الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
15 - فقه الخلافة
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165].
الله تبارك وتعالى هو الملك، والملك الحق هو الذي يملك الكون كله خلقاً وتدبيراً، فهو الذي يخلق ويرزق، ويعطي ويمنع، ويأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويعز ويذل.
أنزل سبحانه الثقلين الإنس والجن إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام، وأٌنزلوا كذلك إلى دار يكون إيمانهم فيها تاماً، فإن الإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر، وبذل وترك.
وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان لا في دار النعيم.
والله سبحانه قضى بحكمته أن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، وله في ذلك حكم وغايات حميدة.
فلم يكن بدٌّ من إخراجه من الجنة إلى دار قَدَّر سكناهم فيها قبل أن يخلقه، وكان ذلك التقدير والخروج بأسباب وحكم.
فمن أسبابه النهي عن الأكل من تلك الشجرة، وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل، وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية.
وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة ترتبت على خروجه من الجنة.
ثم ترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم أخر، ومن تلك
الغايات عَودهِ إليها على أكمل الوجوه.
فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السموات والأرض، وأهل الدنيا والآخرة، فما خلق الله ذلك باطلاً، ولا دبره عبثاً كما قال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
ثم أظهر الله عز وجل من علمه وحكمته ما خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعلمونه:
فجعل سبحانه من نسل هذا الخليفة من رسله وأنبيائه وأوليائه وأحبائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته، ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكره قائماً وقاعداً وعلى جنبه، ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء، والعافية والبلاء، والشدة والرخاء.
يعبده سبحانه مع معارضة الشهوة، وغلبات الهوى، ومعاداة بني جنسه وغيرهم له، فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره والتقرب إليه، والجهاد في سبيله.
فعبادة الملائكة بلا معارض ولا ممانع، وعبادة البشر مع المعارض والممانع.
وأراد الله سبحانه كذلك أن يظهر للملائكة ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر وهو إبليس.
فذلك الخير وذلك الشر كامن في النفوس لا يعلمونهما، فلا بد من إخراج ذلك وإبرازه، لكي تُعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به.
والله عز وجل لما خلق خلقه أطواراً وأصنافاً، وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وذريته على كثير ممن خلق تفضيلاً، جعل عبوديتهم أفضل وأكمل من عبودية غيرهم، فكانت العبودية أفضل أحوالهم.
ولما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا تحصل إلا بها، كان من أعظم الحكمة أن أُخرجوا إلى دار
تجري عليهم فيها أحكام العبودية وموجباتها.
فكان إخراجهم من الجنة تكميلاً لهم، وإتماماً لنعمته عليهم، مع ما في ذلك من تحقيق محبوبات الرب تعالى:
فإنه سبحانه يحب إجابة الدعوات .. وتفريج الكربات .. وإغاثة اللهفات .. ومغفرة الزلات .. وتكفير السيئات .. ودفع البليات .. وإعزاز من يستحق العز .. وإذلال من يستحق الذل .. ونصر المظلوم .. وجبر الكسير .. ورفع خلقه على بعض .. وجعلهم درجات .. ليُعرف قدر فضله وتخصيصه من شاء.
فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار تحصل فيها تلك المحبوبات، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها كالذنب الذي يصلح بعده الاستغفار، والتوبة التي يحبها الله.
لقد استخلف الله آدم وذريته في الأرض لعمارتها وإصلاحها، واستخدام الكنوز والطاقات المودعة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة فيها، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
وقد وضع الله للبشر منهجاً متكاملاً يعملون على وفقه في هذه الأرض، منهجاً يقوم على الإيمان والعمل الصالح، وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصَّل الله هذا المنهج.
وفي هذا المنهج ليست عمارة الأرض، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها، هو وحده المقصود، ولكن المقصود هو هذا مع العناية بقلب الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة.
فلا ينتكس حيواناً في وسط الحضارة المادية الزاهرة، ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة .. وقد يغلب عليها همج وغزاة .. وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال الأرض وطاقاتها استغلالاً مادياً، ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق، والوراثة الأخيرة هي لعباد الله
الصالحين، الذين يجمعون في حياتهم بين الإيمان، والعمل الصالح، فلا يفترق في كيانهم ولا في حياتهم هذان العنصران، وهذه سنة الله في وراثة الأرض:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 105، 106].
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أي أمة من الأمم، فهي الوارثة للأرض في أي مكان وفي أي زمان، ولكن حين يفترق هذان الأمران، فالميزان يتأرجح، والحياة تختل.
وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان.
وجدير بمن كان شأنه أن ينتهي ويمضي، لا يخلد ولا يبقى، ومن سيصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وفعل، من كان هذا شأنه جدير به أن يحسن ثواءه القليل، ويترك وراءه الذكر الجميل، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير.
فلن يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً:{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)} [فاطر: 39].
والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة للعبد إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفاً أعلى يليق بالمخلوق الذي كرمه الله، ونفخ فيه من روحه، فأودع في روحه الشوق إلى تحقيق كمال العبودية لربه في حدود طاقته البشرية.
وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض، لا لتلهيه عن ذكر الله، والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9].
فمن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر، ويلهه ذلك عن ذكر الله، فهو الخاسر حقاً، وأول ما يخسره هو هذه السمة، سمة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه في الأرض، فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنساناً.
ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء مهما يملك من مال ومن أولاد.
وقد بين الله عز وجل أن وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة، لكنها خلافة مقيدة محددة بالتلقي عن الله، وطاعته وإخلاص العبادة له.
كما بشر الله تعالى داود بقوله: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26].
وأمره بقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26].
ونهاه بقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
وأنذره بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26].
ثم هي خلافة مسئولة كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6، 7].
والمسؤولية تشمل الصغير والكبير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . قال: وَحَسِبْتُ أنْ قَدْ قال: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أبِيه وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه (1).
وما أعظم عناية الله بالإنسان، وما أحسن احتفاءه به، وما أعظم إكرامه له، وإحسانه إليه، وتشريفه على ما سواه.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (893)، واللفظ له، ومسلم برقم (1829).
فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه البيان، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وهي نعم لا تعد ولا تحصى، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وفضله على كثير من خلقه، وأسكنه الأرض:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].
لم يخلق الله الإنسان عبثاً وسدى .. لا أمر ولا نهي .. يعيش كيف شاء .. ويفعل كل ما يشاء .. كلا بل عليه واجبات .. وله حقوق .. وأمامه حساب وعقاب وثواب: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
فما هي واجباته؟ .. وما هي وظيفته؟ .. وما المطلوب منه؟.
لقد خلق الله الإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].
وخلقه ليكون خليفة في الأرض ينفذ أوامر الله حسب مرضاته كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165].
وقد جمع الله بين الغايتين الاستخلاف والعبادة في قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55].
وشأن الخلفاء أن يعمروا الأرض لا أن يخربوها .. وأن يصلحوها لا أن يفسدوها .. وأن يجعلوها وسيلة للبناء وفعل الخير، لا سبباً للفساد والبغي كما قال سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص: 77].
وخلقه ليكون داعياً إلى الله كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
وخلقه ليكون معلماً للبشرية أوامر ربها، وبيان ما يحبه الله ويرضاه، وبيان ما يكرهه ويسخطه كما قال سبحانه:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79].
وخلقه ليكون صالحاً ومصلحاً لغيره كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وخلقه ليكون ملكاً يتحلى بأحسن الصفات، وأحسن الأقوال، وأحسن الأعمال، ويؤدي أعظم الوظائف، وأعطاه أحسن المناصب في الدنيا، وأفضل المنازل في الآخرة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 30 - 33].
ولا بدَّ لهؤلاء الخلفاء في الأرض من خليفة يحكم بينهم، ويسعى في مصالح دينهم ودنياهم، ويرعى شئونهم، ويقضي حوائجهم.
وللخليفة على الأمة حقوق، وللأمة على الخليفة حقوق، ولو أن الأمة إذا ابتليت من السلطان بشيء صبروا واستقاموا ودعوا الله ونصحوا لم يلبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فتحصل الفرقة والفتنة، وتسفك الدماء، ويأكل بعضهم بعضاً.
فبالإيمان والصبر والتقوى تنزل نصرة الله، ويحصل للمستضعفين والمظلومين التمكين في الأرض وتدمير أعدائهم كما قال سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} [الأعراف: 137].
فشأن الخلفاء الراشدين أربعة أمور:
إقامة الحق .. والعمل به .. والدعوة إليه .. والدفاع عنه.
أما من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين، وأهل الشهوات، وأصحاب الرياسات، الذين لا غاية لهم وراءها.
بل هو فهم إقامة رياستهم، وتحقيق شهواتهم بأي طريق كان، من حق أو باطل، أو عدل أو ظلم، أو رحمة أو قسوة.
فهؤلاء إذا جاء الحق معارضاً في طريق شهواتهم ورياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم، وحاربوه بأموالهم وألسنتهم، وذبحوه بأيديهم.
فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل .. فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق .. وحادوا عنه إلى طريق أخرى.
وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بداً أعطوه السكة والخطبة، وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ.
وإن جاء الحق ناصراً لهم وكان في مصلحتهم صالوا به وجالوا، وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق، بل لموافقته أغراضهم وأهواءهم، وانتصارهم به.
فما أظلم هؤلاء .. وما أجهلهم بربهم ودينه وشرعه، وما أولئك بالمؤمنين:
وهؤلاء هم أعظم الناس ندامة وتحسراً إذا حق الحق وبطل الباطل، ويظهر هذا في الدنيا .. ثم يقوى عند رحيلهم منها والقدوم على الله .. ثم يشتد ظهوره وتحققه في البرزخ .. وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء إذا فاز المتقون،
وخسر المبطلون، وعلموا أنهم كانوا كاذبين.
فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حشروا في صور الذر، يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتحقيراً وتصغيراً، كما صغروا أمر الله، وحقروا عباده في الدنيا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُّحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَال» أخرجه أحمد والترمذي (1).
والإمامة في الدين من الرتب العالية، بل هي أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين، ولذلك كان جزاؤه عليها الغرف العالية في الجنة، كما قال سبحانه:
فالناصح لله .. المعظم له .. المحب له .. يحب أن يطاع ربه فلا يعصى .. وأن تكون كلمته هي العليا .. وأن يكون الدين كله لله .. وأن يكون العباد ممتثلين أوامره .. مجتنبين نواهيه، مسلمين له.
فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين الذين جعلهم الله أئمة في الدين، لصبرهم وكمال يقينهم كما قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
ويجب على ولي الأمر أن يتحلى بمكارم الأخلاق، فيعامل الخلق بحسن الخلق، ويتقي شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ويتقي شر الشياطين بالاستعاذة منهم.
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (6677).
وأخرجه الترمذي برقم (2492)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2045).
ولولي الأمر مع الرعية ثلاثة أحوال:
فإنه لا بدَّ له من حق عليهم يلزمهم القيام به، ومن أمر يأمرهم به .. ولا بدَّ من تفريط وعدوان يقع منهم في حقه.
فأمر أن يأخذ من الحق الذي له عليهم ما سمحت به نفوسهم وسهل عليهم بذله، وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضرر ولا مشقة.
وأمر أن يأمرهم بالعرف، وهو المعروف الذي تعرفه العقول السليمة، وتقر بحسنه ونفعه من أمور الدين والدنيا.
وأمر أن يقابل جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه دون أن يقابله بمثله، فبذلك يكتفى شرهم.
قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 199، 200].
والشياطين على نوعين:
نوع يُرى عياناً وهو شيطان الإنس .. ونوع لا يُرى وهو شيطان الجن.
ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفى من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو والدفع بالتي هي أحسن، وأن يكتفى من شر شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه، كما قال سبحانه:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 34، 36].
والله سبحانه يهب الإمامة لمن يستحقها بالإيمان والعمل الصالح، وليست وراثة أصلاب وأنساب، ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم.
إنْ هي إلا دعوى الجاهلية إذا كانت عارية من الإيمان الذي يحقق الأمن والعدالة والرحمة في جميع الأمة.
وكل ظالم سواء ظلم نفسه بالشرك، أو ظلم الناس بالبغي فهو ممنوع من الإمامة، والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة:
إمامة الرسالة .. وإمامة الخلافة .. وإمامة الصلاة .. وإمامة الاقتداء .. وإمامة الدعوة والتوجيه .. وإمامة العلم والعمل.
وقد أبعد الله اليهود ونحاهم عن القيادة والإمامة لما ظلموا وفسقوا، وانحرفوا عن منهج الله.
فلما نبذوا شريعة الله وأقصوها عن الحياة أقصاهم الله وطردهم ولعنهم، وأبعدهم عن الإمامة والقيادة:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124].
والمُلك يُطغي ويُبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام، ومن ثم يضعون الكفر موضع الشكر، ويضلون عن السبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
فكان ينبغي لهذا الملك أن يعترف بالله، ويشكر نعمة الله، ويؤمن بربه الذي جعل في يده السلطان، ولكنه ركب هواه وتعنت وأنكر وطغى بسبب أن آتاه الله الملك، فبسبب النعمة والعطاء جاء الجدل والمراء، وادعى العبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب.
والله عز وجل أكرم هذه الأمة بهذا الدين العظيم، ورفع حياة الجاهلية البهيمية إلى الحياة الإنسانية الكريمة، ونقلها من مواطن الذل والهوان إلى مدارج العز والعلياء.
هذا التكريم جاءهم هدية ومنَّة من لدن ربهم الكريم، والذي هم أفاضوه على البشرية بعد ذلك: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
والله وحده والإسلام وحده هو الذي جعل للعرب رسالة قيمة يقدمونها للعالم، وهم الذين عَلَّموا البشرية كيف تحترم الإنسان؟.
وهم الذين قدموا لها نظاماً للحياة الإنسانية الراقية.
وكان هذا الإسلام بشعائره وشرائعه .. وآدابه وأخلاقه .. هو بطاقة الشخصية التي تَقدَّم بها العرب للعالم فعرفهم واحترمهم وسلمهم القيادة والإمامة.
وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة، ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها على العالم البشري.
وهم إما أن يحملوها كما استلموها بجلالها وجمالها فتعرفهم البشرية وتكرمهم، وإما أن ينبذوها فيعودوا هملاً كما كانوا من قبل لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد، ولا يقدرهم أحد.
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة .. والمسلمون أكبر أمة تحمل أكبر رسالة .. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة .. وهي التي تقدم أكبر منهج .. وهي التي تنفرد في الأرض بأرفع مذهب في الحياة وأحسنه.
وقد سعدت البشرية أيما سعادة حين قبلت هذه الرسالة في عهد النبوة، وعهد الخلفاء الراشدين، وعهد التابعين لهم بإحسان.
فما بال أكثر المسلمين اليوم لا يحسنون عرض الرسالة لا بالقول ولا بالفعل، ولا يرغبون في ذلك، ولعلهم زهدوا فيه فذلوا وهانوا على الله وعلى خلقه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68].
ومقصود جميع الولايات في الإسلام أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يحكم بشرع الله في كل أمر وحالة.
ويحصل ذلك بطاعة الله ورسوله .. والدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيله ..
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر .. واستعمال أهل الخير والصدق والعدل في جميع الولايات، والحكم بما أنزل الله.
وجميع الولايات الكبرى والصغرى في الإسلام هي ولايات شرعية ومناصب دينية لها أوامر من رب العالمين كالعبادات، من عمل فيها بعلم وعدل، مخلصاً عمله لله، مقتدياً فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الأبرار الصالحين.
ومن عمل فيها بجهل وظلم، متبعاً لهواه ومعرضاً عن مولاه، فهو من الفجار الظالمين.
فالأول مأجور والثاني مأزور كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14].
ويجب على كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين أن يستعمل في كل موضع أصلح من يقدر عليه من أهل التقى والقوة والأمانة.
واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، والواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها:
فيقدم في إمارة الجيش الرجل المسلم القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل العاجز الضعيف وإن كان أميناً.
والخليفة أو الإمام أو المسئول أيا كان إذا كان خلقه يميل إلى اللين مثلاً، فينبغي أن يكون خُلق نائبه يميل إلى الشدة ليعتدل الأمر.
وإذا كانت الحاجة إلى الأمانة أشد، قٌدم الأمين لحفظ الأموال، ويقدم في القضاء الأعلم الأكفأ ذو الورع .. وهكذا.
ومعرفة الأصلح تتم بمعرفة مقصود الولاية ووسيلة ذلك.
فالوالي الذي قصده الدين دون الدنيا يقدم في ولايته من يعينه على ذلك حتى يقوم الدين.
ويصلح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم وهو نوعان:
قَسْم المال بين مستحقيه .. وعقوبة المعتدين.
وليس لولاة الأمر أن يقسموا الأموال بحسب أهوائهم كما يقسم المالك، فإنما هم أمناء الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه ووكلاؤه ليسوا ملَاّكاً، بل عليهم أن يضعوها ويقسموها حسب أمر الله ورسوله.
وأعظم ما يستعين به ولاة الأمور في قضاء حوائجهم عدة أمور أهمها:
الإخلاص لله، والتوكل عليه، والتوجه إليه في قضاء الحوائج .. والإحسان إلى الخلق بالمال كالهدية والصدقة وإغاثة الملهوف .. والصبر على الأذى .. وغيره من النوائب .. والعفو عن الناس .. وكظم الغيظ .. ومخالفة الهوى .. وترك الأشر والبطر.
والناس في هذه الحياة أربعة أقسام:
الأول: الذين يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض، وهؤلاء الرؤساء والملوك المفسدون في الأرض كفرعون وحزبه، فهؤلاء شرار الخلق كما قال سبحانه:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4].
الثاني: الذين يريدون الفساد في الأرض بلا علو كالسراق والمجرمين من سفلة الناس.
الثالث: الذين يريدون العلو بلا فساد كالذين عندهم دين أو مال أو جاه يريدون أن يعلو به على الناس.
الرابع: الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وهؤلاء هم خيار الخلق، وهم أهل الجنة، أعلى الله منزلتهم كما أعلوا أوامر الله ودينه في حياتهم، وأذل غيرهم ممن يريدون العلو والفساد كما قال سبحانه:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83].
وكل خليفة أو إمام أو أمير أو مسئول فهو مسئول أمام الله عن أقواله وأفعاله، ومحاسب على تصرفاته.
فكل من أخذ ما لا يستحقه شرعاً من الولاة والرؤساء، والأمراء والعمال،
والعامة والخاصة فهو غالّ، والغلول من المحرمات والكبائر التي حرمها الله ورسوله:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)} [آل عمران: 161].
ويجب على الخلفاء والأمراء من كانوا وحيث كانوا لزوم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين في جميع أعمالهم وأمورهم، والتمسك بها.
والاقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة فيما فعلاه، ولزوم السنة التي سار عليها الخلفاء الأربعة كلهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء والأموال.
وعثمان رضي الله عنه غلَّب الرغبة، وتأول في الأموال، وعلي رضي الله عنه غلَّب الرهبة، وتأول في الدماء.
وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كمل زهدهما في الرياسة والأموال، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في الأموال.
ومعاوية رضي الله عنه أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، وكان ملكه ملكاً ورحمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ» أخرجه أبو داود والترمذي (1)
والمسلم في جميع أحواله يسلم وجهه لله، لا لقومه ولا لهواه، ولا لماله، ولا لشهواته، ويقتدي برسوله في جميع أحواله، فالذي يسلم نفسه لربه يكون في راحة وطمأنينة كما قال الله لإبراهيم:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 131، 132].
(1) حسن صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4646)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3882).
وأخرجه الترمذي برقم (2226)، صحيح سنن الترمذي رقم (1813).
فلما أمره الله بذبح ابنه سلم وامتثل، فجاءت له حينذاك نصرة الله.
وليست الخلافة كلها محمودة، بل الخلافة الراشدة ما كانت على منهاج النبوة، وليست الخلافة فقط امتثال أوامر الله في منطقة معينة، بل الخلافة مع ذلك أن يأمر الله الكائنات كلها أن تطيع من أطاعه، فيقول لها: عبدي كان لي فكوني له، عبدي أطاعني فأطيعوه، فتطيعه المياه والبحار، والجبال والرياح، والإنسان والحيوان، هذه هي الخلافة كما حصل للأنبياء والصحابة وسادة المتقين.
وهذه الخلافة لا يسلمها الله لأي أحد، بل يسلمها للذي يسلم نفسه لله تعالى، فمن سلم نفسه لله حقاً سلم له ما شاء من الكائنات، فالله لا يسلم كائناته لغير المسلم، لكنه لا يحرمه الرزق بسبب كفره، بل يرزقه ما كتب له، ثم يحاسبه عليه يوم القيامة.
فكل شيء بقدر، فلا عبث ولا ظلم ولا حسد:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء: 54 - 55].
والحاكم المسلم هو الذي يؤمن بالله، ويحكم بين الناس بما أنزل الله وبما شرعه رسول الله.
ومن لم يحكم بما أنزل الله فتارة يكون كافراً .. وتارة يكون ظالماً .. وتارة يكون فاسقاً.
والكافر ظالم؛ لأنه جحد حق الله .. وهو فاسق؛ لأنه خرج عن طاعة الله فيكون كافراً، إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، أو اعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله، أو اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44].
ويكون ظالماً إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للبلاد والعباد، وأن الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض أو الحسد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله، فهذا ظالم لنفسه وغيره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45].
ويكون الحاكم فاسقاً إذا حكم لهوى في نفسه كأن يحكم لشخص لأنه أعطاه رشوة، أو لكونه قريباً أو صديقاً ونحو ذلك، مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47].
وقد جعل الله سبحانه ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صورة ملوكهم وولاتهم.
فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم ملوكهم، وإن جاروا جارت عليهم ملوكهم، وإن ظهرت فيهم صفات المكر والخديعة والاحتيال فولاتهم كذلك.
وإن منعوا حقوق الله لديهم من زكاة وصدقات وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا به عليهم.
وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه أخذت منهم ملوكهم ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والضرائب.
وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمالهم ظهرت في صورة أعمالهم.
وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم فحيثما تكونوا يولَّ عليكم.
ولما كان الصدر الأول من هذه الأمة خير القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة.
وحكمة الله جل جلاله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلاً عن أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب للحكمة، وإذا غيرنا ما بأنفسنا غير الله بنا وغير ما حولنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11].
ويجب على الأمة طاعة الله ورسوله في كل شيء، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، والأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، وصلاح العالم وفساده بصلاحهما أو فسادهما، والناس كلهم تبع لهم، ولهذا أمرنا الله بطاعتهم بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].
إن قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وشرائعه، وفي أمور الحياة كلها بأحوالها وأوضاعها، لذلك كله جهة واحدة فقط، إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم، وعلى أساس الاستجابة للرسل أو عدمها يكون الحساب والجزاء بالجنة أو النار كما قال سبحانه:{يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)} [الأعراف: 35].
هذا هو عهد الله وميثاقه لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس من الخلق، ومكنه فيها ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد، وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله الله، وفي الآخرة وزر جزاؤه جهنم.
إن الملك والخلق والأمر في هذا الكون لله وحده لا شريك له، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة لمن يتقون الله، ولا يخشون أحداً سواه كما قال موسى لقومه:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف: 128].
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى الله إلا ملاذ واحد وولي واحد، وهو الله الذي بيده ملكوت السموات والأرض، فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يأذن الولي بالنصرة، في الوقت الذي يقدره بحكمته وعدله.
وعليهم ألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير.
وإن الأرض كلها لله، وما فرعون وقومه وغيرهم إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده، وفق سنته وحكمته، كما قال الله سبحانه:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26].
فلا يظن المؤمن أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم عنها.
والعاقبة لا ريب للمتقين، طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيحسبون أنهم باقون:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران: 196، 197].
والخلافة في الأرض عبادة كغيرها من الأعمال، ولها أحكام وأوامر، يبتلي الله بها من شاء من عباده، لينظر كيف يعملون؟.
هل يؤدون حقها؟ .. ويقيمون أوامرها .. أم يتسلطون بها على العباد؟.
كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لقومه: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: 129].
وسنة الله تبارك وتعالى تجري وفق وعده للصابرين وللجاحدين، فله سبحانه سنة في إهلاك الطاغوت وأهله .. وله سنة في استخلاف المؤمنين الصابرين المستعينين بالله وحده، ويدفع هذا إلى هذا لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد.
ولا بدَّ من الابتلاء والاختبار قبل الاستخلاف في الأرض، وهو ضروري لكل من يحملون دعوة الله، ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.
وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وُجِّه من قَبْل إلى آدم وزوجه فلم يصمدا له، واستمعا لإغراء الشيطان لهما بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم تابا وتاب الله عليهما.
ثم ظل هو الاختبار الذي لا بدَّ أن يجتازه كل مسلم، وتجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض.
فقد ابتلى الله عز وجل جند طالوت بعدم الشرب من النهر لتقوى إرادتهم على المغريات والأطماع والشهوات فتصمد للعدو.
وابتلى سبحانه أهل التوبة من بني إسرائيل بظهور الحيتان يوم السبت الذي هو راحة لهم ليتفرغوا للعبادة، ولا يشتغلوا بشيء من شئون المعاش، فجاءتهم الحيتان يوم السبت قريبة المأخذ، سهلة الصيد، فغلبت شهواتهم إرادتهم فاحتالوا عليها، وحبسوها يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، فجعلهم الله قردة خاسئين كما قال سبحانه:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 166].
وما أكثر الحيل عندما تلتوي القلوب، وتقل التقوى، ويراد التفلت من ظاهر النصوص.
إن الحكم لا تحرسه نصوصه، إنما تحرسه القلوب النقية التي تستقر فيها تقوى الله وخشيته، ومراقبته في السِّر والعلن.
وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يستخلفهم في الأرض ويمكن لهم فيها، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، ووعد الله حق، ووعد الله واقع، ولن يخلف الله وعده، وقد قال سبحانه وفعل ومكن للمؤمنين في الأرض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد أصحابه رضي الله عنهم، وعهد من اقتفى أثرهم كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55].
إن حقيقة الإيمان الذي يتحقق به وعد الله للمؤمنين حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله، وتوجه النشاط الإنساني كله.
فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط، وبناء وإنشاء كله موجه إلى الله، لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله.
وهي طاعة لله، واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة، إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، خواطر نفسه، وخلجات قلبه، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس، يتوجه بهذا كله إلى ربه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].
والشرك مداخل وألوان، وأقوال وأفعال، فالتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله.
ذلك أن الإيمان منهج حياة كامل يتضمن كل ما أمر الله به، وتلك حقيقة الإيمان.
أما حقيقة الاستخلاف في الأرض فليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي أنزل الله للبشرية كي تسير عليه، وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، وترضي الله بالاستقامة عليه.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد .. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا على الظلم والقهر .. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان.
هذا هو الاستخلاف الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليحققوا مراد الله من عباده وفي عباده.
أما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور والفجور،
وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان، فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض، إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله.
وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها وفق منهج الله.
وقد تحقق وعد الله عز وجل للمؤمنين، فأظهر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا بعد الخوف، ووضعوا السلاح، ثم قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة.
إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة، أو في تكليف من تكاليفه الضخمة.
فمن أراد الوصول إلى حقيقة وعد الله بالاستخلاف فعليه بالاستقامة على أوامر الله، وإذا استقام فما عليه من قوة الكافرين، فما هم بمعجزين في الأرض:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} [النور: 56، 57].
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون الذي يسير بأوامره سامعاً مطيعاً، وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يجب أن يسير عليه البشر.
وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض، والحكام بين الناس، إنما هو طرف من الحق الكلي، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف بالطاعة والاستقامة.
وإن الانحراف عن شريعة الله إنما هو انحراف عن الحق الذي قامت عليه وبه السموات والأرض، وهو أمر عظيم وشر كبير، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة، ولا بدَّ أن يتحطم في النهاية ويزهق، وينال أهله عقوبة انحرافهم، وخيانتهم للأمانة، وتضييع أمر الخلافة: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26].
فيما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله أمام قوة الله، وكيف يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة التي خلقها الله سبحانه، وهي مستعدة لمن أمرها الله بتدميره من الكفار والظلمة:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102].
وسنة الله جارية في الظالمين: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19].
ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر؛ لأنه رفض ألوهية الله، واختصاصه بالتشريع لعباده وحده، وادعائه حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس من دون الله.
وهو ظالم يحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم، وظالم لنفسه بإيرادها موارد الهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر، وتعريض حياة الناس للفساد، وهذه صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله.
وهو فاسق لخروجه عن منهج الله الحق، إلى منهج غيره الباطل.
فهذه صفة ثالثة لمن لم يحكم بما أنزل الله.
والله سبحانه لما خلق آدم أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، فأهبط الله آدم إلى الأرض، وسلَّم إليه خلافة الأرض، وليس معنى الخلافة الملك بأن يطيعه البشر فقط، بل المقصود أنه خليفة في تنفيذ أوامر الله، وتطيعه المخلوقات إذا أطاع الله.
فأمره الله عز وجل أن يطيع الله، ويقيم أوامر الله في الأرض.
فالجوع والعطش من أمر الله، ولهما أوامر من الله، فلا نأكل ونشرب بغية اللذة، ولا لإزالة الجوع والعطش، هذه خلافة حيوانية، والحيوان يفعلها، بل نأكل
ونشرب لأن الله أمر بالأكل والشرب، وننفذ أوامر الله في الأكل والشرب، هذه هي الخلافة.
وكذلك اللباس، نلبس لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله في اللباس، هذه هي الخلافة.
وكذلك النوم والكسب، نقوم بذلك لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله عند النوم والكسب، لا لأن النوم يأتي بالراحة، والكسب يأتي بالمال، بل الراحة والأموال والأرزاق تأتي من الله وحده.
وهكذا في باقي أحكام الدين، وسائر أحوال الإنسان، لكل حالة أمر وحكم أمر الله بامتثاله.
فالخلافة التي كلف الله بها آدم وبنيه هي امتثال أوامر الله في جميع الأحوال على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق.
والله عز وجل يريد منا أن نشتغل بأوامر الله كما فعل الأنبياء والرسل، والشيطان يريد أن يشغل الناس عن ذلك بشهواتهم وأهوائهم وقد فعل وأطاعه أكثرهم كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].
فمن استقام على الدين، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله فهو خليفة الله في أرضه .. وخليفة رسوله .. وخليفة كتابه.
ومقصود جميع الولايات الإسلامية إصلاح دين الخلق، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمور دنياهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41].
والحكام صنفان:
حاكم بما أنزل الله .. وحاكم بغير ما أنزل الله.
فالأول: حكم إسلامي، وهو الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: حكم جاهلي، وهو ما خالف ذلك.
قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
وليست الجاهلية فترة محددة من الزمان والمكان انتهت، إنما هي كل مجتمع يحكم فيه بغير ما أنزل الله فهو مجتمع جاهلي مهما أوتي من قوة مادية، ومن كشوفات علمية باهرة.
ولا بدَّ للمسلمين من خليفة يقوم برعاية شئون المسلمين في الدين والدنيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولتولية الخلافة شرعاً طريقان:
الأول: الاختيار، فالأمة مسؤولة عن اختيار من تنيبه عنها، وتسلِّم له زمام الإذعان والطاعة، وحيث أن الأمة متفرقة في الأصقاع والأمصار، مختلفة العقول والصفات، مما يصعب معه تمييز الصالح من الطالح، لذا تكون المسئولية في هذا المجال على عقلاء الأمة وعلمائها وفضلائها من أهل الحل والعقد، فهم الذين يختارون من يرونه أهلاً للقيام بهذا الواجب الشرعي الذي أوجبه الله عليهم، وهو إقامة شرع الله في أرضه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع المعمورة.
وبهذه الطريقة تم اختيار الصحابة لأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهذا الطريق هو الأصل لاختيار الخليفة في الشريعة الإسلامية.
وأهل الحل والعقد: هم فئة من الناس على درجة عالية من الدين والخلق والعلم بأحوال الناس، وحسن تدبير الأمور، ويسمَّون أهل الاختيار، وأهل الشورى، وأهل الرأي والتدبير.
وهذه الفئة تقوم باختيار الإمام نيابة عن الأمة جميعاً، فمن رأوه صالحاً بايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، ولزوم طاعته في غير معصية الله.
الثاني: طريق العهد والاستخلاف.
فإذا أحس الخليفة بقرب أجله، وأراد أن يستخلف على الناس أحدهم شاور أهل الحل والعقد فيمن يختار، فإذا وقع رأيه على شخص معين يصلح للخلافة من بعده، ووافقه أهل الحل والعقد، فإنه يعهد إليه من بعده كما هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يعهد لأبي بكر رضي الله عنه ثم تركه؛ لعلمه أن الناس لن يختاروا غير أبي بكر رضي الله عنه.
وكما عهد أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعهد عمر رضي الله عنه بالأمر من بعده للستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فيختاروا واحداً منهم، وذلك كله بعد مشاورات مع كبار المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
ولا بدَّ في المعهود له أن يكون مستكملاً لشروط الإمامة، ولا تنعقد له الخلافة بمجرد العهد من الإمام السابق، بل لا بدَّ من البيعة للمعهود له من قِبَل أهل الحل والعقد كما فعل الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
والخلافة والإمامة للرجال دون النساء؛ لأن الولايات يحتاج فيها إلى الدخول في محافل الرجال وهذا محظور على النساء، ولأنه يحتاج فيها إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والنساء ناقصات عقل ودين، لذلك لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن كسرى خلفته ابنته قال:«لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً» أخرجه البخاري (1).
ولذلك لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعده من الخلفاء امرأة ولاية بلد ولا قضاء قط، صيانة للمرأة من السوء والفتن.
ولا ينبغي للمسلم طلب الإمارة أو الحرص عليها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا عبدَ الرّحمنِ بنَ سَمرةَ، لا تسْأل الإِمارةَ، فإنْ أُعطيتَها عَن مسْألةٍ وُكلتَ إليهَا، وإنْ أُعطيتَها عَنْ غيِر مسْألةٍ أُعنتَ علَيها» متفق عليه (2).
وعلى خليفة المسلمين أن لا يولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه.
(1) أخرجه البخاري برقم (4425).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7147)، واللفظ له، ومسلم برقم (1652).
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أمِّرْنَا يَا رَسُولَ الله، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ:«إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَألَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ» متفق عليه (1).
ومن أخبر عن نفسه إظهاراً لنعمة الله عليه، وليس فخراً على من دونه، وطلب العمل ليكثر به ما يحبه الله ورسوله من الخير، فهو محمود كما طلب يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم من عزيز مصر بقوله:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55].
ومن أثنى على نفسه افتخاراً به على من دونه، ليتكثر به عند الناس ويتعظم، فهذا يجازيه الله بمقت الناس له، وصغره في عيونهم، والأول يكبره في عيونهم وقلوبهم، وإنما الأعمال بالنيات.
ولا صلاح للكائنات والمخلوقات إلا بأن تكون حركاتها وفق أمر فاطرها وخالقها وحده لا شريك له.
فلو كان للعالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإن كل إله يطلب مغالبة الآخر والعلو عليه وقهره، وفي ذلك فساد أمر السموات والأرض ومن فيهما كما قال سبحانه:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: 22].
وأصل فساد العالم إنما هو من فساد اختلاف الملوك والخلفاء، وبغي بعضهم على بعض.
ولهذا لم يطمع أعداء الإسلام في المسلمين في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم، وانفراد كل واحد منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلو على بعض، وانتظام حركة الحياة لا تتم إلا إذا كان الآمر واحداً.
فصلاح أمر السموات والأرض واستقامتهما، وانتظام أمر المخلوقات على أتم
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7149)، واللفظ له، ومسلم برقم (1733).
نظام وأحسنه من أظهر الأدلة على أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه وحده الغني عن كل ما سواه:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} [المؤمنون: 91، 92].
اللهم وفق جميع المسلمين لما تحب وترضاه .. وأصلح حكامهم ورعاياهم .. واهد ضالهم .. واستعمل الجميع في طاعتك وحسن عبادتك ونشر دينك.