الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - فقه المعاملات
قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].
الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة بالدين الكامل الذي فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وأنزل الله عز وجل كتابه منهاجاً للبشرية كلها إلى يوم القيامة، ينظم حياة الإنسان من حين ولادته إلى أن يلقى ربه، وجاء الفقه الإسلامي بالسنن والآداب والأحكام التي تشمل حياة الإنسان في شعب الحياة كلها وفق منهج الله، يسعد بها الإنسان في حياته، وينال عليها الأجر بعد مماته.
ويمكن حصر هذه السنن والأحكام في ثماني شعب:
الشعبة الأولى: الأحكام المتعلقة بالتوحيد والإيمان، من معرفة الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة خزائنه، ومعرفة وعده ووعيده، ويسمى هذا الفقه الأكبر.
الشعبة الثانية: الأحكام المتعلقة بعبادة الله من وضوء وصلاة، وزكاة وصيام، وحج وتلاوة قرآن ونحوها، وتسمى هذه أحكام العبادات.
الشعبة الثالثة: الأحكام المتعلقة بالأخلاق والحشمة، والمحاسن والمساوئ ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام الآداب والأخلاق.
الشعبة الرابعة: الأحكام المتعلقة بأحوال الأسرة، من زواج وطلاق، وولادة ورضاع، ووصايا وأوقاف، ونفقة وإرث ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام الأسرة.
الشعبة الخامسة: الأحكام المتعلقة بأفعال الناس، ومعاملة بعضهم بعضاً، من بيع وشراء، ورهن وإجارة، وصلح ومشاركة، وقضاء دين، ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام المعاملات.
الشعبة السادسة: الأحكام المتعلقة بعقاب المجرمين، وحفظ الأمن، وحفظ الأنفس والأعراض والأموال ونحو ذلك، مثل عقوبة القاتل والسارق والزاني وشارب الخمر، وأحكام القصاص، ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام العقوبات والحدود.
الشعبة السابعة: الأحكام المتعلقة بواجبات الحاكم من إقامة العدل، ودفع الظلم، وتنفيذ الأحكام والدعوة والجهاد، ونحو ذلك.
وواجبات المحكوم من السمع والطاعة في غير معصية الله، ونحو ذلك، وتسمى هذه الأحكام الأحكام السلطانية.
الشعبة الثامنة: الأحكام المتعلقة بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في حال الحرب والسلم كعقد الهدنة، وعقد الذمة، ونحو ذلك وتسمى السِّيَر.
إن الإسلام هو الدين الكامل الذي أكرم الله به البشرية، وبالإسلام تتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فالله عز وجل خلق هذا الكون، وجعل لكل مخلوق فيه سنة يسير عليها، وبها يتحقق مراد الله منه، ويؤدي العبودية المطلوبة منه وفق سنة الله ومشيئته.
فالشمس لها سنة تسير عليها .. والقمر له سنة .. والليل له سنة .. والنهار له سنة .. والنبات له سنة .. والحيوان له سنة .. والرياح لها سنة .. والولادة لها سنة .. والبحار لها سنة .. والإنسان كذلك مخلوق من مخلوقات الله، محتاج إلى سنة يسير عليها في جميع أحواله ليسعد في الدنيا والآخرة.
وهذه السنة هي الدين الذي أكرمه الله به، وشرعه له، ورضيه له، ولا يقبل منه غيره، وسعادته وشقاوته مرتبطة بمدى تمسكه به أو إعراضه عنه، وهو مختار في قبوله أو رده، متحمل لمسئولية اختياره: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29].
إن الإسلام دين العبادات والمعاملات والأخلاق:
ينظم علاقة الإنسان مع ربه بالإيمان به، وتوحيده، وعبادته، وطاعة أمره، واجتناب نهيه، والتوجه إليه في جميع الأمور، ومحبته، والاستعانة به في جميع الأحوال.
وينظم علاقة الإنسان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بمحبته وطاعة أوامره، واجتناب ما نهى عنه، وتصديق ما جاء به، والاقتداء به في سائر أحواله.
ويوجه الإنسان للاستفادة من كتاب ربه، بالتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، والاتعاظ بمواعظه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وينظم الإسلام علاقة الإنسان مع غيره على أسس من العدل والإحسان.
كالأم والأب .. والزوجة والزوج .. والأولاد والبنات .. والأقارب والجيران .. والحاكم والمحكوم .. والمسلم والكافر وغيرهم.
وينظم الإسلام كذلك معاملات الإنسان المالية بكسب الحلال .. والسماحة في البيع والشراء .. والإنفاق في وجوه البر .. وتحري الصدق .. وتجنب الغش .. وتجنب الربا .. وتجنب الكذب .. وكيفية توزيع الأموال بالصدقات .. وقسمه المواريث، ونحو ذلك.
وينظم الإسلام كذلك حياة الإنسان الزوجية، وكيفية تربية الأولاد، وصيانة الأسرة من الفساد، وتربيتها على الفضائل.
وينظم حياة الرجل والمرأة، ويقرر الحقوق اللازمة لكل منها في حال السراء والضراء، وحال الغنى والفقر، وحال الصحة والمرض، وحال الحضر والسفر.
وينظم الإسلام سائر العلاقات على جسور متينة من الحب في الله، والبغض في الله، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، وجميل الصفات كالكرم والجود، والحياء والعفة، والصدق والبر، والعدل والإحسان، والرحمة والشفقة، والحلم والعفو،
وغير ذلك من مكارم الأخلاق.
وينهى الإسلام عن كل شر وفساد، وعن كل ظلم وطغيان:
كالشرك، والقتل بغير حق، والكذب والكبر، والرياء والنفاق، والزنا والسرقة، والفواحش والآثام، والبغي والعدوان، والغش والخداع، والكيد والمكر، والنهب والاختلاس، والربا والخمر، والكهانة والسحر، وأكل أموال الناس بالباطل، والغيبة والنميمة والأذى والظلم، وقول الزور والبهتان، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].
وينظم الإسلام بعد ذلك كله حياة الإنسان في الآخرة، وأنها مبنية على حياته في الدنيا، فمن جاء بالإيمان والأعمال الصالحة دخل الجنة، وسعد برؤية ربه، ونال رضاه، وتمتع في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في نعيم كامل، وخلود دائم.
ومن جاء بالكفر والمعاصي دخل النار، ونال أشد العذاب.
فهذه شرائع الإسلام، وهذه سننه، وهذه آدابه:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 13،14].
وهذا هو الدين الكامل الذي أرسل الله به رسوله إلى البشرية في مشارق الأرض ومغاربها كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
والإسلام هو الدين الحق الذي يجب على كل مسلم ومسلمة اعتناقه، وألا يخسر دنياه وآخرته:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ» أخرجه مسلم (1).
والله سبحانه خلق الإنسان، وكرمه على سائر المخلوقات، وجعل له علاقة مع ربه، وعلاقة مع خلقه:
فعلاقته بربه تتم بواسطة العبادات، ولب العبادات توحيد الله، والإيمان به، وعبادته، وطاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وذكره وحمده وشكره.
أما علاقة الإنسان بالخلق، فهي بواسطة المعاملات والمعاشرات والأخلاق، ويتم ذلك بثلاثة أشياء:
أداء الحقوق .. والإحسان إلى الناس ورحمتهم .. وكف الأذى عنهم.
فنمد أيدينا إلى الخالق وذلك هو العبادة، ونمد أيدينا الأخرى بالإحسان إلى الخلق وذلك هو الأخلاق.
فبالأولى نأخذ، وبالأخرى نعطي، وبطاعة الله وعبادته يكون العبد محبوباً عند الله وملائكته وخلقه، وبرحمة الناس، والإحسان إليهم يكون الإنسان محبوباً عند الناس، وعند رب الناس.
والأصل في جميع العقود والمعاملات إنما هو العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه كما قال سبحانه:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25].
فدين الله كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي، وفي المعاملات والأخلاق، وفي الحقوق والحدود.
فالله أباح البيع لما فيه من العدل .. وحرم الربا لما فيه من الظلم.
(1) أخرجه مسلم برقم (153).
وأمر بالنكاح الشرعي لما فيه من المصالح .. ونهى عن الزنا لما فيه من المفاسد.
وحث على الصدق لما فيه من الخير .. وحذر من الكذب لما فيه من الشر.
ورغب في الصدقة لما فيها من المنافع .. وزجر عن السرقة لما فيها من المضار.
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)} [يونس: 105].
وأوامر الله عز وجل كلها عبادات، إذ لكل أمر سنة وثواب، فأحكام الطهارة والصلاة كأحكام الطعام والنكاح، كأحكام العقود والبيوع، كأحكام السلم والحرب، كبقية الأحكام التي شرعها الله.
كلها عبادة لله، وكلها دين الله، وكلها أوامر الله، وكلها شرع الله.
فالدين يتألف من هذه وتلك على السواء، وحكم هذه كتلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه.
وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع والعمل، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر، والدين لا يستقيم إلا بهما معاً، كلها عقود أمر الله المؤمنين بالوفاء بها، وكلها عبادات يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله، وكلها إسلام وإقرار من المسلم بعبوديته لله.
فجميع أوامر الله عز وجل شعائر وشرائع، كلها عبادات وفرائض وعقود مع الله، والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان كما قال سبحانه:(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ چ چ چ چ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ژ ژ يُرَدُّونَ إِلَى ک ک وَمَا گ گ گ گ (85)) [البقرة: 85].
وقد وصف الله عز وجل أعمال الدين بالصالحات؛ لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين:
الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه والإيمان به.
وأصلح ألسنتهم بالثناء عليه وذكره.
وأصلح جوارحهم بعبادته وطاعته.
وبذلك صلحوا لكرامته، وصلحوا لمجاورة الرحمن في جنته.
ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجات كما قال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10 - 12].
وكم لله من نعمة في بعثة رسوله الكريم بهذا القرآن العظيم الذي فيه تبيان كل شيء، فهو حجة الله على العباد كلهم، انقطعت به حجة الظالمين، وانتفع به المسلمون كما قال سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
فصار هذا الكتاب المبارك هدى للمسلمين، يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون بها كل خير في الدنيا والآخرة، وبشرى يبشرهم بكل خير ونعيم وسعادة في الدنيا والآخرة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)} [الكهف: 1 - 3].
والله تبارك وتعالى جواد كريم رؤوف بالعباد:
خلق الناس في أحسن تقويم .. وأسكنهم في الأرض .. ورزقهم من الطيبات .. وآتاهم من كل ما سألوه .. وجعل لهم العقول والأسماع والأبصار .. وأنزل عليهم كتبه .. وأرسل إليهم رسله .. وشرع لهم أفضل شرائع دينه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
وهداهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة .. ودلهم على ما يحببهم إليه ويقربهم منه بعبادته وطاعته .. فأمرهم بكل خير .. وحذرهم من كل شر .. ووعدهم على ذلك الأمن والسعادة في الدنيا .. والجنة والرضوان في الآخرة
كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
وكلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، وذكره لله أكثر، وصار الواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على غيره.
ولهذا كان الواجب على الرسل أعظم من الواجب على أممهم .. والواجب على أولي العزم من الرسل أعظم من الواجب على غيرهم .. والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم .. فكل أحد بحسب مرتبته .. ودرجته بحسب عمله.
والعبودية التامة امتثال أوامر الله في جميع أحوال الإنسان، وفي جميع شعب الحياة، على طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم:
في الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162،163].
والطريق إلى الله واحد وهو الإسلام، والإسلام جامع لكل ما يرضي الله، وما يرضي الله متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، ومن رحمة الله أن جعلها متنوعة جداً؛ لأختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ليسلك كل امرئ إلى ربه بعد أداء الفرائض طريقاً يناسب استعداده وقوته وقبوله، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يسلكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك حتى يصل من تلك الطريق إلى الله.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى أدى ورده منها فهو في سرور وانشراح، ومتى قصر في ورده أظلم عليه وقته، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، فهو يتلذذ بذكر الله في كل وقت، وقد جعله زاداً لمعاده، فمتى فتر وقصر رأى أنه قد غبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا، وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم يجد لذته به، ومتى أفطر تغير قلبه، وساءت حاله.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فتح الله له فيه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه تكرار الحج والعمرة.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق عن الخلائق، ودوام المراقبة لربه، وحفظ الأوقات.
ومن الناس السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فأين كانت مرضاة ربه، وأين كانت العبودية وجدته هناك.
إن كان علم وجدته مع أهله .. وإن كان جهاد وجدته مع المجاهدين .. أو صلاة وجدته مع المصلين .. أو ذكر وجدته في الذاكرين .. أو إحسان وجدته في زمرة المحسنين .. أو محبة أو مراقبة لله وجدته في المراقبين .. تَدَيَّن بدين العبودية، بروحه وقلبه وبدنه، ليس له مراد إلا تنفيذها، فهذا بأرفع المنازل.
وهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وكتابها أحسن الكتب وأعظمها وأحكمها وأبينها، وشريعتها أحسن الشرائع.
فالشرائع ثلاث:
شريعة عدل، وهي شريعة التوراة فيها الحكم والقصاص.
وشريعة فضل، وهي شريعة الإنجيل المشتملة على العفو ومكارم الأخلاق، والصفح والإحسان.
وشريعة عدل وإحسان، وهي شريعة القرآن التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من ربه، وقد جمعت بين العدل والإحسان، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].
والقرآن يذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه كما قال سبحانه:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40].
وبنو إسرائيل هم أولو العلم الأول، وأمة موسى أوسع علوماً ومعرفة من أمة المسيح كما قال سبحانه عن التوراة التي أنزلها على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} [الأعراف: 145].
ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل كأنه مكمل لها متمم لمحاسنها، والقرآن جامع لمحاسن الكتابين كما قال سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48].
فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الكمال .. وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، حرم الله عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم، كما كمل لنبيهم صلى الله عليه وسلم بما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله، وكمل في شريعته من المحاسن بما فرقها في شرائع الأنبياء قبله، وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم مقام الأنبياء الشاهدين على أممهم:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].