الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - فقه الابتلاء
قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31].
وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].
الله تبارك وتعالى جرت سنته في عباده المؤمنين أن يبتليهم على حسب إيمانهم، فمن ازداد إيمانه زيد في بلائه.
فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه البلاء.
وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء، فقال:«الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
وعلى حسب إيمان العبد يكون ابتلاؤه، وذلك يتطلب الصبر، والصبر يقوم على ثلاثة أركان:
صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله.
ولا يتم ذلك للعبد إلا بمعرفة الجزاء والثواب والعقاب، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة الإيمان واليقين على الله، وعدم الالتفات إلى ما سواه، فهو وحده الكافي.
فمن علم الله منه الصدق والعزيمة والرغبة في إرضاء الله أعانه ووفقه
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).
واستخدمه، وقَبِل ما بذل من نفس ومال، وما قدم من عمل، وعوضه بخير من ذلك في الدنيا والآخرة.
فالأنبياء والرسل لما بذلوا أعراضهم في الله لأعدائهم فنالوا منهم وسبّوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم وملائكته، وجعل لهم أطيب الثناء في السماء والأرض كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56].
ويوسف صلى الله عليه وسلم لما احتمل ضيق السجن لله، شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [يوسف: 56].
وسليمان صلى الله عليه وسلم لما عقر الخيل غضباًَ لله إذ شغلته عن ذكره أعاضه الله عنها متن الريح كما قال سبحانه: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} [ص: 36].
ولما بذل الشهداء أبدانهم لله حتى مزقها أعداؤه شكر الله لهم ذلك بأن جعلهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأعاضهم عنها طيراً خضراً ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها كما قال سبحانه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169].
ولما ترك الصحابة رضي الله عنهم ديارهم، وخرجوا منها لإعلاء كلمة الله أعاضهم الله عنها أن ملكهم الدنيا، وفتحها عليهم، وجعلهم ملوكها وأمراءها.
ولما بذلوا أموالهم في سبيل الله، أعاضهم الله عنها بأن أنفقت كنوز كسرى وقيصر تحت أقدامهم وبين أيديهم.
ولما صبروا على غضب أعداء الله وشدة بطشهم أعاضهم الله بأن رضي عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
ولما تحملوا الخوف والمرض والجوع من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه أعاضهم الله بالأمن التام في الدنيا والآخرة، فسارت الضعينة من العراق إلى اليمن لا تخاف إلا الله، وهداهم الله إلى ما ينفعهم كما قال سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82].
وكل ما يجري في هذا الكون واقع بمشيئة الله وإرادته وإذنه، فما شاء الله كان مهما كان، وما لم يشأ لم يكن مهما يكن.
وإرادة الله تبارك وتعالى تنقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: ما تعلقت به الإرادتان الكونية والشرعية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان.
الثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فأطاع ذلك الأمر المؤمنون، وعصى ذلك الأمر الكفار والفجار.
فهذه الإرادة يحبها الله ويرضاها، وقعت أو لم تقع، وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع.
الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث والأحوال التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها ولم يحبها، ولولا مشيئة الله وقدرته وخلقه لها لما كانت، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه الإرادة، فهذا ما لم يكن ولم يقع من أنواع المباحات والمعاصي.
والمؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاء.
والبلاء الذي يصيب المؤمن نوعان:
أحدهما: بلاء بمخالفة دواعي النفس والطبع كالصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، وهذا من أشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه إلا الأنبياء والصديقون،
والناس فيه درجات متفاوتة.
الثاني: البلاء الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش، والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات ونحو ذلك كما قال سبحانه:
والصبر هنا لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر، لا سيما إذا علم أنه لا معول له إلا الصبر، فإن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً.
ولهذا كان بين ابتلاء نبي الله يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب، وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وبين ابتلائه بمراودة المرأة له وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهي الداعية إلى ذلك فرق عظيم، لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء.
فإن يوسف كان شاباً جميلاً، عزباً غريباً، وكانت المرأة جميلة، وذات منصب، وكان في دارها، وتحت حكمها، وأغلقت الأبواب، وهي الطالبة، وكانت شديدة العشق والمحبة للرجل، قد امتلأ قلبها من حبه.
فهذا الابتلاء الذي صبر معه يوسف، ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ولده إسماعيل، إذ كلاهما ابتلاء بمخالفة الطبع، ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم طبعه:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 106].
وهذا بخلاف البلوى التي أصابت يونس في البحر، والمرض الذي أصاب أيوب، فمن له داعية وشهوة وهو يحبسها لله، ولا يطيعهما حباً له، وحياء منه، وخوفاً منه، وتوقيراً له، فهوأفضل ممن لا داعية له ولا شهوة.
ولذا كان صالحو البشر أفضل من الملائكة، وعبادتهم أكمل، وانقيادهم أتم، ودرجاتهم أعلى.
والله تبارك وتعالى يمتحن كل إنسان في ثلاثة مواطن:
في الدنيا .. وفي القبر .. وفي المحشر.
ففي الدنيا: يكون الابتلاء والامتحان بشيئين: بالسراء والضراء، بالخير والشر وذلك ليعلم الله الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، والمؤمن من المنافق:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2،3].
وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35].
فمن صبر وأطاع الله فاز .. ومن جزع وعصى خسر.
وفي القبر: يكون الامتحان بثلاثة أشياء:
من ربك .. ؟ ما دينك؟
…
من نبيك؟ ..
فمن عرف ربه في الدنيا، وعرف رسوله، وعمل بدينه أجاب بقوله: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد صلى الله عليه وسلم، ففاز بالجنة، ومن لم يعرف ذلك أجاب بقوله: هاه، هاه، لا أدري، فله النار.
أما في المحشر فيكون الامتحان والسؤال عن سبعة أشياء:
فيسأل العبد عن عمره فيما أفناه؟ .. وعن شبابه فيما أبلاه؟ .. وعن ماله من أين اكتسبه؟ .. وفيم أنفقه؟ .. وعن علمه ماذا عمل به؟.
ويسأل الناس جميعاً عن أمرين:
ماذا كنتم تعبدون؟ .. وماذا أجبتم المرسلين؟.
والله عز وجل بعباده خبير بصير، وهو أرحم الراحمين، ورحمته وسعت كل شيء، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
فإذا أصيب الإنسان بمصيبة، فالله يعلم أن مصلحة العبد تتحقق هنا، ولو علم العبد ذلك لحمد الله على ذلك، ولكنه لجهله يشكو ويتسخط، والواجب واللائق بالعبد أن يمشي مع أقدار ربه سواء سرته أو ساءته، فالله أعلم بمصلحته، وسَيُوَفِّه أجره إن صبر أو شكر: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
أليس الإنسان إذا أصيب بمرض في بدنه ذهب إلى الطبيب ليجري له عملية، ويستخرج من بدنه الأشياء الفاسدة، لتزول العلة، ويحصل الشفاء، ويدفع للطبيب مقابل ذلك مبلغاً من المال، مع أن الجراحة تؤلمه، ولكنه يتحملها لحسن عاقبتها.
فكذلك المصائب تطهير للعبد من الذنوب، تستحق من العبد الحمد والشكر، ويدرك هذا من حقق معنى لا إله إلا الله.
وفيها تمييز للمؤمنين من المنافقين .. والصادقين من الكاذبين .. وأهل الخير من أهل الشر.
وبالصبر عليها يرفع الله درجات العبد، ويضاعف حسناته، ويكفر سيئاته.
هذه فائدة المحن والمصائب، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، والمحن تمحص لا تهلك.
وليس الخير للإنسان أن يكثر ماله وولده، ويعظم جاهه، ولكن الخير أن يزيد إيمانه .. ويكثر علمه .. ويزداد عمله .. ويعظم حلمه .. فإن أحسن حمد الله، وإن أساء استغفر الله، وإن أعطي شكر الله.
ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين:
رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك بتوبة نصوح.
ورجل يسارع في الخيرات والأعمال الصالحة.
والمؤمن يموت بين حسنتين:
حسنة قدمها .. وحسنة أخرها.
والزينة في كل شيء ليست هي المقصد، فقد جعل الله كل ما على الأرض زينة لها، ولكن المقصود منه الابتلاء كما قال سبحانه:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].
فالثياب لستر العورة، والألوان زينة، ولباس الجنود ليس فيها زينة؛ لأنها ليست مقصودة، بل المقصود الخشونة والعمل.
وزينة النبات والأشجار من الأوراق والأزهار ليست مقصودة، إنما المقصود الحبوب والثمار.
وكذلك الدنيا ليست مقصودة، إنما المقصود الآخرة، وقد خلق الله الأسباب للابتلاء وهي زينة، وليس فيها النجاة، وإنما يميل إليها الغافلون من الأطفال والرجال والنساء، ومن لم يعرف مقصد حياته.
فالزينة شيء، والمقصد شيء، والمطلوب لباس التقوى:
فإذا بذل الإنسان الأسباب لأجل طاعة الله فاز، ومن نسي الطاعة وتعلق بالأسباب خسر.
لذلك مست الحاجة للدعوة وبيان المقصد الأعلى، فالأنبياء يرشدون أممهم إلى المقصد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل نبي قال لقومه:{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84].
فالله مقصود .. وأوامره مقصودة .. فيقدم الله على كل مطلوب .. وتقدم أوامره على كل شيء.
ولكن الكفار يجرون الناس إلى التعلق بالزينات، وترك المقصد، فكل من نسي المقصد تعلق بالزينات.؟
فقارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79].
وهذه فتنة وشر، فقد خسف الله بقارون وبداره الأرض.
وفتن أهل الدنيا بما يغضب الله فقالوا: {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} [القصص: 79].
والأحوال والمصائب تأتي على الأمة بسببين:
بسبب المعاصي والذنوب .. وبسبب ضعف الإيمان الذي يؤدي إلى التقصير في الأعمال والأوامر، كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
والله سبحانه يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، ويتلقى العباد ذلك كل حسب طبيعته واستعداده وعلمه.
فالابتلاء واحد، ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف الرؤية والمعرفة.
فالشدة مثلاً تسلط على شتى النفوس:
فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاءً إلى الله، وتضرعاً وخشية.
وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعداً، وتخرجه من الصف إخراجاً.
والرخاء يسلط على شتى النفوس:
فأما المؤمن التقي فيزيده الرخاء يقظة وحمداً وشكراً.
وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة، ويتلفه الرخاء، ويضله الابتلاء، فالفاسق أو المنافق كشجرة انفصلت من شجرة الحياة فتعفنت وفسدت وهكذا المثل يضربه الله للناس، يضل به كثيراً ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، ويهدي به كثيراً ممن يدركون حكمة الله في تدبيره كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} [البقرة: 26].
وقد خلق الله الإنسان، واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد، والمحبة والتعظيم، والحياء والإخلاص وجعل بدنه محل ظهور العبودية والسنن والآداب والأخلاق التي أمر بها الله عز وجل.
وجعل قلبه محل نظره سبحانه، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأعظمه وأفضله، وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ورضاه عنه، والفوز بالجنة، والخلود في النعيم المقيم.
ولكنه سبحانه مع ذلك ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس يدخل عليه من هذه الأبواب الثلاثة.
فيتفق الشيطان .. ونفس الإنسان .. وهوى الإنسان على العبد، ثلاثة مسلطون آمرون.
فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة، فلا تزال الجوارح في طاعتهم.
ولكن اقتضت رحمة الله أن أعانه بجند آخر يقاوم هذا الجند الذي يريد إهلاكه.
فأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، وجعل له مقابل نفسه الأمارة بالسوء نفساً مطمئنة تأمره بالخير، وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة وعقلاً يرده عن الذهاب إلى الهوى المهلك، والمحفوظ من حفظه الله تعالى.
والمصائب التي تحصل للعباد قسمان:
فهي إما ابتلاء وتربية .. وإما عقوبة وعذاب.
فإذا غضب الله على أحد أهلكه بعذاب الغرق أو القذف، أو الخسف أو الصعق كما قال سبحانه عن الأمم التي كذبت رسل الله:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40].
وإذا رضي الله على أحد ابتلاه بما شاء، ثم إن صبر اجتباه وهداه كما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
وكل من عمل عملاً فإنه يستحسنه ويدافع عنه.
فالذي يعمل الصالحات يستحسنها ويدافع عنها، والذي يعمل السيئات يستحسنها ويدافع عنها، وإن كان على الهدى رآه حسناً، وإن كان على الضلال رآه حسناً كذلك، وكل يدعو إلى ما يستحسنه:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: 108].
والذين يقفون بالعداوة لكل نبي، ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء، هم شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان.
إن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله بقدرة ذاتية فيهم، إنما هم في قبضة الله، وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده، من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء.
فإذا اجتازوا الامتحان كف الله عنهم الابتلاء، وكف عنهم هؤلاء الأعداء:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112].
وحكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا ليبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة بعد سماعهم الحق: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 29،30].
وهؤلاء الشياطين خليق بالمؤمن أن يستهين بهم مهما بلغت قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدعى، فهم في قبضة الله، وتحت قهره وأمره، وعلى بساط ملكه، ولكنه الابتلاء:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2،3].
والابتلاء ضروري لكل من يحملون دعوة الله، ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.
وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل الله إلى آدم وحواء فلم يصمدا له: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115].
واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 35،36].
وكذلك بنوا إسرائيل حين طلبوا من موسى أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة، ولا يشتغلون فيه بالكسب، فجعل لهم يوم السبت، ثم كان الابتلاء ليربيهم الله، ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع.
فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، وذلك ابتلاء من الله، ولم يصمد فريق من بني إسرائيل لهذا الابتلاء فمسخهم الله قردة خاسئين:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 166].
وتواجه المسلم في حياته عقبتان:
عقبة داخلية .. وعقبة خارجية ..
ومواجهة العقبة الداخلية .. والانتصار عليها أهم من اقتحام المعارك، وذلك بالانتصار على هوى النفس، والشح والبخل، والرياء والنفاق، ومن انتصر على العدو الداخلي، سهل عليه الانتصار على العدو الخارجي كما قال سبحانه:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} [البلد: 11 - 18].
ومن سنة الله عز وجل أن كل من ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتلي بالاشتغال بما يضره وحُرم الأول.
فالمشركون لما زهدوا في عبادة الرحمن .. ابتلوا بعبادة الأوثان.
ولما استكبروا عن الانقياد للرسل .. ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين.
ولما استكبروا عن الانقياد للحق .. أذلهم الله بالانقياد لكل مبطل.
ولما تركوا اتباع كتب الله المنزلة لهداية العباد .. ابتلوا باتباع أرذلها وأخسها وأضرها للعقول.
ولما ترك المحاربون لله ورسوله إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن .. ابتلاهم بإنفاقها في طاعة الشيطان.
ولما أهانوا آيات الله ورسله .. أهانهم الله بمن يذلهم في الدنيا من أعدائهم، وفي الآخرة بالعذاب المهين.
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
فالمهاجرون الأولون الذين هجروا أوطانهم وتركوا أموالهم وأهلهم من أجل إعلاء كلمة الله .. عوضهم الله الرزق الواسع في الدنيا، والعز والتمكين في الأرض، والجنة في الآخرة.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله .. وهب الله له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ولم يبعث نبياً من بعده إلا من نسله.
ويوسف صلى الله عليه وسلم لما ابتلي بامرأة العزيز، وصبر وعصم نفسه، وحفظها من الوقوع على امرأة العزيز، وطلب السجن ليبعد عن الفتنة .. عوضه الله بأن مكن له في الأرض، واستمتع بما أحل الله له من الأموال والنساء والسلطان.
وأهل الكهف لما اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله .. نشر لهم من رحمته، وجعلهم سبباً للهداية.
ومريم ابنة عمران لما أحصنت فرجها .. أكرمها الله، ونفخ فيه من روحه، واصطفاها وطهرها، وجعلها وابنها آية للعالمين.
ومن ترك ما تهواه نفسه من الشهوات لله تعالى .. عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة إليه ما يفوق لذات الدنيا كلها.
والله عز وجل خلق العالم العلوي والعالم السفلي، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أحسن عملاً.
من يكون عمله موافقاً لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته سبحانه المتضمنة لمحبته وطاعته، وامتحن خلقه بين أمره الشرعي وقدره الكوني، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].
وهذا الابتلاء هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في حال السراء والضراء، وفي الخير والشر.
والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والصبر على طاعة الله أشق الصبرين.
والنعمة بالفقر والمرض وقبض الدنيا وأذى الخلق قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها.
فالرب عز وجل يبتلي بنعمه وينعم ببلائه، غير أن الشكر والصبر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني العبد عنهما طرفة عين.
فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر .. والمحظور لا يترك إلا بصبر وشكر .. وأما المقدور فمتى صبر العبد عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره.
والله سبحانه خلق السموات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه.
وخلق الموت والحياة ليبتليهم .. فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه .. وقدر عليهم الموت الذي ينالون به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب.
وزين لهم ما على الأرض ليبتليهم به، أيهم يقدم شهوات نفسه على محبوبات ربه وأوامره؟.
وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب، فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجوداً عياناً بعد أن كان غيباً في علمه.
فابتلى سبحانه أبوي الإنس والجن كلاً منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم صلى الله عليه وسلم ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه، واستمر هذا الابتلاء إلى يوم القيامة كما قال سبحانه:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35].
والله عز وجل ابتلى عباده بأمرين:
أمر فيه حيلة .. وأمر لا حيلة فيه.
فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة منه لا يجزع منه.
ونعم الله في البلاء الذي يصيب الناس مستورة لا يراها إلا أولو الألباب، فإذا أصيب الإنسان بمصيبة فليحمد الله إذ لم تكن في دينه .. وإذ لم تكن أعظم منها .. وإذ كانت في الدنيا ولم تكن في الآخرة .. وإذ لم يحرم الرضا بها .. وإذ يرجو الثواب عليها .. وبها تكمل عبودية الصبر .. وينال ثوابها كما قال سبحانه {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].
وقد ابتلى الله عز وجل الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين، وهو الشيطان وعساكره من شياطين الإنس والجن، فالحرب سجال بينه وبين القلب الذي هو محل معرفة الله ومحبته وعبوديته.
فولاه الله أمر هذه الحرب مع النفس والشيطان، وأمده بجند من الملائكة لا يفارقونه:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11].
ثم أيده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه، فأرسل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه كتابه، فازداد قوة إلى قوته، وعدة إلى عدته.
وأمده سبحانه بالعقل وزيراً له ومدبراً، وبالمعرفة مشيرة عليه، وناصحة له، وبالإيمان مثبتاً له وناصراً ومؤيداً، وباليقين حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه.
ثم أمده سبحانه بالقوى الظاهرة والباطنة لخوض هذه الحرب.
فجعل العين طليعته .. والأذن صاحبة خبره .. واللسان ترجمانه .. واليدين والرجلين أعوانه .. وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له .. ويسألون الله أن يقيه السيئات، ويدخله الجنات، وتولى سبحانه الدفاع عنه.
وحسب قوة الإيمان تكون قوة الابتلاء، فالأنبياء كانوا جبال الإيمان، وجبال اليقين، وجبال الصبر .. ثم يليهم الصحابة، وابتلاؤنا اليوم لا يكون كابتلاء الصحابة فضلاً عن الأنبياء، ولكن لا بدَّ من الابتلاء.
فللأنبياء ابتلاء .. وللصحابة ابتلاء .. ولمن بعدهم ابتلاء حسب قوة الإيمان وضعفه.
والله سبحانه: «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (1).
فكل جمال في العالم العلوي وفي العالم السفلي من جماله سبحانه، وكل جمال ونور في المخلوقات لا يساوي ذرة من جمال الخالق ونوره وجلاله.
وإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي، فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجماله.
فالرب سبحانه قد احتجب عن مخلوقاته بحجاب من نور مخلوق، جعله سبحانه يحجب نور وجهه الكريم وجلاله وجماله عن وصوله إلى المخلوقات حيث لا تحتمله.
(1) أخرجه مسلم برقم (178).
ونعيم الجنة المخلوق بالنسبة إلى نعيم معرفة المعبود ومحبته سبحانه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة المخلوق، فأكبر نعيم أهل الجنة النظر إلى وجهه سبحانه والفوز برضاه.
وقد احتجب سبحانه عن خلقه في الدنيا ليبلو بذلك إيمانهم، أيهم يؤمن به ويعرفه بالغيب ولم يره.
والله عز وجل يجزي العباد على إيمانهم بالغيب؛ لأن الله عز وجل لو تبدى لخلقه وتجلى لهم في الدنيا لم يكن لإيمان الغيب هناك معنى، كما أنه لم يكفر به عندها كافر، ولا عصاه عاص.
ولكنه تبارك وتعالى احتجب عنهم في الدنيا، ودعاهم إلى الإيمان به بالغيب، وإلى معرفته والإقرار بربوبيته، ليؤمن به من سبقت له منه السعادة، ويحق القول على الكافرين.
ولو تجلى لخلقه سبحانه لآمن به من في الأرض جميعاً بغير رسل ولا كتب ولا دعاة، ولم يعصوه طرفة عين.
فإذا كان يوم القيامة تجلى سبحانه لمن آمن به وصدق رسله وكتبه، وآمن برؤيته، وأقر بصفاته التي وصف بها نفسه حتى يروه عياناً؛ مثوبة منه لهم وإكراماً، ليزدادوا بالنظر إلى من عبدوه بالغيب ولم يروه نعيماً، وبرؤيته فرحاً وسروراً.
وحجب عنه الكفار يومئذ؛ لأنهم لم يؤمنوا به في الدنيا، فحرموا رؤيته في الآخرة كما حرموها في الدنيا ليزدادوا حسرة وثبوراً.
والله عز وجل خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها لابتلاء واختبار العباد أيهم أحسن عملاً، من يكون عمله موافقاً لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته، وهي العمل الأحسن، وهو مواقع محبته ورضاه.
وقدر سبحانه مقادير تخالفها ابتلاء منه، وامتحن خلقه بين أمره وقدره، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
فانقسم الخلق في هذا الابتلاء إلى قسمين:
قسم داروا مع أوامره ومحابه، ووقفوا حيث وقف بهم الأمر الشرعي، وتحركوا حيث حركهم الأمر، واستعملوا الأمر في القدر، وحكموا الأمر على القدر، ودفعوا القدر بالقدر، امتثالاً لأمر الله، واتباعاً لمرضاته، فهؤلاء هم الناجون.
والقسم الثاني: عارضوا بين الأمر والقدر، وبين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدره وقضاه، ثم افترقوا:
ففرقة كذبت بالقدر محافظة على الأمر، والإيمان بالقدر أصل الإيمان بالأمر، فمن كذب بالقدر فقد نقض تكذيبه إيمانه.
وفرقة ردت الأمر بالقدر، وهؤلاء من أكفر الخلق، وهم الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35].
وفرقة دارت مع القدر، فسارت بسيره، ونزلت بنزوله، ودانت به، ولم تبال وافق الأمر الشرعي أو خالفه، بل دينها القدر، فالحلال ما حل بيدها قدراً، والحرام ما حرمته قدراً، وهم مع من غلب من مسلم وكافر، وبر وفاجر، وهؤلاء أيضاً كفار.
وفرقة وقفت مع القدر مع اعترافها بأنه خلاف الأمر، ولم تدن به، ولكنها استرسلت معه، ولم تحكم عليه الأمر، وعجزت عن دفع القدر بالقدر اتباعاً للأمر، فهؤلاء مفرطون.
وهم بين عاجز وعاص لله، وهؤلاء كلهم مؤتمون بشيخهم إبليس فإنه أول من قدم القدر على الأمر الشرعي، وعارضه به، حيث قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} [الحجر: 39].
فرد إبليس أمر الله بقدره، واحتج على ربه بالقدر.
وانقسم أتباعه أربع فرق كما سبق، فإبليس وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالاً كونياً، فالقدر دينهم كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83].
فدينهم القدر، وبعث الله الرسل بالأمر الشرعي، وأمرهم أن يحاربوا به أهل القدر.
فأصحاب الأمر حرب لأصحاب القدر حتى يردوهم إلى الأمر الشرعي، وأصحاب القدر يحاربون أصحاب الأمر الشرعي حتى يخرجوهم منه كما قال سبحانه:{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 37].
فالرسل وأتباعهم دينهم الأمر مع إيمانهم بالقدر، وتحكيم الأمر عليه، وإبليس وأتباعه دينهم القدر، ودفع الأمر به.
وحركات العالم العلوي والعالم السفلي وما فيهما موافقة للأمر:
إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه .. وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه، وهو سبحانه قدره لحكمة وغاية حميدة.
فهو سبحانه يحب المغفرة وإن كره معاصي العباد، ويحب التوابين وإن كره معاصيهم التي يتوبون منها، ويحب المقاتلين في سبيله وإن كره أفعال من يجاهدونه كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4].
فهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو يحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها في خلقه، فهو رحيم يحب الرحمة، ويحب الرحماء، وهو عفو عن المذنبين، ويحب العفو، ويحب العافين عن الناس .. وهكذا.
وإذا ابتلى الله عبده ببلاء، فإن رده ذلك الابتلاء إلى ربه وجمعه عليه وطرحه
ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به.
والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه وقد عُوِّض عنها أجَلّ عِوَض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه.
فهذه البلية له عين النعمة وإن ساءته وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
وإن لم يرده ذلك البلاء إليه سبحانه، بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به.
فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه.
وجاءت طبيعته عند القدرة بالأشر والبطر، والإعراض عن شكر الله وعدم التوجه إليه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11].
فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل ورفعة كما قال سبحانه:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
والله تبارك وتعالى عليم بخلقه، خلق النفوس وفيها خبأ كامناً يعلمه سبحانه منها، فلا بدَّ أن يقيم أسباباً يظهر بها خبأ النفوس الذي كان كامناً فيها.
فإذا ظهر للعيان ترتب عليه أثره من السعادة والشقاوة.
وخلق سبحانه السموات والأرض ليعلم العباد كمال عظمته وكمال قدرته وعلمه كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
وخلق سبحانه العالم السفلي ليبلو عباده، فيظهر من يطيعه ويحبه ويجله ويعظمه ممن يعصيه ويخالفه.
وهذا الابتلاء والامتحان يستلزم أسباباً يحصل بها، فلا بد من خلق أسبابه.
ولهذا لما كان من أسبابه خلق الشهوات وما يدعو إليها وتزيينها فعل ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} [الكهف: 7،8].
والله عليم حكيم خلق الإنسان وجعله قابلاً للإيمان والكفر .. للحق والباطل .. للخير والشر، للطاعات والمعاصي.
وبحسب البيئة التي يعيش فيها، وبحسب المذكر له .. وبحسب العلم والأوامر التي تصل إليه يميل إلى هذا أو ذاك.
والقلوب والجوارح لها مصرفان:
مصرف محمود .. ومصرف مذموم.
فالمحبة مثلاً من أعمال القلوب ولها مصرفان:
الأول: مصرف محمود: وهو محبة الله ورسوله، ومحبة أوامر الله، ومحبة ما يحبه الله.
الثاني: مصرف مذموم: وهو محبة ما يبغضه الله من الأعمال والأقوال، والأشخاص والأماكن، والأخلاق والأحوال.
وكذلك الجوارح لها مصرف محمود .. ومصرف مذموم.
فالمحمود استعمالها في طاعة الله .. والمذموم استعمالها في معصية الله.
فقلوب الناس وجوارحهم تعمل إما في المصرف المحمود الذي يرضي الله عز وجل .. وإما في المصرف المذموم الذي يغضب الله عز وجل فالمحمود لله وصاحبه رابح .. والمذموم للشيطان وصاحبه خاسر: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119].
والدين كله يتمثل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت .. وتقديم الأوامر على الشهوات .. وتقديم الحقوق على كل محبوب .. وتقديم مراد الله على مراد النفس .. وربط العواطف بأوامر الله.
والإنسان ظلوم كفار، وقد ذمه الله باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء، وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء، فقال سبحانه:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: 9،10].
وإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه له وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة، وهي نعمة الإسلام.
والله عز وجل عليم بكل شيء: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].
علم سبحانه قبل أن يوجد عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي، والخير والشر، بما أظهر معلومه منهم، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب، بما قام فيهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم الإلهي السابق.
ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع شرائعه؛ إعذاراً إليهم، وإقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهو لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟.
فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل الثواب أو العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار، فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما سيكون.
وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زين لهم من الدنيا، وبما ركب فيهم من الشهوات.
فذلك ابتلاء بشرعه وأمره .. وهذا ابتلاء بقضائه وقدره.
وقد اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبني عليه، فذنوبه من أعظم أسباب الرحمة في حق ظالمه.
كما أن المسؤول إذا رد السائل فهو في خفارة كذبه، ولو صدق السائل لما أفلح
من رده، وكذلك السارق، وقاطع الطريق، والناصب، والمنتهب، والمختلس في خفارة منع أصحاب الأموال حقوق الله فيها، ولو أدوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم.
وكذلك تسليط العالم بعضهم على بعض، وتمكين الجناة والبغاة، حتى أن الحيوانات العادية على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيش في خفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يسلط عليهم منها شيء كما قال سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
والله بصير بالعباد، يصرف الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه، فصدهم عنه كما صدوا عباده عنه.
ويحبس الغيث عن عباده ويبتليهم بالقحط إذا منعوا الزكاة وحرموا المساكين، فلما منعوا المساكين حقهم منع الله عنهم مادة القوت والرزق وهو الغيث.
ويمحق الله أموال المرابين ويتلفها كما فعلوا بأموال الناس وأكلوها بالباطل، ومحقوها عليهم، وأتلفوها بالربا، فعوقبوا إتلافاً بإتلاف كما جوزي المتصدقون بأضعاف كما قال سبحانه:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [البقرة: 276].
ويسلط الله سبحانه العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، فيسلط الله عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء، ولا يظلم ربك أحداً.
هذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن يطوي الله الأرض ويعيدها كما بدأها كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
والتربية الإلهية أولها ابتلاء وامتحان .. وأوسطها صبر ويقين وتوكل .. وآخرها هداية ونصر وتمكين .. وعاقبتها الجنة ورضوان رب العالمين كما قال سبحانه:
والله تبارك وتعالى ابتلى الأنبياء بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته ويتوجهوا إلى ربهم في كشف ما بهم من ضر إذا نزل .. وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وحلفائهم إذا أوذوا من الناس .. فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء .. صبروا ورضوا وتأسوا بهم .. ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد الله لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة .. فيمحقهم الله بسبب بغيهم وعداوتهم .. ويعجل تطهير الأرض منهم.
فهذه من بعض حكمة الله في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم لهم: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام: 17].
وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه.
كما ابتلى الله جميع الأنبياء، بمعارضة قومهم لهم.
وكما ابتلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم بقومه الذين كذبوه وألقوه في النار وكما ابتلاه بذبح ولده إسماعيل.
وكما ابتلى موسى صلى الله عليه وسلم بفرعون وقومه الذين كذبوه، والسحرة الذين بارزوه، وبني إسرائيل الذين اختلفوا عليه.
وكما ابتلى أيوب صلى الله عليه وسلم بالمرض وذهاب الأهل.
وكما ابتلى عيسى صلى الله عليه وسلم باليهود الذين كذبوه، وأرادوا قتله وصلبه.
وكما ابتلى محمداً صلى الله عليه وسلم بأذى الكفار له، وتكذيبهم له، ومطاردته وإرادة قتله، وإخراجه من مكة، وجمع الناس والأموال لقتاله والقضاء على دينه وأتباعه.
وكما ابتلاه باليهود الذين قاتلوه، وكادوا له، ونقضوا عهودهم معه وجمعوا الأحزاب لحربه، وسحروه، ووضعوا السم في اللحم له.
فصبر حتى أظهر الله دينه، وخذل أعداءه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام: 34].
والبلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام:
فهو إما أن يكون في نفس العبد .. أو في ماله .. أو في عرضه .. أو في أهله ومن يحب.
والذي في نفسه إما أن يكون بتلفها تارة، أو بتألمها بدون التلف.
فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله، وأشد هذه الأقسام المصيبة في النفس.
والمؤمن كلما نقص شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه، وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته.
فنقصان بدنه ودنياه، ولذته وسروره، وجاهه ورياسته، إن زاد في حصول ذلك، وتوفيره عليه في معاده كان رحمة به، وخيراً له، وذخراً له.
وإلا كان حرماناً وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة، أو ترك واجب ظاهر أو باطن، فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة.
والله تبارك وتعالى حكيم عليم يبتلي عباده تارة بالنعم .. وتارة بالمصائب.
فمن وسع الله عليه وإن كان إكراماً له في الدنيا فلا يدل على أنه كريم عنده من أهل كرامته ومحبته.
ومن قتر الله عليه فلا يدل على إهانته له وسقوط منزلته عنده، بل يوسع سبحانه ابتلاء وامتحاناً، ويقتر ابتلاء وامتحاناً، ويبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} [الفجر: 15،16].
وهو سبحانه يبتلي عبده بنعمة تجلب له نقمة، وبنعمة تجلب له نعمة أخرى، ويبتليه كذلك بنقمة تجلب له نعمة، وبنقمة تجلب له نقمة أخرى.
فهذا شأن نعمه ونقمه سبحانه.
فالكرامات امتحان وابتلاء كالملك والسلطان والمال كما قال سليمان صلى الله عليه وسلم: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40].
فالنعم ابتلاء من الله يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور، كما أن المحن بلوى منه، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب، فمن شكر زاده الله، ومن كفر سلبه إياه.
وإذا ابتلى الله الإنسان بالفقر، فإن صبر أعطي أضعاف ما فاته من الرزق، وإن سخط فله السخط.
فالصبر والذكر والشكر من أجل مقامات الدين وأعظمها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. اللَّهُمَّ! أَجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ. وَأخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْها» أخرجه مسلم (1).
وهذا الحديث يتضمن أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل، والملك يتصرف في ملكه كيف شاء، أما العبد فلا يتصرف إلا بإذن مالكه ووفق أمره.
الثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، فليفكر بما يقدم به على ربه من الإيمان والأعمال الصالحة.
ولينظر إلى مقدار الأجر على المصيبة إن صبر، وأنها أخف مما هو أعظم منها، وليعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومعرفة هذا أبلغ علاج للمصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، وبه يتسلى عما أصابه.
ولله تبارك وتعالى على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي
(1) أخرجه مسلم برقم (918).
سَوّى بين عباده.
فعلى العالم من عبودية الله نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه، وحمل الناس عليه، والصبر على ذلك ما ليس على المفتي.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وقد غر الشيطان أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات النافعة، فلم يحدثوا أنفسهم بالقيام بها.
وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، وتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله من مرتكب المعاصي.
ومن له دراية ومعرفة بما بعث الله به رسوله، وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً.
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنن رسوله يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان؟
وهؤلاء مع سقوطهم عن عين الله، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية وهي موت القلوب، فالقلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.
ولا بدَّ من تربية النفوس بالبلاء، وامتحانها بالمخاوف والشدائد والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمراث كما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
لا بدَّ من هذا الابتلاء الظاهر المكشوف لكل الناس، كي يعز الدين على النفوس بمقدار ما أدوا في سبيله من تكاليف وصبر، فكلما تألموا في سبيله كلما بذلوا من أجله، وكلما بذلوا من أجله كان أعز عليهم من كل شيء؟
وكذلك لن يدرك الآخرون قيمة الدين وعظمته إلا حين يرون ابتلاء أهله وصبرهم على البلاء من أجله، وحينئذ سيقولون لو لم يكن عند هؤلاء من الخير أكبر وأعظم مما ابتلوا به ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.
وعندئذ ينقلب المعارضون للدين باحثين عنه، مقدرين له، مندفعين إليه، وعندئذ يجيء نصر الله ويدخل الناس في دين الله أفواجاً.
ولا بدَّ من البلاء ليصلب عود أهل الحق ويقوى ويشتد.
وبحصول الشدائد والمحن يحصل التوجه والالتجاء إلى الله وحده، فحين تهتز الأسناد كلها يتوجه القلب إلى الله وحده، فلا يرى قوة إلا قوته، ولا يرى حولاً إلا حوله، ولا ملجأ إلا إليه، وهذه هي العبودية التي يريدها الله من عبده.
إن لهؤلاء في صلوات الله ورحمته وهدايته جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات .. وجزاء على الخوف والجوع والشدة .. وجزاء على القتل والشهادة.
فهذا العطاء من الله أثقل في الميزان من كل عطاء، أرجح من النصر، وأرجح من التمكين، وأرجح من شفاء غيظ الصدور.
فهذا طريق مَنْ يريد الله استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
وسنة الله جارية وفق ما يشاء، ومن سنة الله في المكذبين لرسله أن يأخذهم بالبأساء والضراء، كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} [الأعراف: 94].
لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن
يرقق القلوب التي طال عليها الأمد، وأن يتجه بالبشر الضعاف الغافلين إلى خالقهم القهار، يتضرعون إليه، ويطلبون رحمته وعفوه، ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له.
وليس بالله حاجة لعبادة العباد، فهو الغني وهم الفقراء، وهو القوي وهم الضعفاء، ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم، ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.
فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه .. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد أن يغويهم .. وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم التي تقعدهم عن طاعة الله .. وتحرروا من العبودية للعبيد أمثالهم.
استحيوا أن يطيعوا خطوات الشيطان .. واستحيوا أن يغضبوا الله بنية أو عمل وهم يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون.
لذلك اقتضت سنة الله ومشيئته أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه بالبأساء والضراء، استحياء لقلوبهم بالألم، والألم خير مهذِّب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير موجه إلى ظلال الرحمة لعلهم يضرعون:
فإذا الرخاء مكان الشدة .. واليسر مكان العسر .. والعافية مكان الضر .. والأمن مكان الخوف .. وإذا هو متاع ورخاء، وكثرة وامتلاء، إنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء.
والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون، فإنه يذكر صاحبه بالله، فيتجه إليه، ويتضرع بين يديه، فيجد في رحابه فسحة.
فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون، فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطفي.
فالثراء والغنى يولد حالة قلة المبالاة، وحالة الاستخفاف والاستهتار، فلا
يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه، خاصة حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة.
فهم يتنعمون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار، ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان، وهم لا يتقون غضب الله، ولا لوم الناس، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة، وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً بلا سبب معلوم، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء، وقد أخذنا دورنا في الضراء، وجاء دورنا في السراء، هكذا يظنون.
عندئذ وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان تجيء العاقبة وفق السنة الجارية:{فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} [الأعراف: 95].
هكذا تجري سنة الله أبداً وفق مشيئته في عباده، فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء.
أما الطرف الآخر لسنة الله الجارية فكما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
فأهل القرى لو آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار، لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض، هكذا مفتوحة بلا حساب، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيض غامر من كل مكان.
وقد ينظر بعض الناس فيرى من يقول إنهم مسلمون مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق.
ويرى في المقابل أمماً لا يؤمنون بالله ولا يتقونه مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ.
فيتساءل وأين هي السنة الجارية التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهمٌ تخيله ظواهر الأحوال.
إن أولئك الذين يقولون إنهم مسلمون، لا مؤمنون ولا متقون، إنهم لا يخلصون
عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
إنهم في الواقع يسلمون رقابهم لعبيد منهم يتألهون عليهم، ويشرِّعون لهم، وما أولئك بالمؤمنين.
فالمؤمن حقاً لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره.
ويوم كان المسلمون مؤمنين حقاً دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله بالنصر والتمكين في الأرض.
وأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق، فهذه هي السنة، وهو الابتلاء بالنعمة، وهو أخطر من الابتلاء بالشدة، وفرق بينه وبين البركات التي يَعِدها الله من يؤمنون ويتقون.
فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضا والراحة.
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى بركات في الأشياء .. بركات في النفوس .. بركات في المشاعر .. بركات في طيبات الحياة .. بركات تنمي الحياة وترفعها، وليست مجرد وفرة المال مع الشقوة والتردي والانحلال.
فكم من أمة غنية ولكنها تعيش في شقوة؟.
فهي في حاضر نراه، يترقبه مستقبل نكد، وابتلاء يعقبه نكال:{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101].
فالعطاء ليس دائماً دليل رضى، فقد يكون مقدمة للعقوبة كما قال سبحانه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض، وبكل شيء يملكه، وبكل متاع يتاح له، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة،
ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه.
وهي لمسة قوية للقلب البشري، إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أُديل من مالكيه الأوائل، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك، ومحاسب على ما كسب فيه:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 13،14].
وشعور الإنسان بالرقابة التي تحيط به يجعله شديد التوقي، شديد الحذر، شديد الرغبة في الإحسان، شديد الرغبة في النجاة من هذا الامتحان.
إن الحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان:
عقيدة .. وعبادة .. وأخلاق .. وطريقة حياة.
فالذي خلق البشر سبحانه أعلم بما يصلحهم وما يصلح لهم، وما يسعدهم وينجيهم، وما ينفعهم وما يضرهم فأكرمهم به كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
والقرآن يقول لمن يطعمون الحياة الإسلامية والنظام الإسلامي بمنتجات أخرى ونظام آخر من صنع البشر: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
إن هذا الإنسان الذي خلقه الله له في حياته حالتان:
الأولى: أحوال هو مقهور مجبور أن يسلم فيها لله كوجوده، ويوم ولادته، ولونه وشكله، وطوله وعرضه، ومرضه وصحته، وحركة قلبه ومعدته وروحه، ونحو ذلك.
وكل ذلك وأمثاله لا تستطيع أن تفعله، بل أنت مكره فيه، ومجبور عليه، أن
تسلم لله فيما يريد، ويجري عليك قدر الله في جميع ذلك، سواء أردت أو لم ترد.
الثانية: أحوال هو فيها مختار، وهي ما أعطاه الله فيها إرادة أن يفعل أولا يفعل، يسلم أو لا يسلم.
فهو مختار أن يؤمن أو يكفر .. أو يطيع أو يعصي .. أو يعدل أو يظلم .. أو ينفع أو يضر .. وهو محاسب على اختياره.
فالله عز وجل جعل في حياة بعض مخلوقاته كالإنس والجن مناطق الاختيار، يعطيهم فيه الحرية في أن يختاروا ما شاءوا، ومناطق هم مكرهون فيها، مقهورون عليها، لا اختيار لهم فيها، بل اختارها الله لهم، وتكفل بها، وأنفذها فيهم.
فقد يحدث للإنسان شيء أو يمرض أو يقع له ما يكرهه، ولو كان للإنسان هنا إرادة حرة لمنع حدوثه ما دام يكرهه، ولكنه مقهور لأمر الله فيه، لا يستطيع دفعه.
وما دام يكره شيئاً لا يستطيع دفعه فهو مكره ومجبور أن يسلم لله سبحانه فيما أراد.
ففي مثل هذه الأمور الإنسان مسلم لله كرهاً بلا اختيار.
بينما في أمور الدين الإنسان مسلم لله طوعاً باختياره، فيستطيع أن يصلي ويصوم، ويتصدق ويذكر الله، ويستطيع ألا يفعل ذلك.
وكل ما في السموات والأرض خاضع لله عز وجل مقهور بأمره، مسلم له، عبد له كما قال سبحانه:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].
فكل من في السموات والأرض أسلم لله جل جلاله، والمطلوب من الإنسان أن ينسجم مع الكون كله في التسليم لله سبحانه، ويسلم حركته الاختيارية فيه لله سبحانه، وهي طاعة أمره وشرعه، كما أسلم لله فيما يكرهه ولا يقدر عليه.
فالمؤمن أسلم لله ربه في كل الأمور، فهو أسلم لله في الأمور التي له اختيار فيها، وهي طاعة الله ورسوله، وأسلم في الأمور التي ليس له فيها اختيار مما قدره الله عليه.
فأسلم قيادته لله طوعاً وكرهاً فيما يقدر عليه، وفيما لا يقدر عليه.
أما الكافر الذي رفض أن يسلم قيادته لله في الأمور التي له فيها اختيار، فهو يكفر بالله باختياره الذي منحه الله له، ولكنه يسلم لله قهراً أو كرهاً فيما ليس له فيه اختيار، فهو مقهور ومجبور على الاستسلام لله كباقي المخلوقات، فهو والكون كله في قبضة الله.
وكل من في السموات والأرض عبيد لملك الملوك كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95].
فليس للعبد إلا أن يسلم ويذعن لمالكه، ويطيع أمره، فهو أعلم بما ينفعه ويصلحه.
وكل الكون خلقه الله وسخره وقهره على تنفيذ ما يريد، فالسموات والأرض قالتا أتينا طائعين إجلالاً لربها، ولو أنها لم تأت طائعة لجاءت مكرهة مقهورة لأمر ربها.
وكل الخلق راجعون إلى الله، فمن استغل الاختيار الذي أعطاه الله له في الدنيا، وخان الأمانة، وخرج عن الدين، وترك منهج ربه، فلن يفلت، ولن يدفع عن نفسه الموت، ولن يعطي لنفسه الخلود، وستنتهي فترة الاختيار، ويحاسب على ما اختار كما قال سبحانه:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25،26].
إن مجامع المؤمنين تختلف عن مجامع الكافرين مادياً ومعنوياً كما قال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36].
مجامع الكفار تقف بمغرياتها الفخمة الضخمة، تقف بمالها وجمالها،
وسلطانها وجاهها، تحقق المصالح، وتوفر المغانم، وتقف باللذائذ والمتاع، والكبر والإسراف.
أما مجامع المؤمنين فتقف بمظهرها الفقير المتواضع، تهزأ بالمال والمتاع، وتسخر من الجاه والسلطان، وتدعو الناس إليها، لا باسم لذة تحققها، ولا مصلحة توفرها، ولا قربى من ذي سلطان.
ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف، عاطلة من كل زينة، معتزة بعزة الله دون سواه.
لا .. بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئاً في هذه الأرض.
إنما هو القرب من الله، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب فـ:{أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم: 73].
الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ .. أم الفقراء الذين يلتفون حوله؟
إنها لحكمة الله. إنه الابتلاء .. إنه الامتحان.
أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء، لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف ولا فخامة.
ليقبل عليها من يريدها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه، وتعارفوا عليه من قيم ومغريات، وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع، ومن يركض وراء المنصب والجاه:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم: 73].
وإذا غفل الناس عما جاء به الأنبياء من الحق، وأعرضوا عنه إلى غيره، استدرجهم الله من النعم إلى النقم كما قال سبحانه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44،45].
فهم يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت، وإمدادهم بالأموال والبنين في فترة الاختبار، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات، وايثارهم بالنعمة والعطاء:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55،56].
إنما هي الفتنة والابتلاء، ولكنهم لا يشعرون لشدة سكرهم وغفلتهم بما وراء المال والبنين من مصير قادم، وشر مستطير، وعقاب ينتظرهم في النار:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
والمشركون الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين تنكبوا الطريق، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ولا الابتلاء بالنقمة.
فإن أصابتهم النعمة حسبوها إكراماً لهم على حسن عملهم كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55،56].
وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم، ولم تستيقظ ضمائرهم، ولم يرجعوا إلى الله، يتضرعون له، ليكشف عنهم الضر، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة، فإذا هم حائرون يائسون:{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون: 75،76].
وإذا كان الإيمان درجات .. والرسل درجات .. والأعمال درجات .. فكذلك الابتلاء درجات .. وأشده ما خص الله به أنبياءه ورسله .. فهم أعظم الناس ابتلاء .. وأكملهم صبراً .. وأوفرهم أجراً.
فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو الاستسلام لله بالطاعة والعبودية، وبذل كل شيء، وترك كل شيء من أجل ذلك.
فإبراهيم خليل الرحمن ابتلي بذبح ابنه إسماعيل، فما كاد يأنس به حتى ابتلي
بذبحه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102].
إنها إشارة وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، فلبى دون أن يعترض أو يسأل.
ولم يلبِّ في انزعاج ولا جزع، بل استجاب مطمئناً راضياً واثقاً أنه يؤدي واجبه، والذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي.
إن الأمر شاق على النفس جداً، فالله لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى المعركة .. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته .. إنما يطلب إليه أن يتولى ذبح ابنه بيده.
وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أن يرى فيه رأيه.
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه، كالذي يعرف المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد فليكن ما يريد، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة واستسلاماً، لا قهراً ولا اضطراراً؛ لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر، ويتذوق حلاوة التسليم لأمر ربه.
إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يحب لابنه إسماعيل صلى الله عليه وسلم أن يتذوق حلاوة الإيمان، ولذة التطوع التي ذاقها.
فماذا كان من أمر الغلام الذي يعرض عليه الذبح تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟.
{قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات: 102].
لقد تلقى الأمر لا في طاعة فحسب، ولكن في رضى كذلك ويقين.
ثم هو الأدب مع الله بالاستعانة به على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة.
فلم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، إنما أرجع الفضل كله لله، إنْ هو أعانه على ما يُطلب إليه، وأصبره على ما يراد به.
ثم يزيد البلاء بدفعه إلى التنفيذ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103].
ألا ما أعظم هذا الابتلاء، لقد كب إبراهيم ابنه على جبينه ليذبحه، والغلام استسلم للذبح فلا يتحرك اقتناعاً، وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً.
لقد أسلما، فهذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة، وطمأنينة ورضى، وتسليم وتنفيذ.
وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي تنبي عن الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة ولا الاندفاع، إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل، القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
بل هنا الرضا الهادي المتذوق لحلاوة الطاعة.
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أسلما، ولم يبق إلا أن يذبح إبراهيم ابنه إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه.
وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله، بعد ما وضع الأب وابنه في هذا الميزان من روحهما وعز مهما كل ما أراده الله منهما، فالابتلاء قد تم، ولم يبق إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح.
والله عز وجل لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء.
فلما علم الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا، فأثمر الصدق والنجاة:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} [الصافات: 104،105].
فالله عز وجل لا يريد إلا الإسلام والاستسلام، بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله، أو تعزه عن أمره، أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد، ولو كانت هي النفس والحياة.
فلما بذلا ذلك ولم يبق إلا اللحم والدم، فهذا ينوب عنه ذبح آخر، ذبح من لحم ودم، ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت بذبح عظيم، يذبح بدل
إسماعيل، وهذا جزاء المحسنين، ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى تذكيراً بهذا الحادث العظيم .. الذي تجلت فيه حقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وجمال التسليم، وجمال الرحمة، وجمال البذل، وكمال التضحية.
وليعرف العباد أن الله لا يريد أن يعذبهم بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه نفوسهم طائعة ملبية وافية، مؤدية مستسلمة، لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه.
فإذا علم الله منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام، واحتسبها لها وفاءً وأداءً، وقَبِل منها، وفداها وأكرمها، فهي تذكر بالخير على توالي الأجيال والقرون:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [الصافات: 106 - 111].
وقد ابتلى الله عز وجل نبيه أيوب صلى الله عليه وسلم ليمتحن صبره، فكان يعيش في نعمة من المال والأهل والصحة.
فسلبه الله المال حتى لم يبق لديه شيء .. وسلبه الأهل والأولاد حتى لم يبق له إلا زوجه .. ثم سلبه الله الصحة، وابتلاه بالمرض حتى أصبح لا يخدم نفسه، ونفخ الشيطان في جسده حتى تقرح ثم تقيح.
والشيطان يأتي إليه في كل حال، ويذكره بالمال والأهل والعافية، ولكنه لا يبالي به صابراً لله كما قال الله عنه:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 44].
ثم جاء الشيطان إلى زوجة أيوب، وذكرها بحالها الأولى، فاعترضت مرة على أيوب، فعلم أن الشيطان سوَّل لها، وحلف ليضربنها مائة سوط، فلما شفاه الله، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه أفتاه الله أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ليبر بيمينه كما قال سبحانه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 44].
فكان ما أصاب أيوب بسبب الشيطان، فشكاه إلى ربه، وصبر على هذا البلاء كله، فشفاه الله لأنه كمل مراتب العبودية لربه، فأمره أن يضرب الأرض برجله
لينبع منها ماء يغتسل منه ويشرب، فيذهب عنه الضر، ففعل وذهب عنه الضر، وشفاه الله عز وجل.
ووهب له أهله ومثلهم معهم، وأغناه وأعطاه مالاً عظيماً، وعافاه في بدنه لكمال صبره على البلاء، وقوة يقينه على ربه كما قال سبحانه:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)} [ص: 41 - 43].
فليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا، فيعلموا أن من صبر على الضر أن الله تعالى يثيبه عاجلاً وآجلاً، ويستجيب دعاءه إذا دعاه، كما صبر أيوب صلى الله عليه وسلم على البلاء لوجه الله تعالى، وشكا إلى ربه وأناب إليه، فاستجاب له، وشفاه وأغناه فنعم العبد، ونعم الصابر، ونعم الرسول:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 44].
والأنبياء فعلوا الأسباب، وأكلوا الطعام، وتزوجوا النساء؛ لأنهم قدوة للناس، وأكثر الأمة تركوا سنن العادة، وقاموا بسنن العبادة، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.
وجهد الدعوة له ثلاث مراتب:
البداية .. التربية .. الثمرة ..
فالبداية بالدعوة .. والتربية بالأحوال والابتلاء .. والثمرة بالنصرة ونزول الهداية.
فكل بلاء يصيب العباد لا كاشف له إلا الله الكافي الشافي.
وكل بلاء يصيب العبد يحتاج إلى صبر، وبحسب قوة البلاء تكون قوة الصبر، وبحسب قوة الصبر تكون كثرة الأجر كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].
وقوة الصبر على البلاء تنشأ من عدة أسباب:
أحدها: شهود جزاء المصيبة وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة مسطورة في أم الكتاب قبل أن يخلق، فجزعه لا يزيده إلا عذاباً.
الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى وهو الصبر، أو الصبر والرضا وهذا أكمل، أو الصبر والشكر وهذا أعلى.
الخامس: علمه أن المصيبة أصابته بسبب ذنبه، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له، واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع له، ساقه إليه العليم بمصلحته، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، الرحيم به، فليصبر على تجرعه.
الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فلا ينظر إلى مرارة الدواء، بل ينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره.
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أولياء الله وحزبه أم لا؟.
فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خلع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءه وحزبه خدماً له وعونا له.
وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طرد، وصفع قفاه، وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر.
العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد حقاً من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال.
وأما عبد السراء والعافية، الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به،
وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، ولو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه ولسانه بشكره.
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
والله جل جلاله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، قدر جميع ما يجري في الكون من الأرزاق والآجال، والأقوال والأعمال، والمصائب، والأحوال كما قال سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22،23].
فالله سبحانه قدر ما يصيب العباد من المصائب قبل أن يخلق ويبرأ الأنفس والمصائب والأرض.
وأخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه، وأنه يسير عليه، وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن المصيبة فيه بقدره وكتابته، وقد كتبت قبل خلقهم.
فإذا علموا ذلك هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه، ولم يفرحوا بالحاصل لعلمهم أن المصيبة مقدرة في كل ما يقع على الأرض، فكيف يفرح بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه؟.
ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته .. أو حصول مكروه أو خوف حصوله، نبه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله، وعلى فوته حيث لم يحصل، ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها، وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع.
وهذه هي أنواع المصائب، فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة، وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وإنَّ ما أخطأه منها لم يكن ليصيبه هانت عليه، وخف حملها،
وأنزلها منزلة الحر والبرد.
والجزع ضعف في النفس، وخوف في القلب .. يمده شدة الطمع والحرص .. ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر.
ومتى آمن العبد بالقدر علم أن المقدر كائن ولا بدَّ، وعلم أن المصيبة مقدرة في الحاضر والغائب، فلم يجزع ولم يفرح، وإلا فالجزع عناء محض، ومصيبة ثانية.
أما رقة القلب فإنها ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وكان رسول الله أرق الناس قلباً، وأغزرهم دمعاً، وأبعدهم من الجزع؛ لكمال معرفته ورحمته، وأقرب الخلق إلى الله أعظمهم رأفة ورحمة.
فالقلب إذا أشرق فيه نور الإيمان، واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله رق، وسكنت فيه الرحمة والرأفة، فتراه رقيق القلب رحيماً بكل مخلوق:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
ولا يجوز للعباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر من أفعال العباد كالكفر والمعاصي، ولكن على الناس أن يرضوا بكل ما أمر الله به وشرعه، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به وشرعه.
وينبغي للإنسان أن يرضى بما قدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوباً، مثل أن يبتليه بفقر أو مرض، أو ذل أو أذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، والرضا بها مشروع:{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} [المعارج: 5].
وعلى المسلم في جميع الأحوال في السراء والضراء لزوم الأوامر الشرعية، وعدم التأثر بالأحوال، وبسبب الأوامر نتحمل الأحوال، وبسبب الأحوال لا نغير الأوامر ليكون الله معنا، ويكشف ما حل بنا:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 120].
وكل ما قدره الله وقضاه من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال
والحيوانات، ومن هو خارج عن التكليف، ومن لا ثواب ولا عقاب عليه، كله جار على مقتضى الحكمة.
فالرب سبحانه أسماؤه حسنى، وصفاته كاملة، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة، وله على ذلك كل حمد ومدح وثناء، وكل خير فمنه وله وبيده، وهو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
والشر ليس إليه بوجه من الوجوه، وإن كان في مفعولاته فهو خير بإضافته إليه، وشر بإضافته إلى من صدر منه أو وقع به.
والأمر قسمة بين فضل الله وعدله، فيختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا وهذا.
فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستعمل فيما هو مهيأ له، وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون.
فإذا واقعوا معصية عاد ذلك عليهم رحمة، وانقلب في حقهم دواء، وبُدِّل حسنة بالتوبة النصوح، والحسنات الماحية كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 70].
لأنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله، وأن قلوبهم بيده، وعصمتهم إليه، وأراهم عزته في قضائه، وبره وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل.
وأشهدهم حاجتهم إليه، وافتقارهم وذلهم بين يديه، وأنه إن لم يغفر لهم، ويعف عنهم، فليس لهم سبيل إلى النجاة أبداً.
فإنهم لما عزموا ألا يعصوه، ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم قدرته، وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم، وسنة مغفرته لهم، فدعوه فأجابهم وتاب عليهم.
فلما تابوا إليه واستغفروه عرفهم رحمته وسعة مغفرته، وأشهدهم حمده العظيم، وبره العميم، وكرمه في أن خلى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمته وإعانته، ثم لم يخل بينهم وبين ما توجبه من الهلاك والفساد، بل تداركهم بالدواء الثاني الشافي فرحمهم، وجعل تلك الآثار التي توجبها المعصية من المحن والبلاء والشدائد رحمة لهم، وسبباً إلى علو درجاتهم، ونيل الزلفى والكرامة عنده سبحانه.
فأشهدهم العزيز الحكيم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته.
والله تبارك وتعالى أرحم بعباده من أنفسهم وأعلم بما يصلحهم، وهو الذي يربيهم بما ينفعهم، فمتى مال قلب العبد إلى ما سوى الله جعل الله ذلك الشيء منشأ للآفات، فحينئذ ينصرف وجه القلب عن المخلوق إلى الخالق، وفي ذلك سعادته ونجاته وفلاحه.
فآدم صلى الله عليه وسلم لما تعلق قلبه بالجنة جعلها الله محنة عليه حتى زالت الجنة، فبقي آدم مع ذكر الله سبحانه.
ولما استأنس يعقوب صلى الله عليه وسلم بيوسف صلى الله عليه وسلم أوقع الفراق بينهما، حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق سبحانه.
ولما طمع محمد صلى الله عليه وسلم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه، فما أوذي نبي مثل ما أوذي، حتى صار اعتماده وتوكله باليقين على ربه وحده، ولم يلتفت إلى ما سواه.
والله تبارك وتعالى خلق السموات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه، وهذا الحق الذي خلق به خلقه.
وخلق الموت والحياة ليبتليهم أيضاً، فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه، وقدر عليهم الموت الذي ينالون به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب.
وزين لهم ما على الأرض من أشياء وشهوات ليبتليهم به، أيهم يؤثر ذلك عليه سبحانه.
وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب.
فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجوداً عياناً، بعد أن كان غيباً في علمه لا يعلمه إلا هو.
فابتلى سبحانه أبوي الإنس والجن كلاً منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه الله منه، فلهذا قال سبحانه للملائكة:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
واستمر هذا الابتلاء في الذرية، ولا زال ماضياً إلى يوم القيامة، فابتلى الأنبياء والرسل بأممهم، وابتلى أممهم بهم.
وبهذا الابتلاء والامتحان تظهر الحقائق، ويظهر ما كان كامناً في النفوس ولذا قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20].
وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35].
وأكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولاً من نقص وجهل وفقر وذنوب، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه، وأنعم عليه بذلك ظاهراً وباطناً.
ولذا ينبه الله سبحانه الإنسان على مبدأ خلقه الضعيف من الماء المهين، ثم نقله في أطباق خلقه وأطواره من حال إلى حال، حتى جعله بشراً سوياً يسمع ويبصر، وينطق ويبطش، ويعلم ويتحرك، ويأمر وينهى، ويصول ويجول، كما قال سبحانه:{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)} [المعارج: 38،39].
فهو سبحانه الرب الإله الذي خلقهم مما يعلمون، لا يحسن به مع ذلك أن
يتركهم سدى، لا يرسل إليهم رسولاً، ولا ينزل عليهم كتاباً، ولا يعجز سبحانه مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقاً جديداً، ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من خير أو شر.
فكيف يطمع هؤلاء الكفار في دخول الجنة وهم يكذبون الله، ويكذبون رسله، ويعدلون به خلقه، وهم يعلمون من أي شيء خلقهم؟.
وسبب الخذلان لهم عدم صلاحية المحل وأهليته، وعدم قبوله للنعمة، بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه، كما قال سبحانه عن قارون حين:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص: 78].
وسليمان صلى الله عليه وسلم رأى ما أوتيه من الملك من فضل الله عليه ومنته كما قال سبحانه: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40].
أما قارون فرأى ذلك من نفسه واستحقاقه وأنه أهله وحقيق به، وإذا علم الله هذا من قلب العبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة.
فأسباب الخذلان من النفس .. وأسباب التوفيق مِن جَعْل الله لها قابلة للنعمة، فأسباب التوفيق منه ومن فضله .. وهو الخالق لهذه وهذه .. كما خلق أجزاء الأرض هذه قابلة للنبات .. وهذه غير قابلة له .. وخلق الشجر هذه تقبل الثمرة .. وهذه لا تقبلها.
وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره، وإجلاله وتعظيمه، وتوحيده ونصح عباده .. وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل لضده، وهو الحكيم العليم.
والإنسان لا يصل إلى أسمى الغايات وأكمل النهايات إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وهذا الجسر لكماله يشبه الجسر الذي لا سبيل إلى دخول الجنة إلا
بعبوره.
وكم لله من نعمة ورحمة ومنحة فيما يبتلي به عباده، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه رحمة ونعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنَّة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان.
فتأمل حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء، والتوبة والهداية، ورفعة المنزلة، فلولا تلك المحنة التي جرت عليه، وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك، لما وصل إلى ما وصل إليه من التكريم، وبعث الأنبياء والرسل والمؤمنين والمجاهدين من نسله.
وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها، حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض من الكفار بدعوته، وجعل العالم من بعده كلهم من ذريته، وجعله من أولي العزم الذين هم أفضل الرسل.
ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء، وخليل رب العالمين، لما بذل نفسه وما يملك لله ونصرة دينه اتخذه الله خليلاً لنفسه، وأمر سيد الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته.
وجازاه سبحانه على تسليمه ولده لأمر الله أن بارك في نسله، وكثَّره حتى ملأ السهل والجبل.
فالله سبحانه جواد كريم من ترك لوجهه أمراً أو فعله لوجهه بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافاً مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافاً مضاعفة.
فلما أمر الله إبراهيم بذبح ولده فبادر لأمر الله، ووافق عليه الولد أباه، وكلاهما رضي وسلم لأمر لله، وعلم الله منهما الصدق والوفاء، فداه بذبح عظيم، وأعطاهما الملك والنبوة، وبارك في نسلهما حتى ملؤوا الأرض.
وجعل من نسلهما هاتين الأمتين العظيمتين: (بنو إسرائيل) .. و (بنو إسماعيل).
مع ما أكرمه الله به من رفع ذكره، والثناء الجميل عليه على ألسنة جميع الرسل
والأمم من بعده، وفي السموات بين الملائكة:{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [الصافات: 109 - 111].
ثم تأمل حال الكليم موسى صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره، حتى كلمه الله تكليماً، وقربه منه، واصطنعه لنفسه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره، لتحمله الشدائد والمحن العظام في الله، ومقاساة الأمر الشديد مع فرعون وقومه، ثم مع بني إسرائيل.
ثم تأمل حال المسيح صلى الله عليه وسلم وصبره على قومه، واحتماله في الله ما تحمله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه، وقطعهم في الأرض، ومزقهم كل ممزق، وسلب ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر.
ثم تأمل حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه، من سلم وحرب، وغنى وفقر، وإقامة وظعن، وخوف وأمن، وتركه من أجل الله كل شيء، وقتل أحبابه وأوليائه وأصحابه بين يديه كما حصل في أُحُد وغيرها.
وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب، والافتراء عليه، والاستهزاء به، والسخرية منه ومن دينه وأتباعه، وهو في ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، ويرحم عباد الله، ويستعطفهم ليؤمنوا بالله.
فلم يؤذَ نبي ما أوذي كما قال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَاّ شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
فرفع الله ذكره .. وقرن اسمه باسمه .. وجعله سيد الناس كلهم في الدنيا والآخرة .. وجعله أقرب الخلق وسيلة .. وأعظمهم جاهاً .. وكانت تلك المحن
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2472)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي (2012).
وأخرجه ابن ماجه برقم (151)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (123).
والابتلاء عين كرامته .. وهو مما زاده الله بها شرفاً وفضلاً .. وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كل له نصيب من المحنة والابتلاء، يسوقه الله بها إلى كماله بحسب متابعته له.
فكم لله من الحكم في ابتلائه أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته، وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء.
ونصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى، وأكمل المؤمنين إيماناً أعظمهم رحمة، كما قال سبحانه:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
والمؤمن كلما اتسع علمه بالله ودينه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، وهو سبحانه أرحم بالعبد من نفسه، وأعلم بمصلحة العبد من نفسه، ومن تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].