الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما جَدَّ من العلوم، ثم وُجِدت الفكرة مركَّزة وصريحة على لسان الغزالى، وابن العربى، والمرسى، والسيوطى، ولوجدنا أيضاً أن هذه الفكرة قد طُبِّقت علمياً، وظهرت فى مثل محاولات الفخر الرازى، ضمن تفسيره للقرآن.
ثم وُجِدت بعد ذلك كتب مستقلة فى استخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم، وراجت هذه الفكرة فى العصر المتأخر رواجاً كبيراً بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما أُلِّفت بعض التفاسير التى تسير على ضوء هذه الفكرة. ونرى أن نؤجل البحث عن التفسير العلمى فى هذه المرحلة الأخيرة إلى خاتم الرسالة، حيث نعرض لألوان التفسير فى العصر الحديث إن شاء الله تعالى.
* * *
إنكار التفسير العلمى
إذا كانت فكرة التفسير العلمى قد راجت عند بعض المتقدمين، وازدادت رواجاً عند بعض المتأخرين، فإنها لم تلق رواجاً عند بعض العلماء الأقدمين، كما أنها لم تلق رواجاً عند بعض المتأخرينم منهم أيضاً.
* *
إنكار الشاطبى للتفسير العلمى
ويظهر لنا على حسب ما قرأنا أن زعيم المعارضة لهذه الفكرة فى العصور المتقدمة هو الفقيه الأصولى: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى، الأندلسى، المتوفى سننة 790 هـ (تسعين وسبعمائة من الهجرة) ، وذلك أنَّا نجده فى كتابه "الموافقات" يعقد بحثاً خاصاً لمقاصد الشارع، وينوِّع هذه المقاصد إلى أنواع تولى شرحها وبيانها، والذى يهمنا هنا النوع الثانى منها وهو "بيان قصد الشارع فى وضع الشريعة للأفهام" وفى المسألة الثالثة من مسائل هذا النوع نجده يقرر أن "هذه الشريعة المباركة أُمِّية، لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعبتار المصالح".. ثم دلَّل على ذلك بأُمور ثلاثة لا نطيل بذكرها، ثم عقَّب بفصل ذكر فيه:"إن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبيَّنت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه"، ثم ذكر من العلوم الصحيحة التى كان للعرب اعتناء بها: علم النجوم وما يختص به من الاهتداء فى البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وما يتعلق بهذا المعنى. ثم قال: "وهو معنى مقرر فى أثناء القرآن
فى مواضع كثيرة كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 97]، وقوله:{وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وقوله:{والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم * لَا الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلَا الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 39-40]، وقوله:{هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5]، وقوله:{وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12]
…
الآية، وقوله:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، وقوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189]
…
وما أشبه ذلك من الآيات.
وذكر علم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، وعرض لما ورد فى ذلك من القرآن مثل قوله تعالى:{هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال * وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} [الرعد: 12-13]
…
الاية، وقوله:{أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} [الواقعة: 68-69]، وقوله:{والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9]
…
وغير ذلك من الآيات.
وذكر علم التاريخ وأخبار الأُمم الماضية، وفى القرآن من ذلك ما هو كثير
…
قال تعالى: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]
…
الاية، وقال تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هاذا} [هود: 49] .
وذكر علم الطب، وبيَّن أنه كان فى العرب منه شىء مبنى على تجارب الأُميين، لا على قواعد الأقدمين. قال: "وعلى ذلك المساق جاء فى الشريعة لكن على وجه جامع، شاف، قليل يطلع منه على كثير، فقال تعالى:{وكُلُواْ واشربوا وَلَا تسرفوا} [الأعراف: 31] .
وذكر التفنن فى علم فنون البلاغة، والخوض فى وجوه الفصاحة، والتصرف فى أساليب الكلام.. قال: "وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن، قال تعالى:{قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] ..
وذكر ضرب الأمثال، واستشهد بقوله تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هاذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] .
وذكر من العلوم التى عنى بها العرب وأكثرها باطل أو جميعها: علم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطَيْرة، قال:"فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه كالكهانة، والزجر، وخط الرمل. وأقرت الفأل لا من جهة تَطلُّب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تَخرُّص على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبى صلى الله عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض، وهو الوحى والإلهام، وبقى للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة".
ثم بعد هذا البيان الذى أوضح فيه الشاطبى أن الشريعة فى تصحيح ما صححت وإبطال ما أبطلت قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم، ولم تخرج عما ألفوه، نراه يزيد هذا البيان إسهاباً وإيضاحاً، ويتوجه باللَّوم إلى مَن أضافوا للقرآن كل علوم الأوَّلين والآخرين، مفنداً هذا الزعم، الذى اعتقد أن قائليه قد تجاوزوا به الحد فى دعواهم على القرآن. وذلك حيث يقول فى المسألة الرابعة من مسائل النوع الثانى من المقاصد - أعنى مقاصد وضع الشريعة للإفهام - "ما تقرر من أُمِّية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها - وهم العرب - ينبنى عليه قواعد: منها: أن كثيراً من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه لك علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات، والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح".
ثم يصحح الشاطبى رأيه هذا ويحتج له بما عُرِف عن السَلَف من نظرهم فى القرآن فيقول: "
…
إن السَلَف الصالح - من الصحابة والتابعين ومن يليهم - كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أُودع فيه، ولم تبلغنا أنه تكلم أحد منهم فى شىء من هذا المدَّعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلى ذلك، ولو كان لهم فى ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير لشىء مما زعموا. نعم تضمن علوماً من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودها مما يتعجب منه أُولوا الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، وأما أن فيه ما ليس من ذلك فلا".
ثم أخذ الشاطبى بعد هذا فى ذكر ما استند إليه أرباب التفسير العلمى من الأدلة فقال: "وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ