الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10 - فقه العزة
قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10].
وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8].
العزة كلها لله تبارك وتعالى، فهو العزيز الذي لا يغلب، وليس شيء منها عند أحد سواه.
فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره وهو الله جل جلاله.
إن القبائل والعشائر، والجاه والسلطان، والأموال والعلوم، كل هذه ليست مصدراً للعزة، فإن العزة لله جميعاً، وإذا كانت لهؤلاء قوة، فمصدرها الأول هو الله.
وإذا كانت لهم منعة فواهبها الله، فمن كان يريد العزة فليأخذها من المصدر الأول، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر.
ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)} [يونس: 65].
إن هذه الحقيقة إذا استقرت في القلب، استطاع هذا القلب أن يقف أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً شامخاً متكلاً على ربه:
إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر .. ولا لعاصفة طاغية .. ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3].
والعزة لا تنال إلا بطاعة الله، وتكون بالقول الطيب والعمل الصالح.
القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه، والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه، ويكرمه بهذا الارتفاع، ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء كما قال سبحانه:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139].
والعزة العليا حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس، حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها المسلم على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله:
حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي .. يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة .. ومخاوفه ومطامعه من الناس.
ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تُذل الناس شهواتهم ورغباتهم، ومخاوفهم ومطامعهم، ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع، وعلى كل شيء، وعلى كل إنسان مهما كان وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان.
إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق، ويتشامخ بالباطل.
وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار.
وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة، ويذل للشهوة.
وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح.
كلا .. إنما العزة التي يتحلى بها المسلم هي:
استعلاء على شهوات النفس .. واستعلاء على القيد والذل ..
واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله .. ثم هي خضوع لله وخشوع .. وخشية لله وتقوى .. ومراقبة الله في السراء والضراء.
ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه، ومن هذه الخشية تصمد لكل ما يأباه، ومن هذه المراقبة لا تعني إلا برضاه.
هذه هي العزة وذاك طريقها.
والذين يمكرون السيئات طلباً للعزة الكاذبة، والغلبة الموهومة، وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء، وأنهم أعزاء، وأنهم أقوياء، ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إلى الله، وبهما تكون العزة حقاً.
فأما المكر السيئ قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة، ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان، إلا أن نهايته إلى البوار، وإلى العذاب الشديد، وعد الله لا يخلف الله وعده، وإن أمهل الكافرين بالسوء، حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10].
والعزة كلها في عبادة الله وحده لا شريك له؛ لأنها تذكرني دائماً بأنني متساو أمام الله مع أكبر خلقه في الدنيا وأعلاهم شأناً.
وأنني أنا وهو نصلي معاً، ونصوم معاً، ونحج معاً، ونذكر الله معاً، ونتلو القرآن معاً، ونؤدي الطاعات كلها لله معاً، سواء بسواء.
هذا من جانب.
ومن جانب آخر فأنا عبد الله الذي لا يتركني أبداً، إذا أردت أن أقف بين يديه تطهرت واتجهت إلى القبلة، وقلت: الله أكبر، فأعظمه وأحمده، وأسأله وأستغفره، ثم أقدم التحية له وأنصرف.
وعظماء الدنيا إذا أردت من أحدهم شيئاً فدون ذلك عقبات وعقبات، فإذا تجاوزت تلك العقبات، وتمت المقابلة، وأردت أن تشرح ما جئت لأجله فقد لا يستمع إليك، ويقوم واقفاً لينهي المقابلة والمناقشة.
انظر إلى هذا كله ترى حجم الذلة والإهانات التي تمر بها في مقابلة واحدة، لمخلوق واحد.
ثم انظر إلى عبوديتك لله سبحانه، وأنت الذي تحدد الزمان والمكان، فالله موجود دائماً لتدعوه بما تريد، في أي وقت تريد، والله يستمع إليك، ويجيب
دعوتك كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
والله سبحانه الغني عن كل ما سواه، لا يمل حتى تمل أنت، فلو ظللت طول الليل تناجي مولاك وتدعوه فالله معك يستمع إليك حتى تمل أنت، وتتوقف عن الدعاء.
إذاً فحسب نفسي عزاً أنني عبد الله يحتفي بي بلا مواعيد، ويضاعف لي أجور عملي، ويكرمني بالدخول عليه، والوقوف بين يديه كل وقت، وفي أي مكان، أطلب ما أريد، واستغفره من كل ذنب، وأسأله كل خير.
فأي عزة للمؤمن فوق هذا في الدنيا؟
والعزة في الآخرة أعظم وأكبر، حيث النعيم المقيم في الجنات، ورضوان رب الأرض والسموات:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
والله تبارك وتعالى هو العزيز الكامل في عزته، له عزة القوة وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات.
فهو العزيز الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده.
والعزيز من العباد من يحتاج إليه الناس في أهم أمورهم، وهي الحياة الأخروية والسيادة الأبدية، وهذه رتبة الأنبياء والرسل، ويشاركهم في العز من ينفرد بالقرب من درجتهم كالخلفاء والعلماء، وعزة كل واحد منهم بقدر علو مرتبته في الاستقامة، وبقدر عنائه في إرشاد الخلق.
والعزة نوعان:
عزة محمودة
…
وعزة مذمومة.
ووجه ذلك أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية، وهي العزة الحقيقية كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8].
فالله سبحانه هو العزيز، وعزه سبحانه هو المصدر لكل عزة، وعز الرسل والمؤمنين مستمد من عِزِّ الله عز وجل، وعلى هذا فالعز كله لله، والعزة التي عند الإنسان لا تكون فضيلة محمودة إلا إذا استظلت بظل الله، واحتمت بحماه، أما عزة الكفار المذكورة في قوله سبحانه:{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} [ص: 2]، فهذه العزة هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل؛ لأنه تَشَبُّعٌ من الإنسان بما لم يعطه؛ لأن كل عز ليس بالله فهو ذل، كما يتعزز الكفار بالآلهة كما قال سبحانه:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81،82].
اللهم أنت العزيز الذي لا يغلب، القوي الذي لا يعجزه شيء، القاهر الذي قهر كل شيء، أعز الإسلام والمسلمين، وأخذل من خذل الدين، وانصر عبادك الموحدين، يا قوي يا عزيز نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تذلنا أو تضلنا.