المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التفسير الإشارى فى الميزان - التفسير والمفسرون - جـ ٢

[محمد حسين الذهبي]

فهرس الكتاب

- ‌الشيعة وموقفهم من تفسير القرآن الكريم

- ‌كلمة إجمالية عن الشيعة وعقائدهم

- ‌ الزيدية

- ‌قوام مذهب الزيدية

- ‌الإمامية

- ‌ الإمامية الإثنا عشرية

- ‌أشهر تعاليم الإمامية الإثنا عشرية

- ‌الإمامية الاسماعيلية

- ‌موقف الشيعة من تفسير القرآن الكريم

- ‌1- موقف الإمامية الإثنا عشرية من تفسير القرآن الكريم

- ‌2- موقف القرآن من الأئمة وأوليائهم وأعدائهم

- ‌3- تحريف القرآن وتبديله

- ‌4- موقفهم من الأحاديث النبوية وآثار الصحابة

- ‌أهم الكتب التى يعتمدون عليها فى رواية الأحاديث والأخبار

- ‌أهم كتب التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية

- ‌1- مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار (للمولى عبد اللطيف الكازرانى

- ‌2- تفسير الحسن العسكرى

- ‌3- مجمع البيان لعلوم القرآن (للطبرسى)

- ‌4- الصافى فى تفسير القرآن (لملا محسن الكاشى)

- ‌5- تفسير القرآن (للسيد عبد الله العلوى)

- ‌6- بيان السعادة فى مقامات العبادة (لسلطان محمد الخراسانى)

- ‌الإمامية الإسماعيلية "الباطنية" وموقفهم من تفسير القرآن الكريم

- ‌كلمة إجمالية عن الإسماعيلية وعقائدهم وأغراضهم

- ‌مؤسسو هذه الطائفة

- ‌احتيالهم على الوصول إلى أغراضهم

- ‌مراتب الدعوة عند الباطنية

- ‌إنتاج الباطنية فى تفسير القرآن الكريم

- ‌موقف متقدمى الباطنية من تفسير القرآن الكريم

- ‌البابية والبهائية

- ‌كلمة إجمالية عن نشأة البابية والبهائية

- ‌ بهاء الله

- ‌الصلة بين عقائد البابية وعقائد الباطنية القدامى

- ‌موقف البابية والبهائية من تفسير القرآن الكريم

- ‌أبو الفضائل الإيرانى يعيب تفاسير أهل السُّنَّة

- ‌إنتاج البابية والبهائية فى التفسير، ومثل من تأويلاتهم الفاسدة

- ‌الزيدية وموقفهم من التفسير والقرآن الكريم

- ‌تمهيد

- ‌أهم كتب التفسير عند الزيدية

- ‌فتح القدير للشوكاني

- ‌التعريف بمؤلف هذا التفسير

- ‌التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه

- ‌طريقة الشوكانى فى تفسيره

- ‌نقله للروايات الموضوعة والضعيفة

- ‌ذمه للتقليد والمقِّدين

- ‌حياة الشهداء

- ‌التوسل

- ‌موقفه من المتشابه

- ‌موقفه من آراء المعتزلة

- ‌موقف الشوكانى من مسألة خلق القرآن

- ‌الخوارج وموقفهم من تفسير القرآن الكريم

- ‌كلمة إجمالية عن الخوارج

- ‌مواقف الخوارج من تفسير القرآن الكريم

- ‌سلطان المذهب يغلب على الخوارج فى فهم القرآن

- ‌مدى فهم الخوارج لنصوص القرآن

- ‌موقف الخوارج من السُّنَّة وإجماع الأمة، وأثر ذلك فى تفسيرهم للقرآن

- ‌الإنتاج التفسيرى للخوارج

- ‌أسباب قِلَّة إنتاج الخوارج فى التفسير

- ‌هميان الزاد إلى دار المعاد

- ‌التعريف بمؤلف هذا التفسير

- ‌التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه

- ‌حقيقة الإيمان

- ‌موقفه من أصحاب الكبائر

- ‌حملته على أهل السُّنَّة

- ‌مغفرة الذنوب

- ‌رأيه فى الشفاعة

- ‌رؤية الله تعالى

- ‌أفعال العباد

- ‌موقفه من المتشابه

- ‌موقفه من تفسير الصوفية

- ‌موقفه من الشيعة

- ‌رأيه فى التحيكم

- ‌إشادته بالخوارج وحطه من قدر عثمان وعلىّ ومَن والاهما

- ‌اعتداده بنفسه وحملته على جمهور المسلمين

- ‌تفسير الصوفية

- ‌أصل كلمة تصوف

- ‌معنى التصوف

- ‌نشأة التصوف وتطوره

- ‌أقسام التصوف

- ‌أولاً: التفسير الصوفى النظرى

- ‌ابن عربى شيخ هذه الطريقة

- ‌تأثر ابن عربى بالنظريات الفلسفية

- ‌تأثره فى تفسيره بنظرية وحدة الوجود

- ‌قياسه الغائب على الشاهد

- ‌إخضاعه قواعد النحو لنظراته الصوفية

- ‌التفسير الصوفى النظرى فى الميزان

- ‌رأينا فى التفسير الصوفى النظرى

- ‌ثانياً: التفسير الصوفى الفيضي او الإشارى

- ‌حقيقته

- ‌الفرق بينه وبين التفسير الصوفى النظرى

- ‌هل للتفسير الإشارى أصل شرعى

- ‌التفاوت فى إدراك المعانى الباطنة وإصابتها

- ‌التفسير الإشارى فى الميزان

- ‌مقالة الشاطبى فى التفسير الإشارى

- ‌مقالات بعض العلماء فى التفسير الإشارى

- ‌رأينا فى مقالة ابن عربى

- ‌شروط قبول التفسير الإشارى

- ‌أهم كتب التفسير الإشارى

- ‌1- تفسير القرآن العظيم (للتسترى)

- ‌2- حقائق التفسير (للسلمى)

- ‌3- عرائس البيان فى حقائق القرأن (لأبى محمد الشيرازى)

- ‌4- التأويلات النجمية (لنجم الدين داية، وعلاء الدولة السمنانى)

- ‌5- التفسير المنسوب لابن عربى

- ‌ابن عربى ومذهبه فى تفسير القرآن الكريم

- ‌ترجمة ابن عربى

- ‌ابن عربى بين أعدائه ومريديه

- ‌مكانته العلمية

- ‌مذهب ابن عربى فى وحدة الوجود

- ‌مذهب ابن عربى فى تفسير القرآن الكريم

- ‌نماذج من التفسير الصوفى النظرى له

- ‌نماذج من التفسير الإشارى له

- ‌نماذج من التفسير الظاهر لابن عربى

- ‌تفسير الفلاسفة

- ‌كيف وُجِدت الصلة بين التفسير والفلسفة

- ‌كيف كان التوفيق بين الدين والفلسفة

- ‌الأثر الفلسفى فى تفسير القرآن الكريم

- ‌من تفسير الفارابى

- ‌من تفسير إخوان الصفا

- ‌ترجمة ابن سينا

- ‌مسلك ابن سينا فى التفسير

- ‌رأينا فى تفسير الفلاسفة

- ‌تفسير الفقهاء

- ‌كلمة إجمالية عن تطور التفسير الفقهى

- ‌التفسير الفقهى فى مبدأ قيام المذاهب الفقهية

- ‌التفسير الفقهى بعد ظهور التقليد والتعصب المذهبى

- ‌تنوع التفسير الفقهى تبعاً لتنوع الفرق الإسلامية

- ‌الإنتاج التفسيرى للفقهاء

- ‌1- أحكام القرآن - للجصَّاص (الحنفى)

- ‌2- أحكام القرآن - لكيا الهراسى (الشافعى)

- ‌3- أحكام القرآن - لابن العربى (المالكى)

- ‌4- الجامع لأحكام القرآن - لأبى عبد الله القرطبى (المالكى)

- ‌5- كنز العرفان فى فقه القرآن لمقداد السيورى (من الإمامية الإثنا عشرية)

- ‌6- الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة ليوسف الثلائى (الزيدى)

- ‌التفسير العلمى

- ‌معنى التفسير العلمى

- ‌التوسع فى هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به

- ‌الإمام الغزالى والتفسير العلمى

- ‌الجلال السيوطى والتفسير العلمى

- ‌أبو الفضل المرسى والتفسير العلمى

- ‌إنكار التفسير العلمى

- ‌إنكار الشاطبى للتفسير العلمى

- ‌اختيارنا فى هذا الموضوع

- ‌الخاتمة.. كلمة عامة عن التفسير وألوانه فى العصر الحديث

- ‌التفسير بين ماضيه وحاضره

- ‌مميزات التفسير فى العصر الحديث

- ‌ألوان التفسير فى العصر الحديث

- ‌اللَّون العلمى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌الجواهر فى تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوى جوهرى)

- ‌اللون المذهبى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌اللَّون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌اللَّون الأدبى الاجتماعى للتفسير فى عصرنا الحاضر

- ‌1- الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

- ‌2- السيد محمد رشيد رضا

- ‌3- الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى

- ‌رجاء واعتذار

الفصل: ‌التفسير الإشارى فى الميزان

فعمر رضى الله عنه أدرك المعنى الإشارى: وهو نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرَّه النبى على فهمه هذا.. وأما باقى الصحابة، فقد فرحوا بنزول الآية، لأنهم لم يفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها.

هذه الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن.. ظهر يفهمه كل مَن يعرف اللِّسان العربى.. وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر. غير أن المعانى الباطنية للقرآن لا تقف عند الحد الذى تصل إليه مداركنا القاصرة، بل هى أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور. ولقد فهم ابن مسعود أن فى فهم معانى القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً فقال:"مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليُثَوِّر القرآن" وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال:{مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولاكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} . [يوسف: 111] .

* *

‌التفاوت فى إدراك المعانى الباطنة وإصابتها

غير أن هذه المعانى المتكاثرة التى يشتمل عليها باطن القرآن لم تكن فى متناول المفسِّرين جميعاً، كما أنهم لم يكونوا متساوين فى القدر الذى أدركوه منها، بل تفاوتوا فى ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت فى الأخذ بالأسباب، كما أنهم لم يكونوا جميعاً مصيبين فيما وصلوا إليه منها وأدركوه، بل أصابوا فى بعض منها وأخطأوا في بعض آخر، وما أخطأوا فيه: بعضه عن جهل، وبعضه عن تعمد خبيث ونية سيئة، فالإمامية مع قولهم بالظاهر على ما به، قالوا بالباطن أيضاً، ولكنهم تعمدوا أن يُفسِّروا الباطن على ما يتفق وعقيدتهم الفاسدة.. والباطنية لم يعترفوا بظاهر القرآن واعترفوا بالباطن فقط ولكنهم أيضاً تعمدوا أن يُفسِّروا الباطن على ما يتفق ونواياهم السيئة، وكلا الفريقين ضال مبتدع.

أما الصوفية.. أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة، فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه، كما اعترفوا بباطنه، ولكنهم حين فسَّروا المعانى الباطنة خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فبينما تجد لهم أفهاماً مقبولة سائغة، تجد لهم بجوارها أفهاماً لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع، ولهذا أرى أن أستعرض بعض ما للقوم من أفهام فى التفسير، ثم أحكم عليها حكماً مجرداً عن كل شئ إلا عن الحق والإنصاف، ثم بعد هذا أذكر شروط التفسير الإشارى، وهى الشروط التى إذا توافرت فيه جاز لنا قبوله والأخذ به، وإلا أسقطناه ورفضناه مهما كان لقائله من المكانة فى نفوسنا أو فى نفوس القوم.

* *

‌التفسير الإشارى فى الميزان

قلنا: إن القرآن له ظهر وبطن، وذكرنا لك أهم الأقوال فى معنى الظاهر والباطن،

ص: 264

ومهما يكن من شىء فإن ظاهر القرآن - وهو المنزَّل بلسان عربى مبين - هو المفهوم العربى المجرَّد. وباطنه هو مراد الله تعالى وغرضه الذى يقصد إليه من وراء الألفاظ والتراكيب، هذا هو خير ما يقال فى معنى الظاهر والباطن.

وعلى ذلك نقول: إن كل ما كان من المعانى العربية التى لا ينبنى فهم القرآن إلا عليها داخل تحت الظاهر، فالمسائل البيانية، والمنازع البلاغية، لا معدل لها عن ظاهر القرآن، فإذا فهم الإنسان مثلاً الفرق بين "ضَيِّق" فى قوله تعالى فى الآية [125] من سورة الأنعام:{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} .. وبين "ضائق" فى قوله تعالى فى الآية [12] من سورة هود: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} .. وعرف أن "ضيِّق" صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام فى حق مَن يُرد الله أن يضله، وأن "ضائق" اسم فاعل يدل على الحدوث والتجدد وأنه أمر عارض له صلى الله عليه وسلم. إذا فهم الإنسان مثل هذا فقد حصل له فهم ظاهر القرآن.

إذن فلا يُشترط فى فهم ظاهر القرآن زيادة على الجريان على اللِّسان العربى، وإذن كل معنى مستنبَط من القرآن غير جار على اللِّسان العربى فليس من تفسير القرآن فى شئ.. لا مما يُستفاد منه ولا مما يُستفاد به. ومَن ادَّعى فيه ذلك فهو مبطل فى دعواه.

أما المعنى الباطن، فلا يكفى فيه الجريان على اللِّسان العربى وحده. بل لا بد فيه مع ذلك من نور يقذفه الله تعالى فى قلب الإنسان يصير به نافذ البصر سليم التفكير، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمراً خارجاً عن مدلول اللَّفظ القرآنى، ولهذا اشترطوا لصحة المعنى الباطن شرطين أساسيين:

أولهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر فى لسان العرب بحيث يجرى على المقاصد العربية.

وثانيهما: أن يكون له شاهد نصاً أو ظاهراً فى محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.

أما الشرط الأول.. فظاهر من قاعدة كون القرآن عربياً، فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربياً بإطلاق، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن وليس فى ألفاظه ولا فى معانيه ما يدل عليه، وما كان كذلك فلا يصح أن يُنسب إليه أصلاً، إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه. ولا مرجح يدل على أحدهما، فإثبات أحدهما تَحَكُّمٌ وتَقَوُّلٌ على القرآن ظاهر، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم مَن قال فى كتاب الله بغير علم.

ص: 265

وأما الشرط الثانى: فلأنه إن لم يكن له شاهد فى محل آخر أو كان وله معارض صار من جملة الدعاوى التى تُدَّعى على القرآن، والدعوى المجرَّدة عن الدليل غير مقبولة باتفاق العلماء.

إذا توافر هذان الشرطان فى معنى من المعانى الباطنة قُبِل، لأنه معنى باطن صحيح، وإلا رُفِض رفضاً باتاً، لأنه معنى باطن فاسد وتَقَوُّلٌ على الله بالهوى والتشهى.

إذا عرفنا هذا كله ثم ذهبنا نستعرض على ضوئه أقوال القوم فى معانى القرآن الباطنة، وجدنا الكثير منها يمكن أن يكون من قبيل الباطن الصحيح، وكثير منها أيضاً هو من قبيل الباطن الفاسد المرفوض، وكبرى المشاكل أن بعضها منسوب إلى رجال من أهل العلم لهم مكانة علمية ودينية فى نفوسنا، بل وبعضها منسوب إلى رجال من الصحابة، وهم أعرف الناس بكتاب الله وما يحويه من المعانى والأسرار.

فمن الأفهام الباطنة المنقولة عنهم ويمكن أن تكون من قبيل الباطن الصحيح المقبول: ما جاء فى قوله تعالى فى الآية [22] من سورة البقرة: {فَلَا تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .. من قول سهل التسترى {فَلَا تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أى أضداداً، فأكبر الأضداد: النفس الأمَّارة بالسوء، المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله".

فهذا القول من سهل يشير إلى أن النفس الأمَّارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصَّل لكان المعنى: فلا تجعلوا لله أنداداً لا صنماً، ولا شيطاناً، ولا النفس، ولا كذا، ولا كذا.. وهذا مشكل من حيث الظاهر، لأن سياق الآية وما يحف بها من قرائن يدل على أن الأنداد مراد بها كل ما يعبد من دون الله، سواء أكان صنماً أم غير صنم، أما الأنفس فلم تكن معبودة لهم، ولم يُعرف أنهم اتخذوها أرباباً من دون الله، ومع هذا فيمكن أن يكون لهذا التفسير وجه صحيح، وبيان ذلك:

إن الناظر فى القرآن الكريم، قد يأخذ من معنى الآية معنى باب الاعتبار، فيُجرية فيما لم تنزل فيه الآية، لأنه يجامعه فى القصد أو يقاربه، وسهل التسترى رحمه الله حيث قال فى الآية ما قال، لم يرد أنه تفسير للآية، بل أتى بما هو ند فى الاعتبار الشرعى، وذلك لأن حقيقة الند: أنه المضاد لنده، الجارى على مناقضته، والنفس الأمَّارة هذا شأنها، لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها، لاهية أو صادَّة عن مراعاة حقوق خالقها، وهذا هو الذى يعنى به الند بالنسبة لنده، لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه، وعلى هذا فلا غبار على قول سهل فى الآية، بل وهناك ما يشهد له من الجهتين -

ص: 266

جهة حمل الأنداد على الأنفس الأمَّارة - اعتباراً، وجهة كون الخطاب - وإن كان موجهاً للمشركين - فيه لأهل الإسلام نظر واعتبار.

أما ما يشهد له من الجهة الأولى: فقوله تعالى فى الآية [31] من سورة التوبة: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} .. وظاهر أنهم لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان، فما حرَّموا عليهم حرَّموه، وما أباحوا لهم حلَّلوه، وفاتهم أن المحلِّل والمحرِّم هو الله، فقال الله سبحانه:{اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} . وهذا بعينه هو شأن المتبع لهوى نفسه.

وأما ما يشهد له من الجهة الثانية، فهو أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لبعض مَن توسَّع فى الدنيا من أهل الإيمان: أين تذهب بكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} ؟ وكان هو يعتبر نفسه بها، مع أن الآية نزلت فى حق الكفار لقوله تعالى:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوْا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} .. الآية، فعمر رضى الله عنه، له فى الآية، فعمر رضى الله عنه، له فى الآية نظر واعتبار، فأخذ من معناها معنى أجرى الآية فيه وإن لم تنزل فيه، حذراً منه وخوفاً أن يكون التوسع فى المباحات سبباً فى الحرمان من نعيم الآخرة ومتاعها، فإذا صح لعمر رضى الله عنه أن يُنزل الآية على المتوسعين فى المباحات من المؤمنين ولم تنزل فيهم، صحَّ لسهل أيضاً أن يُنزل الآية على النفس الأمَّارة وإن لم تنزل فيها كذلك.

ومن ذلك أيضاً ما جاء فى قوله تعالى فى الآية [35] من سورة البقرة: {وَلَا تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} .. من قول سهل رحمه الله: "لم يرد الله معنى الأكل فى الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشئ هو غيره.. أى لا تهتم بشئ هو غيرى. قال: فآدم عليه السلام لم يعصم من الهمة والفعل فى الجنة، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك. قال: وكذلك كل من ادَّعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله عز وجل مع ما جُبِلت عليه نفسه إلا أن يرحمه الله، فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها.. قال: وآدم لم يُعْصَم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أُدْخِلَ الجنة، ألا ترى أن البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه، فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل والبيان ونور القلب، لسابق القدر من الله تعالى، كما قال عليه السلام، "الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل".

وبالنظر فى كلام سهل هذا نرى أنه ادَّعى فى الآية خلاف ما ذكره المفسِّرون من أن

ص: 267

المراد النهى عن نفس الأكل، لا عن سكون الهمة لغير الله. وإن كان هذا منهياً عنه أيضاً، لكن يمكن أن يكون لهذا الكلام الذى قاله سهل وجه يجرى عليه، وذلك أن النهى فى الآية لا يصح حمله على نفس القُرْب مجرَّداً، إذ لا مناسبة فيه ظاهرة، ولأنه لم يقل به أحد، وإنما النهى عن معنى فى القرب وهو إما التناول والأكل. وإما غيره وهو شىء ينشأ الأكل عنه، وذلك مساكنة الهمة، فإنه الأصل فى تحصيل الأكل، ولا شك فى أن السكون لغير الله لجلب منفعة أو دفع مفسدة منهى عنه.

فهذا التفسير له وجه ظاهر فكأنه يقول: لم يقع النهى عن مجرد الأكل من حيث هو أكل، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله، إذ لو انتهى عما نهى الله عنه لكان ساكناً لله وحده، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر فى الشجرة غرَّه به الشيطان وهو الخلود فى الجنَّة، أضاف الله إليه لفظ العصيان فقال فى الآيتين [121-122] من سورة طه:{وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} ..

مثل هذا - وهو كثير فى كلام الصوفية - لا نعدم له وجهاً نحمله عليه حتى يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً.

ولكن هناك أقوال لهم فى التفسير الإشارى يقف أمامها العقل حائراً وعاجزاً عن تلمس محمل لها تُحمل عليه حتى تبدو صحيحة وتصبح مقبولة، فمن ذلك:

ما يروونه عن ابن عباس أنه فسَّر {آلم} فقال: "الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم

وأن الله أقسم بنفسه وجبريل ومحمد عليهما السلام".

وهذا إن صح نقله فهو مشكل إلى حد بعيد، ذلك لأن الإشارة إلى الكلمة بحرف ليس معهوداً فى كلام العرب. اللَّهم إلا إن دل عليه الدليل اللفظى أو الحالى كقول الشاعر:

فقلت لها قفى فقالت قاف

أراد: قالت: وقفت.

وقول زهير:

بالخير خيرات وإن شراً فا

ولا أريد الشر إلا أن تا

أراد: وإن شراً فشر، وأراد: إلا أن تشاء.

وقول الآخر:

نادوهموا ألا الجموا ألا تا

قالوا جميعاً كلهم ألا فا

أراد: ألا تركبون. قالوا: ألا فاركبوا.

ص: 268

وقوله عليه الصلاة والسلام: "كفى بالسيف شا" أراد: شافياً.

ولكن أين الدليل على ما ذكر فى قوله: {آلم} ؟

على أنه لم يقم دليل من الخارج يدل على هذا التفسير، إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله، لأنه من المسائل التى تتوفر الدواعى على نقلها لو صح أنه مما يُفسر ويُقصد تفهيم معناه

ولما لم يثبت شىء من ذلك دل على أنه من قبيل المتشابهات، فإن ثبت له دليل عليه صرنا إليه وإلا توقفنا.

ومثل هذا المروى عن ابن عباس - ولعله أشكل منه - ما قاله سهل التسترى فى تفسيره للبسملة حيث قال: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .. الباء: بهاء الله عز وجل، والسين: سناء الله عز وجل، والميم: مجد الله عز وجل، والله: هو الاسم الأعظم الذى حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنى غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة، لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواماً ضرورة الإيمان، والرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنى بين الألف واللام، والرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق فى الفرع، والابتداء فى الأصل، رحمة لسابق علمه القديم".

وما فسَّر به {آلم} . فاتحة البقرة وهو قوله: {آلم} اسم الله عز وجل، فيه معان وصفات يعرفها أهل الفهم به، غير أن لأهل الظاهر فيه معان كثيرة، فأما هذه الحروف إذا انفردت، فالألف: تأليف الله عز وجل. ألَّفَ الأشياء كما شاء، واللام: لطفه القديم، والميم: مجده العظيم"، وقال: "لكل كتاب أنزله الله تعالى سر، وسر القرآن فواتح السور، لأنها أسماء وصفات، مثل قوله:{آلمص} ، و {آلر} ، و {آلمر} ، و {كهيعص} ، و {حمعسق} ، و {طسم} ، فإذا جمعت هذه الحروف بعضها إلى بعض كانت اسم الله الأعظم، أى إذا أخذ من كل سورة حرف على الولاء، أى على ما أنزلت السورة وما بعدها على النسق:{آلم} ، و {حم} ، و {ن} معناه: الرحمن. وقال ابن عباس والضحَّاك: {آلم} : معناه أنا الله أعلم. وقال علىّ رضى الله عنه: هذه أسماء مقطعة، إذا أخذ من كل حرف حرفاً لا يشبه صاحبه فجُمِعن كان اسم من أسماء الرحمن، إذا عرفوه ودعوه به كان الاسم الأعظم الذى إذا دُعِىَ به أجاب".

وكما قاله أبو عبد الرحمن السلمى فى تفسير: {آلم} فاتحة البقرة وهو قوله: {آلم} .. قيل: إن الألف ألف الوحدانية، واللام: لام اللطف، والميم: ميم المُلْك، معناه: مَن وجدنى على الحقيقة بإسقاط العلائق والأغراض تلطَّفتُ له.. فأخرجته من

ص: 269

رِقِّ العبودية إلى الملأ الأعلى، وهو الاتصال بمالك المُلْك، دون الاشتغال بشىء من الملك

وقيل: {آلم} .. معنى الألف: أى أفرد سرك، واللام: ليت جوارحك لعبادتى، والميم: أقم معى بمحو رسومك وصفاتك، أزينك بصفات الأُنس بى، والمشاهدة إياى، والقُرْب منى".

فهذا الذى قاله سهل التسترى والذى قاله أبو عبد الرحمن السلمى مشكل كالمروى عن ابن عباس، بل وأعظم منه إشكالاً حيث ادَّعوا أن هذه الحروف ترمز إلى أسرار غيبية ومعان مكنية، وإذا جُمعت هذه الحروف على طريقة مخصوصة كان كذا وكذا، بل ويدَّعون أحياناً أن هذه الحروف هى أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة، وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى فى خطابه العرب الأُميِّة التى لا تعرف شيئاً من ذلك، وهذه كلها دعاوى يدَّعونها على القرآن، ولا أحسب أنهم استندوا فيها إلى دليل برهانى أو إقناعى، وكل ما أقوله فيها: إنها دعاوى محالة على الكشف والاطلاع، ودعوى الكشف والاطلاع لا تصلح دليلاً شرعياً بحال من الأحوال.

ومن المواضع المشكلة أيضاً، ولكنها أخف إشكالاً مما مَرَّ.. ما جاء عنهم من نحو تفسير سهل التسترى لقوله تعالى فى الآية [96] من سورة آل عمران:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}

الآية، بقوله:"أول بيت وُضِعَ للناس بيت الله عز وجل بمكةَ، هذا هو الظاهر، وباطنها: الرسول يؤمن به مَن أثبت الله فى قلبه التوحيد من الناس".

ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى فى الآية [36] من سورة النساء: {والجار ذِي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل} .. حيث يقول - بعد ذكره للتفسير بالظاهر: "وأما باطنها، فالجار ذى القُربَى: هو القلب، والجار الجُنُب: هو الطبيعة، والصاحب بالجَنب: هو العقل المقتدى بالشريعة، وابن السبيل: هو الجوارح المطيعة لله".

وتفسيره لقوله تعالى فى الآية [41] من سورة الروم: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} .. بقوله: "مَثَّلَ الله الجوارح بالبر، ومَثَّل القلب بالبحر، وهم أعم نفعاً وأكثر خطراً، هذا هو باطن الآية، ألا ترى أن القلب إنما سُمِّى قلباً لتقلبه وبُعْد غوره"؟

وتفسير ابن عطاء الله السكندرى لقوله تعالى فى الآية [33] من سورة يس: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} بقوله: "القلوب

ص: 270