الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1- موقف الإمامية الإثنا عشرية من تفسير القرآن الكريم
للإمامية الإثنا عشرية معتقدات يدينون بها، وينفردون بها عمن عداهم من طوائف الشيعة. وهم حين يعتقدون هذه المعتقدات لا بد لهم - ما داموا يقرون بالإسلام ويعترفون بالقرآن ولو بوجه ما - أن يقيموا هذه العقائد على دعائم من نصوص القرآن الكريم، وأن يدافعوا عنها بكل ما يمكنهم من سلاح الجدل وقوة الدليل.
* موقفهم من الأئمة وأثر ذلك فى تفسيرهم:
وإذا نحن استعرضنا هذه المعتقدات وجدنا أن أهمها يدور حول أئمتهم، فهم يلقون على الأئمة نوعاً من التقديس والتعظيم، ويرون أن الأئمة "أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحُجَّة الله البالغة على مَن فوق الأرض ومَن تحت الثرى"، ويرون أن الإمامة "زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين".
ولما كان الإمام عندهم فوق أن يُحكم عليه، وفوق الناس فى طينته وتصرفاته، فإنَّا نراهم يعتقدون بأن له صلة روحية بالله تعالى كتلك الصلة التى للأنبياء والرسل، وأنه مُشَرِّع ومُنَقِّذ، وأن الله قد فوَّض النبى والإمام فى الدين، ويروون عن الصادق أنه قال:"إن الله خلق نبيه على أحسن أدب وأرشد عقل، ثم أدَّب نبيه فأحسن تأديبه فقال: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] .. ثم أثنى الله عليه فقال: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .. ثم بعد ذلك فوَّض إليه دينه، فوَّض إليه التشريع فقال: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ، و {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] .. والله فوَّض دينه إلى نبيه. ثم إن نبى الله فوَّض كل ذلك إلى علىّ وأولاده سلَّمتم وجحده الناس، فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وأن تصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله، وما جعل الله لأحد خيراً فى خلاف أمرنا".
وحيث إن الله تعالى خلق النبى وكل إمام بعده على أحسن أدب وأرشد عقل، فلا يختار النبى ولا الإمام إلا ما فيه صلاح وثواب، ولا يخطر بقلب النبى ولا بقلب الإمام ما يخالف مشيئة الله وما يتناقض مصلحة الأُمة، فيفوِّض الله تعيين بعض الأُمور إلى رأى النبى ورأى الإمام، مثل الزيادة فى عدد ركعات الفرض، ومثل تعيين النوافل من
الصلاة والصيام، وذلك إظهاراً لكرامة النبى والإمام، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحى، ثم لم يكن الاختيار إلا بالإلهام، وله فى الشرع شواهد: حرَّم الله الخمر، وحرَّم النبى كل مسكر فأجازه الله، وفرض الله الفرائض ولم يذكر الجد، فجعل النبى للجد السدس، وكان النبى يُبَشِّر ويُعطى الجنَّة على الله ويجيزه الله.
وأيضاً فوَّض الله للنبى والأئمة من بعده أُمور الخلق، وأُمور الإدارة والسياسة من التأديب والتكميل والتعليم، وواجب على الناس طاعتهم فى كل ذلك. قالوا: وهذا حق ثابت دلَّت الأخبار عليه.
وأيضاً فوَّضهم الله تعالى فى البيان، بيان الأحكام والإفتاء وتفسير آيات القرآن وتأويلها، ولهم أن يُبيِّنوا ولهم أن يسكتوا، ولهم فوق ذلك البيان كيفما أرادوا وعلى أى وجه شاءوا، تَقيَّة منهم وعلى حسب الأحوال والمصلحة. والتفويض بهذا المعنى يدَّعون أنه حق ثابت لهم، والأخبار ناطقة به وشاهدة عليه. يقول صاحب الكافى:"سأل ثلاثة من الناس الصادق عن آية واحدة فى كتاب الله فأجاب كل واحد بجواب، أجاب ثلاثة بأجوبة ثلاثة، واختلاف الأجوبة فى مسألة واحدة كان يقع إما على سبيل التقيَّة وإما على سبيل التفويض".
وهناك نوع آخر من التفويض يثبتونه للنبى والأئمة، ذلك هو أن النبى أو الإمام له أن يحكم بظاهر الشريعة، وله أن يترك الظاهر ويحكم بما يراه وما يلهمه الله من الواقع وخالص الحق فى كل واقعة، كما كان لصاحب موسى فى قصة الكهف، وكما وقع لذى القرنين.
ثم كان من توابع هذه العقيدة التى يعتقدونها فى أئمتهم أن قالوا بعصمة الأئمة، وقالوا بالمهدى المنتظر، وقالوا بالرجعة، وقالوا بالتَقيَّة، وهذه كلها عقائد رسخت فى أذهانهم وتمكنت من عقولهم، فأخذوا بعد هذا ينظرون إلى القرآن الكريم من خلال هذه العقائد ففسَّروا القرآن وفقاً لهواهم، وفهموا نصوصه وتأوَّلوها حسبما تمليه عليهم العقيدة ويزينه لهم الهوى.. وهذا تفسير بالرأى المذموم، تفسير مَن اعتقد أولاً، ثم فسَّر ثانياً بعد أن اعتقد.
* *
* تأثير الإمامية الإثنا عشرية بآراء المعتزلة وأثر ذلك فى تفسيرهم:
هذا.. وإن الإمامية الإثنا عشرية لهم فى نصوص القرآن التى تتصل بمسائل علم الكلام نظرة تتفق إلى حد كبير مع نظرة المعتزلة إلى هذه النصوص نفسها، ولم يكن بينهم وبين المعتزلة خلاف إلا فى مسائل قليلة، ويظهر أن هذا الارتباط الوثيق الذى كان بين الفريقين راجع إلى تتلمذ الكثير من شيوخ الشيعة وعلمائهم لبعض شيوخ
المعتزلة، كما يظهر لنا جلياً أن هذا الارتباط فى التفكير شئ قديم غير جديد، فالحسن العسكرى، والشريف المرتضى، وأبو على الطبرسى، وغيرهم من قدماء الشيعة، ينظرون هذه النظرة الاعتزالية فى تفاسيرهم التى بأيدينا، والتى تعرَّضنا لبعضها وسنعرض لبعضها الآخر قريباً، بل إننا نجد الشريف المرتضى فى أماليه يحاول محاولة جدية أن يجعل علياً رضى الله عنه معتزلياً أو رأس المعتزلة على الأصح، وقد تقدمت لنا مقالته التى عرضنا لها عند الكلام عن أماليه. وليس من شك فى أن هذه النظرات الاعتزالية كان لها أثر كبير فى تفسيرهم، وسنقف على شئ من ذلك إن شاء الله تعالى.
* *
* تأثرهم بمذاهبهم الفقهية والأُصولية فى تفاسيرهم:
ثم إن الشيعة لهم فى الفقه وأُصوله آراء خالفوا بها مَن سواهم، فمثلاً نجدهم يذكرون أن أدلة الفقه أربعة وهى: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، ودليل العقل. أما الكتاب فلهم رأى فيه سنعرض له فيما بعد.
وأما السَّنَّة فهم غير أمناء عليها ولا ملتزمين ما صح منها، وسنعرض لها فيما بعد أيضاً.
وأما الإجماع فليس حُجَّة بنفسه، وإنما يكون حُجَّة إذا دخل الإمام المعصوم فى المُجْمِعين، أو كان الإجماع كاشفاً عن رأيه فى المسألة، أو كان الإجماع عن دليل معتبر، فهو فى الحقيقة داخل فى الكتاب أو السُّنَّة.
وأما دليل العقل عندهم فلا يدخل فيه القياس، ولا الاستحسان، ولا المصالح المرسلة، لأن ذلك كله ليس حُجَّة عندهم.
وفى الفقه لهم مخالفات يشذون بها، فمثلاً تراهم يقولون: إن فرض الرِجْلين فى الوضوء هو المسح دون الغسل، ولا يجوِّزون المسح على الخفين، وجوَّزوا نكاح المتعة، وجوَّزوا أن تورث الأنبياء، ولهم مخالفات فى نظام الإرث، كإنكارهم للعول مثلاً، ولهم مخالفات كثيرة غير ذلك فى مسائل الاجتهاد.
لهذا كان طبيعياً أن يقف الإمامية الإثنا عشرية من الآيات التى تتعلق بالفقه وأصوله موقفاً فيه تعصب وتعسف، حتى يستطيعوا أن يخضعوا هذه النصوص ويجعلوها أدلة لآرائهم ومذاهبهم، كما كان طبيعياً، أن يتأوَّلوا ما يعارضهم من الآيات والأحاديث. بل ووجدناهم أحياناً يزيدون فى القرآن ما ليس منه ويدَّعون أنه قراءة أهل البيت، وهذا إمعان منهم فى اللجاج، وإغراق فى المخالفة والشذوذ.
* * *
* احتيالهم على تركيز عقائدهم وترويجها:
ويظهر لنا أن الإمامية الإثنا عشرية لم يجدوا فى القرآن كل ما يساعدهم على أغراضهم وميولهم، فراحوا (أولاً) يدَّعون أن القرآن له ظاهر وباطن بل وبواطن كثيرة، وأن علم جميع القرآن عند الأئمة، سواء فى ذلك ما يتعلق بالظواهر وما يتعلق بالبواطن، وحجروا على العقول فمنعوا الناس من القول فى القرآن بغير سماع من أئمتهم.
وراحوا (ثانياً) يدَّعون أن القرآن وارد كُلّه أو جُلّه فى أئمتهم ومواليهم، وفى أعدائهم ومخالفيهم كذلك.
وراحوا (ثالثاً) يدَّعون أن القرآن حُرِّف وبُدِّل عما كان عليه زمن النبى صلى الله عليه وسلم، وكل هذا لا أعتقد إلا أنه من قبيل الاحتيال على تركيز عقائدهم وإيهام الناس أنها مستقاة من القرآن الذى هو المنبع الأساسى والأول للدين.
وأعجب من هذا.. أنهم أخذوا يموِّهون على الناس، ويغرون العامة بما وضعوه من أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته، وطعنوا على الصحابة إلا نفراً قليلاً منهم، ورموهم بكل نقيصة فى الدين، ليجدوا لأنفسهم من وراء ذلك ثغرة يخرجون منها عندما تأخذ بخناقهم الأحاديث الصحيحة التى يرويها هؤلاء الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحسن بنا ألا نمر سراعاً على هذه النقط الأربع بالذات، بل علينا أن نقف أمامها وقفة طويلة ودقيقة حتى نستطيع أن نقف على مدى هذه الأوهام والدعاوى. التى كان لها أكبر الأثر فى اتجاه التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، فنقول وبالله التوفيق:
1 -
ظاهر القرآن وباطنه:
يقول الإمامية الإثنا عشرية: إنَّ القرآن له ظاهر وباطن. وهذه حقيقة نقرهم عليها ولا نعارضهم فيها بعد ما صح لدينا من الأحاديث التى تقرر هذا المبدأ فى التفسير، غاية الأمر أن هؤلاء الإمامية لم يقفوا عند هذا الحد. بل تجاوزوا إلى
القول بأن للقرآن سبعة وسبعين بطناً، ولم يقتصروا على ذلك بل تمادوا وادَّعوا أن الله تعالى جعل ظاهر القرآن فى الدعوة إلى التوحيد والنبوة والرسالة، وجعل باطنه فى الدعوة إلى الإمامة والولاية وما يتعلق بهما.
* حرصهم على التوفيق بين ظاهر القرآن وباطنه:
ولقد كان من أثر هذا الرأى فى القرآن، أن اشتد حرص هؤلاء القائلين به على أن يعقدوا صلة بين المعانى الظاهرة والمعانى الباطنة للقرآن، ويعملوا بكل ما فى وسعهم وطاقتهم على إيجاد مناسبة بينهما حتى يُقرِّبوا هذا المبدأ من عقول الناس ويجعلوه أمراً سائغاً مقبولاً. ومن أمثلة هذا التوفيق والربط بين ظاهر القرآن وباطنه، قوله تعالى فى الآية [15] من سورة محمد عليه السلام:{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} .. فهم يقرون أن هذا الظاهر مراد الله تعالى، ومراد له مع هذا الظاهر معنى آخر باطنى هو علوم الأئمة عليهم السلام، ويقولون: إن الجامع بين المعنيين هو الانتفاع بكل منهما وبمثل هذا يوفقون بين المعانى الظاهرة والباطنة، حتى لا يكون مستبعداً إرادة الله لمعنى خاص بحسب ما يدل عليه ظاهر اللفظ، وإرادته لمعنى آخر بحسب ما يدل عليه باطن الأمر.
* *
* حملهم الناس على التسليم بما يدَّعون من المعانى الباطنة للقرآن:
وكأنِّى بالإمامية الإثنا عشرية بعد أن ربطوا بين ظاهر القرآن وباطنه، وجمعوا بينهما بجامع التناسب والتشابه.. كأنَّى بهم يعتقدون أن مثل هذا الربط لا يكفى فى حمل الناس على أن يذهبوا مذهبهم هذا، فحاولوا أن يحملوهم عليه من ناحية العقيدة والإرهاب الدينى، الذى يشبه الإرهاب الكَنَسى للعامة فى العصور المظلمة، من حمل الناس على ما يوحون به إليهم بعد أن حظروا عليهم إعمال العقل، وحالوا بينهم وبين حريتهم الفكرية، فقالوا: إن الإنسان يجب عليه أن يؤمن بظاهر القرآن وباطنه على السواء، كما يجب عليه أن يؤمن بمحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ولا بد أن يكون ذلك على سبيل التفصيل إن وصل إليه علم ذلك مفصَّلاً عن آل البيت، ويكفى فيه الإجمال إن لم يصل إليه التفصيل. قالوا: ولا يجوز أن ينكر الباطن بحال، وعليه أن يُسَلِّمْ بكل ما وصل إليه من ذلك عن طريق آل البيت وإن لم يفهم معناه، ولو أن إنساناً آمن بالظاهر وأنكر الباطن لكفر بذلك، كما لو أنكر الظاهر وآمن بالباطن أو الظاهر والباطن جميعاً.
وحرصاً منهم على تعطيل عقول الناس ومنعهم من النظر الحر فى نصوص القرآن الكريم، قالوا: إن جميع معانى القرآن، سواء منها ما يتعلق بالظاهر وما يتعلق بالباطن،
اختص بها النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده، فهم الذين عندهم علم الكتاب كله، لأن القرآن نزل فى بيتهم "وأهل البيت أدرى بما فى البيت". أما مَن عداهم من الناس فلا يرون أدنى شبهة فى قصور علمهم، وعدم إدراكه لكثير من معانى القرآن الظاهرة، فضلاً عن معانيه الباطنة، قالوا: ولهذا لا يجوز لإنسان أن يقول فى القرآن إلا بما وصل إليه من طريقهم، غاية الأمر أنهم جوَّزوا لمن أخلص حبه وانقياده لله ولرسوله ولأهل البيت، واستمد علومه من أهل البيت حتى آنس من نفسه العلم والمعرفة.. جوَّزوا لمثل هذا أن يستنبط من القرآن ما يتيسر له، لأنه بحبه لآل البيت وأخذه عنهم صار كأنه منهم، وقد قيل:"سلمان منا آل البيت".
* * *
* أثر التفسير الباطنى فى تلاعبهم بنصوص القرآن:
ولقد كان من نتائج هذا التفسير الباطنى للقرآن أن وجد القائلون به أمام أفكارهم مضطرباً بالغاً ومجالاً رحباً، يتسع لكل ما يشاؤه الهوى وتزينه لهم العقيدة، فأخذوا يتصرَّفون فى القرآن كما يحبون، وعلى أى وجه يشتهون، بعد ما ظنوا أن العامة قد انخدعت بأوهامهم وسلَّموا بأفكارهم ومبادئهم.
فقالوا - مثلاً - إنَّ من لطف الله تعالى أن يشير بواسطة المعانى الباطنة لبعض الآيات إلى ما سيحدث فى المستقبل من حوادث، ويعدون هذا من وجوه إعجازه، ثم يُفرِّعون على هذه القاعدة ما يشاؤه لهم الهوى، وما يزينه فى أعينهم داعى العقيدة وسلطانها، فيقولون مثلاً فى قوله تعالى فى الآية [19] من سورة الانشقاق:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} : إنه إشارة إلى أن هذه الأُمة ستسلك سبيل مَن كان قبلها من الأُمم فى الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء.
كذلك مكَّن لهم القول بباطن القرآن من أن يقولوا: إن اللَّفظ الذى يراد به العموم ظاهراً، كثيراً ما يراد به الخصوص بحسب المعنى الباطن، فمثلاً لفظ "الكافرون" الذى يُراد به العموم، يقولون: هو فى الباطن مخصوص بمن كفر بولاية علىّ.
كما مكَّنهم أيضاً من أن يصرفوا الخطاب الذى هو موجَّه فى الظاهر إلى الأُمم السابقة أو إلى أفراد منها، إلى مَن يصدق عليه الخطاب فى نظرهم من هذه الأُمة بحسب الباطن، فمثلاً قوله تعالى فى الآية [159] من سورة الأعراف:{وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .. يقولون فيه: قوم موسى فى الباطن هم أهل الإسلام.
ولقد مكَّنهم أيضاً من أن يتركوا أحياناً المعنى الظاهر ويقولوا بالباطن وحده، كما فى قوله تعالى فى الآيتين [74-75] من سورة الإسراء: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا
نَصِيراً} .. فالظاهر غير مراد عندهم، ويقولون: عنى بذلك غير النبى، لأن مثل هذا لا يليق أن يكون موجهاً للنبى عليه الصلاة والسلام، وإنما هو معنى به من قد مضى، أو هو من باب:"إياكِ أعنى واسمعى يا جارة".
كذلك مكَّنهم هذا المبدأ من إرجاع الضمير إلى ما لم يسبق له ذكر، كما فى قوله تعالى فى الآية [15] من سورة يونس:{قَالَ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} .. حيث يفسرون "أو بَدِّلُه" بمعنى أو بدِّل علياً. ومعلوم أن علياً لم يسبق له ذكر، ولم يكن الكلام مسوقاً فى شأن خلافته وولايته.
ومما ساغ لهم أن يقولوه بعد تقريرهم لمبدأ القول بالباطن: أن تأويل الآيات القرآنية لا يجرى على أهل زمان واحد، بل عندهم أن كل فقرة من فقرات القرآن لها تأويل يجرى فى كل آن، وعلى أهل كل زمان، فمعانى القرآن على هذا متجددة. حسب تجدد الأزمنة وما يكون فيها من حوادث. بل وساغ لهم ما هو أكثر من ذلك فقالوا: إن الآية الواحدة لها تأويلات كثيرة مختلفة متناقضة، وقالوا: إن الآية الواحدة يجوز أن يكون أولها فى شئ وآخرها فى شئ آخر.. ولا شك أن باب التأويل الباطنى باب واسع يمكن لكل مَن ولجه أن يصل منه إلى كل ما يدور بخلده ويجيش بخاطره.
وليس لقائل أن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرَّح بأن للقرآن باطناً، وأن المفسِّرين جميعاً يعترفون بذلك ويقولون به، فكيف توجه اللوم إلى الإمامية وحدهم؟ ليس لقائل أن يقول ذلك، لأن الباطن الذى أشار إليه الحديث وقال به جمهور المفسِّرين، هو عبارة عن التأويل الذى يحتمله اللفظ القرآنى، ويمكن أن يكون من مدلولاته. أما الباطن الذى يقول به الشيعة فشئ يتفق مع أذواقهم ومشاربهم، وليس فى اللفظ القرآنى الكريم ما يدل عليه ولو بالإشارة.
* *
* مخلصهم من تناقض أقوالهم فى التفسير:
ثم إن الإمامية الإثنا عشرية، أحسوا بخطر موقفهم وتحرجه عندما جوَّزوا أن يكون للآية الواحدة أكثر من تفسير واحد مع التناقض والاختلاف بين هذه التفاسير. فأخذوا يموِّهون على العامة ويضللونهم، فقرروا من المبادئ ما أوجبوا الاعتقاد به أولاً على الناس ليصلوا بعد ذلك إلى مخلص يتخلصون به من هذا المأزق الحرج، فكان من هذه المبادئ التى قرروها وأوجبوا الاعتقاد بها ما يأتى:
أولاً: أن الإمام مفوَّض من قِبَلِ الله فى تفسير