الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - فقه الاصطفاء والاختيار
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران: 33].
وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج: 75].
وقال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68].
الله تبارك وتعالى خلق الخلق، وجعل لكل منهم كمالاً يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه، فإن عدم ذلك انتقل إلى ما دونه وهكذا.
حتى إذا عدم كل فضيلة صار كالشوك والحطب الذي لا يصلح إلا للوقود.
كالفرس إذا كمل أعد لمركب الملوك، وأكرم إكرام مثله.
فإن نقص قليلاً أعد لمن دون الملك، فإن نزل أعد لآحاد الأجناد، فإن تقاصر استعمل استعمال الحمار إما حول المدار، وإما لنقل الزبل، فإذا عدم ذلك استعمل استعمال الأغنام للذبح والإعدام، وهكذا الآدمي:
خلقه الله عز وجل ضعيفا ًجهولاً.
فإذا كمل وبلغ كماله ذروته صار صالحاً لاصطفاء الله له، فاتخذه رسولاً ونبياً فـ:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
فإن كان جوهره قاصراً عن هذه الدرجة صالحاً لخلافة النبوة رشحه لذلك وبلغه إياه، فإن كان قاصراً عن ذلك قابلاً لدرجة الولاية رشح لها، وإن كان ممن يصلح للعبادة والعمل دون المعرفة والعلم جعل من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين.
فإن نقص عن هذه الدرجة ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير أصلاً استعمل
حطباً ووقوداً للنار والعياذ بالله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36].
والله عز وجل أكرم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واجتباها واصطفاها، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأمور:
فجعلهم الله أمة وسطاً .. وجعلهم شهداء على الناس .. واختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها وهي الكعبة .. واختار لهم سيد الأنبياء وأفضلهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم .. واختار لهم خير الأديان وهو الإسلام .. وأنزل عليهم خير الكتب وأحسنها وهو القرآن .. وأعطاهم وظيفة الأنبياء إلى يوم القيامة .. وهي الدعوة إلى الله.
والله عز وجل لا يستخدم لدينه والدعوة إليه إلا من يقدم نفسه، فمن علم الله منه الرغبة والطلب الصادق والتضحية استخدمه الله لدينه، وجعله سبباً لهداية الناس.
والعامل إنما يستخدمه صاحب العمل إذا قدم نفسه، أما المعرض فإنه لا يستخدم؛ لأنه ليس عنده الطلب.
والله عز وجل أعطى كل إنسان طاقات، وأمره أن يستخدمها للدين، فيجب أن نستخدم البدن لقضاء طلبات الدين، وهكذا.
وهذه الثلاثة (البدن والفكر والدعاء) استعملت الآن لقضاء طلبات الدنيا وعمارتها وتكميلها.
والله تبارك وتعالى يصطفي من خلقه ما يشاء، فاصطفى من الملائكة رسلاً، واصطفى للنبوة والرسالة من شاء من البشر، وهو أعلم حيث يجعل رسالته كما قال سبحانه:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج: 75].
وبعد الاجتباء والاختيار والاصطفاء يربيهم الله ويبتليهم، ثم يبعثهم إلى الناس بالدين الحق.
فموسى صلى الله عليه وسلم اصطنعه الله لنفسه، واصطفاه على الناس بالرسالة والتكليم، ورباه على الإيمان والتوحيد، ثم أرسله إلى فرعون، ولكن تلقى قبل ذلك ثلاثة أنواع من التربية وهي:
التربية البدنية .. والتربية الأخلاقية .. والتربية الإيمانية.
فموسى صلى الله عليه وسلم رباه الله في قصر فرعون، وعاش حياة القصور، ورأى الإسراف في ألوان الطعام، وتعلم هناك التربية البدنية، ولذا لما ضرب القبطي ضربة قتله كما قال سبحانه:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)} [القصص: 15].
وفقأ عين ملك الموت، ورفع الصخرة عن البئر وحده في مدين.
وفي مدين رباه الله على حسن الأخلاق مع البهائم، ليتدرب على حسن الأخلاق مع الناس، فرعى الغنم عشر سنوات في مدين، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وفي ذلك حكمة بالغة:
فمزاج الغنم الانتشار لتحصيل المنافع، وكذلك الداعي مزاجه الانتشار لنشر الهداية، ومزاج الراعي جمع الغنم على الماء والكلأ، ومزاج الداعي جميع الأمة على الدين والهدى.
ومزاج الراعي الصبر على الغنم، والشفقة عليها، والرفق بها، ورحمتها والعناية بها، وكذلك الداعي مزاجه الصبر على الأذى من الناس، والشفقة عليهم من عذاب الله، ورحمتهم والإحسان إليهم.
والراعي يورد الغنم أماكن الماء والعشب والكلأ، ويجنبها ما يتعبها ويشق عليها، وكذا الداعي مزاجه السير بالأمة في سبل النجاة والهدى، وإبعادها عن مواطن الهلكة والردى.
والبيئة مؤثرة، فالذي يرعى الإبل تأتي فيه صفة الكبر، والذي يرعى الغنم تأتي فيه صفة التواضع، لذلك الذي يكون في المسجد تأتي فيه صفة الملائكة الذين:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].
ومزاج الراعي أنه يعيش جل وقته في خدمة الغنم وحفظها، وبذل المنافع لها، وكذلك الداعي يعيش كل وقته من أجل هداية البشر إلى الصراط المستقيم:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
وفي طور سيناء علم الله موسى التربية الإيمانية بقسميها النظري والعملي.
فالنظري كما كلم الله موسى صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، وبين الله له أنه الإله الذي لا إله غيره، وأمره بعبادته وطاعته، وأن الناس راجعون إلى ربهم، وسيحاسبهم على ما عملوا يوم القيامة، وحذره من ترك ما أمر به، ومن طاعة أهل الكفر والأهواء فقال سبحانه:{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} [طه: 12 - 16].
ثم علم الله موسى صلى الله عليه وسلم الإيمان عملياً فقال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)} [طه: 17،18].
فالله سبحانه أراد أن يعلم موسى صلى الله عليه وسلم معنى لا إله إلا الله عملياً، فأمره بإلقاء عصاه، فلما ألقاها جاءها أمر الله فوراً فتحولت بأمر الله إلى حية:{قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)} [طه: 19،20].
فأمره الله بإلقائها وهي نافعة، ثم أمره بأخذها وهي ضارة، تدريباً له على الإيمان وتمام الطاعة، ليعلم أن كل شيء بيد الله:{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه: 21].
وآية أخرى يراها تجري عملياً ليعلم بها قدرة الله في التصرف في الأشياء وتبديل أحوالها فوراً: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)} [طه: 22].
ولما عرف حقيقة الإيمان نظرياً وعملياً أرسله الله إلى فرعون يدعوه إلى الله فقال له ولأخيه هارون عليهما الصلاة السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43،44].
فماذا قال موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)} [طه: 45].
فقال الله لهما: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46].
فذهب موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون بهذا اليقين، ودعاه إلى الله:{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} [القصص: 39،40].
فأهلكه الله وأغرقه وقومه في البحر، وأنجى الله موسى وبني إسرائيل كما قال سبحانه:{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} [الشعراء: 65،66].
والله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68].
خلق سبحانه أكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وهو العرش، واختاره فاستوى عليه بأعظم صفة وأوسعها وهي الرحمة، فاستوى جل جلاله على أعظم المخلوقات بأوسع الصفات وهي الرحمة، كما قال سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5].
واختار قلب الإنسان ليكون محلاً لنظره سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (1).
فالعرش عظيم جداً، والقلب صغير جداً، فإذا كانت (لا إله إلا الله) في قلب
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).
الإنسان رجح بالسماوات والأرض، وصار ذلك القلب لائقاً بجلال الله، كما أن العرش لائق بجلال الله سبحانه لعظمته، وكماله، وخلوه من العيوب.
والله عز وجل يريد من عباده أن يزينوا قلوبهم بالإيمان، وأن تكون خالية من الشرك والعيوب، لتكون لائقة بنظر الله جل جلاله.
والله سبحانه ينظر إلى العمل الذي ينظف القلب، ويطهره من العيوب، ويمقت العمل الذي يلوث القلب ويفسده.
وقد أكرم الله هذه الأمة فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله.
وجميع الأمم السابقة هي الآن في القبور تنتظر مجيء هذه الأمة، ورحمة بهذه الأمة جعلها الله خير الأمم وآخر الأمم؛ لئلا يطول عليها زمن الانتظار، وجعلها تعمل قليلاً، وتؤجر كثيراً.
وكشف الله لهذه الأمة أعمال وفضائح وأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم؛ لتتعظ وتعتبر بمن خالف أمر الله، وتقتدي بمن أطاع الله ورسله.
وستر عيوب هذه الأمة عن الأمم السابقة.
فما أعظم احتفاء الله بهذه الأمة .. وما أشد عنايته بها .. ! فمتى تشكر هذا التشريف والإكرام؟
والله جل جلاله كما اصطفى المؤمنين على سائر البشر، كذلك اصطفى بيت آل إبراهيم على سائر البيوت.
فهذا البيت المبارك المطهر أشرف بيوت العالم على الإطلاق، فقد جعل الله فيهم النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبي إلا من أهل بيته، وجعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة.
فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم، واتخذ منهم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام.
وجعل سبحانه صاحب هذا البيت وبانيه إماماً للعالمين كما قال سبحانه:
{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124].
وأجرى جل جلاله على يديه بناء بيته العتيق، الذي جعله قياماً للناس، وقبلة لهم، وحجاً لهم إلى يوم القيامة، فكان ظهور هذا البيت وعمارته من أهل هذا البيت الأكرمين.
وأخرج سبحانه من أهل هذا البيت الأمتين العظيمتين، وهم أمة موسى صلى الله عليه وسلم وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمة محمد تمام سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله سبحانه، وأبقى عليهم لسان صدق وثناء في العالم، فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم، والصلاة والسلام عليهم.
وجعل سبحانه خلاص خلقه من شقاء الدنيا والآخرة على أيدي أهل هذا البيت، فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها، ولهم المنن الجسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة.
وسد سبحانه جميع الطرق بينه وبين العالمين فلم يفتح لأحد قط إلا من طريقهم وبابهم، وخصهم سبحانه بالعلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم من العالمين.
فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكامه وأفعاله، وثوابه وعقابه، وشرعه ومواقع رضاه وغضبه، ومخلوقاته وملائكته منهم.
فسبحان من جمع لهم علم الأولين والآخرين، وخصهم بالدعوة إلى توحيد الله ومحبته، ومكن لهم في الأرض، واستخلفهم بها، وأطاع لهم أهل الأرض ما لم يحصل لغيرهم.
وأيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائه بما لم يؤيد غيرهم.
ومحا بهم من آثار أهل الضلال والشرك والآثار التي يبغضها الله ويمقتها ما لم يمحه بسواهم.
وجعل عز وجل آثارهم سبباً لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقياً ما بقيت آثارهم في الأرض وشرائعهم.
وأظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت سواهم كما قال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54].
ومن بركات الله تبارك وتعالى عليهم:
أن أعطاهم ما لم يعط غيرهم .. فمنهم من اتخذه خليلاً كإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم ومنهم الذبيح كإسماعيل صلى الله عليه وسلم ومنهم الكليم كموسى صلى الله عليه وسلم ومنهم من آتاه شطر الحسن كيوسف صلى الله عليه وسلم ومنهم من آتاه ملكاً لم يؤته أحداً من العالمين كسليمان صلى الله عليه وسلم ومنهم من رفعه مكاناً علياً .. وفضلهم على العالمين .. ورفع الله العذاب العام عن أهل الأرض بهم وببعثتهم .. فأهلكت الأمم السابقة التي عصت بعذاب الاستئصال كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، فلما أنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن رفع الله بها العذاب العام عن أهل الأرض، وأمر بجهاد من خالفهم، وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والرسل، وجعل أمته خير الأمم، واختار منهم السابقين والأولين، واختار منهم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها.
واختار أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، ووهبهم من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها.
واختار سبحانه من الأماكن والبلاد والبقاع خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام، وجعل فيها بيته المبارك، ومسجده الحرام، وجعله حرماً آمناً، لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد، ولا يختلى خلاه، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، وسبباً لدخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» متفق عليه (1).
وجعل الله سبحانه الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، فهو أفضل بقاع
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1773) واللفظ له، ومسلم برقم (1349).
الأرض على الإطلاق، وهو في أم القرى، كما أن الفاتحة أم الكتاب.
والله سبحانه فضل بعض الأيام والليالي والشهور على بعض.
فخير الأيام عند الله يوم النحر يوم الحج الأكبر، وأفضل الليالي ليلة القدر، وأفضل الشهور شهر رمضان، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام.
والله تبارك وتعالى خلق جميع المخلوقات، واختار من كل جنس أطيبه، واختصه لنفسه، وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يحب إلا الطيب، ولا يقبل من الأقوال والأعمال والكلام والصدقات إلا الطيب.
فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى:
فله من الكلام الكلم الطيب، الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو، وهو أشد شيء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان، والبذاء والكذب، وكل كلام خبيث.
ولا يحب من الأعمال إلا أطيبها وهي عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم.
واصطفى سبحانه من الكتب القرآن، واصطفى من الكلام أربعاً، وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وهو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمه فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره، فليس كل محل يصلح لشكره، واحتمال منته:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وليس كل أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمُّل رسالته، بل لها محال مخصوصة، لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، والله وحده أعلم بهذه المحال:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وقد اختار الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واختار لهم أوسط القِبل وأفضلها، وهي الكعبة، وهم أوسط الأمم وخيارهم كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143].
فاختار سبحانه أفضل القبل لأفضل الأمم، كما اختار لهم أفضل الرسل، وأفضل الكتب، وأفضل اللغات، وأخرجهم في خير القرون، وخصهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل، وموقفهم في القيامة خير المواقف، فهم على تل عالٍ والناس تحتهم.
فسبحان من يختص برحمته من يشاء: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
فهذه الخصائص وغيرها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت، وقد أمرنا الله عز وجل أن نصلي على أهل هذا البيت كما صلى الله عليهم وملائكته كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56].
وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطلب من الله تعالى أن يبارك عليه وعلى آله كما بارك على أهل هذا البيت المعظم في كل صلاة بقولنا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» متفق عليه (1).
فجزى الله أهل هذا البيت عن بريته أفضل الجزاء، وزادهم في الملأ الأعلى تعظيماً وتشريفاً، وصلى الله وسلم عليهم صلاة دائمة لا انقطاع لها.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3370) واللفظ له، ومسلم برقم (406).
وهلا نتشبه بأهل هذا البيت، ونقتدي بهم، ونستن بسننهم؟.
وقد اتخذ الرب تعالى من الجنان داراً اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه فهو سقفها، وهي الفردوس سيدة الجنان.
والله عز وجل يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات البشر، واختار من البشر المؤمنين، واختار الأنبياء والرسل من المؤمنين، واختار من الأنبياء والرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام.
واختار سبحانه من الملائكة جبريل .. واختار محمداً صلى الله عليه وسلم من البشر .. واختار من السموات العلا .. ومن البلاد مكة .. ومن الأشهر المحرم .. ومن الليالي ليلة القدر .. ومن أيام الأسبوع الجمعة .. ومن أيام العام يوم النحر ويوم عرفة .. ومن الليل ثلثه الآخر .. ومن الأوقات أوقات الصلوات الخمس: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68].
والله حكيم عليم قسم بين العباد معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم، وهو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح له.
وهو سبحانه الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات بعلمه وحكمته.
وهو سبحانه أعلم بمواقع اختياره.
وكما خلق الله العباد وحده، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحاً، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه.
وهذا الاختيار دال على ربوبيته ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره.
والله عز وجل خلق السموات السبع، واختار العليا منها، وجعل فيها البيت
المعمور، وجعلها مستقر المقربين من ملائكته، واختصها بالقرب من كرسيه وعرشه، وأسكنها من شاء من خلقه.
فلها مزية وفضل على سائر السموات، ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى.
وخلق سبحانه الكرسي وجعله محيطاً بالسموات والأرض: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255].
وخلق سبحانه العرش، وجعله أكبر المخلوقات وأوسعها وأعلاها، واختاره من بين المخلوقات فاستوى عليه كما قال سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5].
وخلق سبحانه جنة الفردوس، وفضلها على سائر الجنان، وجعل عرشه سقفها، وغرسها بيده، واختارها لخيرته من خلقه.
وخلق سبحانه عالم الملائكة، واختار منهم المصطفين منهم على سائرهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل.
فذكرهم سبحانه لكمال اختصاصهم واصطفائهم وقربهم من الله عز وجل.
فجبريل صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح.
وميكائيل صاحب القطر الذي به حياة الأرض والنبات.
وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه صعق من في السموات ومن في الأرض، فإذا نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون.
واختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا القسم غير ما اختار له سيده كما قال سبحانه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
فاختيار العبد خلاف ما اختار الله له مناف لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً.
الثاني: اختيار كوني قدري كالمصائب التي يبتلي الله بها من شاء من عباده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه، ويدفعها ويكشفها، وليس في هذا منازعة للربوبية، وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر، فهذا القدر لا يسخطه الرب، بل يأمر به كما أمر بدفع قدر الجوع بالأكل، وقدر العطش بالشرب، وقدر المرض بالدواء .. وهكذا.
وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، فهو قدر المعائب والذنوب، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها، ومطلوب منه التوبة منها.
فالحمد لله الذي أرسل إلينا أفضل رسله .. وأنزل علينا أحسن كتبه .. وشرع لنا أفضل شرائعه .. وجعلنا خير أمة أخرجت للناس .. وأعطانا وظيفة الأنبياء والرسل وهي الدعوة إلى الله .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].