الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]
…
ونحو ذلك، وبفواتح السور - وهى مما لم يُعهد عند العرب - وبما نُقِل عن الناس فيها، وربما حكى من ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره أشياء"
ثم أخذ الشاطبى رحمه الله يفند هذه الأدلة فقال:
"فأما الآيات: فالمراد بها عند المفسِّرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب فى قوله:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} : اللَّوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضى تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور.. فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهداً، كعدد الجُمَّل الذى تَعرَّفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هى من المتشابهات التى لا يعلم تأويلها إلى الله تعالى، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ولم يدعه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوا، وما يُنقل عن علىّ أو غيره فى هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار فى الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أُودع من الأحكام الشرعية، فمَن طلبه بغير ما هو أداة له ضَلَّ عن فهمه، وتَقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق".
هذه هى الخلاصة الشاملة لمقالة الشاطبى فى هذا الموضوع، وذلك هو رأيه فى التفسير العلمى الذى شغف به بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين، وأحسب أنى - وقد وضعت بين يدى القارىء مقالة كل فريق وما يستند إليه من أدلة - قد أنرتُ له الطريق، وأوضحتُ له السبيل، ليختار لنفسه ما يحلو، بعد أن يحكم على أحدهما بأنه خير مقالة وأحسن دليلاً.
* *
اختيارنا فى هذا الموضوع
أما أنا فاعتقادى أن الحق مع الشاطبى رحمه الله، لأن الأدلة التى ساقها لتصحيح مُدَّعاه أدلة قوية، لا يعتريها الضعف، ولا يتطرق إليها الخلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة لا تثبت أمامها حججهم، ولا يبقى معها مُدَّعاهم.
وهناك أُمور أُخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق فى جانب الشاطبى ومَن لَفَّ لفه، فمن ذلك ما يأتى:
أولا - الناحية اللُّغوية:
وذلك أن الألفاظ اللُّغوية لم تقف عند معنى واحد من لدن استعمالها إلى اليوم،
بل تدرجت حياة الألفاظ وتدرجت دلالاتها، فكان لكثير من الألفاظ دلالات مختلفة، ونحن وإن كنا لا نعرف شيئاً عن تحديد هذا التدرج وتاريخ ظهور المعانى المختلفة للكلمة الواحدة، نستطيع أن نقطع بأن بعض المعانى للكلمة الواحدة حادث باصطلاح أرباب العلوم والفنون، فهناك معان لُغوية، وهناك معان شرعية، وهناك معان عُرْفية، وهذه المعانى كلها تقوم بلفظ واحد، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به وقت نزول القرآن، نظراً لحدوثه وطروه على اللَّفظ، فهل يعقل بعد ذلك أن نتوسع هذا التوسع العجيب فى فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدَّت باصطلاح حادث، ولم تُعرف للعرب الذين نزل القرآن عليهم؟ وهل يعقل أن الله تعالى إنما أراد بهذه الألفاظ القرآنية هذه المعانى التى حدثت بعد نزول القرآن بأجيال، فى الوقت الذى نزلت فيه هذه الألفاظ من عند الله، وتُليت أول ما تُليت على مَن كان حول النبى صلى الله عليه وسلم؟. أعتقد أن هذا أمر لا يعقله إلا مَن سفه نفسه، وأنكر عقله.
*
ثانياً - الناحية البلاغية:
عُرِّفت البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعلوم أن القرآن فى أعلى درجات البلاغة، فإذا نحن ذهبنا مذهب أرباب التفسير العلمى وقلنا بأن القرآن متضمن لكل العلوم، وألفاظه متحملة لهذه المعانى المستحدّثة، لأوقعنا أنفسنا فى ورطة لا خلاص لنا منها إلا بما يخدش بلاغة القرآن، أو يذهب بفطانة العرب، وذلك لأن مَن خوطبوا بالقرآن فى وقت نزوله أن كانوا يجهلون هذه المعانى وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب وهذا سلب لأهم خصائص القرآن الكريم. وإن كانوا يعرفون هذه المعانى فلِمَ لَمْ تظهر نهضة العرب العلمية من لدن نزول القرآن الذى حوى علوم الأوَّلين والآخرين؟ ولِمَ لَمْ تقم نهضتهم على هذه الآيات الشارحة لمختلف العلوم وسائر الفنون؟.. وهذا أيضاً سلب لأهم خصائص العرب ومميزاتهم.
*
ثالثاً: الناحية الاعتقادية:
القرآن الكريم باق ما تعاقب الملوان، ونظامه نافع لكل عصر وزمان، فهو يتحدث إلى عقول الناس جميعاً من لدن نزوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو يساير حياتهم فى كل ما يمرون به من مراحل الزمن، وهذا كله بحكم كونه كتاب الشريعة العامة الشاملة، وقانون الدين الذى جعله الله خاتم شرائع السموات إلى أهل الأرض.
هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده ويدين به، حتى يسلم له دينه، ولا يرتاب
فيه، فإذا نحن ذهبنا مذهب مَن يُحمِّل القرآن كل شىء، وجعلناه مصدراً لجوامع الطب، وضوابط الفلك، ونظريات الهندسة، وقوانين الكيمياء، وما إلى ذلك من العلوم المختلفة، لكُنا بذلك قد أوقعنا الشك فى عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم، وذلك لأن قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات، لا قرار لها ولا بقاء، فرُبَّ نظرية علمية قال بها عالِمٌ اليوم، ثم رجع عنها بعد زمن قليل أو كثير، لأنه ظهر له خطؤها. وأمام سمعنا وبصرنا من المثل ما يشهد بأن كثيراً من جوامع العلم لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد ذلك، وكم بين نظريات العلم قديمة وحديثة من تناف وتضاد، فهل يعقل أن يكون القرآن محتملاً لجميع هذه النظريات والقواعد العلمية على ما بينها من التنافى والتضاد؟ وإذا كان هذا معقولاً، فهل يعقل أن يُصدِّق مسلم بالقرآن بعد هذا، ويكون على يقين بأنه كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟؟
الحق أن القرآن لا يعنى بهذا اللَّون من حياة الناس، ولا يتعهده بالشرح ولا يتولاه بالبيان، حتى يكون مصدرهم الذى يرجعون إليه فى تعرف حياتهم العلمية الدنيوية.
ويبدو لنا أن أنصار هذه الفكرة - فكرة التفسير العلمى - لم يقولوا بها، ولم يعملوا على تأييدها إلا بعد أن نظروا إليها كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم. وبيان صلاحيته للحياة، وتمشيه معها على اختلاف أحوالها وتطور أزمانها. ولكن "ما هكذا يا سعد تورد الإبل" فإن إعجاز القرآن غنى عن أن يُسلك فى بيانه هذا المسلك المتكلف، الذى قد يُذهب بالإعجاز، وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان أرباب هذا المسلك فى التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده، ودعوة الله لهم بالنظر فى كتاب الكون وآياته التى بثًَّها فى الآفاق وفى أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا فى دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأوَّلين والآخرين، فهم مخطئون ولا شك، وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده، ودعوته إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض وفى أنفسهم، لا يُراد منه إلا رياضة وجدانات الناس، وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة، ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته، من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة فى النفس وجلال فى القلب، لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنى عن أن يعتز بمثل هذا التكلف، الذى
يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنسانى الاجتماعى، فى إصلاح الحياة، ورياضة النفس، والرجوع بها إلى الله تعالى.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضاً، أن من الخير لهم ولكتابهم أن لا ينحوا بالقرآن هذا المنحى فى تفسيرهم، رغبة منهم فى إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشبى مع التطور الزمنى، وحسبهم أن لا يكون فى القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جَدَّ ويَجِدّ من نظريات وقوانين علمية، تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة.
* * *