الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* رؤية الله:
ولقد تأثر المؤلف أيضاً فى تفسيره باعتقاده بعدم رؤية الله وعدم وقوعها، ولهذا لما فسَّر قوله تعالى فى الآية [143] من سورة الأعراف:{قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}
…
الآية، قال ما نصه:{قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} روى لما كرر سؤال الرؤية أوحى الله إليه: يا موسى سلنى ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، {قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} علق على المحال، {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أى أظهر له أمره واقتداره أو نوره وعظمته، {فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ} تنزيها لك عما لا يليق بك من الرؤية وغيرها، {تُبْتُ إِلَيْكَ} من طلب الرؤية، أو السؤال بلا إذن، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بأنك لا تُرى".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. يقول: "ناظرة إلى رحمته وإنعامه".
* *
* غفران الذنوب:
ولما كان المؤلف يخالف المعتزلة فى بعض معتقداتهم، فإنَّا نراه يُفسِّر الآيات التى يستندون إليها فى بعض عقائدهم بخلاف تفسيرهم لها، فمثلاً يرى المؤلف أنه يجوز فى حق الله تعالى أن يغفر الذنوب - إلا الشرك - بدون توبة من العبد تفضلاً منه ورحمة، وهذا ما لا يقول به المعتزلة، فلهذا نجده يجرى على هذه العقيدة فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [48] من سورة النساء:{إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فيقول: {.. إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ} أى الشرك {بِهِ} بدون توبة للإجماع على غفرانها بها، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ما سواه من الذنوب بدون توبة، {لِمَن يَشَآءُ} تفضلا، ومقتضاه الوقوف بين الخوف والرجاء".
وهكذا نجد هذا الكتاب يجمع بين الاختصار وسهولة العبارة مع كثير من التعصب للمذهب الشيعى، والدفاع عن أُصوله وفروعه.
* * *
6- بيان السعادة فى مقامات العبادة (لسلطان محمد الخراسانى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو سلطان محمد بن حيدر الجنابذى الخراسانى أحد متطرفى الإمامية الإثنا عشرية فى القرن الرابع عشر الهجرى.
* *
*
قيمة هذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يعطينا هذا التفسير لونا آخر من ألوان التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، وذلك لأن كل ما تقدم لنا من كتبهم فى التفسير يكاد يكون متفقاً على لون واحد، وهو نقل ما جاء فى التفسير عن الأئمة وآل البيت، وما كان من تفاوت بينها فهو لا يعدو أن يكون تفاوتاً بمقدار ما بين مؤلفيها من اعتدال فى التشيع أو غلو فيه، وبمقدار ما بينهم من تفاوت فى القدرة على تأييد مذهبهم وتدعيم أُصوله بالأدلة والبراهين.
أما هذا الكتاب الذى نحن بصدده فقد سلك مؤلفه فيه مسلكاً غير هذا المسلك، مما جعل له لوناً مخالفاً للون تلك الكتب السابقة، ذلك أن المؤلف وإن كان يعتقد كغيره من علماء مذهبه أن علم القرآن كله عند الأئمة، إلا أنه لم يعتمد فى تفسيره على هذه الناحية كل الاعتماد، بل تراه يمزج بها التفسير الصوفى الذى يقوم على الرموز والإشارات، كما يخلط بالتفسير كثيراً من البحوث الفلسفية الدقيقة. والذى يقرأ هذا الكتاب ويتتبع ما فيه من الشطحات الصوفية العميقة فى إدراكها، الغريبة فى لفظها وأسلوبها، لا يسعه إلا أن يحكم على الكتاب بأنه مغلق فى إدراك معانيه، عسير فى فهم مراده ومراميه. وأنا إذ أحكم على الكتاب هذا الحكم لا أكون مغالياً ولا متجنياً فيما حكمت، فكثيراً ما قرأت فيه العبارة المرة بعد المرة، ولا أخرج منها إلا بالمعنى القاصر المبتور، بعد أن يرتد إلىَّ البصر خاسئاً وهو حسير، ويرجع الذهن عاجزاً عن الفهم وهو كليل.. وربما أكون واهماً فى هذا الحكم، لقصور معرفتى باصطلاحات القوم، وعدم وقوفى على أُصول مذهبهم ومرامى رموزهم التى يرمزون بها.. ولو تيسر لى ذلك لجاز أن يكون لى حكم على هذا التفسير مغاير لهذا الحكم، ورأى فيه مخالف لهذا الرأى..
والذى نلحظه فى هذا التفسير بعد ذلك: أنه يدافع عن أُصول مذهبه ويطيل فى دفاعه، مع تعصب كبير، وتطرف بالغ إلى درجة الغلو والعناد. أما فروع المذهب ومسائله الاجتهادية الفقهية، فيمر عليها مراً سريعاً بدون تفصيل للأدلة وبيان لوجهة النظر، كما نلاحظ فيه أنه لا يقتصر على النقل من تفاسير الشيعة بل ينقل من تفاسيرها أهل السُّنَّة أيضاً كالبيضاوى وغيره، وكثيراً ما ينقل بعض العبارات الفارسية لبعض العلماء كشاهد على ما يقول.
وبالجملة.. فالكتاب يكاد فى جملته أن يكون تفسيراً جارياً على النمط الذى يجرى عليه الصوفية فى تفاسيرهم، ويظهر أن مؤلفه كان يقصد هذا اللون الصوفى فى تفسيره أولاً، وبالذات، يدلنا على ذلك هذه العبارة التى نقتطفها من مقدمة تفسيره وهى قوله: ".. وقد كنت نشيطاً منذ أوان اكتسابى للعلوم وعنفوان شبابى بمطالعة
كتب التفاسير والأخبار ومدارستها، ووفقنى الله تعالى لذلك، وقد كان يظهر لى فى بعض الأحيان من إشارات الكتب وتلويحات الأخبار لطائف ما كنت أجدها فى كتاب ولا أسمعها من خطاب، فأردت أن أُثبتها فى وريقات، وأجعلها نحو تفسير للكتاب، لتكون تذكرة لى ولإخوانى المؤمنين، وتنبيهاً لنفسى ولجملة الغافلين، راجياً من الله أن يجعلها لى ذخيرة ليوم الدين، ولسان صدق فى الآخرين وهو جدير بأن يسمى:"بيان السعادة فى مقدمات العبادة".
فأنت ترى أن المؤلف يقرر فى هذه العبارة أن تفسيره هذا عبارة عن مجموعة تلك الإشارات والتلويحات التى فتح الله بها عليه ولم يُسبق إليها، فلو أَنَّا جعلناه ضمن تفسير الصوفية لما كنا بعيدين عن وجهة الحق والصواب، ولكنا آثرنا أن نجعله ضمن تفاسير الإمامية الإثنا عشرية، لما فيه من اللَّون المذهبى والأثر الشيعى البالغ حد التطرف والغلو حتى فى ناحيته الصوفية والفلسفية. والكتاب مطبوع فى جزءين، وموجود بدار الكتب المصرية، آخره ما يدل على أن مؤلفه فرغ منه سنة 1311هـ.
وأرى قبل كل شئ أن أسوق للقارئ الكريم أهم الآراء التى يقول بها المصنِّف ويجهر بها فى مقدمة تفسيره، ثم أعرض بعد هذا لتوضيح مسلكه الذى سلكه فى هذا التفسير بما أذكره ضمن النماذج المختلفة. وإليك أهم هذه الآراء:
* الإمامية الإثنا عشرية والمهدى المنتظر:
يدين صابحنا بأن علياًَ أول العترة، ووارث علم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعده الأحد عشر من ولده، وأن الحادى عشر منهم غائب قائم منتظر لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج ويملأ الأرض قِسْطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، وأن هؤلاء الإثنا عشر أئمته وشفعاؤه يوم القيامة.
* *
* القرآن والعترة:
ويعتقد المؤلف أن القرآن دليل العترة، وأن العترة مبينون للقرآن، ويقول:"إن القرآن إمام صامت، والعترة إمام ناطق"، كما يقول: "إن محبة العالِم من العترة وتعظيمه، والنظر إليه، والجلوس عنده، واستماع قوله وسماعه، والتدبر فى أفعاله وأحواله وأخلاقه، والتفكر فى شئونه والتسليم له والمتشابهات ما منه، وتخلية بيت القلب لنزوله بملكوته فيه، بملاحظة أنه حبل الله الممدود إلى الناس من غير عناد منه من أعظم العبادات. كذلك تعظيم القرآن، والنظر فى سطوره، واستماع كلماته وسماعها، والتدبر فى عباراته، والتفكر فى إشاراته ولطائفه، وتخلية بيت القلب
لتجلى حقائقه، واتباع أحكامه وتسليم متشابهاته من أعظم العبادات إذا كان بلحاظ كونه حبلاً ممدوداً من الله".
* *
* علم القرآن جميعه عند محمد والأوصياء:
ويعتقد المؤلف أن علم القرآن جميعه عند النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة، أما مَن عداهم فعلمهم بمعانى القرآن قاصر لا يبلغ المبلغ الذى خُصَّ به النبى والأئمة، وذلك فى نظره راجع إلى تفاوت المقامات التى يتفاوت العلم بتفاوتها. ونظرية تفاوت المقامات التى يتفاوت من أجلها العلم بمعانى القرآن، نظرية فلسفية صوفية شيعية، وإليك نص عبارة المؤلف فى الفصل العاشر من مقدمة كتابه لتكون على بصيرة بها..
يقول المؤلف ما نصه: "الفصل العاشر: إن علم القرآن بتمام مراتبه منحصر فى محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيائه الإثنا عشر وليس لغيرهم إلا بقدر مقامه، قد مضى أن بطون القرآن وحقائقه كثيرة متعددة، وأن بطنه الأعلى وحقيقته العليا هو محمدية محمد، وعلوية علىّ، وهو مقام المشيئة التى هى فوق الإمكان، وكل نبى ووصى كان لا يتجاوز مقامه الإمكان سوى محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيائه، ومن لم يبلغ إلى مقام المشيئة لا يعلم ما فيه، ولا يتبين من ذلك المقام شيئاً، لأن المفسِّر لا يتجاوز فى تفسيره حد نفسه، فكل مَن علم من القرآن شيئاً أو فسَّر منه شيئاً وإن بلغ من المقامات لا يكون علمه وتفسيره بالنسبة إلى علم القرآن إلا كقطرة من بحر محيط، فإن حقيقة القرآن - التى هى حقيقة محمد وعلىّ - هى مقام الإطلاق الذى لا نهاية له، والممكن وإن كان أشرف الممكنات الذى هو العقل اإلكلى يكون محدوداً، ولا يتصور النسبة بين المحدود وغير المتناهى الغير محدود، فعلم كل عالِم ومفسِّر للقرآن بالنسبة إلى علم القرآن كقطرة إلى البحار. ولما كان مقام محمد صلى الله عليه وسلم وعلىّ وأولاده المعصومين مقام المشيئة كان علم القرآن كله عندهم، وكان علىّ هو مَن عنده علم الكتاب كما فى الآية بإضافة العلم إلى الكتاب المفيد للاستغراق. وكان آصف هو الذى عنده علم من الكتاب. وكان إبراهيم ابتلاه ربه بكلمات معدودة لا بجملة الكلمات، مع أنه كان أكمل الأنبياء بعد نبينا. وكان محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله وكلماته جميعاً فى قوله تعالى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] .. فإن "الكلمات" جمع مضاف مفيد للاستغراق، وليس المراد به الإيمان الإجمالى وإلا لشاركه غيره فيه، بل الإيمان التفصيلى، والإيمان التفصيلى لا يكون إلا بإدراك المؤمن به شهوداً وعياناً".
* *
* تحريف القرآن وتبديله:
والمؤلف يذكر لنا رأيه بوضوح فى تحريف القرآن وتبديله فيقول ما نصه: "اعلم أنه
قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد يقع شك فى صدور بعضها منهم وتأويل الجميع بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هى فى مدركاتهم من القرآن لا فى لفظ القرآن كلغة، ولا يليق بالكاملين فى مخاطباتهم العامة، لأن الكامل يخاطب بما فيه حظ العوام والخواص، وصرف اللَّفظ عن ظاهره من غير صارف، وما تواهموه صارفاً من كونه مجموعاً عندهم فى زمن النبى، وكانوا يحفظونه ويدرسونه، وكانت الأصحاب مهتمين بحفظه عن التغيير والتبديل، حتى ضبطوا قراءات القُرَّاء وكيفيات قراءاتهم.
فالجواب عنه: أن كونه مجموعاً غير مُسَلَّم، فإن القرآن نزل فى مدة رسالته إلى آخر عمره نجوماً، وقد استفاضت الأخبار بنزول بعض السور وبعض الآيات فى العام الآخر، وما ورد من أنهم جمعوه بعد رحلته، وأن علياً جليس فى بيته مشغولاً بجمع القرآن، أكثر من أن يمكن إنكاره. وكونهم يحفظونه ويدرسونه مُسَلَّم، لكن كان الحفظ والدرس فيما كان بأيديهم، واهتمام الأصحاب بحفظه وحفظ قراءات القُرَّاء وكيفيات قراءاتهم كان بعد جمعه وترتيبه، وكما كانت الدواعى متوفرة فى حفظه، كذلك كانت متوفرة من المنافقين فى تغييره. أما ما قيل: إنه لم يبق لنا حينئذ اعتماد عليه، والحال أنَّا مأمورون بالاعتماد عليه، واتباع أحكامه، والتدبر فى آياته، وامتثال أوامره ونواهيه. وإقامة حدوده، وعرض الأخبار عليه، لا يعتمد عليه صرف مثل هذه الأخبار الكثيرة الدالة على التغيير والتحريف عن ظواهرها، لأن الاعتماد على هذا المكتوب ووجوب اتباعه، وامتثال أوامره ونواهيه، وإقامة حدوده وأحكامه، إنما هى للأخبار الكثيرة الدالة على ما ذُكِر، للقطع بأن ما بين الدفتين هو الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم من غير نقيصة وزيادة وتحريف فيه. ويُستفاد من هذه الأخبار: أن الزيادة والنقيصة والتغيير إن وقعت فى القرآن لم تكن مخلة بمقصود الباقى منه، بل نقول: كان المقصود الأهم من الكتاب الدلالة على العترة والتوسل بهم، وفى الباقى منه حُجَّتهم أهل البيت، وبعد التوسل بأهل البيت إن أمروا باتباعه كان حُجَّة قطعية لنا ولو كان مغيراً تغييراً مخلاً بمقصوده، وإن لم نتوسل بهم أو لم يأمروا باتباعه، وكان التوسل به، واتباع أحكامه، واستنباط أوامره ونواهيه، وحدوده، وأحكامه، من قِبَل أنفسنا كان من قِبَل التفسير بالرأى الذى منعوا منه، ولو لم يكن متغيراً".
* *
* نزول القرآن فى شأن الأئمة وأشياعهم وأعدائهم:
ويرى المؤلف أن القرآن نزل بتمامه فى الأئمة الإثنا عشر بوجه، ونزل فيهم وفى
أعدائهم بوجه، ونزل أثلاثاً: ثلث فيهم وفى أعدائهم، وثلث سُنَن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام.. بوجه. أو ثلث فيهم وفى أحبائهم، وثلث فى أعدائهم، وثلث سُنَّة ومُثل.. بوجه. ونزل أرباعاً: ربع فيهم، وربع فى عدوهم، وربع سُنَن وأمثال، وربع فرائض وأحكام.. بوجه. ويرى أن كل هذا قد أشعرت به الأخبار الواردة عن أهل البيت، ويوجه ذلك فيقول:"لما كان جميع الشرائع الإلهية والكتب السماوية لتصحيح الطريق الإنسانية، وتوجيه الخلق إلى الولاية، وكان أصل المتحققين بالطريق الإنسانية والولاية والمتحقق بالولاية المطلقة محمداً صلى الله عليه وسلم وعلياً وأولادهما، صح أن يقال: جملة الشرائع الإلهية وجميع الكتب السماوية نزلت فيهم وفى توجيه الخلق إليهم. وهو أيضاً وصف وتبجيل لهم. ولما كان كثير من آيات القرآن نزلت فيهم تصريحا أو تعريضاً أو تورية، وما كان فى أعدائهم لم يكن المقصود منه إلا الاعتبار بمخالفيهم والانزجار عن مخالفتهم ليكون سبباً للتوجه إليهم ولمعرفة قدرهم وعظمة شأنهم، وكان سائر آيات الأمر والنهى والقصص والأخبار لتأكد السير على الطريق الإنسانية إلى الولاية، صح أن يقال: جميع القرآن نزل فيهم، ولما كان القرآن مفصَّلاً يكون بعض آياته فيهم وفى محبيهم. وبعضها فى أعدائهم ومخالفيهم، وبعضها سُنَناً وأمثالاً، وبعضها فرائص وأحكاماً، صح أن يقال: نزل القرآن فيهم وفى أعدائهم، أو نزل أثلاثاً أو أرباعاً، والآية الدالة على أخبار الأخيار والأشرار الماضين كلها تعريض بالأئمة وأخيار هذه الأمة وأشرارهم، مع قطع النظر عن رجوعها إليهم وإلى أعدائهم بسبب كونهم أصلا فى الخير وكون أعدائهم أصلاً فى الشر. بل نقول: كل آية ذُكِر فيها خير كان المراد بها أخيار الأُمة، وكل آية ذُكِر فيها شر كان المراد بها أشرار الأُمة، لكون الآية فيهم أو تعريضاً بهم، أو لكونهم وكون أعدائهم أصلاً فى الخير والشر".
هذه أهم آراء المصنِّف التى يراها فى القرآن وتفسيره ومُفسِّريه. وإليك بعض النماذج التى توضح لك الطريقة التى جرى عليها المصنِّف فى تفسيره، ومقدار تأثره بنزعته الصوفية، وهواه الشيعى:
* من التفسير الصوفى:
قلنا: إن هذا التفسير يغلب عليه الطابع الصوفى لكثرة ما فيه من التأويلات الإشارية، والشطحات الصوفية، والمواجيد التى تقرؤها للمؤلف فى تفسيره للآيات القرآنية، وإليك بعض المثل لتعرف مقدار طغيان هذه الناحية على باقى النواحى فى هذه التفسير:
فمثلاً عندما تكلَّم عن قوله تعالى فى الآية [75] من سورة النساء: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هاذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} .. يقول عند تفسيره لقوله تعالى: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هاذه القرية}
…
الآية: "إن كان النزول فى ضعفاء قِلَّة فلا اختصاص لها بهم كما فى الخبر. فالقرية مكة وكل قرية لا يجد الشيعة فيها ولياً من الإمام ومشايخهم، وكل قرية وقع بها الأئمة بين منافقى الأُمة، وقرية النفس الحيوانية التى لا يجد الجنود الإنسانية فيها ولياً ويطلبون الخروج منها إلى قرية الصدر ومدينة القلب. ويسألون الحضور عند إمامهم أو مشايخهم فى بيت القلب خالياً عن مزاحمة الأغيار بقولهم: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} .. تكرار "جعل"، لأن مقام التضرع والابتهال يناسبه التطويل والإلحاح فى السؤال، ولأن المسئول ليس شخصاً واحداً، ولو كان واحداً، لم يكن مسئولا من جهة واحدة، بل المسئول محمد صلى الله عليه وسلم وعلىّ، أو المسئول محمد من جهة هدايته ومن جهة نُصْرته، وعلىّ كذلك".
"وقد بقى بين الصوفية أن يكون التعليم والتلقين بتعاضد نفسين متوافقتين، يسمى أحد الشخصين هادياً والآخر دليلاً، والشيخ الهادى له الهداية وتولى أمور السالك فيما ينفعه ويجذبه، والشيخ الدليل ينصره لمدافعة الأعداء، ويخرجه عن الجهل والردى بدلالة طريق التوسل إلى شيخ الهدى، وفى الآية إشارة إلى أن السالك ينبغى له أن يطلب دائماً حضوره عند شيخه بحسب مقام نورانيته ومقام صدره، وهو معنى انتظار ظهور الشيخ فى عالم الصغير، وأما ظهور الشيخ بحسب بشريته على بشرية السالك، فلا يصدق عليه أنه لدن الله، وإذا ظهر الشيخ بحسب النورانية كان ولياً من لدن الله ونصيراً من لدنه".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [87] من سورة المائدة: {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلَا تعتدوا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ المعتدين} .. يقول: ".. اعلم أن الإنسان ذو مراتب عديدة بعضها فوق بعض إلى ما لا نهاية له، والتكاليف الإلهية الواردة عليه ليست لمرتبة خاصة منه، بل - ما عرفتَ سابقاً - للمفاهيم الواردة فى التكاليف مصاديق متعددة بتعدد مراتب الإنسان. بعضها فوق بعض، فكل ما ورد فى الشريعة المطهَّرة من الألفاظ فهى مقصودة من حيث مفاهيمها العامة باعتبار جميع مصاديقها بحيث لا يشذ عنها مصداق من المصاديق، فالإنسان
بحسب مرتبته النباتية له محللات إلهية، وبحسب مرتبته الحيوانية أخرى، وبحسب الصدر أخرى، وبحسب القلب أخرى، وبحسب الروح أخرى، والتحريم الإلهى فى كل مرتبة بحسبه، وكذا تحريم الإنسان على نفسه، فالمحللات بحسب مرتبته الحيوانية والنباتية: ما أباح الله له من المأكول، والمشروب، والملبوس، والمركوب، والمنكوح، والمسكون، والمنظور، وبحسب الصدر: ما أباح الله له من الأفعال الإرادية، والأعمال الشرعية، والتدبيرات المعادية والمعاشية، والأخلاق الجميلة، والمكاشفات الصورية، وبحسب القلب: ما أباح الله له من الأعمال القلبية، والواردات الإلهية، والعلوم اللدنية، والمشاهدات المعنوية الكلية.. وهكذا فى سائر المراتب. والطيبات من ذلك فى كل مرتبة: ما تستلذه المدارك المختصة بتلك المرتبة، ومطلق المباح فى كل مرتبة طيب بالنسبة إلى مباح المرتبة الدانية منه، وأن الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، ولا يحب الشره والاعتداء فى رخصه بحيث يؤدى إلى الانتقال إلى ما هو حرام محظور بأصل الشرع، أو بحيث يؤدى إلى صيرورة المباح حراماً بفضل التجاوز عن حد الترخيص بالإكثار فيه، كما لا يحب الامتناع عن رخصه، فمعنى الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تمتنعوا من الرخص، ولا تحرِّموا - بقسم وشبهة، ولا بكسل ونحوه - على أنفسكم ما تستلذه المدارك بحسب كل مرتبة وقوة مما أباحه الله لكم، لأن الله يحب أن يرى عبده مستلذاً بما أباحه له، كما يحب أن يراه مستلذاً بعباداته ومناجاته، ولا
تمتنعوا بالاكتفاء بمستلذات المرتبة الدانية عن مستلذات المرتبة العالية، فإنه يحب أن يرى عبده مُصِّراً على طلب مستلذات المرتبة العالية، كما يحب أن يراه فى هذه الحالة معرضاً عن مباحات المرتبة الدانية، مكتفياً بضرورياتها وراجحاتها. ولا تعتدوا عما أباح الله إلى ما حظره، وفى المباح إلى حد الحظر. والآية إشارة إلى التوسط بين التفريط والإفراط فى كل الأُمور من الأفعال والطاعات والأخلاق والعقائد والسير إلى الله، فإن المطلوب من السائر إلى الله أن يكون واقعاً بين إفراط الجذب وتفريط السلوك"..
ثم بعد ذلك فسَّر قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَالاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] بما يشبه التفسير السابق.. ثم بعد ذلك ذكر أن الآية نزلت فى علىّ وبلال وعثمان بن مظعون، فأما علىّ فحلف أن لا ينام بالليل، وأما بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، وأما عثمان ابن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبداً، فلما علم بذلك رسول الله خرج على الناس ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:"ما بال أقوام يُحرِّمون على أنفسهم الطيبات؟ إنى أنام الليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سُنَّتى فليس منى"، فقام
هؤلاء فقالوا: يا رسول الله؛ قد حلفنا على ذلك، فأنزل الله آيات الحلف.. ثم استشكل المؤلف على هذه الرواية إشكالين:
أولهما: أن مثال هذه المعاتبات ونسبة التحريم والاعتداء والتقوى ولغو الأيمان غير مناسبة لمقام علىّ.
وثانيهما: أن علياً إما كان عالماً بأن تحريم الحلال إن كان بالاستبداد والرأى كان من البدع والضلال، وإن كان بالنذر وشبهه كما دَلَّ عليه الخبر، كان مرجوحاً غير مرضى لله تعالى، ومع ذلك حرَّمه على نفسه، أو كان جاهلاً بذلك، وكِلا الوجهين غير لائق بمقامه..
ثم أجاب عن هذين الإشكالين بجواب كله من قبيل النظرات الصوفية فقال: "والجواب الجلى لطالبى الآخرة والسالكين إلى الله، الذين بايعوا علياً بالولاية، وتابعوه بقدم صدق، واستشهوا نفحات نشأته حال سلوكه أن يقال: إن السالك إلى الله يتم سلوكه باستجماعه بين نشأتى الجذب والسلوك، بمعنى توسطه بين تفريط السلوك الصرف، وإفراط الجذب الصرف، فإنه إن كان فى نشأة السلوك فقد جمد طبعه ببرودة السلوك حتى يقف عن السير. وإن كان فى نشأة الجذب فقط، فنى بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته، بحيث لا يبقى منه أثر ولا خبر، وهو وإن كان فى روح وراحة، لكنه ناقص كمال النقص من حيث أن المطلوب منه حضوره بالعودة لدى ربه مع جنوده، وخدمه، وأتباعه، وحشمه، وهو طرح الكل، وتسارع بوحدته، فالسالك إلى الله تكميله مربوط بأن يكون فى الجذب والسلوك منكسراً برودة سلوكه بحرارة جذبه، فالجذب والسلوك كالليل والنهار وكالصيف والشتاء، من حيث أنهما يربيان المواليد بتضادهما، فهما - مع كونهما متنازعين متآلفان متوافقان.
إذا علمت ذلك، فاعلم أن السالك إذا وقع فى نشأة الجذب، وشرب من شراب الشوق الزنجبيلى، سكر وطرب ووجد، بحيث لا يبقى فى نظره سوى الخدمة للمحبوب، وكل ما رآه منافياً للخدمة رآه ثقلاً ووبالاً على نفسه ومكروهاً لمولاه، فيصمم فى طرحه، ويعزم على ترك الاشتغال به، وهو من كمال الطاعة لا أنه ترك الطاعة كما يظن، فلا ضير أن يكون أمير المؤمنين حال سلوكه وقع فى تلك النشأة، وحرَّم على نفسه كل ما يشغله عن الخدمة، لكمال الاهتمام بالطاعة، ولما لم يكن تحصيل الكمال التام إلا بالجمع بين النشأتين، أسقاه محمد صلى الله عليه وسلم من شراب السلوك، لأنه كان مكملاً مربياً له ولغيره، ولذا قالوا: لأن يكون للسالك شيخ وإلا فيوشك أن يقع فى الورطات المهلكة، ولا منقصة فى أمثال هذه المعاتبات على الأحباب، بل فيها من اللطف والترغيب فى الخدمة ما لا يخفى، وعلىّ كان عالماً بأن الكمال لا يحصل إلا بالنشأتين، لكنه يرى حين الجذب أن كل ما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب،
ومرجوح عنده، فحلف على ترك المرجوح. أو يقال: إن علياً لما كان شريكاً للرسول صلى الله عليه وسلم فى تكميل السلاك لقوله: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى"، وكان له شأن الدلالة، ولمحمد شأن الإرشاد، والمرشد بنشأته النبوية شأنه تكميل السالك بحسب نشأة السلوك، وإن كان بنشأته الولوية وشأن الإرشاد شأنه التكميل بحسب الجذب، والدليل بنشأته الولوية شأنه التكميل بحسب نشأة الجذب، وإن كان بنشأته النبوية وشأن الدلالة شأنه التكميل بحسب السلوك فالدليل بولايته يقرب السالك إلى الحضور، ويعلمه آداب الحضور، وطريق العبودية، من عدم الالتفات إلى ما سوى المعبود، وطرح جميع العوائق من طريقه، والمرشد بنبوته يُبعده عن الحضور، ويُقربه إلى السلوك، ويرغبه فيه، فهما فى فعلهما كالنشأتين: متضادان متوافقان، فأمير المؤمنين لما رأى بلالاً وعثمان مستعدين لنشأة الجذب، رغَّبهما إلى تلك النشأة بطرح المستلذات وترك المألوفات، وشاركهما فى ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتم جذبهما، ولما مضى مدة ورأى الرسول أن عودهما إلى السلوك أوفق وأنفع لهما، ردهما إلى نشأة السلوك، وعاتبهما بألطف عتاب، ولا يرد نقص على أمير
المؤمنين. ولما قالوا بعد عتابه: قد حلفنا.. نزل {لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225، المائدة: 89] ، وهو الذى يؤتى به للتأكيد فى الكلام كما هو عادة العوام".. إلخ.
فأنت ترى من هذين المثالين السابقين، أن المؤلف يفيض فى الناحية الصوفية فى تفسيره للآيات، كما أنه لم يخل تفسيره الصوفى من التشيع لعلىّ وذُرِّيته بل ومن اتخاذه مخرجاً يخرج به من الإشكالات التى ترد عليه.
* *
* من التفسير الفلسفى:
كذلك نجد المؤلف فى كثير من الأحيان يخلط البحوث الفلسفية بتفسيره للآيات القرآنية، فمثلاً فى أول سورة الإسراء نراه يحقق أن المعراج كان بجسده وروحه عليه السلام، ويرد على الفلاسفة الذين ينكرون ذلك، ويقدم لبحثه هذا بمقدمة كلها نظريات فلسفية مخلوطة ببعض خرافات منسوبة إلى الإمام علىّ رضى الله عنه، وذلك حيث يقول:
"العالَم ليس منحصراً فى هذا العالَم المحسوس المعبَّر عنه بعالَم الطبع بسماواته وأرضيه، بل فوقه البرزخ، وهو عالَم بين عالَم الطبع وعالَم المثال، وله الحكومة على عالَم الطبع والتصرف فيه أى تصرف شاء، من الإحياء والإماتة، وإيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وستر المحسوس، وإظهار غير المحسوس بصورة المحسوس. ومنه طى
الأرض، والسير على الماء والهواء، والدخول فى النار سالماً، وقلب الماهيات. ومنه طى الزمان، كما ورد فى الأخبار أنه قال المعصوم لمنافق: اخسأ فصار كلباً. وقال لآخر: أنت امرأة بين الرجال فصار امرأة. وأنكر آخر قلب الماهيات عند المعصوم، فسار إلى نهر ليغتسل فدخل الماء وارتمس فخرج ورأى نفسه امرأة على ساحل بحر قرب قرية منكورة، فدخلت القرية وتزوجت وعاشت مدة وولدت لها أولاد.. ثم خرجت لتغتسل فى البحر فدخلت الماء وارتمست فخرجت على ساحل النهر المعهود وهو رجل وإذا بثيابه موضوعة كما وضعها. فلبسها ودخل بيته وأهله غير شاعرين بغيبته لقصر الزمان، وأمثال ذلك رويت عن التابعين لهم على الصدق، وهذا من قبيل بسط الزمان إن كان وقوعه فى عالَم الملك، كما نقل أن امرأة وقع لها ذلك فأخبرت وأنكرها جماعة فأُتيت بأولادها بعد ذلك من بلدة بعيدة، مع أنه لم يمض فى بلدها قدر ساعة، أو من قبيل البسط فى الدهر من غير تصرف فى الزمان إن كان وقوعه فى الملكوت. وفوق البرزخ عالَم المثال، وله التصرف فى البرزخ والطبع. وفوقه عالَم النفوس الكليات المعبَّر عنها بـ {فالمدبرات أَمْراً} [النازعات: 5] . وفوقه الأرواح المعبَّر عنها بـ {والصافات صَفَّا} [الصافات: 1] ، ويُعبَّر عنها فى لسان الإشراقيين بأرباب الأنواع وأرباب الطلَسمات. وفوقها العقول المعبَّر عنها بالمقرَّبين. وفوقها الكرسى وفوقه العرش، وهو سرير الملك المتعال، وهما بين الوجوب والإمكان لا واجبان ولا ممكنان، بل فوق الإمكان وتحت الوجوب. وكل من تلك العوالم له الإحاطة والتصرف والحكومة على جميع ما دونه، فإذا غلب واحد من تلك العوالم على ما دونه صار ما دونه بحكمه، وذهب عنه حكم نفسه.
ثم اعلم أن الإنسان مختصر من تلك العوالم، وله مراتب بإزاء تلك العوالم، وكل مرتبة عالية لها الحكومة على ما دونها من غير فرق، كما نشاهده من حكومة النفس على البدن والقوى، لكن تلك المراتب فى أكثر الناس بالقوة، وما بالفعل من النفس المجردة التى هى بإزاء عالَم النفوس ضعيفة غاية الضعف، بحيث لا يمكنها التصرف فى بدنها زائداً على ما جعله الله فى جبلتها، فكيف بغير بدنها؟ فإذا صار بعض تلك المراتب بالفعل كما فى أكثر الأنبياء والأولياء، أو جميعها كما فى خاتم الأنبياء وصاحبى الولاية الكلية، كان لهم التصرف فى أبدانهم بأى نحو شاءوا، وفى سائر أجزاء العالم، كما روى عن الأنبياء والأولياء من طى المكان والزمان، والسير على الماء والهواء، ودخول النار، وإحياء الموتى، وإماتة الأحياء، وقلب الماهيات، وغير ذلك مما لا يُنكر تمامها لكثرتها، وتواتر الأخبار بمجموعها وإن كان آحادها غير متواترة. وأما
التصرف فى البدن الطبيعى بحيث يُخرجه عن حكم الإمكان ويُدخله فى عالم العرش الذى هو فوق الإمكان وفوق عالَم العقول والملائكة المقرَّبين، كما روى أن جبريل تخلَّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى المعراج، وقال: لو دنوتُ أنملة لاخترقت، مع أنه من عالَم العقول المقرَّبين، فهو من خواص خاتم الكل فى الرسالة والنبوة والولاية، وهو من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره لا نبى مرسل ولا خاتم الأولياء. ولذلك جعلوا المعراج الجسمانى بالكيفية المخصوصة من خواصه صلى الله عليه وسلم. ولما كان المعراج بتلك الكيفية أمراً لا يتصور أمر فوقه من الممكن، وكان لا يتيسر إلا إذا غلب العالَم الذى فوق الإمكان على البدن الطبيعى ولا تتيسر تلك الغلبة بسهولة ولكل واحد وفى كل زمان، قالوا: إن المعراج للنبى صلى الله عليه وسلم كان مرتين، مع أنه نُسِب إلى بعض العرفاء أنه قال: إنى أعرج كل ليلة سبعين مرة، والمعراج بالروح أمر يقع لكثير من الرياضيين، بل ورد أن الصلاة معراج المؤمن.
إذا تقرر ذلك نقول: إنه عرج ببدنه الطبيعى وعليه عباءته ونعلاه إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماوات، ومنها إلى الملكوت، ومنها إلى الجبروت، ومنها إلى العرش الذى هو فوق الإمكان، وفى هذا السير تخلَّف جبريل عنه صلى الله عليه وسلم، لأنه كان من عالَم الإمكان، ولم يكن له طريق إلى ما فوق الإمكان، لأن الملائكة كُلٌ له مقام معلوم لا يتجاوزه، بخلاف الإنسان. ولم يكن منه ذلك المعراج إلا مرتين كما فى الأخبار، ولا يلزم منه خرق السماوات، لارتفاع حكم الملك عن بدنه بغلبة الملكوت - ولا استغراب فى عروج البدن الطبيعى إلى الملكوت والجبروت - ولسقوط حكم الملك بل حال الإمكان عنه مع بقاء عينه، ولا غرو فى كثرة وقائعه فى المعراج، فإنه من بسط الدهر مع قصر الزمان كما قال:{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، وقال أيضاً:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] .. فقدر ساعة من الدهر بإزاء ساعة من الزمان تكون كألف ساعة من الزمان أو خمسين ألف ساعة".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [21] من سورة الحِجْر: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} .. يقول ما نصه: "اعلم أنه قد يُطلق الشئ ويراد به ما يساوق الموجود، فيشمل الحق الأول تعالى شأنه. وقد يُطلق ويُراد به المشئ وجوده، فلا يشمل الحق الأول، ولا حضرة الأسماء ولا حضرة الفعل الذى هو مبدأ إضافاته، ويشمل الممكنات كلها من حضرة العقول المعبَّر عنها بالأقلام العالية والملائكة المقرَّبين، وحضرة الأرواح المعبَّر عنها بأرباب الأنواع والصَّافات صفاً، وحضرة النفوس الكلية المعبَّر عنها بالأرواح
الكلية المحفوظة والمدبِّرات أمراً، وحضرة النفوس الجزئية بألواح المحو والإثبات وبعالم المثال باعتبارين، ويشمل موجودات عالَم الطبع تماماً، وكل ما فى تلك الحضرات له حقيقة فى حضرة الأسماء، وحقيقة فى حضرة الفعل والإضافة الإلهية الإشراقية. وكل ما فى حضرة الفعل له حقيقة أيضاً فى حضرة الأسماء، وكل ما فى حضرة الأرواح له حقيقة فى حضرة الأقلام، وحقيقة فى حضرة الفعل، وحقيقة فى حضرة الأسماء، وهكذا حضرة النفوس الكلية وما فيه، وحضرة النفوس الجزئية وما فيها، وعالَم الطبع وما فيه، وبعبارة أخرى: كل دان له صورة بالاستقلال فى العالى، وصورة بالاستقلال فى عالى العالى، وصروة بتبع العالى فى عالى العالى، فلكل شئ من الممكنات حقائق فى حضرة الأسماء استقلالاً وتبعاً، وهكذا فى حضرة الفعل، وهكذا فى حضرة الأقلام إلى عالَم المثال، وكل تلك الحضرات من حيث إنها عوالم مجردة عن المادة وأغشيتها، تسمى "عند الله"، و "لدن الله"، لحضورها فى محضره، ولما كانت تلك الحقائق محفوظة عن التغير والتبدل كالأشياء النفيسة المخزونة المحفوظة، سمَّاها تعالى بالخزائن، فكل ما فى عالَم الملك له حقيقة فى عالَم المثال، ينزله - تعالى شأنه - من عالَم المثال إلى عالم الملك بقدر استعداد المادة لقبوله وحين استعدادها، وهكذا من النفوس الكلية إلى عالَم المثال، وهكذا الأمر فى العالى والأعلى إلى حضرة الأسماء. ولما كان موجودات عالَم الملك متحددة بالتحدد الذاتى، بمعنى أنها كل آن فانية عن ذواتها، وموجودة بموجدها كما حقق فى محله، فما من شئ مما فى عالم
الملك إلا ويفنى آنا فآناً، وينزله تعالى من خزائنه آناً فآناً، فلذلك قال:{وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} .
* *
* آل البيت والأُمم السابقة:
ومما نلاحظه على المؤلف أنه يذكر لنا من الأخبار ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وآل بيته كانوا معروفين عند الأُمم السابقة، وكان لهم أشياع وأتباع يوالونهم، ويتوسَّلون بهم، وينالهم الخير والبركة بسبب حبهم.
وهذه الروايات لا نعتقد إلا أنها من قبيل الخرافات التى تسلَّطت على عقول أولئك القوم، ومن هذه الروايات - مثلاً - ما ذكره المؤلف فى قصة قتيل بنى إسرائيل المذكورة فى قوله تعالى فى الآية [67] وما بعدها من سورة البقرة:{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}
…
الآيات إلى آخر القصة من أن موسى جمع أماثل القبيلة التى وجد القتيل فيها، وألزمهم أن يحلف خمسون منهم بالله
القوى الشديد إله بنى إسرائيل بفضل محمد وآله الطيبين على البرايا أجمعين ما قتلناه ولا علمنا له قائلاً.
وبعد ذلك بقليل يذكر أنهم طلبوا هذه البقرة المذكورة بأوصافها فى القرآن فلم يجدوها إلا عند شاب من بنى إسرائيل أراه الله فى منامه محمداً وعلياً وطيبى ذُرِّيتهما فقالا: إنك كنت لنا محباً مفضِّلاً، ونحن نريد أن نسوق إليك بعض جزائك فى الدنيا، فإذا راموا شراء بقرتك فلا تبعها إلا بأمر أُمك، فإن الله يلقنها ما يغنيك عقبك، وجاء القوم يطلبون بقرته، فقالوا: بكم تبيع بقرتك هذه؟ قال: بدينارين، والخيار لأمى، قالوا: رضينا بدينار، فسألها، فقالت: بأربعة، فأخبرهم، فقالوا: نعطيك دينارين، فأخبر أُمه، فقالت: ثمانية، فما زالوا يطلبون على النصف مما تقول أُمه، ويرجع إلى أمه فتَضَعِّف الثمن حتى بلغ ثمنها ملئ مسك ثور أكبر ما يكون دنانير، فأوجب لهم البيع فذبحوها وما كادوا يفعلون.. ".
وبعد ذلك بقليل يقول: "وفى تفسير الإمام: أن أصحاب البقرة ضجوا إلى موسى وقالوا: افتقرت القبيلة، وانسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا، فأرشدهم موسى إلى التوسل بنبينا صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إليه: ليذهب رؤساؤهم إلى خربة بنى فلان ويكشفوا عن موضع كذا ويستخرجوا ما هناك، فإنه عشرة آلاف ألف دينار، وليردوا على كل مَن دفع من ثمن هذه البقرة ما دفع، لتعود أحوالهم على ما كانت، ثم ليتقاسموا بعد ذلك ما يفضل وهو خمسة آلاف ألف دينار على قدر ما دفع كل واحد منهم، لتتضاعف أموالهم جزاء على توسلهم بمحمد وآله، واعتقادهم لتفضيلهم".
كما يروى أنهم توسلوا إلى الله تعالى بالنبى محمد وآله عند ضربهم للقتيل ببعض البقرة، لأجل أن يُحييه لهم فاستجاب، وأن القتيل بعد حياته توسل إلى الله بمحمد وآله أن يُبقيه فى الدنيا متمتعاً بابنة عمه، ويجزى عنه أعداءه، ويرزقه رزقاً كثيراً طيباً، فوهب له سبعين سنة زيادة على السنين التى عاشها قبل ذلك، وعاش فى الدنيا صحيحة حواسه، قوية شهواته، متمتعاً بحلال الدنيا، وعاش معها لم يفارقها ولم تفارقه، وماتا جميعاً معاً، وصارا إلى الجنة وكانا فيها زوجين ناعمين".
* *
* قصص القرآن:
وإنَّا لنجد المؤلف يقرر فى غير موضع من كتابه: أن القصص القرآنى وما ورد فى شروحه من الروايات على اختلافها وتضاربها، ليس المقصود منه ظاهره الذى يتبادر إلى الذهن، بل هى مَن قبيل المرموزات التى رمزوا بها لأشياء يعلمونها ويريدونها، كما
يقرر أن من يريد حملها على الظاهر فلا بد وأن يتحَّير فيها، وليس يمكن له أن يصل إلى حقيقتها، والمقصود منها بمجرد قوته البَشرية: فعندما تكلم على قصة آدم فى أول البقرة وجدناه يقول: "ولما كان قصة آدم وخلقته، وأمر الملائكة بسجدته، وإباء إبليس عن السجود، وهبوطه من الجنَّة، وبكائه فى فراق الجنَّة وفراق حواء، وخلقته حواء من ضلع الجنب الأيسر، وغرروة بقول الشيطان وحواء، وكثرة نسله، وحمل حواء فى كل بطن ذكراً وأُنثى، وتزويج كل بطن لذكر البطن الآخر من مرموزات الأوائل، وقد كثر ذكره فى كتب السَلَف خصوصاً كتب اليهود وتواريخهم، وردت أخبارنا مختلفة فى هذا الباب اختلافاً كثيراً، مرموزاً بها إلى ما رمزوه، ومَن أراد أن يحملها على ظاهرها تحيَّر فيها، ومَن رام أن يدرك المقصود بقوته البَشرية والمدارك الشيطانية منها طُرِد عنها، ولم يدرك منها إلا خلاف مدلولها".
وبعد أن يقرر المؤلف هذا نراه يكشف لنا عن تلك الأُمور المرموز إليها فى القصة، لا بقوته البشرية، فإنها عاجزة عن إدراكها كما يقول، بل بقوته الروحية التى تستلهم المعارف من الله، وذلك حيث يقول فى أثناء تفسيره للقصة نفسها: "اعلم أن قصة خلق آدم من الطين، وحواء من ضلعه الأيسر. وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وإباء إبليس عن السجدة، وإسكان آدم وحواء الجنة، ونهيهما عن أكل شجرة من أشجارها، ووسوسة إبليس لهما، وأكلهما من الشجرة المنهية، وهبوطهما، من المرموزات المذكورة فى كتب الأُمم السالفة وتواريخهم كما ذكرنا سابقاً، فالمراد بآدم فى العالَم الصغير: اللطيفة العاقلة الآدمية، الخليفة على الملائكة الأرضيين، وعلى الجِنَّة والشياطين المطرودين عن وجه أرض النفس والطبع، المسجودة للملائكة، المخلوقة من الطين، الساكنة فى جنَّة النفس الإنسانية، وهى أعلا من مقام النفس الحيوانية، المخلوق من ضلع جنبها الأيسر الذى يلى النفس الحيوانية زوجتها المسماة بحواء، لكدورة لونها بقربها من النفس الحيوانية. والمراد بالشجرة المنهية: مرتبة النفس الإنسانية التى هى جامعة لمقام الحيوانية والمرتبة الآدمية. والمراد بالحيَّة واختفاء إبليس بين لحييها: القوة الواهمة، فإنها لكونها مظهراً لإبليس، تسمى بإبليس فى العالَم الصغير، ووسوسته: تزيينها ما لا حقيقة له للجنب الأيسر من آدم المغبَّر عنه بحواء. وهبوط آدم وحواء عبارة عن تنزيلهما إلى مقام الحيوانية. وهبوط الحيَّة وذُرِّيتهما: عبارة عن تنزلهما عن مقام التبعية لآدم، فإن إبليس لما كان الواهمة أحد مظاهره كان رفعتها رفعته، وشرافتها باستخدام آدم لها شرافته، وهبوط الواهمة كان هبوطاً له، وإذا أريد بالشجرة: النفس الإنسانية ارتفع الاختلاف من الأخبار، فإن النفس الإنسانية شجرة لها أنواع الثمار
والحبوب، وأصناف الأوصاف والخصال، لأن الحبوب والثمار وإن لم تكن بوجود ذاتها العينية الدانية الموجودة فيها لكن الكل بحقائقها موجودة فيها، فتعيين تلك الشجرة بشئ من الحبوب والثمار، والعلوم والأصناف بيان لبعض شئونها.
روى فى تفسير الإمام: أنها شجرة علم محمد وآل محمد الذين آثرهم الله تعالى دون سائر خلقه، فقال الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبَا هاذه الشجرة} [البقرة: 35] شجرة العلم، فإنها لمحمد وآله دون غيرهم، ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم. ومنها ما كان يتناوله النبى صلى الله عليه وسلم، وعلىّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، بعد إطعامهم المسكين، واليتيم، والأسير، حتى لم يحسوا بجوع، ولا عطش ولا تعب ولا نَصّب، وهى شجرة تميزت من بين سائر الأشجار بأن كلا منها إنما يحمل نوعاً من الثمار، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البُرّ، والعِنَب، والتِّين، والعُنَّاب، وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة، فلذلك اختلف الحاكون.. فقال بعضهم: بُرَّة، وقال آخرون: هى الشجرة التى مَن تناول منها بإذن الله أُلْهِمَ عِلْم الأوَّلين والآخرين من غير تعلم، ومن تناول بغير إذن الله خاب مراده وعصى ربه".
أقول: "آخر الحديث يدل على ما قالته الصوفية من أن السالك ما لم يتم سلوكه، ولم ينته إلى مقام الفناء، ولم يرجع إلى الصحو بعد المحو بإذن الله، لم يجز له الاشتغال بالكثرات ومقتضيات النفس زائداً على قدر الضرورة. وشجرة علم محمد وآل محمد إشارة إلى مقام النفس الجامع لكمالات الكثرة والواحدة".
وفى سورة البقرة أيضاً عندما تكلَّم عن قصة هاروت وماروت يقول: "اعلم أن أكثر قصص سليمان كان من مرموزات الأوائل، وأخذها المتأخرون بطريق الأسمار، وأخذوا منها ظاهرها الذى لا يليق بشأن الأنبياء، وورد عن المعصومين تقرير ما أخذوه أسماراً نظراً إلى ما رمزها الأقدمون، وأمثال هذه ورد عنهم تكذيبها نظراً إلى ظاهر ما أخذها العوام، وتصديقها نظراً إلى ما رمزوا إليه".
وفى أول سورة النساء عند قوله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}
…
الآية: يقول: "لما كان تلك الحكاية وأمثالها من مرموزات الأوائل من الأنبياء والأولياء والحكماء التابعين لهم، وحملها العوام من الناس على ظاهرها، اختلفت الأخبار فى تصديقها وتقريرها وتكذيبها وتوهينها، فإن فى كيفية خلقه آدم وتناسلهما وتناكحهما وتناكح أولادهما، وكذا فى قصة هاروت وماروت. وقصة داود، وغير ذلك، اختلافاً كثيراً فى الأخبار، واضطراباً شديداً، بحيث يورث التحير والاضطرابات لمن لا خبرة له، حتى يكاد يخرج من الدين، ولكن الراسخين فى العلم
يعلمون أن كلاً من معادن النبوة ومحال الوحى صدر، ولا اختلاف فيها ولا اضطراب، جعلنا الله منهم، والله ولى التوفيق".
وفى سورة [ص] عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} .. الآيات من [34] إلى تمام القصة، يقول بعد ما ذكر قصة الفتنة:"وأمثال هذه، وأمثال روايات سلب مُلْك سليمان، وجلوس الشيطان على كرسيه، وكون مُلْكه منوطاً بخاتم، ليس إلا من الرموز التى رمزها الأقدمون، ثم أخذها العامة بصورها الظاهرة، ومفاهيمها العامية، ونسبوا إلى الأنبياء ما لا يليق أن ينسب إلى مؤمن، فكيف بكامل أو نبى"؟!.
* *
* الإمامية:
والمؤلف يقرر فى تفسيره إمامة علىّ رضى الله عنه، وخلافته للنبى صلى الله عليه وسلم بدون فصل، فمثلاً فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. نجده يؤكد أن الآية نازلة فى حق علىّ رضى الله عنه، وأن المراد من الولاية ولاية التصرف لا ولاية المعاشرة، ويرد على مَن يخالف ذلك بما يظهر له من الدليل، كما يبين السر الذى من أجله ذُكِر علىّ بوصفه دون اسمه. وذلك حيث يقول:"قد ورد من طريق العامة والخاصة أن الولاية نازلة فى علىّ حين تصدَّق فى المسجد فى ركوع الصلاة بخاتمه أو بحُلَّته التى كان قيمتها ألف دينار، ومفسرو العامة لا ينكرون الأخبار فى كونها نازلة فى أمير المؤمنين وقد نقلوا بطرق عديدة من رواتهم أنها نزلت فى علىّ، ومع ذلك يقولون فى تفسيرها: إن الآية نزلت بعد النهى عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء، ولا شك أن المراد بالأولياء هناك أولياء المعاشرة، بقرينة المقابلة، وبقرينة جمع المؤمنين، ولو كان المراد أمير المؤمنين وبالولاية ولاية التصرف لصرَّح باسمه، أو لقال: "والذى آمن" بالإفراد، وهم غافلون عن أنه لو صرَّح باسمه، أو أفرد المؤمن - مع الاتفاق فى أنها نازلة فى أمير المؤمنين - لأسقطوه تمويهاً على عابدى عِجْلهم، فنقول: نسبة الولاية أولاً إلى الله، ثم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وآله، ثم إلى الذين آمنوا، تدل على أن المراد بالولاية ولاية التصرف التى فى قوله تعالى:{النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] .. لأن ولاية الله ليست ولاية المعاشرة ولا ولاية الرسول، بقرينة العطف، وبما هو معلوم من الخارج، فكذلك ولاية الذين آمنوا بقرينة العطف، وبقرينة عدم تكرار الولى، فإن المراد أن الولاية ههنا أمر واحد مترتب فى الظهور، فإن ولاية الرسول ليست شيئاً سوى ولاية الله، وولاية الله تتحقق بولاية الرسول، فهكذا ولاية الذين آمنوا، فإنها ولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تظهر فى ولاية الذين آمنوا على ما قاله الشيعة، ولو كان المراد ولاية
المعاشرة كان "أولياؤكم" بلفظ
الجمع أولى، وتقييد الذين آمنوا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فى حال الركوع يدل على أنها ليست ولاية المعاشرة، وإلا لكان جملة المؤمنين فيها سواء، وليس كل المؤمنين متصفين بالصفات المذكورة، على أنه لا خلاف معتداً فى أنها نزلت فى علىّ وصورة الأوصاف خاصة به، وقوله:{الذين يُقِيمُونَ الصلاة} بالمضارع إشارة إلى أن هذا الوصف مستمر لهم، يعنى حالهم استمرار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فى حال الخضوع لله، لا فى حال بهجة النفس، لأنهم {يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] .. بخلاف الفاعل من قِبَلِ النفس فإن شأنه الارتضاء بفعله، وتوقع المدح من الغير على فعله، لأن كل حزب من أحزاب النفس بما لديهم فرحون، ويحبون أن يُحمدوا على ما لم يفعلوا، فضلاً عمَّا فعلوا. واستمرار الصفات بحسب المعنى: لعلىّ وأولاده المعصومين بشهادة أعدائهم، وبحسب الصورة: ما كان أحد مصداقها إلا علىّ نقلاً عن طريق العامة والخاصة. ووقع صدور الزكاة فى الركوع من كل الأئمة كما ورد عن طريق الخاصة. وفى نسبة الولاية إلى الله دون المخاطب والإتيان بأداة الحصر دلالة تامة على أن المراد بها ولاية التصرف، فإنها ثابتة لله ذاتاً ولرسوله ولخلفاء رسوله باعتبار كونهما مظهرين لله، وليس لأحد شركة فيها، وليس المراد بها ولاية المعاشرة التى تكون بالمواضعة والاتخاذ، وإلا لم يكن للحصر وجه، وكان اقتضاء المقابلة أن يقول: بل أنتم أولياء الله
…
إلخ، أو: بل اتخذوا الله ورسوله والمؤمنين أولياء، ولأن المراد بها ولاية التصرف التى كانت بالذات لله قال فى عكسه:{وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ} .. إشعاراً بأن الولاية السابقة هى ولاية التصرف وليست لغير الله إلا قبولها، ومَن قبلها منهم باستعداده لظهورها فيه صار مرتبطاً بالله وخلفائه، ومَن صار مرتبطاً بالله صار من حزب الله، ومن صار من حزب الله كان غالباً {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56] . ولو كان المراد بها المعاشرة لكان الأوْلى أن يقول: ومن يتخذ الله، أو: ومَن صار ولياً لله، والحاصل: أن فى لفظ الآية دلالات واضحة على أن
المراد بالولاية ولاية التصرف، وأنها بعد الرسول ليست لجملة المؤمنين، بل لمن اتصف بصفات خاصة كائناً مَن كان، متعدداً أو منفرداً، سواء قلنا نزلت فى علىّ أو لم نقل، لكن باتفاق الفريقين لم توجد الأوصاف إلا فيه، ونزلت الآية فى حقه، والمراد بـ {الذين آمَنُواْ} ههنا، هم الموصوفون فى الآية السابقة، لما تقرر عندهم أن المعرفة إذا تكررت كانت عَيْن الأولى".
وفى سورة المائدة أيضاً عند قوله تعالى فى الآية [67] : {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}
…
الآية، نجده يدَّعى - كغيره من الإمامية - أن القراءة
الصحيحة كانت: "بَلِّغ ما أُنزل إليك من ربك فى علىّ"، ويحمل التبليغ المأمور به النبى على ذلك فحسب، ويمنع إرادة العموم، ويُقيم الأدلة على ذلك رداً على مَن يدَّعى العموم، وغرضه من ذلك كله إثبات إمامة علىّ رضى الله عنه بنص القرآن الكريم".
* *
* الرجعة:
والمؤلف يتأثر بعقيدة الرجعة، فلهذا نراه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [56] من سورة البقرة: {
…
ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .. يستدل بهذا البعث على جوار الرجعة فيقول: "وهذه الآية تدل على جواز الرجعة كما ورد الإخبار عنها وصارت كالضرورى فى هذه الأمة. وقد احتج أمير المؤمنين عليه السلام بها على ابن الكواء فى إنكاره الرجعة".
* *
* تحريف القرآن:
ولما كان المؤلف ممن يقولون بوقوع التحريف والتبديل فى القرآن، فإنَّا نجده عندما يصطدم بقوله تعالى فى الآية [9] من سورة الحِجْر:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .. يحاول أن يتخلص من هذا النص الذى يجبهه فيقول: "ولا ينافى حفظه تعالى للذِكْر بحسب حقيقة التحريف فى صورة تدوينه، فإن التحريف إن وقع وقع فى الصورة المماثلة له كما قال:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هاذا مِنْ عِنْدِ الله} [البقرة: 79]، وكما قال:{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78] .
* *
* موقف المؤلف من الصحابة:
لم نلاحظ على المؤلف فى تفسيره هذا ما يدل صراحة على أنه يُكَفِّر أحداً من الصحابة، كما لاحظنا على ملا محسن فى تفسيره، غاية الأمر أننا نأخذ عليه أنه أحياناً يقف من الآيات التى وردت فى شأن بعض الصحابة وما لهم من الفضل موقفاً يراد منه سلب هذا الفضل عنهم أو تقليل أهميته، وأحياناً بنسب إلى بعض الصحابة ما يكاد يكون تصريحاً منه بفسقهم أو كفرهم.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [144] من سورة آل عمران: {
…
وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} نراه يصرف لفظ
"الشاكرين" عن عمومه ويريد منه خصوص علىّ ونفر معه فيقول: "والمراد بالشاكرين ههنا: علىّ ونفر يسير بقوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم المسلمون" هنا يروى رواية عليها دليل الوضع وسمته فيقول:
"روى عن الصادق: أنه لما انهزم المسلمون يوم أُحُد عن النبى صلى الله عليه وسلم انصرف إليها بوجهه وهو يقول: أنا محمد رسول الله، لم أُقتل ولم أمت، فالتفت إليه فلان وفلان فقالا: الآن يسخر بنا أيضاً وقد هُزِمنا، وبقى معه علىّ وأبو دجانة رحمه الله، فدعاه النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا دجانة؟ انصرف وأنت فى حِلَّ من بَيْعتك، فأما علىّ فهو أنا، وأنا هو، فتحوَّل وجلس بين يدى النبى وبكى وقال: لا واللهِ، ورفع رأسه إلى السماء وقال: لا واللهِ، لا جعلتُ نفسى فى حِلٍّ من بَيْعتك، إنى بايعتك فإلى مَنْ انصرف يا رسول الله؟ إلى زوجة تموت؟ أو ولد يموت؟ أو دار تخرب ومال يفنى وأجل قد اقترب؟ فَرَق له النبى صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يُقاتل حتى قُتل، فجاء به علىّ إلى النبى فقال: يا رسول الله؛ أوفيتُ ببيعتى؟ فقال: نعم. وقال له النبى خيراً. وكان الناس يحملون على النبى صلى الله عليه وسلم الميمنة فيكشفهم علىّ، فإذا كشفهم أقبلت الميسرة إلى النبى فلم يزل كذلك حتى تقطَّع سيفه بثلاث قطع، فجاء إلى النبى فطرحه بين يديه وقال: سيفى قد تقطَّع، فيومئذ أعطاه النبى ذا الفقار، ولما رأى النبى صلى الله عليه وسلم اختلاج ساقيه من كثرة القتال، رفع رأسه إلى السماء وهو ويبكى وقال: يا ربِّ، وعدتنى أن تُظهر دينك وإن شئتَ لم يعيك، فأقبل علىّ إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ أسمع دوياً شديداً، وأسمع: أقدم يا حيزوم، وما أهم أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه، فقال: هذا جبريل وميكائيل وإسرافيل والملائكة، ثم جاء جبريل فوقف إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد؛ إن هذه لهى المواساة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إن علياً منى وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكم".. (إلى آخر الحديث) . ونزل: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} .
ومثلاً نجد أن المؤلف عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [14] وما بعدها إلى آخر سورة اللَّيل: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى * لَا يَصْلَاهَآ إِلَاّ الأشقى * الذي كَذَّبَ وتولى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى * إِلَاّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى * وَلَسَوْفَ يرضى} يصعب عليه أن يعترف اعترافاً جازماً بأن الأتقى مراد به الصِّدِّيق رضى الله عنه كما يقول المفسِّرون من أهل السًّنَّة، كما نراه حريصاً على أن يكون علىّ هو أولى الناس بهذا الشرف وهذا التنويه الإلهى، فلهذا نراه يقول ما نصه: "إن كانت الآيات نزلت فى رجل خاص فالمعنى عام، والأصل فيمن أعطى واتقَّى: علىّ، وفيمن بخل واستغنى هو الثانى، وقيل المراد بمن أعطى: أبو بكر
حيث اشترى بلالاً فى جماعة من المشركين وكانوا يؤذونه فأعتقه، والمراد بالأشقى: أبو جهل وأُمية بن خلف".
وفى سورة النور عند قوله تعالى فى الآية [11] : {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ}
…
الآية، يقول:"قد نُقِل فى تفاسير الخاصة والعامة أن الآيات نزلت فى عائشة". ثم يروى السبب المعروف لنا، ثم يقول:"ونُقِل عن الخاصة أنها نزلت فى مارية القبطية وما رمتها به عائشة، روى عن الباقر أنه قال: لما هلك إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، فقالت له عائشة: ما الذى يُحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريج، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأمره بقتله، فذهب علىّ ومعه السيف، وكان جريج القبطى فى حائط، فضرب علىّ باب البستان، فأقبل إليه جريج ليفتح له الباب، فلما رأى علياً عرف فى وجهه الغضب، فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان، فوثب علىّ على الحائط، ونزل إلى البستان واتبعه، وولى جريج مدبراً، فلما خشى أن يرهقه صعد فى نخلة وصعد علىّ فى إثره، فلما دنى منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عَوْرته، فإذا ليس له ما للرجال، ولا له ما للنساء، فانصرف علىّ إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إذا بعثتنى فى أمر أكون فيه كالمسمار المحمى فى الوبر أمضى على ذلك أم أتثبت؟ قال: لا، بل تثبت، قال: والذى بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذى صرف عنا السوء أهل البيت".
وفى سورة التحريم عند تفسيره لقوله تعالى فى أولها: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ}
…
الآيات، إلى آخر القصة. نراه يذكر سبب نزولها فيقول: "قال القُمِّى وغيره: سبب نزول الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى بيت عائشة أو فى بيت حفصة، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية، فعلمت حفصة بذلك فغضبت، وأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ فى يومى؟ وفى دارى؟ وعلى فراشى؟ فاستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كفى، فقد حرَّمتُ مارية على نفسى، وأنا أُفضى إليكِ سراً إن أنتِ أخبرتِ به فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقالت: نعم.. ما هو؟ فقال: إن أبا بكر يلى الخلافة بعدى، ثم بعده أبوكِ، فقالت: مَن أنبأك هذا؟ قال: نبأنى العليم الخبير، فأخبرت حفصة به عائشة من يومها ذلك، وأخبرت عائشة أبا بكر، فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له: إن عائشة أخبرتنى بشئ عن حفصة ولا أثق بقولها، فاسأل أنت حفصة، فجاء عمر إلى حفصة فقال: ما هذا الذى أخبرتْ عنكِ عائشة؟ فأنكرت ذلك وقالت: ما قلتُ لها من ذلك شيئاً، فقال لها عمر: إن هذا حق فأخبرينا حتى نتقدم فيه، فقالت: نعم، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا أربعة على أن
يسمُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة:{وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} .. يعنى أظهره الله على ما أخبرت به وما همُّوا من قتله، و {عَرَّفَ بَعْضَهُ} أى خبرها وقال: لِمَ أخبرتِ بما أخبرتك؟ {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} يعنى لم يخبرهم بما يعلمه مما هَمُّوا به من قتله".
* *
* عتاب النبى صلى الله عليه وسلم:
ويرى المؤلف - كغيره من الشيعة - أن ما ورد من الآيات مشتملاً على عتاب النبى صلى الله عليه وسلم، أو على التهديد والوعيد للنبى صلى الله عليه وسلم، على فرض وقوع المعصية منه - إنما هو من قبيل:"إياكِ أعنى واسمعى يا جارة" والذى دفعه إلى ذلك، هو ارتفاعه بمقام النبوة عن أن يُوجَّه إليه عتاب من الله، أو لوم وتهديد على فرض صدور المعصية.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين: [74، 75] من سورة الإسراء: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} . نجده يقول: وقد ورد فى الأخبار أن هذه الآية من قبيل: "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة" وورد أنها من فرية الملحدين، ولو كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم من غير كونه عن طريق "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة"، ولم تكن فرية لم يكن فيها ازدراء به صلى الله عليه وسلم بل يكون صدر الآية ازدراء بالملحدين، لإشعاره بأنهم بالغوا فى فتنته، يعنى أنهم ما أهملوا شيئاً مما يُفتن به، ولو كان المفتون غيرك ولم يكن التثبيت من الله لفتن، وذيَّلها ببيان امتنانه عليه بأن ثبَّته فى مثل هذا المقام".
ومثلاً عند تفسيره لقول تعالى فى الآية [28] من سورة الكهف: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
…
الآية، يقول ما نصه:"وهذا على إياكِ أعنى واسمعى يا جارة".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة عبس: {عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى
…
}
…
الآيات - إلى قوله: {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} يقول ما نصه: "وقد استبعد بعض العلماء كون الآيات فى الرسول الله لبُعْدِ مقامه عن العبوس والتولى عن الأعمى، وعلو مرتبته عن أن يصير مُعاتَباً بمثل هذا العتاب.
أقول: لو كانت الآيات فيه والعتاب له لم يكن فيه نقص لشأنه، ولم يكن منافياً لما قاله تعالى فى حقه من قوله:{وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .. فإن إقباله وإدباره، وعبوسه، واستبشاره، كان لله، فإن عبوسه إن كان لمنع الأعمى عن نشر دين الله، وإسماع كلماته لأعداء الله وأعداء دينه وتقريبهم إلى دينه، لم يكن فيه نقص فيه
وفى خُلُقه، وأما أمثال العتاب له صلى الله عليه وسلم فإنها تدل على تفخيمه والاعتداد به، فإن كلها كانت بـ "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة"، فالخطاب والعتاب يكون لغيره لا له، وكذا نسبة الله زرية عيب العبوس والقول له يكون متوجهاً إلى غيره فى الحقيقة".
* *
* الناحية الفقهية فى هذا التفسير:
أما الناحية الفقهية فى هذا التفسير: فإنها تظهر فيه بمظهر التأثر بما لفقهاء الشيعة من الاجتهادات التى يخالفون فيها مَن عداهم، غير أن المؤلف يطوى الكلام طياً، فلا يتعرض لتفصيل المسائل الجزئية، ولا يُشغل نفسه بكثرة الأدلة والبراهين، ولا بالدفاع عن مذهبه ورد مذهب مخالفيه، كما يفعل الطبرسى مثلاً..
* نكاح الكتابيات:
فمثلاً عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [5] من سورة المائدة: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ}
…
الآية، يقول ما نصه:"قد اختلفت الأخبار والأقوال فى نكاح النساء من أهل الكتاب، وكذا فى أن هذه الآية منسوخة بآية حُرْمة نكاح المشركات، وحُرْمة الأخذ بعِصَمِ الكوافر، أو ناسخة، وكذا فى الدوام والتمتع بهن. وقول النبى صلى الله عليه وآله: "إن سورة المائدة آخر القرآن نزولا، فأحلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها" ينفى كونها منسوخة".
* *
* المتعة:
وعندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [24] من سورة النساء: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} .. نجده يقول: "وفى لفظ الاستمتاع، وذكر الأجور، وذكر الأجل - على قراءة "إلى أجل" - دلالة واضحة على تحليل المتعة، {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} من إعطاء الزيادة على الفريضة أو إسقاطهن شيئاً من الفريضة {مِن بَعْدِ الفريضة} .. وفيه إشعار بكون الأجر من أركان عقد التمتع كما عليه من قال به.
وعن الباقر: لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، تقول: استحللتك بأجر آخر برضا منها ولا تحل لغيرك حتى تنقضى عِدَّتها، وعِدَّتها حيضتان.. {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فحلَّل المتعة عن علم، ولغايات منوطة بالمصالح والحكم".
* *
*
فرض الرِجْلين فى الوضوء:
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} .. الآية، يقول:"وَأَرْجُلِكُمْ" بالجر عطف على "رُءُوسِكُمْ"، وبالنصب على محل "رُءُوسِكُمْ"، وعطفه على "وُجُوهَكُمْ" مع جواز العطف على "رءوسكم" فى غاية البُعْد، غاية الأمر أنها فى هذا العطف محتملة مجملة كسائر أجزاء الآية محتاجة إلى البيان، ولم يكن رأينا مبيناً للقرآن لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، بل المبين: من نص الله ورسوله عليه، لا مَن نصبوه لبيانه، فإن نصب شخص إنسانى لبيان القرآن وخلافة الرحمن ليس بأقل من نصب الأصنام لعبادة الآنام، أو العِجْل المصنوع للعوام، وتفصيل الوضوء وكيفيته قد وصل إلينا مفصَّلاً مبيَّناً عن أئمتنا المعصومين من الله ورسوله، وقد فصَّله الفقهاء رضوان الله عليهم، فلا حاجة إلى التفصيل ههنا".
* *
* ميراث الأنبياء:
والمؤلف يقول كغيره من علماء مذهبه بأن الأنبياء يُوَرِّثون كما يُوَرِّث سائر الناس، ولكنا نلاحظ عليه أنه لم يقف من الآيات التى استدل بها علماء مذهبه على أن الأنبياء يُوَرِّثون المال موقفاً فيه تلك المغالاة وهذا التطرف كالذى وقفه الطبرسى منها، بل نجده عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [5] من سورة مريم:{وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} .. يقول: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي} فى الإرث الصورى من التضييع والنزاع والخلاف، أو فى الإرث المعنوى من الاختلاف وتضييع العباد، وهذا إشعار بأن دعاءه خال من مداخلة الهوى مقدمة للإجابة.
هذا هو كل ما قاله فى هذه الناحية من الآية فأنت ترى أنه لم يقطع أن الآية فى الإرث الصورى دون المعنوى، بل جوَّز صدقها على كل منهما، ولم يدافع عن مذهبه هذا الدفاع العنيف الذى كان من الطبرسى عندما أراد أن يُقصر الإرث فى الآية على الإرث الصورى.
ونجده عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [16] من سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ
دَاوُودَ}
…
الآية، يقرر أن الميراث هو ميراث ما ينبغى أن يرثه منه من الرسالة والعلم والمُلْك والسلطنة، ثم يقول:"ولذلك حذف المفعول الثانى"، يقول هذا أيضاً ولا يحاول أن يُخرج الآية عن ظاهرها وسياقها كما حاول غيره.
* *
* الغنائم:
ويرى المؤلف كغيره من علماء مذهبه أن الغنائم لا تختص بما أُخِذ من الكفار بطريق القهر والغلبة، بل تعم ذلك وكل ما استفاده الإنسان من أى وجه كان، كما يرى أن الخُمس يقسم بين ذوى القُرْبَى وهو الإمام، ويتامى آل البيت، ومساكينهم، وأبناء سبيلهم، وذلك تعويض لهم من الله عن الصدقات التى هى أوساخ الناس.
يرى المؤلف هذا كله ويقرره فى تفسيره باختصار فيقول عند قوله تعالى فى الآية [41] من سورة الأنفال: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين}
…
الآية، ما نصه:{واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} .. اسم الغنيمة قد غلب على ما كان يُؤخذ من الكفار بالقهر والغلبة حين القتال، وإلا فهى اسم لكل ما استفاد الإنسان من أى وجه كان وأى شئ كان، فعن الصادق: هى والله الرفادة يوماً بيوم {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ، وقد فسّر "ذوى القُرْبىَ" بالإمام من آل محمد، فإنه ذو القربى حقيقة، وفسَّر الثلاثة الأخيرة بمن كان من قرابات الرسول، جعل ذلك لهم بدلاً عن الزكاة التى هى أوساخ الناس تشريفاً لهم".
وفى سورة الحشر عند قوله تعالى فى الآية [7]{مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ}
…
الآية، يقول:{مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} .. أى ذى قُرْبَى الرسول صلى الله عليه وسلم، واليتامى والمساكين وابن السبيل من قرابات الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد خصص فى الأخبار كل ذلك بأقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم".
* *
* موقف المؤلف فى تفسيره من المسائل الكلامية:
وإنَّا لنجد المؤلف يتأثر بمذهب المعتزلة فى بعض المسائل الكلامية فيوافقهم عليها فى تفسيره، ويخالفهم فى بعض آخر منها فيقول بما يقول به أهل السُّنَّة، فمن المسائل التى يوافق فيها المعتزلة مثلاً:
* رؤية الله:
فهو ينكر جوازها ووقوعها، ويُجرى تفسيره لآيات الرؤية على هذه العقيدة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} نجده يقول ما نصه: "وورد أنه سُئِل الرضا: كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم أن الله لا يجوز عليه الرؤية حتى
يسأل هذا السؤال؟ فقال: إن كليم الله علم أن الله منزَّه عن أن يُرى بالأبصار، ولكنه لما كلَّمه وقرَّبه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله كلَّمه وقرَّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته، وكان القوم سبعمائة ألف، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثم اختار منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم فى سفح الجبل، وصعد موسى إلى الطور وسأل ربه أن يُكلِّمه ويُسمعهم كلامه "وكلَّمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام - لا أن الله أحدثه فى الشجرة، ثم جعله منبعثاً منها - حتى سمعوه من جميع الوجوه. فقالوا: لن نؤمن بأن هذا الذى سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث الله عليه بصاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، فماتوا، فقال موسى: ما أقول لبنى إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم، لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيتَ من مناجاة الله إياك، فأحياهم وبعثهم. فقالوا: إنك لو سألت الله أن يُريك تنظر إليه لأجابك فتخبرنا كيف هو ونعرفه حق معرفته، فقال موسى: يا قوم؛ إن الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى: يا ربِّ إنك قد سمعتَ مقالة بنى إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله إليه: يا موسى؛ سلنى ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى:{رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} وهو يهوى، {فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} يقول: رجعت إلى معرفتنى بك عن جهل قومى،
{وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} [الأعراف: 143] منهم بأنك لا تُرّى".
وفى سورة القيامة عند قوله تعالى فى الآيتين [22، 23] : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. يقول: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أى إلى ربها المضاف لظهور الولاية وصاحبها فى ذلك اليوم، أو إلى ربها المطلق لظهور آثاره، أى إلى آثاره ناظرة، أو منتظرة إلى ثواب ربها. روى عن أمير المؤمنين فى حديث: ينتهى أولياء الله بعد ما يُفرغ من الحساب إلى نهر يسمى "الحيوان" فيغتسلون فيه ويشربون منه فتبيض وجوههم إشراقاً، فيذهب كل قذى ووعث، ثم يُؤمرون بدخول الجنَّة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم قال: فذلك قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وإنما يعنى بالنظر إليه، النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى. وفى الخبر: والناظرة فى بعض اللُّغة هى المنتظرة، ألم تسمع إلى قوله:{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35] أى منتظرة".
* *
ومن المسائل التى يخالف فيها المعتزلة:
* السحر:
فهو يقول به ويعترف بحقيقته ويوضح لنا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [102] من سورة البقرة: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولاكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر}
…
الآية، حقيقة السحر
وكيفية تأثيره فى المسحور وذلك حيث يقول: "والسحر اسم لقول أو فعل أو نقش فى صفحة يؤثر فى عالَم الطبع تأثيراً خارجاً عن الأسباب والمعتاد، وذلك التأثير يكون سبب مزج القُوَى الروحانية مع القُوَى الطبيعية، أو بتسخير القُوَى الروحانية بحيث تتصرف على إرادة المسخِّر الساحر، وهذا أمر واقع فى الأمر ليس محض تخييل كما قيل.. وتحقيقه أن يقال: إن عالَم الطبع واقع بين الملكوت السفلى والملكوت العلوى كما مَرّ، وأن لأهل العالمين تصرفاً بإذن الله فى عالَم الطبع بأنفسهم، أو بأسباب من قِبَل النفوس البَشرية، وأن النفوس البَشرية إذا تجردت من علائقها، وصفت من كدروتها بالرياضات الشرعية أو غير الشرعية، وناسبت المجردات العلوية أو السفلية، تؤثر بالأسباب أو بغير الأسباب فى أهل العالمين بتسخيرها إياهم، وجذبها لهم إلى عالمها، وتوجيههم فى مراداتها شرعية كانت أو غير شرعية، وإذا كان التأثير كان من أهل العالَم السفلى تسمى أسبابه سحراً، وقد يسمى ذلك التأثير والأثر الحاصل به سحراً، وإذا كان من أهل العالَم العلوى يسمى ذلك التأثير والأثر الحاصل به معجزة وكرامة، وقد تتقوى فى الجهة السفلية أو العلوية فتؤثر بنفسها من دون حاجة إلى التأثير فى الأرواح، ويُسمى ذلك التأثير والأثر أيضاً سحراً ومعجزة. فالسحر هو السبب المؤثر فى الأرواح الخبيثة الذى خفى سببيته، أو تأثير تلك الأرواح وآثارها فى عالَم الطبع بحيث خفى مدركها، ثم أُطلق على كل علم وبيان دقيق قلَّما يُدرك مدركه، ويُطلق على العالم بذلك العلم اسم الساحر، ومنه: {ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49] على وجه.. فيُستعمل على هذا فى المدح، والذم".
وفى الآية [4] من سورة الفلق نجده يعترف أيضاً بالسحر ويُروى أن الرسول سُحِرَ بيد لُبيد بن الأعاصم وذلك حيث يقول: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} .. أى من شر النفوس اللاتى يعقدن على الشعور والخيوط، وينفثن فيها، ويسحرون الناس بها. أو النساء اللاتى يفعلن ذلك.. ثم ساق حديث سِحْر الرسول صلى الله عليه وسلم".
وهناك مسائل أُخرى يوافق فيها المعتزلة، ومسائل أُخرى يخالفهم فيها ويوافق أهل السُّنَّة، ولا أطيل بذكرها بعد أن ذكرت نموذجاً من كل طائفة، ومَن أراد الرجوع إليها فليرجع إلى تفسيره للآيات التى تتعلق بهذه المسائل.
هذا.. ولا يفوتنا أن ننبه على أن المؤلف كثيراً ما يهتم فى بعض المواضع بالمسائل النحوية، فنراه يذكر الأعاريب التى فى الآية، كما يهتم فى بعض النواحى بالقراءات، وإن كان يعتمد فى كثير من الأحيان ما نُسِب إلى أهل البيت من قراءات لاأصل لها، كما نراه يذكر بعض النكات التى ترجع إلى نظم القرآن وأسلوبه.
وبالجملة.. فهذا التفسير يكشف لنا عن مقدار تعصب صاحبه لمذهبه، وتأثره بعقيدته الشيعية، ونزعته الصوفية الفلسفية فى فهمه لكتاب الله تعالى.
.. والكتاب مطبوع فى جزءين كبيرين. وموجود بدار الكتب المصرية.
* * *