الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - أسباب سقوط العذاب في الآخرة
- فقه التكليف:
الله عز وجل هو الملك الغني، الذي له الغنى التام من كل وجه، والخلق كلهم فقراء إليه من كل وجه.
فهم فقراء إلى ربهم في خلقهم .. وبقائهم .. وإمدادهم .. وهدايتهم.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر:15].
وحين يكلف الله عباده بالدين فذلك من أجل تحصيل مصالح يعود نفعها كله إليهم، فالله غني لا تنفعه طاعات الطائعين، ولا تضره معاصي العاصين، كما قال سبحانه:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)}
…
[العنكبوت: 6].
وحاجة العباد إلى دين الله فوق كل حاجة، فلا صلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان بالله، والعمل بشرعه.
وقد خلق الله الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له.
ومن أجل تحقيق هذه العبودية أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وهذا التوحيد يقتضي من الخلق حقوقاً كثيرة يجمعها أمران هما:
فعل الأوامر .. واجتناب النواهي.
وقد حث الله عباده المؤمنين على القيام بهذه الحقوق، ورغبهم سبحانه في امتثالها، وحذرهم من مخالفتها بأساليب شتى، أظهرها وأشهرها أسلوب الوعد والوعيد.
فالوعد نوعان:
الأول: وعد بخير الدنيا، كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55].
الثاني: وعد بخير الآخرة، كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
والوعيد نوعان:
الأول: وعيد بشر الدنيا، كما قال سبحانه:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
…
[التوبة: 39].
الثاني: وعيد بشر الآخرة، كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68].
موانع إنفاذ الوعيد
موانع إنفاذ الوعيد متعددة، ويمكن حصرها في ثمانية موانع.
ويمكن تقسيمها باعتبار مصدرها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: موانع من المذنب نفسه، وهي:
التوبة .. والاستغفار .. والحسنات الماحية.
الثاني: موانع من إخوانه المؤمنين، وهي:
دعاء المؤمنين .. إهداء القربات .. الشفاعة.
الثالث: موانع من الله عز وجل، وهي:
العفو الإلهي .. والمصائب المكفرة.
وهذا تفصيل الموانع بالأدلة الشرعية:
الأول: الموانع التي من العبد نفسه:
1 -
مانع التوبة:
التوبة مانع شامل يمنع من إنفاذ وعيد جميع الذنوب، الكفر فما دونه من المعاصي.
وهذا الشمول مختص بهذا المانع، فليس شيء يغفر الله به جميع الذنوب إلا التوبة النصوح.
1 -
قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].
2 -
وقال الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39].
3 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . أخرجه مسلم (1).
2 -
مانع الاستغفار:
1 -
الاستغفار مانع من إنفاذ الوعيد على كل ذنب دون الكفر.
1 -
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].
2 -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . أخرجه مسلم (2).
2 -
الاستغفار لا يمكن أن يمنع إنفاذ وعيد الكفر لمن مات عليه.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
3 -
الاستغفار لعموم المؤمنين مشروع مأمور به، حتى أهل الكبائر؛ لأن المغفرة ترجى لهم.
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64].
(1) أخرجه مسلم برقم (2759).
(2)
أخرجه مسلم برقم (2749).
4 -
الاستغفار سبب مقتضٍ للمغفرة، وقد يقترن به ما يقوي اقتضاءه من حيث صيغة الاستغفار، والمداومة عليه، وهيئة العبد، وحضور القلب وانكساره، وموافقة وقت الإجابة.
2 -
مانع الحسنات الماحية:
1 -
الحسنات الماحية: هي الطاعات المقبولة عند الله عز وجل، وهي كل ما ندب الله إليه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال والأخلاق.
2 -
فعل الحسنات يمكن أن يمنع إنفاذ وعيد السيئات في الدنيا والآخرة.
وفعل الحسنات يقوم على ركنين، هما: الإيمان، والعمل الصالح.
1 -
قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].
2 -
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ شَهِدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ» . أخرجه مسلم (1).
3 -
الإيمان على درجتين: كامل .. وناقص.
فالإيمان الكامل مانع من دخول النار أصلاً.
والإيمان الناقص مانع من وعيد الخلود في النار دون الدخول فيها.
قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 71 - 72].
4 -
شهادة التوحيد سبب لدخول الجنة والنجاة من النار.
(1) أخرجه مسلم برقم (29).
ولحصول هذا الأثر لا بد من أمرين:
تحقق الشروط .. وانتفاء الموانع.
1 -
فلحصول الأثر بسبب كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لا بد من سبعة شروط:
العلم بمدلول شهادة التوحيد .. واليقين عليها .. والصدق في قولها .. والإخلاص لله .. والمحبة لها .. والقبول لها .. والانقياد لحقوقها بالإيمان والعمل الصالح.
2 -
ولا بد كذلك من زوال المانع ليحصل أثرها.
فأنواع الكفر كالشرك الأكبر، والنفاق الأكبر، وكراهية الدين أو شيء منه ونحو ذلك، فكل هذه موانع تمنع من حصول أثرها.
1 -
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].
2 -
وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].
3 -
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 8 - 9].
فالإيمان سبب مقتض لدخول الجنة إذا تمت شروطه، وانتفت موانعه.
5 -
العمل الصالح يمكن أن يمنع اقتضاء أثر الوعيد على فعل السيئات.
قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].
ولا يقوى العمل الصالح على منع وعيد الكفر؛ لأن الكفر محبط لجميع
الأعمال.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].
6 -
الطاعات العظيمة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والعتق والصدقات ونحوها تكفر الكبائر والصغائر.
1 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْراً بِبَابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» . قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قال: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا» . متفق عليه (1).
2 -
وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» . متفق عليه (2).
3 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ للهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . متفق عليه (3).
7 -
الإيمان الخالص مع العمل الصالح ولو كان يسيراً يكفر جميع الذنوب.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْراً فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقال: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأ خُفَّهُ ثُمَّ أمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» . قالوا: يَا رَسُولَ
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528) ، ومسلم برقم (667)، واللفظ له.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (38) ، واللفظ له، ومسلم برقم (759).
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1521) ، واللفظ له، ومسلم برقم (1350).
اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أجْراً؟ قال:«فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ» . متفق عليه (1).
- ضوابط إحباط العمل:
إحباط العمل قسمان هما:
إحباط كلي .. وإحباط جزئي.
1 -
الإحباط الكلي نوعان:
الأول: إحباط جميع الحسنات.
وهذا لا يكون إلا بسيئة واحدة، وهي الردة عن الإسلام إذا مات الإنسان على ذلك.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].
الثاني: إحباط جميع السيئات.
وهذا لا يكون إلا بحسنة واحدة، وهي حسنة التوبة النصوح.
قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].
2 -
الإحباط الجزئي، وهو نوعان:
الأول: إحباط بعض الحسنات ببعض السيئات، كإحباط الصدقة بالمن والأذى.
1 -
…
[البقرة: 264].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2363) ، واللفظ له، ومسلم برقم (2244).
2 -
…
[الحجرات: 2].
الثاني: إحباط بعض السيئات ببعض الحسنات.
قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].
فهذه الموانع الثلاثة (التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية) من العبد نفسه.
الثاني: الموانع التي من إخوانه المؤمنين:
1 -
مانع الدعاء:
1 -
يسن للمؤمن الدعاء لإخوانه المؤمنين بالمغفرة والرحمة، وهذا يدل قطعاً على انتفاع المدعو له بدعاء إخوانه المؤمنين، واستغفارهم له.
1 -
قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19].
2 -
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].
3 -
وَعَنْ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا
كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ، وَأهْلا خَيْراً
مِنْ أهْلِهِ وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وَأدْخِلْهُ الجَنَّةَ وَأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ (أوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ»). قال: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أنْ أكُونَ أنَا ذَلِكَ المَيِّتَ. أخرجه مسلم (1).
2 -
الدعاء بالمغفرة والرحمة لا يجوز لمن لقي الله كافراً، ولا يمنع إنفاذ وعيد الله فيه، ولا أثر له البتة.
1 -
قال الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)} [المنافقون: 6].
2 -
وقال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} [التوبة: 80].
3 -
وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113].
3 -
الدعاء لأهل الكبائر بالمغفرة والرحمة من جملة الأمور التي يمكن أن تمنع إنفاذ الوعيد الذي استحقوه على فعل السيئات.
1 -
…
[النساء: 48].
2 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أمَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ، إِلا شُفِّعُوا فِيهِ» . أخرجه مسلم (2).
2 -
مانع إهداء القربات:
القربات الشرعية: هي كل ما يُقرِّب العبد من رضى الله ومحبته.
(1) أخرجه مسلم برقم (963).
(2)
أخرجه مسلم برقم (947).
1 -
الثواب والعقاب مبني على عمل الإنسان من خير وشر، وعلى ما هو من آثار عمله.
فأما ترتب جزاء الإنسان على عمله فكما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160].
وأما ترتب الجزاء على آثار العمل، وهي الأعمال التي خلَّفها الإنسان من بعده، فيجازى بها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
1 -
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس: 12].
2 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» . أخرجه مسلم (1).
3 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . أخرجه مسلم (2).
2 -
الإنسان ليس له إلا سعيه، فلا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه. كما قال سبحانه:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [النجم: 39 - 41].
أما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
(2)
أخرجه مسلم برقم (1631).
بسعي غيره وعمله، كما أنه سبحانه يرحم عباده بأسباب أخرى.
والانتفاع بعمل الغير له حالتان:
الأولى: الانتفاع بنفس العمل، بأن يكون كأنه الذي قام بنفس العمل.
1 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنَّ امْرَأةً أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَقَالَ:«أرَأيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، أكُنْتِ تَقْضِينَهُ؟» . قَالَتْ: نَعَمْ، قال:«فَدَيْنُ اللهِ أحَقُّ بِالقَضَاءِ» . متفق عليه (1).
2 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أتَتْهُ امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، قال: فَقَالَ: «وَجَبَ أجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ المِيرَاثُ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أفَأصُومُ عَنْهَا؟ قال:«صُومِي عَنْهَا» . قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أفَأحُجُّ عَنْهَا؟ قال:«حُجِّي عَنْهَا» . أخرجه مسلم (2).
الثانية: الانتفاع بأثر العمل.
1 -
الدعاء بالمغفرة وغيرها ينتفع العبد بأثره لا بثوابه.
أما نفس الدعاء وثوابه فللداعي؛ لأنه شفاعة، أجرها للشافع، ومقصودها للمشفوع له.
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أوْ بِعُسْفَانَ، فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ! انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ، قال: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ هُمْ أرْبَعُونَ؟ قال: نَعَمْ، قال: أخْرِجُوهُ،
فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1953) ، ومسلم برقم (1148)، واللفظ له.
(2)
أخرجه مسلم برقم (1149).
جَنَازَتِهِ أرْبَعُونَ رَجُلا، لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً إِلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ». أخرجه مسلم (1).
2 -
إهداء القربات يكون من المسلم الحي إلى المسلم الميت؛ لأنه أحوج من الحي، والدعاء للميت بالمغفرة والرحمة أفضل من إهداء القربات له؛ لأن الانتفاع بالدعاء متفق عليه، وإهداء القربات متفق على أصله.
وإهداء القربات لا يمكن أن يمنع إنفاذ وعيد الكفر؛ لأن الكافر لا يمكن أن ينتفع بما يهدى إليه من قربات؛ لفقده شرط الإيمان.
فوعيد كل من لقي الله كافراً لا يمكن أن يغفر، لا بسبب منه، ولا بسبب من العباد، ولا بمحض المشيئة.
…
[النساء: 48].
- أنواع القربات:
القربات التي تكفر الصغائر والكبائر نوعان:
قربات علمية .. وقربات عملية.
1 -
القربات العلمية كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكل ما يتعين على العبد أن يفعله بنفسه كالوضوء والصلاة ونحوها.
فهذه لا يمكن إهداء ثوابها البتة؛ لأنها لا تقبل النيابة مطلقاً.
2 -
القربات العملية، وهي ثلاثة أنواع:
1 -
قربات بدنية محضة كالصوم.
2 -
قربات مالية محضة كالصدقة والعتق ونحوهما.
(1) أخرجه مسلم برقم (948).
3 -
قربات مركبة منهما كالحج ونحوه.
فهذه الأنواع الثلاثة يجوز إهداء ثوابها للميت، ويصله ثوابها، وينتفع بذلك.
1 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . متفق عليه (1).
2 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أتَتْهُ امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، قال: فَقَالَ: «وَجَبَ أجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ المِيرَاثُ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أفَأصُومُ عَنْهَا؟ قال:«صُومِي عَنْهَا» . قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أفَأحُجُّ عَنْهَا؟ قال:«حُجِّي عَنْهَا» . أخرجه مسلم (2).
ومغفرة ما دون الكفر قد تكون بسبب من العبد كالاستغفار .. وقد تكون بسبب من الخلق كإهداء ثواب بعض الأعمال .. وقد تكون بمحض مشيئة الله.
3 -
مانع الشفاعة:
الشفاعة: هي طلب حصول الخير للغير.
والشفاعة من حيث المشفوع عنده نوعان:
شفاعة عند الله .. وشفاعة عند الناس.
1 -
الشفاعة عند الله نوعان:
1 -
شفاعة في الدنيا كشفاعة المؤمنين للميت بالصلاة عليه.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1952) ، ومسلم برقم (1147)، واللفظ له.
(2)
أخرجه مسلم برقم (1149).
2 -
شفاعة في الآخرة كشفاعة الأنبياء والمؤمنين يوم القيامة.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِىٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى يَوْمَ القِيَامَةِ فَهِىَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً» . متفق عليه (1).
2 -
الشفاعة عند الناس، وهي شفاعات الناس بعضهم لبعض فيما ينوبهم من الأمور.
1 -
قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)} [النساء: 85].
2 -
وَعَنْ أبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، قَالَ:«اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ» . متفق عليه (2).
- أقسام الشفاعة:
الشفاعة من حيث حصولها نوعان:
شفاعة منفية .. وشفاعة مثبتة.
1 -
الشفاعة المنفية نوعان:
الأول: الشفاعة في أهل الشرك الذين ماتوا عليه، فهؤلاء لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}
…
[المدثر: 48].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6304) ، ومسلم برقم (199)، واللفظ له.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1432) ، واللفظ له، ومسلم برقم (2627).
ويستثنى من هذا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويحميه.
عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِالمُطَّلِبِ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَفَعْتَ أبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قال:«نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلا أنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ» . متفق عليه (1).
الثاني: الشفاعة الشركية، وهي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك لمعبوداتهم، يعتقدون أنها تشفع لهم عند الله، وهذا كله باطل.
قال الله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} [الزخرف: 86].
2 -
الشفاعة المثبتة، وهي ثلاثة أنواع:
الأول: الشفاعة العظمى:
وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف ليفصل الله بينهم، وهي المقام المحمود له.
1 -
قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79].
2 -
وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -في حديث الشفاعة- وفيه أن بعض الناس يَقولُ: « .. ائْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونِي فَأسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ، فَيُقال: يَا مُحَمَّدُ،
ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ». متفق عليه (2).
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3883) ، ومسلم برقم (209)، واللفظ له.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3340) ، واللفظ له، ومسلم برقم (194).
الثاني: الشفاعة في أهل الجنة، وهي ثلاثة أنواع:
1 -
شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة ليدخلوها.
2 -
شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات أهل الجنة.
3 -
شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض المؤمنين ليدخلوا الجنة بلا حساب ولا عذاب.
الثالث: الشفاعة لأهل الكبائر، وهي نوعان:
1 -
شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن استحق النار من أهل الكبائر أن لا يدخلها.
2 -
شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أهل الكبائر أن يخرج منها.
عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَاهَا لأُمَّتِهِ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» . أخرجه مسلم (1).
- أحوال المشفوع له:
الشفاعة يمكن أن تمنع انفاذ الوعيد على ما دون الكفر، ولا تمنع إنفاذ وعيد الكفر؛ لأنه يستحيل قبولها فيمن لقي الله مشركاً، فالشفاعة خاصة بأهل التوحيد.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقال: «لَقَدْ ظَنَنْتُ، يَا أبَا هُرَيْرَةَ، أنْ لا يَسْألَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أحَدٌ أوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أسْعَدُ النَّاسِ
بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قال: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، خَالِصاً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ». أخرجه البخاري (2).
(1) أخرجه مسلم برقم (200).
(2)
أخرجه البخاري برقم (6570).
- شروط الشفاعة النافعة عند الله:
الشفاعة النافعة هي التي تحقق فيها ثلاثة شروط:
الأول: إذن الله في الشفاعة.
الثاني: رضاه عن المشفوع له.
الثالث: رضاه عن الشافع.
1 -
قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} [طه: 109].
2 -
وقال الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}
…
[النجم: 26].
فهذه الموانع الثلاثة (دعاء المؤمنين، وإهداء القربات، والشفاعة) هي التي من الخلق.
الثالث: الموانع التي من الله عز وجل:
المصائب المكفرة .. والعفو الإلهي.
1 -
مانع المصائب المكفرة:
المصائب: هي كل ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس، أو مال، أو أهل.
والمصائب مكفرات للذنوب، والثواب إنما يحصل للعبد إذا صبر عليها؛ لأن المصائب ليست من فعل العبد، وإنما هي من فعل الله بالعبد، فإذا صبر
عليها نال ثواب الصبر.
1 -
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا
كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}
…
[التوبة: 120].
2 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَاّ رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» . أخرجه مسلم (1).
3 -
وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذىً وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . متفق عليه (2).
- أقسام المصائب القدرية:
المصائب القدرية تنقسم من حيث المكان الذي تقع فيه إلى ثلاثة أقسام:
الأول: مصائب في الدنيا كالأمراض، والخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس والثمرات.
الثاني: آلام في البرزخ، وهي ما يكون في القبر من الفتنة، والضغطة، والروعة.
الثالث: آلام في الآخرة، وهي ما يكون في عرصات القيامة من الأهوال والكرب والشدائد.
فالمصائب الدنيوية أخفها، والبرزخية أشد منها، والأخروية أشدها
وأعظمها.
وجميع الآلام التي تحصل للعبد بسببها هي مما يكفِّر الله بها الخطايا التي تحصل من العبد.
(1) أخرجه مسلم برقم (2572).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641) ، واللفظ له، ومسلم برقم (2573).
- أقسام الآلام الشرعية:
تنقسم الآلام الشرعية إلى ثلاثة أقسام:
القصاص .. والحدود .. والتعزيرات.
وهي زواجر وجوابر معاً، فهي زواجر للعباد عن ارتكاب المحظورات، وترك المأمورات.
1 -
قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179].
2 -
…
[النور: 2].
وهي كذلك جوابر، فالعقاب عليها مكفر للذنب.
عَنْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً، وَهُوَ أحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أيْدِيكُمْ وَأرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إلَى اللهِ، إنْ شَاءَ عَفَا
عَنْهُ وَإنْ شَاءَ عَاقَبَهُ». بَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك. متفق عليه (1).
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (18) ، واللفظ له، ومسلم برقم (1709).
- ما تكفره المصائب:
المصائب يمكن أن تمنع إنفاذ الوعيد في الآخرة على كل ما دون الكفر، لكنها لا تمنع إنفاذ وعيد الكفر؛ لأن من لقي الله كافراً فيستحيل أن يتخلف وعيده.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
2 -
العفو الإلهي:
وهو صفح الرب عن ذنوب العبد، وترك مجازاة المسيء.
والله عز وجل عفو غفور يتجاوز عما يستحقه المذنبون من العقاب.
1 -
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى: 25].
2 -
وقال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} [الحج: 60].
1 -
العفو الإلهي مانع من موانع إنفاذ الوعيد في الآخرة على الكبائر والصغائر، ولا يمكن أن يمنع إنفاذ وعيد الكفر قطعاً، فالله أخبر عن نفسه أنه لا يغفر لمن لقيه كافراً أو مشركاً.
1 -
قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ
الْعِقَابِ (6)}
…
[الرعد 6].
2 -
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
3 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأى فِي نَفْسِهِ أنَّهُ هَلَكَ، قال: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأنَا أغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}» . متفق عليه (1).
2 -
كل ما وقع فيه بعض المسلمين من الذنوب بسبب من اليهود أو النصارى أو غيرهم، فالله يغفر لهؤلاء الضحايا بتوبة منهم أو غيرها، وتوضع أوزارهم على من أضلهم.
1 -
قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 25].
2 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ المُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الجِبَالِ فَيَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى» . أخرجه مسلم (2).
3 -
العقوبات الشرعية في الآخرة نوعان:
الأول: عقوبة تُسْتَحق على طريق الدوام والأبد، وهي عقوبة الكفار والمشركين.
1 -
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2441) ، واللفظ له، ومسلم برقم (2768).
(2)
أخرجه مسلم برقم (2767).
2 -
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)}
…
[الأحزاب: 64 - 65].
الثاني: عقوبة تُسْتَحق على طريق الانقطاع، وهي عقوبة العصاة والفساق من المسلمين.
وهؤلاء تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم بقدر جرمهم، ثم أخرجهم من النار.
1 -
قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 71، 72].
4 -
جميع أهل التوحيد الواقعين في كبائر الذنوب من أهل الجنة إما حالاً، وإما مآلاً، فلا يخلد أحد من أهل التوحيد في النار.
وأهل الكبائر لا يعذبون كلهم، ولا يُغفر لهم كلهم، بل بعضهم يدخل الجنة ابتداء من غير عقوبة، وبعضهم يدخلون النار، فإذا تطهروا من ذنوبهم أُدخلوا الجنة بشفاعة الشافعين، أو بعفو أرحم الراحمين.
وقد قسم الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أقسام:
ظالم لنفسه .. ومقتصد .. وسابق بالخيرات.
ثم وعد الجميع بدخول الجنة.
1 -
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر: 32 - 33].
2 -
وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «أتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام، فَبَشَّرَنِي أنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قال: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ» . أخرجه مسلم (1).
5 -
كل من لقي الله من أهل التوحيد مصراً غير تائب من الكبائر التي استوجب بها العقوبة، فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه .. وإن شاء غفر له.
والله حكيم عليم لا يضع الثواب والعقاب إلا في محلهما اللائق بهما.
قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)} [التوبة: 106].
6 -
نصوص الوعيد يقال بموجبها على الإطلاق والعموم دون أن يعين الشخص، فيقال: من فعل كذا فهو متوعَّد بكذا، ولا يعيَّن الشخص فيقال مثلاً: هذا في النار، أو هذا ملعون، أو هذا مغضوب عليه.
وذلك للأسباب الآتية:
إمكان أن يتوب المذنب فيتوب الله عليه .. أو يستغفر الله فيغفر الله له .. أو تكون له حسنات تمحو سيئاته .. أو تُقبل فيه شفاعة مسلم .. أو يُبتلى بما يكفِّر عنه سيئاته .. أو يتجاوز الله عنه.
فلا نلعن المعين ما دام حياً، سواء كان مسلماً أو كافراً؛ لاحتمال تخلف شرط الوعيد، أو وجود مانعه.
ويجوز لعن من مات على الكفر.
1 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ الخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا
(1) أخرجه مسلم برقم (94).
وَالمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ». أخرجه أبو داود وابن ماجه (1).
2 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَاراً، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأتِيَ بِهِ يَوْماً فَأمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فقال رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللهُمَّ العَنْهُ، مَا أكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ» . أخرجه البخاري (2).
ففي الحديث الأول لعن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم شارب الخمر على وجه العموم، وفي الثاني نهى عن لعن مدمن الخمر المعين، لقيام مانع من موانع إنفاذ الوعيد وهو حبه لله ورسوله .. وهكذا.
- فضل الله على العباد:
1 -
الله عز وجل عفو كريم يحب العفو والإحسان والمغفرة.
ولذلك فتح سبحانه باب التوبة أمام جميع المذنبين، ووعدهم بقبول التوبة منهم كما قال سبحانه:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)} [الزمر: 53 - 54].
وحث سبحانه عباده المؤمنين على الاستغفار، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم كما
قال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
…
[المزمل: 20].
2 -
جعل الله سبحانه لسيئات المؤمنين ما يوجب تكفيرها وإن لم يحصل من العبد توبة أو استغفار.
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3674) ، وهذا لفظه، وأخرجه ابن ماجه برقم (3380).
(2)
أخرجه البخاري برقم (6780).
وهذه المكفرات على نوعين:
الأول: نوع من كسب العبد، وهي الحسنات.
…
[هود: 114].
الثاني: نوع من غير كسب العبد، وهي المصائب.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إِلَاّ كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» . أخرجه مسلم (1).
3 -
لم يَحْرم الله العبد من الأجر بعد وفاته، بل فتح له الكريم بعد الموت أبواباً متعددة من الخير.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . أخرجه مسلم (2).
4 -
تفضل سبحانه بقبول الشفاعة في المذنبين في الدنيا والآخرة، بل يعفو عن المذنبين بفضله من غير سبب من العباد.
1 -
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
2 -
وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)}
…
[الشورى: 25].
(1) أخرجه مسلم برقم (2572).
(2)
أخرجه مسلم برقم (1631).