الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجواهر فى تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوى جوهرى)
* الدوافع التى حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير:
خُلِق الفيلسوف الإسلامى المرحوم الشيخ طنطاوى جوهرى - كما يقول هو عن نفسه -: "مغرماً بالعجائب الكونية معجباً بالبدائع الطبيعية، مشوقاً إلى ما فى السماء من جمال، وما فى الأرض من بهاء وكمال"، ثم كان منه - كما يقول - أنه لما تأمل الأُمة الإسلامية وتعاليمها الدينية، ألفى أكثر العقلاء وبعض أجِلَّة العلماء عن تلك المعانى معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم مَن فَكَّر فى خلق العوالِم وما أُودع فيها من الغرائب، فدفعه ذلك إلى أن ألَّف كتباً كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعل آيات الوحى مطابقة لعجائب الصنع، وحكم الخلق، وكان من أهْم هذه الكتب كتاب "نظام العالَم والأمم" و "جواهر العلوم" و "التاج المرصع" و "جمال العالَم" و "النظام والإسلام" و "الأُمة وحياتها" ولكنه وجد أن هذه الكتب - رغم كثرتها، وانتشارها، وترجمتها إلى اللُّغات الأجنبية - لم تشف غليله، فتوجَّه إلى ذى العِزَّة والجلال، أن يُوفقه إلى أن يُفسِّر القرآن تفسيراً ينطوى على كل ما وصل إليه البشر من علوم، فاستجاب الله دعاءه، وتم له ما أراد.
* *
* متى وكيف شرع المؤلف فى كتابة هذا التفسير؟
ابتدأ المؤلف هذا التفسير أيام أن كان مدرساً بمدرسة دار العلوم، فكان يلقى تفسير بعض آيات على طلبتها. وبعضها كان يكتب فى مجلة الملاجىء العباسية، ثم وإلى سيره فى التفسير حتى أخرج لنا هذه الموسوعة الكبيرة.
* *
*غرض المؤلف من تفسيره:
ولقد أمل المؤلف رحمه الله من وراء هذا التفسير - كما يقول - "أن يشرح الله به قلوباً، ويهدى به أُمماً، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين، فيفهموا العلوم الكونية"، وقال: "وإنى لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأُمة بهذا الدين، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون، وليُقرَأنّ فى مشارق الأرض ومغاربها مقروناً بالقبول، وليولعن بالعجائب السماوية والبدائع الأرضية الشبان الموحِّدون، وليرفعن الله مدنيتهم إلى العلا، وليكونن داعياً حثيثاً إلى درس العوالم العلوية والسفلية،
وليقومن من هذه الأمة مَن يفوقون الفرنجة فى الزراعة، والطب، والمعادن، والحساب، والهندسة، والفلك، وغيرها من العلوم والصناعات".
* *
* مسلك المؤلف فى تفسيره:
ولقد وضع المؤلف فى تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام، والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق، مما يَشوِّق المسلمين والمسلمات - كما يقول - إلى الوقوف على حقائق معانى الآيات البيِّنات فى الحيوان والنبات، والأرض والسموات.
هذا.. وإن المؤلف رحمه الله ليقرر فى تفسيره أن فى القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، فى حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية، كما يقرر " أن الإسلام جاء لأُمم كثيرة، وأن سور القرآن متممات لأُمور أظهرها العلم الحديث".
وكثيراً ما نجد المؤلف رحمه الله فى تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا فى آيات القرآن التى ترشد إلى علوم الكون، ويحثهم على العمل بما فيها، ويندد بمن يُغفل هذه الآيات على كثرتها، وينعى على مَن أغفلها من السابقين الأوَّلين، ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأُمور العقيدة.
نجد المؤلف يكرر هذه النغمة فى كثير من مواضع الكتاب فيقول فى موضع منه: "يا أمة الإسلام؛ آيات معدودات فى الفرائض اجتذبت فرعاً من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها.. هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعرى.. لماذا لا نعمل فى آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا فى آيات الميراث؟ ولكنى أقول: الحمد لله
…
الحمد لله، إنك تقرأ فى هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد فى معرفة الله وهى فرض عَيْن على كل قادر
…
إن هذه العلوم التى أدخلناها فى تفسير القرآن، هى التى أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء فى الإسلام، فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدى مَن يشاء إلى صراط مستقيم".
ويقول فى موضع آخر: "إن نظام التعليم الإسلامى لا بد من ارتقائه، فعلوم البلاغة ليست هى نهاية علوم القرآن، بل هى علوم لفظه، وما نكتبه اليوم علوم معناه، وانطباقها على العلوم التى أظهرها الله فى الأرض، ولعل هذا الزمان سيظهر فيه آثار من
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] ، فإن البيان المذكور فى سورة القيامة فُسِّر بمعنى أننا نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل، وبمعنى أنِه إذا أشكل شىء من معانيه فنحن نبينه لك، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والعجائب ولا جَرَم أن ما يتجدد اليوم من العلوم مما ذُكِر فى هذا التفسير وما لم يُذكر، من البيان الذى أكد الله أنه يُظهره لأُمة الإسلام، فالحمد لله الذى وفق فى هذا التفسير لبعض العرفان تصديقاً لما ذكر الله من أن عليه البيان".
ويقول فى موضع آخر: "لماذا ألَّف علماء الإسلام عشرات الأُلوف من الكتب الإسلامية فى علم الفقه
…
وعلم الفقه ليس له فى القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف فى علم الفقه، وقَلَّ جداً فى علوم الكائنات التى لا تخلو منها سورة؟ بل هى تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز فى عقل أو شرع أن يبرع المسلمون فى علم آياته قليلة. ويجهلوا علماً آياته كثيرة جداً؟ إن آباءنا برعوا فى الفقه، فلنبرع نحن الآن فى علم الكائنات.. لنقم به لترقى الأُمة".
* *
* لم يلق تفسير الجواهر قبولاً لدى كثير من المثقفين:
هذه المقالات - وغيرها كثير فى تفسير الجواهر - نجد أغلبها قد صدر من المؤلف فى مقام الرد على مَن كان يوجه إليه اللَّوم والاعتراض على ما كان منه من تحميل القرآن الكريم علوماً ونظريات مستحدَثة لا عهد للعرب بها، ولا صلة للقرآن بشىء منها.
ويظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف رحمه الله لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه الذى سلكه فى تفسيره، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلق قبولاً لدى كثير من المثقفين.
* *
* مصادرة المملكة السعودية لتفسير الجواهر:
ولعل هذا المنزع فى تفسير القرآن الكريم هو السر الذى من أجله صادرت المملكة العربية السعودية هذا الكتاب، ولم تسمح بدخوله إلى بلادها، كما يجد القارئ ذلك فى نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبد العزيز آل سعود، ملك نجد والحجاز (ص 238 من الجزء الخامس والعشرين) .
* *
* طريقة المؤلف فى هذا التفسير:
هذا وإنى - بعد أن قرأت الكثير من هذا التفسير - أستطيع أن أعطيك صورة
واضحة عن منهج المؤلف وطريقته التى سلكها فيه، وذلك أن المؤلف رحمه الله يفسر الآيات القرآنية تفسيراً لفظياً مختصراً، لا يكاد يخرج عما فى كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذى يسميه لفظياً، ويدخل فى أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو "لطائف" أو "جواهر".. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب فى العصر الحديث، أتى بها المؤلف، ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبَّه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة.
ثم إننا نجد المؤلف رحمه الله يضع لنا فى تفسيره هذا كثيراً من صور النباتات، والحيوانات، ومناظر الطبيعة، وتجارب العلوم، بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحاً يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهَد المحسوس.
كذلك نجد المؤلف رحمه الله يستشهد أحياناً على ما يقول بما جاء فى الإنجيل، واعتماده فيما ينقل على إنجيل "برنابا" لأنه - كما يرى - أصح الأناجيل، بل هو الإنجيل الوحيد الذى لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل.
وكثيراً ما نرى المؤلف رحمه الله يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون فى جمهوريته، أو بما جاء عن إخوان الصفا فى رسائلهم، وهو حين ينقهلا يُبدى لنا رضاه عنها، وتصديقه بها، مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنه يستخرج كثيراً من علوم القرآن بواسطة حساب الجُمَّل الذى لا نُصدَّق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة، وإنما هى عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين، فتسلَّطت على عقول الكثير منهم.
هذا.. وإنَّا لنجد المؤلف رحمه الله يُفسِّر آيات القرآن تفسيراً علمياً يقوم على نظريات حديثة، وعلوم جديدة، لم يكن للعرب عهد بها من قبل، ولست أرى هذا المسلك فى التفسير إلا ضرباً من التكلف، إن لم يذهب بغرض القرآن، فلا أقل من أن يُذهب بجلاله وجماله.
وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير:
* نماذج من هذا التفسير:
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [61] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ}
…
الآية، نجده يقول:"الفوائد الطيبة فى هذه الآية" ثم يأخذ فى بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا فى الطب، ثم يقول: "أَوَ ليست هذه المناهج هى التى نحا نحوها القرآن؟ أَوَ ليس قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} رمزاً لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى
…
وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقى والحياة الحرة، أفضل من حياة شقية فى المدن بأكل التوابل، واللحم، والإكثار من ألوان الطعام، مع الذلة، وجور الحكام، والجبن، وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم فى حين غفلة وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا تُفسِّر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيات [67] وما بعدها من سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}
…
. الآيات إلى آخر القصة، نجده يعقد بحثاً فى عجائب القرآن وغرائبه، فيذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب، ويذكر - فيما يذكر - علم تحضير الأرواح فيقول:".. وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تُتلى، والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولاً، ثم بسائر أوروبا ثانياً".. ثم ذكر نُبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم، ثم قال أخيراً:"ولما كانت السورة التى نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الطاعون، فماتوا ثم أحياهم.. وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة فى السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح فى مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بنى إسرائيل فى إحياء الموتى فى هذه السورة عند أواخرها. فلا تيأسوا من ذلك، فإنى قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذِكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن ليكن المُحَضِّر ذا قلب نفى خالص على قدم الأنبياء والمرسلين، كالعزير، وإبراهيم، وموسى، فهؤلاء لعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدى بهم فقلت: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} . [الأنعام: 90] . ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى أول سورة آل عمران: {آلم} نجده يعقد بحثاً طويلاً عنوانه: "الأسرار الكيميائية، فى الحروف الهجائية، للأمم الإسلامية، فى أوائل السور القرآنية" وفيه يقول: "انظر رعاك الله - تأمل - يقول الله: {ألم} ، {طس} ، {حم} .. وهكذا يقول لنا: أيها الناس؛ إن الحروف الهجائية، إليها تحلل
الكلمات اللُّغوية، فما من لغة فى الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللُّغة العربية أم اللُّغات الأعجمية، شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها
إلا بتحليلها، وهذا هو القانون المسنون فى سائر العلوم والفنون.
ولا جرَمَ أن العلوم قسمان: لُغوية وغير لُغوية، فالعلوم اللُّغوية مقدمة فى التعليم، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية، فإذا كانت العلوم التى هى آلة لغيرها لا تُعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهى أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أُصولها الأوَّلية التى لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم".
ومثلاً نراه يعرض لقوله تعالى فى الآية [24] من سورة النور: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ..
وقوله فى الآية [65] من سورة يس: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
ثم يقول: "أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدى فى أيامنا حاضرة، هو نفس الذى صرَّح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما فى المواطن بل هو القائل للإنسان:{كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14]، والقائل:{بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] ، أفلا يكون ذكر الأيدى والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبيِّنات المشهورة عند المسلمين؟ وأن هناك ما هو أفضل منها؟
…
وهى التى يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أن الأيدى فيها أسرار، وفى الأرجل أسرار، وفى النفوس أسرار: فالأيدى لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم.. أوَ ليس فى الحق أن أقول: إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه؟ وإلا فلماذا هذه المسائل التى ظهرت فى هذا العصر تظهر فى القرآن بنصها وفصها".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيتين [5، 6] من سورة طه: {الرحمان عَلَى العرش استوى * لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} .. نجده يقول: ".. قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل فى ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى "الآثار العلوية" وهو من علوم الطبيعة قديماً وحديثاً، وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثرى} يشير لعلمين لم يُعرفا إلا فى زماننا، وهما علم طبقات الأرض، المتقدم مراراً فى هذا التفسير، وعلم الآثار، المتقدم بعضه فى سورة يونس.. فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثرى} ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التى تظهر الآن تحت الثرى".
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآية [30] من سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً}
…
. الآية، يقول:"ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين، من أن السموات والأرض - أي الشمس والكواكب وما هى فيه من العوالم - كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى، وقلنا: إن هذه معجزة، لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا فى هذه العصور، ألا ترى أن كثيراً من المفسِّرين قالوا: إن الكفار فى ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم. فكان جوابهم على ذلك أنهم أخبروا به فى نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الأمور لم تُخلق. وقد أخذ العلماء يُؤوِّلون تأويلات شتَّى لفرط ذكائهم وحرصهم رحمهم الله، وها نحن أُولاء نجد هذه العلوم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدى الفرنجة، كما نطق القرآن هنا، كأنه يقول: سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضى فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} .. وهذه معجزة تامة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس فى هذه الحياة الدنيا"..
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآية [15] من سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} .. نجده يقول: "والمارج المختلط بعضه ببعض، فيكون اللَّهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللَّهب مختلطات، ولقد ظهر فى الكشف الحديث أن الضوء مركّب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه. فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائماً، وإنما خُلِق الجن من ذلك المارج المضطرب، إشارة إلى أن نفوس الجان لا تزال فى حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل فى مقال علماء الأرواح الذين
استحضروها إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة فإنها تكون قلقة مضطربة".
وعند قوله تعالى فى الآية [35] من السورة نفسها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} .. يقول: "إنه عبَّر هنا بـ {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} وفيما تقدم بقوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} ، والشواظ والمارج كلاهما اللَّهب الخالص، فلماذا جعل الجان مخلوقاً من مارج ولم يقل من شواظ؟ فاعلم أن المارج فيه معنى الاضطراب كما تقدم.
وقد أنبت ذلك هناك، وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم فى علم الأرواح، وأيضاً اختلاط الألوان الآن معروف فى التحليل فهو من هذا القبيل.. وهذه الفكرة لم تُعرف قط إلا فى زماننا هذا، فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط، والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة وأنها مضطربة، لم يكن إلا فى زماننا، وهذا من أعاجيب القرآن التى لا تُدرك إلا بقراءة العلوم، وليس يعقلها الناس بفن البلاغة المعروف، فلا أصحاب المعلقات يدركونها، ولا الذين بعدهم يعلمونها، فهل لمثل امرىء القيس، أو لأبى العلاء، أو المتنبى أن يتناولوا هذه المعانى فى أقوالهم؟ كلا.. فهذه البلاغة لا تخطر ببالهم، وأنَّى لهم علم الروح حتى يخصصوها بلفظ مارج؟ وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ".
ومثلاً فى سورة الزلزلة نجده يُفسِّرها تفسيراً لفظياً مختصراً، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضاً ما وقع من حوادث الزلزال فى إيطاليا، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم والبترول من الأرض، وما كثر فى هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض، مثل ما كُشِف فى مصر من آثار قدمائها، ثم يقول - بعد ما يفيض فى هذا وغيره:"ألست ترى أن هذه السورة - وإن كانت واردة لأحوال الآخرة - تشير من طرف خفى إلى ما ذكرنا فى الدنيا؟ فالأرض الآن كأنها فى حالة زلزلة، وقد أخرجت أثقالها، كنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون، وها هم أُولاء يُلهمون الاختراع، وها هم أُولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال بحيث تكون كل أمة فى عمل يناسبها، وكل إنسان فى عمله الخاص به وينتفع به".
ومثلاً نجده بعد أن يفرغ من تفسير سورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر، يذكر لنا بحثاً مستفيضاً عنوانه:"تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما" وفيه نجده يتأثر بنزعته التفسيرية العلمية إلى درجة جعلته يُحَمِّل نصوص الشارع من
المعانى الرمزية ما يُستبعد أن يكون مراداً لها. وذلك أنه يقرر أولاً أن هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة، ولا بفتح مكة ونصر جيشها، لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور فى أول عمرها، وسيطول إن شاء الله، وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات.
ثم قال: "وإذا كان الأمر كما وصفنا ونحن أبناء العرب، وورثة النبى الذى جاء منا صلى الله عليه وسلم، ولغتنا فى مصر، والشام، والعراق، وشمال إفريقيا، هى لغة القرآن فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها، خوفاً من أهل زمانهم، ولكنَّا الآن يجب علينا إبرازه وإظهاره، لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظها من الحياة، وقسطها من الإصلاح".
ثم أخذ يُبيِّن لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وطيره، وأوصاف مَن سيرد عليه من المسلمين، بما جاء فى الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم قال - بعد هذا كله:"اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم أُمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة، وصورة مفرحة، وبهجة وجمال. ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة. جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال، والحكمة، والعلم، ورقى الأُمة بهيئة تسر الجمهور".
ثم يقول: "الجاهل يسمع الدُّر والياقوت، وشراباً أحلى من العسل، فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللَّذت التى تقر بها عينه.. والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم، لأنى أرى فى خلال القول عجائب. فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء! وأى دخل لنجوم السماء هنا؟ ولماذا عبَّر به"؟.. ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولِمَ؟
…
ولِمَ؟.. الحق أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يريد أمرين: أمراً واضحاً جلياً يفرح به جميع الناس، وأمراً يختص بالقُوَّاد والعظماء.
إن النبوة بأمر الله، والله جعل فى أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوماً، وكُلٌ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح فى أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء فى أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قُوَّاد الأُمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبى صلى الله عليه وسلم يريد معانى أرقى. إن الجنة فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فليس الماء الذى هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شئ هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأى شىء عدد
نجوم السماء؟ ولماذا اختُصَّت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذى نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الإذفر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من دُّرٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذى فى ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين
…
"، ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التى هى لفظ أُطلق وأُريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلى، ثم يقول - بعد بيان هذه الكناية: ".. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكافرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس فى هذه العلوم الحقيقية أفواجاً. وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها، ورأوا المسلمين تقدَّموا ونصروا العلم على الجهل فى العالَم الإنسانى، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر فى زماننا، وهو الفتح، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه".. إلخ.
هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.
والكتاب - كما ترى - موسوعة علمية، ضربت فى كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يُوصف بما وُصِف به تفسير الفخر الرازى، فقيل عنه:"فيه كل شىء إلا التفسير" بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلَّ الكتاب على شىء، فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيراً ما يسبح فى ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف فى نواح شتَّى من العلم بعقله وقلبه، ليُجلى للناس آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم، ثم ليُظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمناً لكل ما جاء ويجىء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقاً لقول الله تعالى فى كتابه:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .. ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.
* *
* إنكار بعض العلماء المعاصرين لهذا اللَّون من التفسير:
لم يقف العلماء فى هذا العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللَّون من التفسير،
بل نراهم مختلفين فى قبوله والقول به، كما كان الشأن بين مَن سبقهم من العلماء الأقدمين..
وإذا كنا قد وجدنا من العلماء المحدَثين مَن انحاز إلى هذه الفكرة فى التفسير وتأثر بها فى مؤلفاته، فإنَّا نجد بجوار هؤلاء أيضاً كثرة من العلماء لم ترض عن هذا اللَّون من التفسير، ولم تستسغ أن تشرح به كتاب الله تعالى، ولم تغمض عينها أو تمسك قلمها عن رد هذه الفكرة على أهلها وتناولهم إياها بالنقد والتفنيد.
نجد هذه المعارضة فى كثير من المحاورات والاعتراضات التى وُجِّهَت إلى صاحب الجواهر، وذكرها لنا فى تفسيره.
كما نجد بعض أساتذتنا المعاصرين ينعون على مَن يأخذ بهذه الفكرة ويقول بها، ومن بين هؤلاء أستاذنا الشيخ محمود شلتوت. فقد تناول هذا الموضوع بالبحث فى العدد (407) ، (408) من السنة التاسعة لمجلة الرسالة. - إبريل سنة 1941 - وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللَّون من التفسير بحجج قوية واضحة.
وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولى يتناول هذا الموضوع فى كتابه "التفسير: معالم حياته. منهجه اليوم"، وفيه يرد على أنصار هذا المذهب فى التفسير بحجج قوية واضحة، استفدنا منها كثيراً فى تأييد ما اخترنا من المذهبين.
وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضا. نجده فى مقدمة تفسيره ينعى على مَن تأثروا فى تفسيرهم بنزعاتهم العلمية، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعانى، والبيان، والإسرائيليات
…
وغير ذلك، ويعد هذا صارفاً يصرف الناس عن القرآن وهَدْيه، ثم ينعى على الفخر الرازى ما أورده فى تفسيره من العلوم الحادثة فى المِلَّة، ويعد هذا صارفاً يصرف الإنسان عن القرآن وهَدْيه، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على مَن قلَّد الفخر الرازى فى مسلكه من المعاصرين، وأظنه أراد صاحب الجواهر، وذلك حيث يقول:".. وقد زاد الفخر الرازى صارفاً آخر عن القرآن، هو ما يورده فى تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل هذا من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولاً طويلة - بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض -، من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن".
وأخيراً.. فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى رحمه الله رحمة واسعة - نجده فى تفريظه لكتاب "الإسلام والطب الحديث" لا يرضى عن هذا المسلك فى التفسير، رغم أنه مدح الكتاب وأشاد بمجهود مؤلفه،