الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - فقه السنن والبدع
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (1).
السنة: هي ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بقوله أو فعله أو تقريره أو صفته.
والبدعة: نقيض السنة، مشتقة من ابتدع الشيء إذا أوجده على غير مثال سابق، وهي كل ما لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من معتقد أو قول أو فعل.
وجميع العبادات لا تكون مقبولة ولا تصح إلا بثلاثة شروط:
الأول: أن تكون مشروعة بالوحي الإلهي لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» متفق عليه (2).
الثاني: أن تكون خالصة لله عز وجل كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].
الثالث: المتابعة، وتحصل المتابعة بتحقيق ستة أمور:
الأول: السبب: فقيام الليل مشروع، لكن من أحيا ليلة المعراج، أو ليلة النصف من شعبان، معتقداً مشروعية ذلك فهو بدعة.
الثاني: الجنس: فالأضحية مشروعة، لكن لو ضحى بفرس فهذا الجنس لا يجوز.
الثالث: القدر: فلو زاد ركعة خامسة في صلاة العصر لم يقبل منه.
الرابع: الكيفية: فلو غسل رجليه في الوضوء قبل يديه لم يصح لمخالفته الشرع.
الخامس: الزمان: فلو حج أو صام رمضان في غير وقته لم يصح.
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718).
السادس: المكان: فلو اعتكف في غير المسجد لم يصح.
والبدع ثلاثة أنواع:
بدع اعتقادية .. وبدع قولية .. وبدع فعلية.
فالبدع الاعتقادية: كاعتقاد أن الأولياء والأبدال يدبرون العالم، واعتقاد أن أرواح الأولياء على أفنية القبور تشفع لمن زارهم، وتقضي حاجته، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، وأن الأولياء ينظرون في اللوح المحفوظ أحياءً وأمواتاً، وغير ذلك مما يقوله أهل الباطل ويعتقدونه.
والبدع القولية: كسؤال الله تعالى بجاه فلان، أو بحق فلان، والاستغاثة بالأولياء، ودعائهم، وسؤالهم الشفاء، والأذكار المخالفة، والأذكار الجماعية ونحوها.
والبدع الفعلية: وهي قسمان:
بدع عملية في العبادات .. وبدع عملية في المعاملات.
فالبدع العملية في العبادات أنواع:
أحدها: ما يكون في أصل العبادة، بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع كأن يحدث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع أو أعياداً غير مشروعة ونحو ذلك.
الثاني: ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة كمن زاد ركعة رابعة في صلاة المغرب مثلاً، أو زاد على الأذان المشروع، أو زاد على الوضوء المشروع، أو زاد في الصيام المشروع ونحو ذلك.
الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، أو الإسراع في الصلاة ونحو ذلك.
الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع كتخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام، ويومها بالصيام، أو تخصيص ليلة المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج بصلاة وأذكار ونحو ذلك.
والبدع العملية في المعاملات كسجن الزاني بدل إقامة الحد عليه، وسجن السارق بدل إقامة الحد عليه، وسجن القاتل بدل إقامة الحد عليه ونحو ذلك.
فهذا كله مردود على من عمله، وغير مقبول منه لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (1).
وكل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة، ومردودة على من أحدثها، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
والبدع لها أحكام:
فمنها ما هو كفر صراح كالطواف بالقبور، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات.
ومنها ما هو من وسائل الشرك كالبناء على القبور، ودعاء الله عندها، والصلاة عندها ونحو ذلك.
ومنها ما هو معصية لله كبدعة التبتل والاختصار بقصد قطع شهوة الجماع، والصيام قائماً في الشمس ونحو ذلك.
والمصلحة: هي ما جلبت خيراً أو دفعت شراً، ولم يوجد في الشريعة ما يدل على ثبوتها أو نفيها.
والشريعة قائمة على أساس جلب المنافع ودفع المفاسد، فما حقق للمسلم خيراً، أو دفع عنه شراً جاز للمسلم استعماله والانتفاع به بشرط ألا يكون الشرع قد ألغاه.
فليس للمرأة أن تزني لما يحصل لها من المنفعة المادية؛ لأن هذه الوسيلة كالمنفعة المتوسل إليها قد ألغاها الشارع وأبطلها، لمنافاتها مقاصد الشرع.
والمصالح المرسلة تكون في ثلاثة أشياء:
في الضروريات .. والحاجيات .. والتحسينات.
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).
فالضروريات: كجمع المصحف وكتابته في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، فليس هذا من باب البدعة الحسنة، وإنما هو من باب المصالح المرسلة، لحفظ القرآن من الضياع.
فهذا العمل مصلحة ظاهرة، لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا إلغاء.
والحاجيات والتحسينات:
كالحاجة إلى اتخاذ المحاريب في القبلة في المساجد، وزيادة عثمان الأذان الثاني للجمعة، تذكيراً للناس بقرب الوقت، وتحقق مصلحة حضور الناس، ولم يشهد الشرع لهما باعتبار ولا إلغاء.
فالأولى من قبيل الحاجة .. والثانية من قبيل التحسينات والكمالات، ومثلها اتخاذ المنارات ومكبرات الصوت لسماع الخطبة والأذان والتكبير والقراءة.
فهذه كلها من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء.
والمصالح المرسلة لا تراد لذاتها، وإنما تراد لحفظ واجب أو أدائه، أو درء مفسدة أو جلب منفعة.
أما البدع المحدثة فهي تراد لذاتها، وهي تشريع يضاهى به شرع الله مقصود لذاته، لا وسيلة إلى غيره من جلب منفعة أو دفع مفسدة.
والتشريع المقصود بذاته من حق الله تعالى وحده، وغير الله لا يقدر على وضع عبادة تؤثر في النفس البشرية بالتطهير والتزكية، والإنسان ليس أهلاً لذلك أبداً.
وأسباب ظهور البدع في الأمة أمور:
الأول: الجهل بأحكام الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُْمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» أخرجه أبو داود والترمذي (1).
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4607)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3851).
وأخرجه الترمذي برقم (2676)، صحيح سنن الترمذي رقم (2157).
الثاني: اتباع الهوى كما قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].
الثالث: التشبه بالكفار كما قال بنو إسرائيل لموسى: {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138].
الرابع: التعصب للآراء والأقوام كما قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170].
وقد خلق الله الخلق لعبادته وحده لا شريك له بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم كإبليس ومن أطاعه من الإنس والجن، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب من اليهود والنصارى كما قال سبحانه:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21].
فذنوب المشركين نوعان:
أحدها: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك والبدع والمعاصي.
والثاني: نهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات.
فالأول شرع من الدين ما لم يأذن به الله، والثاني تحريم لما لم يحرمه.
فابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة.
وابتداع التحريمات الباطل هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة.
فإخلاص الدين لله أصل العدل .. والشرك بالله أصل الظلم وأعظمه.
وقد فطر الله عباده على التوحيد، فاجتالتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحل
الله، وأمرتهم بالشرك بالله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم (1).
والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، ولا يجوز أن يكون الشيء واجباً أو مستحباً إلا بدليل شرعي يقتضي وجوبه أو استحبابه، وكل ما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة.
وليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرع أو يسن، وما سنه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فإنما سنوه بأمره صلى الله عليه وسلم فهو من سنته.
فلا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا حراماً إلا ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا مستحباً إلا ما استحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا مكروهاً إلا ما كرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا مباحاً إلا ما أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكل ما سوى ذلك لا يكون سنة ولا قربة ولا طاعة.
والله عز وجل يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته الدالة على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وقدرته وعظمته، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه.
ونحن المخلوقين لا نقسم إلا بالله عز وجل، وليس لنا أن نقسم بشيء من المخلوقات، ولا نسأله بها؛ لأن ذلك يلزم منه سؤاله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله كالشمس والقمر والمسيح والعزير، ومعلوم أن سؤال الله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في الإسلام.
فالبدعة: هي الزيادة في الدين بعد كماله، وهي ما فعل الإنسان على سبيل القربة بما لم يكن له أصل في الشرع كالاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة
(1) أخرجه مسلم برقم (2865).
الإسراء والمعراج .. والاحتفال بالنعم .. والاحتفال بعيد الميلاد، ونحو ذلك مما لم يكن له أصل في الشرع.
ومن طبيعة البدعة التمدد والتفجر والانتشار، ثم تنتقل من شخص إلى شخص .. ومن بلد إلى بلد آخر على سبيل العدوى والتقليد.
تبدأ بالأفراد على سبيل الاستحسان .. ثم تنتقل إلى الجماعات .. ثم تقود إلى ما هو شر منها.
وأكثر من يشيدها وينشرها وينشطها هم العلماء القاصرة أفهامهم، والناقصة عقولهم وعلومهم، والقليل ورعهم، مما يجعل العامة يغترون بهم، وينبعثون على أثرهم.
وباستمرار فعلهم يستقر في نفوس العامة فضلها أو فرضها حتى تصبح ديناً.
والبدع بريد الشرك، وأول ما دخل الشرك على الناس هو بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين، حتى صيروا قبورهم أوثاناً يعبدونها من دون الله.
وليس في الدين بدعة حسنة، بل البدع كلها سيئة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
والبدعة الحسنة إنما تكون في العادات لا في العبادات، وحسن المقاصد لا يبيح فعل البدع، وما أحدث قوم بدعة إلا رفع مكانها سنة.
وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي أول من ابتدعها هم الفاطميون في مصر لما رأوا النصارى يعظمون المسيح، ويجعلون لهم عيداً يعطلون فيه المتاجر والأعمال، أخذوا يقتدون بهم في تعظيم المولد النبوي، ثم اشتهر وانتشر في البلدان على سبيل العدوى والتقليد الأعمى.
وقد نشأ عن هذه البدعة ما هو شر منها من الغلو والإطراء، والنياحة والبكاء، والقيام والقعود، وضرب الدفوف، وشرب الخمور، واختلاط الرجال بالنساء، وتقبيل الغلمان والمردان.
وقد قام سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعله، ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم،
ولو كان الاحتفال محموداً أو مسنوناً لكان الاحتفال ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي بنبوته وبعثته أعلى وأجل، وأعظم وأفضل من مقام ولادته، فالله امتنَّ على المؤمنين بنبوته وبعثته، لا بمجرد ولادته فقال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم كراهيته الغلو والإطراء بقوله: «لا تُطْرُونِي، كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ» أخرجه البخاري (1).
فلا يحل لأحد أن يحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم ولا ببعثته ولا بهجرته؛ لأن كل ذلك لم يرد عنه، ولا عن أصحابه أنهم فعلوه:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].
ومنشأ البدع كلها، وسبب انتشارها، أن البدع لو كانت باطلاً محضاً لما قبلت، ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها، ولو كانت حقاً محضاً لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسنة.
ولكنها تشتمل على حق وباطل، ويلتبس فيها الحق بالباطل، فيغتر بها العامة، وينخدع بها الجهال؛ لأنهم يتأثرون بما فيها من الحق، ويغفلون عن كونها محدثة، وعن الضلال الذي تسببه، فكل مؤمن مثلاً يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويوقره، لكن الاحتفال بذلك في يوم خاص، والغلو في الإطراء والمدح له مذموم نهى عنه صلى الله عليه وسلم كما سبق.
والذين عملوا على نشر البدع فريقان:
الأول: فرقة روجت للبدع من غير علم، غلب عليهم الصلاح، ولم يعتنوا بدراسة الأحاديث والسنن، وغفلوا عن أصول العبادات، فاخترعوا رسوماً
(1) أخرجه البخاري برقم (3445).
وهيئات ما أنزل الله بها من سلطان، وجعلوها ديناً يعملون به، ويدعون الناس إليه، وهذا اعتداء على حق الله في التشريع، وإدخال ما ليس من الدين فيه، وانتقاص لحق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بيَّن كل شيء، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وفيها إضلال للعباد وظلم لها، بأمرهم بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}
…
[الأنعام: 144].
الثاني: فرقة انطوت على الحقد على الإسلام وأهله، فأرادوا عن قصد خبيث ضرب هذا الدين:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8].
فعمدوا إلى الابتداع في الدين، فكذبوا على الله ورسوله في القواعد والأصول، وفي العبادات والمعاملات، ومع كثرة الجهل، وموت العلماء، وتقصير الدعاة، والإعراض عن طلب العلم، والانشغال بالدنيا، اندرست معالم السنن في كثير من البلاد، وصارت السنة بدعة، والبدعة سنة، وعاد الإسلام في بعض البلاد غريباً كما بدأ.
فأقام الله عز وجل الطائفة المنصورة تنطق بالحق، وتدفع الباطل، وتنشر السنن، وتطهر البلاد من المعاصي والمنكرات والبدع.
فكم هدى الله بهم من ضال؟ .. وكم علم بهم من جاهل؟ .. وكم رد بهم من تائه؟ .. وكم تاب على عاصٍ؟ .. وكم أنقذ بهم من هالك؟.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي قَائِمَةً بِأمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» متفق عليه (1).
وكل من دعا إلى بدعة وضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه؛ لأن اتباعهم له تولد من فعله، ولذلك كان على ابن آدم الأول القاتل لأخيه كفل من ذنب كل
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641)، ومسلم برقم (1037) واللفظ له.
قاتل إلى يوم القيامة، كما قال سبحانه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 24، 25].
والتوبة من هذه الذنوب المتولدة بالندم عليها، والاستغفار منها، وعدم إجابة دواعيها، وحبس النفس عن ذلك.
فإن كان المتولد متعلقاً بالغير، فتوبته مع ذلك برفعه عن الغير بحسب الإمكان، ولهذا كان من تمام توبة الداعي إلى البدعة أن يبين أن ما كان يدعو إليه بدعة وضلالة، وأن الهدى في ضده، وأن يصلح العمل في نفسه، وأن يبين للناس ما أخفاه عنهم ليضلهم كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159، 160].
وقد أكمل الله عز وجل لهذه الأمة دينها، وتركها رسولها على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، ودلها على كل خير، وحذرها من كل شر.
وبناء على ذلك فكل بدعة في الدين مردودة لأمور:
أحدها: أن العقل الإنساني لا يستقل بمعرفة الحسن والقبح .. وما ينفع وما يضر .. ؛ لقصور فهمه من جهة .. وعدم قدرته من جهة .. ولما ينازعه من هوى وشهوات من جهة أخرى.
ومن هنا كان لا بدَّ من الوحي الإلهي، المنزه عن القصور والغفلة، والجهل والنسيان، فالعقل بمنزلة العين المبصرة، إن كان هناك ضوء أو نور أبصرت الأشياء بحسب قوتها أو ضعفها.
وكذلك العقل إن كان هناك وحي إلهي من كتاب أو سنة أدرك الأشياء على حقيقتها، وعرف مضارها ومنافعها.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى قد أكمل لهذه الأمة المسلمة دينها، ولم يحوجها
إلى طلب زيادة فيه كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
الثالث: أن الله تعالى وضع سنناً لا تتبدل، وهي منفعلة لكل أحد، فالطعام يشبع بإذن الله، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وهذه لا تختلف نتائجها التي وضعت من أجلها.
وكذلك ما شرعه الله من عبادات قلبية أو قولية أو فعلية، إذا أداها المؤمن على الوجه المطلوب لأدائها، فإنها لا تختلف نتائجها من تزكية النفس، وتهذيب الخلق، وإصلاح الروح، بخلاف القوانين والبدع التي يضعها الإنسان.
فالقوانين التي وضعها الإنسان لحفظ الأنفس والأموال والأعراض لم تحقق شيئاً يذكر، فالدماء مسفوكة، والأعراض منتهكة، والأموال مسروقة، والأنساب مختلطة.
والبدع الدينية ما زادت أصحابها إلا خبثاً في أرواحهم، وظلمة في نفوسهم، وفساداً في أخلاقهم.
ولا فرق بين المبتدع الذي يضع للمؤمنين أنواعاً من الطاعات، ويدعوهم إلى العمل بها لتزكو نفوسهم بها وتطهر، ويرضى عنهم ربهم ويقربهم كما يزعم، وبين المبتدع الذي يسمى الآن بالمشرع القانوني الذي يضع للناس قوانين تحفظ دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وتنشر الرحمة، وتشيع الإخاء والمودة بينهم.
فمثلاً يشرع السجن المؤبد بدل القتل .. والسجن المؤقت للزاني بدل الحد .. والسجن للسارق بدل القطع، ونحو ذلك.
لا فرق بين المبتدع الذي يشرع للروح ما يزكيها ويطهرها بزعمه، وبين من شرع للجسم ما يحفظ به نامياً صالحاً، يؤدي وظائفه على الوجه المطلوب.
الكل مبتدع، أدخل في دين الله ما ليس منه، وتكلف ما ليس له بحق، منازع لله في حق التشريع الذي هو من الرب وحده، إذ لا يعرف ما يصلح المخلوق إلا
خالقه.
فالذي خلق مخلوقاً هو الذي يشرع له من العبادات ما يزكي به روحه، ومن السنن والحدود ما يربي به جسده، وليس ذلك إلا لله وحده:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].
وكل عمل بغير إخلاص ولا اقتداء غير مقبول، بل يضر صاحبه ولا ينفعه كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
والمراد من العبودية لله عز وجل تفريغ القلب من المحبوب المزاحم الدخيل الطارئ، ليبقى القلب عل الفطرة، وهي محبة الله بلا مشارك.
فما أسعد من أشرق في قلبه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة أحكامها، وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقاها صافية من مشكاة النبوة، وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات، وتعبد بذلك لربه.