، ومن هذا تفهم أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا للضرورة التى يكون فيها التعدد مع العدل أقل ضرراً على المجتمع من تركه، لتعلم أن التعدد لم

ص: 397

يُشرع إلا فى هذه الآية بذلك الشرط السابق واللاحق {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ} : "فإن خفتم ألا تعدلو".

فهو يريد أن يبيح تعدد الزوجات إلا إذا كُنَّ يتامى فى حجره، وأمن من نفسه عدم الجور، ولم يقل أحد بالشرط الأول مطلقاً، ومَن يطلع على سبب النزول يعلم خطأ مَن يشترط هذا الشرط فى التعدد.

* التسرِّى:

وعند قوله تعالى فى نفس الآية السابقة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .. نجده يقول: انظر آية [25 إلى 28 من النساء] .

وفى الآية [25] وهى قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .. يقول: "فيه عناية بالخادمات، وتسهيل لمن يريدون الزواج. ولا يستطيعون النفقات على ذوات البيوتات، انظر [33 فى النور] و [60 فى الكهف] ثم [30، 36، 42، 63 فى يوسف] ، {الْعَنَتَ} : الحَرَج: انظر [220 فى البقرة] و [7 فى الحجرات] و [128 فى التوبة] و [118 فى آل عمران] . وفى هذه الآية رد على الذين يتخذون مِلْك اليمين من الخادمات والوصيفات للتمتع بهن كالزوجات، بحجة أنهن مشتريات بالمال، أو أسيرات بالحرب، فليس فى الإسلام عرض امرأة يُباح بغير الزواج، مملوكة كانت أو مالكة، فتدبر ذلك فى الآيات".

وفى قوله تعالى فى الآيتين [5، 6] من سورة المؤمنون: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}

الآية، يقول:"اقرأ المعارج، والنور، وأوائل البقرة".

ثم قال فى المعارج عند قوله تعالى فى الآيتين [29، 30] : {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ما نصه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الخدم، فإن لهم ما ليس لغيرهم، فقد يكون فى الإنسان فروج - أى عيوب ونقائص - يسيئه أن يراها الناس فيه، ولكن لا يسيئه أن يراها خدمه".

فأنت ترى من هذا أنه يُحَرِّم التسرِّى، ويُفَسِّر الفروج بالعيوب، وهذا بُعْدٌ عن قوانين اللُّغة، ومبادئ الشريعة.

* الربا:

كذلك نجد المؤلف يميل إلى أن الربا المحرَّم شرعاً هو الفاحش فقط، ولهذا نراه عندما

ص: 398

يعرض لآيات الربا فى سورة البقرة يُفسِّر "الربا" فيقول: "الربا هو الزيادة من الربح فى رأس المال، وهو معروف ومقيَّد بالآية [130 فى آل عمران] ، فانظرها أولاً" يريد قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} .. ثم يقول بعد ذلك: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ} [البقرة: 278]، {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] ، {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] كل ذلك يفيدك أن الكلام فى المعاملة الحاضرة، ويبشر مَن يتوب بأنه لا يُحاسَب على ما كسبه من قبل، {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] .. انظر [38 فى الأنفال] " يريد قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} .

ثم قال بعد ذلك عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [130] من سورة آل عمران: {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : {الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} أى الربا الفاحش وبمعنى آخر: الربح الزائد عن حده فى رأس المال. وتُقدِّره كل أُمّة بعُرفها. راجع فى جزائه أواخر البقرة، وقصة اليهود فى أواخر النساء، ثم ارجع إلى [5 فى النساء و 43] ".

* زكاة الزروع:

كذلك نجد المؤلف يذهب فى زكاة الزروع مذهباً لم يقل به أحد من المجتهدين فضلاً عن أنه يصادم ما جاء من السُّنَّة الصحيحة فى بيان المقدار الواجب فى زكاة الزروع، وذلك حيث يُفسِّر قوله تعالى فى الآية [141] من سورة الأنعام:{وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .. فيقول: {وَآتُواْ حَقَّهُ} يفيد أن فى كل هذا الخارج من الأرض حقاً لا بد من إعطائه، {يَوْمَ حَصَادِهِ} زمن تحصيله، وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق، أمر الحاكم العام بأَخذه، والعمل على جبايته لبيت المال، وقد ترك التقدير للأُمة بحسب الحال".

(أقول: وليس للأُمة دخل فى تقدير مقررات الزكاة بعد أن قدَّرها الرسول عليه الصلاة والسلام، وقررها على الأُمة) .

* مصارف الزكاة:

كذلك تخبط المؤلف فى شرحه لبعض مصارف الزكاة، وذلك حيث فسَّر قوله تعالى فى الآية [60] من سورة التوبة: {

. وَفِي الرقاب} ، فقال:"فى خلاصها من الاستعباد. وفى هذا الزمان تَجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب، فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم، وفي الزكاة حق لهذا التعاون".

ص: 399

* الطلاق:

كذلك نجد المؤلف يذهب إلى أن الطلاق لا يقع إلا إذا كان سببه أمراً يخل بنظام العِشْرة، وآتياً من قِبَل المرأة، وذلك حيث يقول فى قوله تعالى فى الآية [1] من سورة الطلاق:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ما نصه: {بُيُوتِهِنَّ} بيوت الزوجية.. راجع [البقرة من 226-242]، و [الأحزاب: 40] ، و [التحريم 5] ، و [النور 5-10] لتعرف أن الطلاق وإن كان فى يد الرجل لا يقع إلا بسبب يخل بنظام العِشْرة الزوجية".

هذا بعض ما جاء فى هذا الكتاب الذى هذى به صاحبه، وفيه غير هذا كثير مما يدل على أن الرجل قد ركب متن الغواية، ومشى يخبط خبط الأعشى فى مهمة متسع من الضلالة!!

وحسبى أن أكون قد أطلعت القارئ على بعض ما جاء فى هذا الكتاب، ولست فى حاجة إلى أن أطيل بذكر ما يُبطل هذه الأوهام ويفندها، فإنى لست فى مقام الرد والتفنيد، وإنما أنا فى مقام بيان لون من ألوان التفسير فى هذا العصر، وإذا كان القارئ الكريم يود أن يقف على إبطال هذه المزاعم التى حشا بها المؤلف كتابه، فليرجع إلى قرار اللجنة الأزهرية، التى أُلِّفت للرد على هذا الكتاب، وليرجع إلى ما كتبه شيخنا العلامة الشيخ محمد الخضر حسين فى الجزء الثالث من رسائل الإصلاح، ولا شك أنه سيجد فيما كتب هنا وهناك ما يكفى لأن يذهب بتلك التأويلات أدراج الرياح، وما ينادى بأن صاحب هذه التأويلات قد انحرف عن الهدى، فهو إلى مكان سحيق..

* * *

ص: 400