الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - فقه النبوة والرسالة
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
الله تبارك وتعالى خلق الإنس والجن لعبادته، واختار الإنسان ليكون خليفة في الأرض، واختار للإنسان منهجاً لسير عليه وسماه الإسلام، وأرسل رسله إلى خلقه بذلك، وأمرهم أن يقولوا للناس شيئين:
الأول: أن يقولوا إن لهذا الكون رباًّ، ولهذا الكون إلهاً، ولهذا الكون خالقاً، ولهذا الكون آمراً، فجميع الأشياء والأمور بيد الله رب العالمين، فلا بد أن تؤمنوا به لتستفيدوا من خزائنه، وتسألونه حاجاتكم، أما نحن فما علينا إلا البلاغ، ونحن كغيرنا ليس بأيدينا شيء:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188].
الثاني: أن يقولوا إن أردتم أن تستفيدوا من خزائن الله، خزائن الهداية والرحمة، وخزائن الأموال والأرزاق، وغيرها مما في خزائن الله، فعليكم أن تجعلوا حياتكم كحياة الأنبياء والرسل: إيمان وتوحيد، وعبادة ودعوة، وأخلاق حسنة.
وبذلك يكون الله معكم، وينصركم ويرزقكم، ويتولاكم ويعزكم كما فعل ذلك مع الأنبياء.
وإن أردتم أن يحبكم الله فاتبعوا رسله كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31].
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].
وأمر الله جميع الأنبياء والرسل بإقامة الدين في مجتمعاتهم وجمع الناس عليه كما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13].
وأمرهم بنقل فكر الناس من اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق .. ومن اليقين على الأموال والأشياء إلى اليقين على الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن الفكر في الدنيا إلى الفكر في الآخرة، ومن طاعة النفس والشيطان إلى طاعة الله ورسوله .. ومن عادات وتقاليد القبيلة إلى أحكام وآداب الشريعة.
وكل نبي أعطاه الله شيئين:
الدين .. والدعوة إلى الله.
ثم أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم ما أعطى الأنبياء جميعاً، لكن جعل رسالته لعموم البشرية، بل للإنس والجن، بل جعله رحمة للعالمين، وجعله خاتماً للرسل، وجعل أمته خير الأمم وآخرها، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وأشرف الوظائف وأعلاها، وهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].
وبنو آدم درجات: فمنهم العاقل والمجنون، والرشيد والسفيه، والمؤمن والكافر، وأعلاهم درجات الرسل ثم أتباعهم، ومهمة الأعلى أن يأخذ بيد الأدنى، فالأنبياء والرسل أرسلهم الله ليرفعوا البشرية من التشريعات البشرية
السفلية إلى الإيمان والفضائل والتشريعات والأخلاق السماوية.
فإذا عكس البشر القضية وشد الأدنى الأعلى صار الجميع في المنحدر، وذلك ما يريده الشيطان وأتباعه.
وهذه الأمة أمة أمية، ونبيها أمي، والأمي كما ولدته أمه لم يأخذ ثقافته من مساويه بل أخذها من ربه الأعلى.
وإذا كان الله عز وجل َقد حرم محمداً بالأمية من معطيات عقول البشر فقد وصله بالعلوية التي تعلم البشر، وتهدي البشر، وتملك البشر.
وأعداء الإسلام يعرفون هذا الدين، وهذا القرآن كما يعرفون أبناءهم.
يعرفون ما فيه من سلطان وقوة، وما فيه من خير وصلاح، وما فيه من أخلاق وآداب، وما فيه من سنن ونظام.
ويحسبون لهذا الكتاب ألف حساب، ويعلمون أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين.
وهم يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة ليعرفوا كيف يبني الرجال؟ وكيف تبنى الأخلاق؟ ليقوموا بتخريب هذا البناء، ويبحثوا عن مقتل لهذا الدين كما قال سبحانه:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].
وقد اجتهدوا وبحثوا حتى خدعوا كثيراً من المسلمين، وحولوا الدين من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية، وتجعل الدين كله لله.
حولوه بعد جهود وتضحيات إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدال فقهي أو طائفي فارغ، ومعلومات تصدع الرؤوس ولا تزكي القلوب وحولوا العقيدة إلى مفهومات وتصورات مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة مع أن أجنحتها وأخلاقها تكسر في كل لحظة، وفي كل ميدان، وفي كل بلد.
وفي النهاية ملؤوا فراغ العقيدة بتصورات أورثت الشك في دين الله، والإعراض عنه، وتجاوزه إلى غيره، وهبط أكثر المسلمين في القاع، لا في الزهد في الدين ونبذه فحسب، بل بتنفير الناس عنه بالأقوال والأفعال والصفات.
وقام في الأمة من بني جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ويصد عن سبيل الله بلسانه وقلمه وحاله.
إن دور الأنبياء وأتباعهم إبلاغ دين الله، ولزوم هذا العمل، والصبر على مشاق الطريق.
أما هدى الناس أو ضلالهم فهو بيد الله وحده لا شريك له، وله سنة إلهية لا تتبدل، ولا يغير منها رغبة الرسول أو الداعي في هداية من يحب، كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب ويؤذي كما قال سبحانه:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35].
إن شخصه لا اعتبار له في هذا الأمر، وحسابه ليس على عدد المهتدين، إنما حسابه على ما أدى وما صبر، وما التزم وما استقام كما أُمر، وأَمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس فهو العليم الحكيم:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام: 39].
وجميع الخلق في قبضته، وهو أعلم بمن يصلح للهداية أو الضلالة:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35].
وصاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة المعاندين لها، الذين لا تنفتح قلوبهم لدلائل الهدى، وموجبات الإيمان.
إنما يجب أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا، فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم لتزكو قلوبهم، ويتفقهوا في دينهم، وتصلح أخلاقهم، وهذا كله يحتاج إلى جهد بعد جهد الدعوة.
أما الواقفون على الشق الآخر فجزاؤهم بعد الدعوة الإهمال والإعراض، وحين
ينمو الحق في ذاته، فإن الله يجري سنته كما قال سبحانه:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18].
وقد خلق الله بني آدم، وأخذ عليهم العهد:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172].
وزودهم بالعقول، وفطرهم على التوحيد، ولكن الله قدر برحمته ألا يحاسبهم على ما فطرهم عليه من التوحيد، ولا على ما وهبهم من العقول.
بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فجعل برحمته الحجة عليهم الرسالة كما قال سبحانه:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
فعلم الله تبارك وتعالى أن الفطر والعقول لا تكفي وحدها للهدى دون رسول من الله.
وقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل والناس إذ ذاك أحد رجلين:
إما كتابي معتصم بكتاب مبدل، أو محرف، أو منسوخ، ودين دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك.
وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من كوكب، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو نار، أو غير ذلك مما زينه الشيطان وغرَّبه العباد، وقد آمن من هؤلاء أكثر ممن آمن من أهل الكتاب.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (1).
فقد أخذ الله الميثاق على جميع البشر أن يؤمنوا به، لكن ثواب من آمن به
(1) أخرجه مسلم برقم (2278).
وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب الإيمان المجمل الذي أقرت به الأمم السابقة، فله عليه الصلاة والسلام نصيب من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين، كما أن ضلال وغواية كل إنسان من الجن والإنس لإبليس منه نصيب، وعهد آدم عليه الصلاة والسلام وما بعده إلى ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يشبه زمن طفولة الإنسان، وزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن كمال الإنسان.
فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل الشامل الباقي إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فالمولود يخاط له ثوب صغير، وكلما زاد طوله يخاط له أكبر، فإذا اكتمل طوله يخاط له ثوب يبقى طوله إلى أن يموت.
وهكذا الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صالح كامل، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يقبل الله ديناً سواه بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
وقد أرسل الله الرسل لهداية الكفار، وإصلاح من فسدت حياته من المسلمين، وقد بعث الله الأنبياء والرسل ليأمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
فمن آمن من الناس بما جاءت به الرسل حصلت له السعادة في الدنيا والآخرة، واستفاد من قدرة الله، فإن الله لما آمنوا به وأطاعوه أحبهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات.
فالاستفادة من المخلوقات يشترك فيها المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، لكن يمتاز المؤمن بحصول البركة في رزقه.
أما الاستفادة من قدرة الله فلها شرطان:
الإيمان .. والتقوى.
وهي خاصة بالأنبياء ومن آمن بهم كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر: 51، 52].
فنوح صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى الإيمان وعبادة الله وحده لا شريك له، ولم يؤمن به إلا القليل، فسأل ربه أن يهلك من استكبر وكفر فأغرقهم الله بالماء.
وكذا هود صلى الله عليه وسلم أهلك الله من لم يستجب له بالريح العقيم.
وموسى صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يهلك عدوه فرعون وقومه لما كذبوه فأغرقهم الله في البحر.
وقارون لما أعرض عن الدين واستغنى بماله خسف الله به وبداره الأرض.
وقوم لوط لما كذبوا لوطاً، وأصروا على فعل الفاحشة، قلب الله عليهم ديارهم، وحصبهم بحجارة من السماء.
وعطش أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم فدعا الله فخرج لهم الماء من الحجر اثنتا عشرة عيناً.
ودعا صالح صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام فلم يؤمنوا فدعا عليهم فأخذتهم الصيحة مشرقين، فهلكوا جميعاً.
ومحمد صلى الله عليه وسلم عطش أصحابه فدعا الله فخرج لهم الماء من بين أصابعه، فشربوا منه.
وهكذا سائر الأنبياء والمؤمنين إنما يستفيدون من قدرة الله بالإيمان والأعمال الصالحة.
وقد أعطى الله تبارك وتعالى الأنبياء شيئين:
الدعوة .. والدعاء.
فالدعوة للبشر، والدعاء لله، فالحوائج تقضى بالدعاء وسؤال الرب الذي يملك كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء، بعد فعل الأسباب المشروعة، وأحياناً تقضى بالأموال والأسباب ابتلاءً للمؤمن، واطمئناناً للكافر.
وبالدعاء يأتي اليقين على الأعمال الصالحة.
فعندما يتأخر نزول المطر نصلي .. وعندما تكسف الشمس نصلي .. وعندما نريد النصر نصلي .. وهكذا في سائر الحوائج نتوجه إلى الله دائماً، ونسأله وندعوه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153].
والمطلوب في كل عمل أن نقوم بالعمل على الطريقة التي ورد بها، فمن جاء بالعمل بدون طريقته لم يقبل.
والمطلوب في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور:
تعلم سننه .. وتعلم اليقين على سننه .. وتعليم الناس ذلك.
والله عز وجل جعلنا خير أمة أخرجت للناس، وأكرمنا بالدين الكامل، وشرفنا بالدعوة إليه.
وحتى نؤدي الأمانة، ونحقق مراد الله في عباده، يجب أن يكون قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ويتحقق ذلك بثلاثة أمور:
الأول: أن نتبعه صلى الله عليه وسلم في صورته وشكله.
الثاني: أن نتبعه في سيرته وعبادته، ومعاملاته، ومعاشراته، وأخلاقه.
الثالث: أن نتبعه في سريرته، وفي إيمانه بربه، ويقينه عليه، واستسلامه له، والتوكل عليه، والخشية منه، وتفويض الأمر إليه.
ونتبعه في الفكر والهم الذي في قلبه صلى الله عليه وسلم، وهو همّ هداية الناس، ودعوتهم إلى الله، ورحمتهم والشفقة عليهم، حتى يخرجوا من الظلمات إلى النور: {يَاأَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158].
والله سبحانه لما بعث الأنبياء صار الناس قسمين:
الأول: المؤمنون الذين آمنوا بالله، وأسسوا حياتهم على الغيب.
الثاني: الكفار الذين لم يؤمنوا، وأسسوا حياتهم على المشاهدات، فهؤلاء الحيوان خير منهم؛ لأن الحيوان يذكر الله، والكافر ميت لا يذكر الله، والحيوان يعرف إشارة صاحبه، والكافر لا يعرف أوامر خالقه ولا يؤمن بها.
والحيوان يعرف رزقه وما ينفعه ولا يأكل إلا الطيب، والكافر يأكل ما ينفعه وما يضره، ويغشي المحرمات بلا حياء، ويكفر بالنعم والمنعم بها:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].
وجميع الأنبياء والمرسلين دعوا الناس من الشرك إلى التوحيد .. ومن الكفر إلى الإيمان .. ومن المخلوق إلى الخالق .. ومن الأموال والأشياء إلى الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن دار الفناء إلى دار البقاء.
فاجتهدوا على القلوب والأبدان لتكون حياة الناس مطابقة لحياة الأنبياء.
واجتهدوا على العيون حتى ترى ما يحب الله ورسوله.
واجتهدوا على الآذان حتى لا تسمع إلا ما يحب الله ورسوله.
واجتهدوا على العقول حتى لا تفكر إلا فيما يحب الله ورسوله.
واجتهدوا على الأيدي حتى لا تفعل إلا ما يحب الله ورسوله.
واجتهدوا على الأقدام حتى لا تمشي إلا فيما يرضي الله ورسوله.
فعملهم العبادة، ووظيفتهم الدعوة، فعلينا الاقتداء بهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 90].
والنبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وبعد بعثته لا بدَّ من اتباعه، ومن تبع غيره حتى لو كان نبياً يعد مخالفاً، وعمله غير مقبول كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ» أخرجه مسلم (1).
وجميع الأنبياء قاموا بالدعوة إلى الله بين أقوامهم، فمنهم من آمن، ومنهم من لم يؤمن، ومنهم من استجاب، ومنهم من لم يستجب.
وسنة الله أنه بعد كل الجهود تظهر النتائج، فالله يظهر قدرته بعد تكميل الجهد، فالذين آمنوا بالرسل أنجاهم الله وأسعدهم في الدنيا والآخرة.
وأهلك الله كل من لم يؤمن بالرسل من الأمم السابقة تارة بالماء، وتارة بالريح، وتارة بالخسف .. وتارة بالصيحة .. وتارة بالحجارة .. كما قال سبحانه:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40].
وأساليب دعوة الأنبياء واحدة:
فأولاً: يعرضون أنفسهم وما جاءوا به على الناس، وإذا احتاجوا لعرض الدين على الناس أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم بذلوها.
وثانياً: لا يسألون الناس على دعوتهم لهم شيئاً كما قال سبحانه عن كل رسول أنه قال: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)} [الشعراء: 109].
وثالثاً: إذا عارضهم الناس أو طردوهم أو شتموهم فلا يجاوبون جهالتهم بالجهالة، وإنما يصبرون عليهم ويدعون لهم بالهداية كما قال سبحانه:
(1) أخرجه مسلم برقم (153).
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (1).
ورابعاً: أنهم يدعون الناس إلى الله بالشفقة والرحمة والتواضع واللين في جميع الأحوال.
وخامساً: أنهم يقومون بالدعوة إلى الله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً كما قال نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)} [نوح: 5، 6].
ويدعون إلى الله في جميع الأحوال، حال الأمن وحال الخوف، وحال الصحة وحال المرض، وحال الإقامة وحال السفر.
والأنبياء والرسل هم أول من عرف منافع التوحيد والإيمان والطاعات، وأول من عرف مضار الشرك والكفر والمعاصي والبدع.
ولكمال معرفتهم بذلك يَغْشَون الناس لدعوتهم إلى الله في البيوت والأسواق، ويطرقون الأبواب، ويقطعون المسافات، ويصعدون الجبال، ويصبرون على كل ما يصيبهم في سبيل تنفيذ ما أمروا به.
ويرحمون الناس ويكرمونهم، ويبذلون من أجل ذلك أموالهم، والناس يؤذونهم ويسبونهم فيعفون عنهم، ويصبرون على أذاهم.
فالأنبياء يدعون الناس إلى ربهم بالرحمة واللين وحسن الخلق، وأهل الباطل ينشرون باطلهم بطريق الشدة والكبر والتسلط كما قال الشيطان لفرعون: أعلن للناس ليرهبوك ويرجوك: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24].
ثم أمره بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، كما قال سبحانه:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4].
ثم سخر فرعون بموسى قائلاً ما حكى الله عنه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).
وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف: 52].
فلما أوغل في العناد والاستكبار وآذى موسى وبني إسرائيل أغرقه الله في البحر وأغرق معه آله ووزراءه وجنوده وقومه، ويدخلهم النار يوم القيامة:{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 45، 46].
وقارون بغى وبخل، وأفسد بنفسه وماله، مع ما أنعم الله عليه بكثرة الأموال والأشياء كما قال سبحانه:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76].
فهل استجاب للنصيحة: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص: 76، 77].
كلا لم يستجيب وإنما: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص: 78].
فلما نصحه قومه وأبى وبغى خسف الله به وبداره الأرض كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81].
فكل من سار على هدي الأنبياء سعد في الدنيا والآخرة، ومن مشى وراء الشيطان خسر في الدنيا والآخرة ولو كان ملكاً كما حصل لفرعون، ولو كان غنياً كما حصل لقارون.
وجميع الأنبياء والرسل رجال من البشر من أهل القرى، ليس فيهم امرأة ولا ملك ولا جني ولا أعرابي، اصطفاهم الله واجتباهم، وبعثهم من خيار قومهم على غاية الكمال في الخلقة البشرية والأخلاق الحسنة، وهم معصومون في تحمل الرسالة وإبلاغها، ومن كبائر الذنوب، وإن وقعت منهم صغيرة لا يقرون
عليها، بل يسارع النبي إلى التوبة منها، وهم أكثر الخلق تعظيماً لله، وحمداً له، وتكبيراً له، واستغفاراً له، وهم أعرف الخلق بالله، وأكملهم إيماناً به، وأعظمهم توحيداً له، وأحسنهم طاعة له.
وقد يبعث الله نبياً وحده، أو رسولاً وحده، وقد يجمع الله بين بعثة نبيين أو نبي ورسول أو أكثر في زمن واحد.
كما بعث سبحانه إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبعث في زمنه لوطاً صلى الله عليه وسلم، وكما بعث يعقوب وابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في زمن واحد.
وبنو إسرائيل هم أولو العلم الأول، وأنزل الله إليهم التوراة فيها هدى ونور، وتفصيل كل شيء كما قال الله سبحانه عن موسى صلى الله عليه وسلم:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} [الأعراف: 145].
ولهذا كانت أمة موسى أوسع علماً ومعرفة من أمة المسيح، ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها.
فإن المسيح وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل مكمل لها، متمم لمحاسنها، وغالبه مواعظ وزهد وأخلاق وحض على الإحسان والاحتمال والصفح، ثم جاء القرآن الكريم جامعاً لمحاسن الكتابين كما قال سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
والشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الشرائع وأكملها، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم، وشهادة لها بالصدق كما قال سبحانه عنه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ (37)} [الصافات: 37].
فالرسل قبله بشروا به، وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس صدق خبرهم، وعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق كما قال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف: 6].
وموسى صلى الله عليه وسلم اصطنعه الله لنفسه، وخصه بكلامه، وكان موسى صلى الله عليه وسلم من أعظم خلق الله هيئة ووقاراً، وأشدهم بأساً وغضباً لله، وبطشاً بأعداء الله، وكان لا يستطاع النظر إليه.
وموسى صلى الله عليه وسلم كان في مظهر الجلال، ولهذا كانت شريعته شريعة جلال وقهر.
فأمته أمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم، وعجل لهم من العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم.
وعيسى صلى الله عليه وسلم كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس في شريعته قتال البتة، والنصارى يحرم عليهم دينهم القتال، وهم به عصاة لشرعه، وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال، والرهبانية ابتدعوها ولم تكتب عليهم كما قال سبحانه:
وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكان في مظهر الكمال الجامع لتلك القوة، والعدل والشدة في الله، وهذا اللين والرحمة والرأفة.
وشريعته أكمل الشرائع فهو نبي الكمال، وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات.
ولذلك جاءت شريعته بالعدل إيجاباً له، وبالفضل استحباباً، وبالشدة في موضع الشدة، وباللين في موضع اللين.
فيذكر سبحانه العدل ويوجبه، ويذكر الفضل والإحسان ويندب إليه.
وحرم صلى الله عليه وسلم على أمته كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع.
وكل ما حرمه الله على هذه الأمة رحمة لهم، وما حرمه على من قبلهم عقوبة لهم.
وجعلهم سبحانه خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم، وكمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله، وكمل في شريعته من المحاسن ما فرقه في الشرائع من قبله.
وجعل هذه الأمة شهداء على الناس، واصطفاهم على الأمم كما قال سبحانه:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].
وقد خلق الله سبحانه آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفة في الأرض.
وحقيقة الخلافة أن يأمر الله الكائنات فتطيعه، فكما أطاع الله، الله يأمر الكائنات فتطيعه، يأمر البحار والجبال، والملائكة والرياح فتطيعه كما أطاع الله، كما سخر الله الماء لنوح فأغرق الله به أعداءه، وكما سخر نفس الماء فجعله سبباً لنجاة نوح ومن آمن معه.
وكما سخر البحر لموسى فانغلق اثني عشر طريقاً يابساً وفي وقت واحد وبماء واحد وبأمر واحد أغرق الله فرعون وقومه، وأنجى موسى ومن آمن معه.
وكما سخر الله لداود الجبال والطير تسبح معه، وألان له الحديد يفعل به ما يشاء.
وكما سخر الله لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره، وعلمه منطق الطير، وسخر
له الجن.
وأنزل الملائكة يقاتلون مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وأخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فشرب الناس وتوضؤوا منه، وغير ذلك مما أعطى الأنبياء وأتباعهم.
وحتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره، ويعيش حياة مستقرة، هيأ الله له نظاماً شاملاً كاملاً، لم يتدخل فيه أحد من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم وسماه الدين، واصطفى لذلك الرسل وبعثهم به، ليكونوا قدوة للناس، وحفظ حياتهم من تأثير الشياطين.
وهؤلاء الرسل يقولون للناس:
الأمور كلها بيد الله، ونحن ليس بأيدينا شيء، فآمنوا بربكم يسعدكم ويقضي حاجاتكم، ويقولون كذلك إن أردتم أن يكون الله معكم، وأن تستفيدوا من قدرته وخزائنه، فاجعلوا حياتكم مطابقة لحياتنا، فيكون الله معكم كما كان معنا كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128].
وقد أرسل الله تبارك وتعالى الرسل إلى الأمم بالحق:
فمنهم من قبل الحق ثم تركه واعتمد على الأسباب وهم اليهود، فهؤلاء في النار، ومنهم من قبل الحق ثم ضل عنه وهم النصارى، فهؤلاء في النار:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68].
ومنهم من قبل الحق وأخذ بالأسباب وتوكل على الله، فهؤلاء في الجنة لكن يعذبون بقدر ما تركوا من الحق.
ومنهم من قبل الحق وأخذ بالأسباب ودعا إلى الحق وتوكل على الله، فهؤلاء في أعلى المنازل في الدنيا والآخرة.
وكل نبي وكل رسول دعا قومه إلى لا إله إلا الله، وبشر قومه بالثواب لمن آمن، وبالعقاب لمن كفر، ولكن الهداية بيد الله وحده، وهو أعلم بمن يصلح لها.
فنوح صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله، ودعا ابنه إلى الإيمان، وقال له:{ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)} [هود: 42].
وكان عنده نسبتان:
نسبة الأبوة، ونسبة النبوة.
ولكن ابنه كنعان كفر فهلك، وإن كان عنده نسبة البنوة، وأبوه نبياً؛ لأنه فقد النسبة الأم، وهي نسبة الإيمان بالله.
فكان يقين ابنه على غير الله، على المشاهدات، على الجبل، فكان يرى عصمته ونجاته في الجبل، وكان اعتماده على الجبل لا على رب الجبل، فغرق هو والجبل بالماء كما أخبر الله عنه:{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} [هود: 43].
وهكذا كل من لم يقبل دعوة الأنبياء والرسل لهم الغرق والدمار والهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} [الكهف: 59].
وبما أن الأمم السابقة من طلب منهم آية تدل على صدق المرسل إليهم أجيب إليها، فإن لم يؤمنوا بعدها عاجلهم الله بعذاب الاستئصال.
ولكون هذه الأمة هي الخاتمة حفظها الله من عذاب الاستئصال، وشرفها بالدين والبقاء، والدعوة إلى الله إلى يوم القيامة كما قال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].
وقد بعث الله الأنبياء والرسل لهداية البشرية إلى عبادة الله وحده لا شريك له،
وليأتي فيهم طلب الهداية من الله ليستفيدوا من قدرته، ومن خزائن الله بالإيمان والتقوى.
وقد جعل الله وظيفة هذه الأمة وظيفة رسولها محمد صلى الله عليه وسلم، التي ذكرها الله بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}
[الأحزاب: 45 - 48].
فوظيفة كل مسلم ومسلمة تنحصر في هذه المسائل العشر المذكورة في الآية.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة لكل مسلم كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
فالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة للبشرية كلها إلى يوم القيامة:
في الإيمان، والعبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق، وفي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله فهذه حياته صلى الله عليه وسلم:
جهد على النفس بالعبادة .. وجهد على الغير بالدعوة.
وقت للعبادة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4].
ووقت للدعوة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3].
فمن قام بهذين الأمرين فاز .. ومن تركهما خسر.
قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أحكام جميع الأحوال التي يمكن أن يمر بها الإنسان، أحياناً بقوله، وأحياناً بفعله، فلا تخلو حال من أحوال الإنسان من سنن وأحكام يسير
عليها الإنسان وفق أمر الله.
أباً أو ابناً .. وزوجاً أو زوجة .. وعماً أو خالاً .. وأخاً أو قريباً .. رجلاً أو امرأة .. غنياً أو فقيراً .. مقيماً أو مسافراً .. صحيحاً أو مريضاً .. بائعاً أو مشترياً .. كبيراً أو صغيراً .. راعياً أو تاجراً .. مربياً ومرشداً .. عابداً أو زاهداً .. عالماً أو معلماً أو متعلماً .. ضيفاً أو مضيفاً .. داعياً أو مدعواً.
وغير ذلك من الأحوال التي جاء الشرع بأحكامها مفصلة كاملة كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
ودعوة الأنبياء وجهدهم على أقوامهم ونصحهم لأممهم إنما هو شفقة عليهم، لا يريدون به شيئاً من الدنيا ولا من الناس، يستفيدون من الله، ويفيدون عباد الله، ويبتغون الأجر من الله لا من غيره:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)} [سبأ: 47].
وبقدر أذى أممهم لهم تكون شفقتهم عليهم، وكلما زاد الأذى منهم توجهوا إلى الله ليرحم أممهم، ويتوب عليهم، ويهديهم، ويعتذرون عنهم بأنهم لا يعلمون كما حكى النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (1).
أوقاتهم كلها لله .. يجتهدون على الناس بدعوتهم إلى الله والعمل بشرعه .. ويجتهدون أمام ربهم ويسألونه الهداية لعباده.
في النهار يوجهون عباد الله إلى الله، ويدعونهم إليه .. وفي الليل يدعون ربهم لرحمة عباده وهدايتهم، ويدعون لهم ويستغفرون لهم.
ألا ما أجهل البشر، وما أشد عداوة الشيطان لهم؟.
الأنبياء يدعونهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، وهم تارة يسبونهم، وتارة
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).
يؤذونهم، وتارة يسخرون منهم، وتارة يطردونهم، وتارة يقتلونهم:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74].
وكل نبي جاء بالدين .. وجاء بجهد الدين.
فمن آمن به فاز وأفلح .. ومن خالفه واستغنى بملكه أو ماله أو جاهه أو تجارته أو زراعته أو صناعته أهلكه الله كما فعل الله بقوم نوح وعاد وثمود، وكما فعل بقوم لوط، وكما فعل بفرعون وقومه.
فإن قام مخالف واحد أهلكه الله كقارون.
وإن قامت عائلة أهلك الله العائلة .. وإن قام جماعة أهلك الله الجماعة .. وإن قام قوم أهلك الله القوم .. وإن قامت دولة أهلك الله الدولة .. وهكذا.
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة بالإسلام قال لهم: انظروا للأنبياء السابقين كيف كانت عاقبة مخالفيهم؟.
كما قال سبحانه: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
فكل من قام مخلصاً بالدين وجهد الدين أيده الله بنصره وحفظه، فإن خالفه وآذاه واحد أهلكه الله، وإن خالفه جماعة، أو عائلة، أو قوم، أو قرية، أو دولة أهلكهم الله وتولى تدميرهم، وأنجى أولياءه كما قال سبحانه:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: 44].
والله تبارك وتعالى ينصر المؤمنين من هذه الأمة كما نصر الأنبياء السابقين الذين يقدمون الشكوى إلى رب العالمين، ويتوجهون إلى ربهم ليكشف ما بهم من ضر، وينجيهم من أعدائهم، فاستجاب لهم وأنجاهم، ونصرهم وخذل أعداءهم، وهذه سنة جارية في نصر أوليائه وخذلان أعدائه كما قال سبحانه:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 7 - 9].
وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله يقوم على الدعوة إلى الإيمان بالله أولاً، ثم الدعوة إلى القيام بالأعمال ثانياً.
وكان جهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة المكية لإدخال الإيمان في القلوب لتستعد لقبول الأعمال، وذلك بتعريف الناس بربهم، وذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، وجلاله وجماله، وعظمته وكبريائه، ليعرفوه ويعظموه ويكبروه، فإذا عرفوه توجهوا إليه وحده دون سواه، وذكر آلائه ونعمه وفضله وإحسانه إلى الخلق ليشكروه ويحمدوه ويتوجهون إليه في قضاء حوائجهم.
وذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وكيف نصر الله رسله وأولياءه، وخذل أعداءه وأهلكهم.
وفي الحياة المدنية كان حفظ الإيمان وزيادته بسبب قوة الأعمال، وقوة الجهد على النفس وعلى الغير، ففي مكة كانت قوة الاستعداد لفعل الأوامر، وفي المدينة كان تنفيذ الأوامر بالرغبة والمحبة والشوق كالعبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحو ذلك، وكذلك الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وحسن المعاملات والمعاشرات والأخلاق والآداب.
فنزلت الأحكام في المدينة كالمطر، شاملة لكل أحوال الإنسان، واستقبلها الصحابة بإيمان تام، ويقين راسخ، وفرحوا بها، وتلذذوا بأدائها، وتنافسوا في المسارعة إليها، والإكثار منها، وسلموا أنفسهم لله بالإيمان والطاعة، ولرسوله بكمال الانقياد والامتثال فكانوا حقاً أعظم وأفضل نواة لخير أمة أخرجت للناس في كل شيء:
في الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق.
وبهذا رضي الله عنهم كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
وأهم أعمال الأنبياء والرسل العبادة والدعوة، والجولة على الناس لدعوتهم
إلى الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتجول على الناس ويزورهم ويدعوهم إلى الله، ويتلو عليهم القرآن، ويعلمهم السنن والأحكام، ويطعم جائعهم، ويعود مريضهم، ويكرم ضيفهم، ويجيب سائلهم، ويكسو عاريهم، ويقبل هديتهم ويثيب عليها، ويشكر لمحسنهم، ويعفو عن مسيئهم، فصلوات الله وسلامه عليه عدد نجوم السماء وذرات الأرض، والحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه على ما من به علينا من بعثة هذا الرسول الرحيم بهذا الدين العظيم.
فهل من ذاكر؟، وهل من شاكر؟.
وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
ولا تصلح أحوال البلاد والعباد إلا بالدين الذي أنزله الله شريعة للعباد، ولما بعث الله يوسف صلى الله عليه وسلم إلى بني إسرائيل في مصر أعطاه الله الملك، وصلحت أحوال بني إسرائيل.
ولما أعرضوا عن الدين ضعف إيمانهم وقلت أعمالهم، وفسدت معاشراتهم، وساءت أخلاقهم، فاستجلبوا بذلك غضب الله، فسلط عليهم فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وهو أذل الناس.
ولما اشتد أذاه وزاد طغيانه أرسل الله الداعي إلى الله نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله، ويدعو بني إسرائيل، فدعاهم إلى الله فآمن بنو إسرائيل، وكفر فرعون وجنوده، فأغرق الله فرعون وجنوده، وأنجى الله موسى ومن آمن معه:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40].
والله حكيم عليم جعل الرسل واسطة بينه وبين عباده في بيان الدين، وما أحل
لهم، وما حرم عليهم.
وجعل العلماء واسطة بين الرسل وأممهم في إبلاغ العلم والهدى، فالرسل بلغت ذلك إلى أممهم، والعلماء بلغوا ذلك إلى من بعدهم، فالعلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم وبلغوه إلى من بعدهم، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
والعالم الرباني: هو الذي يعمل بعلمه ويخشى الله ويتقيه، ويعلم الناس أمور دينهم كما قال سبحانه:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79].
وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9].
وأمراض القلوب أشد وأخطر من أمراض الأبدان؛ لأن غاية مرض البدن أن يفضي بصاحبه إلى الموت، وأما مرض القلب فيفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، ولا شفاء لهذا المرض إلا بالعلم الإلهي؛ ولهذا اصطفى الله الأنبياء والرسل، ورباهم وأرسلهم إلى الأمم بالهدى والعلم الإلهي الذي به صلاح العالم.
وكثير من الأفراد والشعوب والأمم يستغنون عن الأطباء، وأما العلماء بالله وأمره وشرعه فهم حياة الوجود وروحه، ولا يستغنى عنهم طرفة عين.
وحاجة القلب إلى العلم والإيمان أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والتنفس والعلم للقلب، كالماء للسمك إذا فقده مات، ولهذا سماه الله شفاءً كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57].
وتزكية النفوس بالإيمان والهدى أصعب من علاج الأبدان وأشد، ولا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريق الأنبياء والرسل.
فتزكية النفوس البشرية مسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم
إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليماً، وبياناً وإرشاداً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
وقد شرع الله سبحانه التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة كالحج، وقيام الليل، وبعد صلاة الفريضة، وبعد كمال الوضوء ونحو ذلك؛ لأن العبد لا بدَّ له من الغفلة، والنسيان والتقصير.
ولما كان إبلاغ الدين والجهاد في سبيله من أعظم وظائف الرسل، وقد قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأداها كما أمره ربه، شرع له الاستغفار عقيبها بعد أداء ما أمر به فقال له ربه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].
فأمره سبحانه أن يسبح بحمد ربه الذي خلقه وهداه واجتباه، وأعانه ووفقه حتى تمكن من أداء ما أمر به، وأن يستغفر ربه من كل ذنب ليلقى ربه طاهراً مطهراً من كل ذنب، فيقدم عليه مسروراً راضياً مرضياً عنه.
وقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ليس بمسلط عليهم ولا قهار لهم، ولم يبعث ليجبرهم على الإسلام أو يكرههم عليه، وإنما أمره ربه الذي أرسله أن يذكِّر بكلامه من يخاف وعيده، فهو الذي ينتفع بالتذكير، وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه فلا ينتفع بالتذكير كما قال سبحانه:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45].
وقد جرت سنة الله التي لا تتبدل أن العزة والغلبة والنصر والتمكين لرسله وأوليائه بالحجة والقهر.
فمن أمر منهم بالحرب نصره على عدوه، ومن لم يؤمر بالحرب أهلك الله عدوه كما أهلك قوم نوح بالماء، وقوم عاد بالريح، وقوم ثمود بالصيحة:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21].
والله تبارك وتعالى له الخلق كله، وله الأمر كله، وكل شيء وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع وأجدى، كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه، وكما إذا وقع الفرج في وقته الذي يليق به.
وجميع أقدار الرب تعالى على عباده واقعة في أليق الأوقات بها فـ: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3].
وقالت الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64].
ومن رحمة الله العزيز الرحيم بعباده أن أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وكلما ضل الناس أو انصرفوا عن عبادة الله إلى غيره بعث نبياً يردهم إلى ربهم وخالقهم.
فبعث الله نوحاً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث سبحانه هوداً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث صالحاً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث سبحانه إبراهيم صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث موسى صلى الله عليه وسلم كذلك، وبعث عيسى صلى الله عليه وسلم كذلك.
وبعث محمداً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله.
فهدى به من الضلالة، ودل الأمة على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، وكانت بعثته أعظم نعمة امتن الله بها على أهل الأرض قاطبة.
والله سبحانه خلق كل شيء، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال.
فهدى الحيوان إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره .. وهدى الجماد المسخر لما خلق له، فله هداية تليق به، ولكل نوع من الجماد والنبات والحيوان هداية تليق به.
فسبحان {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50].
ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد بأنه الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر، وأول وهلة، وأحسن طريق وأخصرها.
فإن من لم يهمل هذه الحيوانات والمخلوقات، ولم يتركها سدىً، ولم يتركها معطلة، بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه، مهملاً ومعطلاً وسدىً، لا يهديه إلى أقصى كمالاته، وأفضل غاياته، بل يتركه معطلاً لا يأمره ولا ينهاه، ولا يثيبه ولا يعاقبه، هذا من أكبر المحال؟.
إن هذا لا يليق بجلال الله وحكمته، ويتعالى الله عنه، وقد نزه الله نفسه عن هذا الحسبان فقال:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115، 116].
فمن لم يهمل أمر كل دابة في الأرض .. وأمر كل طائر في الجو .. وأمر كل حيوان يسبح في البحر .. بل جعلها أمماً وهداها إلى غاياتها ومصالحها .. كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم وما يسعدكم في الدنيا والآخرة؟.
بل رحمكم فبعث إليكم رسله .. وأنزل عليكم كتبه .. لتحصل لكم الهداية .. وتتم عليكم النعمة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)} [المائدة: 3].
والله عز وجل كما يحمي أنبياءه ورسله ويصونهم ويحفظهم، ويتولاهم وينصرهم، كذلك يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم، وسخريتهم بهم، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم تارة ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كذاب، وآذوه وسبوه، وشتموه وسخروا منه، وكادوه وحاربوه وكذبوه.
وضربوا له أمثالاً، وهو أبعد خلق الله منها، وقد برأه الله منها، وقد علم كل عاقل
أنها كذب وافتراء وبهتان: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} [الحاقة: 38 - 43].
وفي هذا الابتلاء بأذى الكفار للأنبياء والرسل ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة، فيمحقهم بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم، ويجعل العاقبة لرسله وأتباعهم، وليحصل لهم كمال اليقين على قدرة ربهم ونصره لرسله وأوليائه إذا فعلوا ما أمرهم الله به:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110].
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة كاملة لعموم البشرية إلى يوم القيامة.
ولرسالته صلى الله عليه وسلم عمومان:
الأول: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم فلا يخرج أحد من الناس بعد بعثته عن عموم رسالته البتة.
الثاني: عموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم، وأنه لا حاجة إلى أحد سواه البتة، وإنما حاجتنا إلى من يبلغنا عنه ما جاء به صلى الله عليه وسلم.
فمن لم يستقر هذا في قلبه لم يرسخ قدمه في الإيمان بالرسول، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه، وإنما يحتاج إلى غيره من قل نصيبه من معرفته وفهمه.
فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته.
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل، وتوفي صلى الله عليه وسلم وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك، وتوفي صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء
إلا وقد ذكر للأمة منه علماً، بل علمهم أحكام كل شيء، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، وشريعته كاملة، ما طرق العالم شريعة أكمل منها في بيان كل شيء.
فيجب على كل إنسان الإيمان بعموم رسالته في ذلك، كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين عربهم وعجمهم، وإنسهم وجنهم.
فكما لا يخرج أحد من الناس عن رسالته البتة، فكذلك لا يخرج حق من العلم والعمل عما جاء به.
ومن ظن أن شريعته ناقصة تحتاج إلى من يكملها فهو كمن ظن أن الناس بحاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك، فقد جاء صلى الله عليه وسلم بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة لأحد سواه.
ولهذا ختم الله به ديوان النبوة، فلم يجعل الله بعده رسولاً؛ لاستغناء الأمة به عمن سواه، فصلوات الله وسلامه عليه.
ومن فضل الله ورحمته وإحسانه إلى هذه الأمة أن جعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعل الرسالة فيهم، واختار أفضل الرسل منهم كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
فالذي يتلوه عليهم هو الحق، وما أعظم فضل الله حين يخاطب الله العبيد بكلامه، يتلوه عليهم رسوله:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].
ولولا فضل الله ورحمته ما زكى من الخلق أحد، ولا تطهر ولا ارتفع، ولكن العزيز الكريم أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يطهر أرواح الناس من لوثة الشرك، ودنس الجاهلية، ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات، فلا ترتكس أرواحهم في حمأة الرذيلة، ويطهر حياتهم بما جاء به من الدين من الظلم والبغي، ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب، وينشر فيهم العدل والإحسان.
ويعلمهم الكتاب والحكمة الذي به قوام حياتهم وعزتهم، وهو مادة التوجيه
والإعلام والإرشاد.
والاستقامة على الحق والتواصي به أمر عظيم يتطلب الصبر، ويجعل الإنسان مشدود الأعصاب، مضطرب الفؤاد؛ لما يراه من كثرة الأعداء وقلة الناصر، وقلة ذات اليد.
فلا بدَّ من الصبر على الطاعات .. والصبر عن المعاصي .. والصبر على البلاء .. والصبر على جهاد الأعداء .. والصبر على بطء النصر .. والصبر على انتفاش الباطل .. والصبر على قلة الناصر .. والصبر على ثقلة العناد .. والصبر على السب والشتم والضرب والقتل.
وقد أمر الله رسوله بالصبر على كل ذلك كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60].
وأمر أمته كذلك بالصبر والمصابرة ليحصل لهم الفوز والفلاح كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200].
وحين يطول الأمد قد يضعف الصبر أو ينفذ إذا لم يكن هناك زاد، ومن ثم أمرنا الله بالصلاة التي بها تتجدد الطاقة ويزيد الإيمان، فيمتد حب الصبر ولا ينقطع.
فلا بدَّ للإنسان الفاني الضعيف أن يتصل بربه الكبير، ويستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الظاهرة والباطنة، وحينما يثقل عليه جهد الاستقامة بين دفع الشهوات، وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة مرة، وحينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة.
هنا لا بدَّ له من الاتصال بربه، فيتوجه القلب المتعب المكدود إلى خالقه، وهنا يستجيب الله لمن دعاه، ويؤيده ويثبته ويؤنسه، ولا يدعه يقطع الطريق وحده، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، بل يمدهم بما ينفعهم حين ينفذ زادهم، ويوجههم للحصول على ذلك إلى أمرين كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153].
والدين الذي بعث الله به الأنبياء والرسل هو منهج الحياة الذي أراده الله للبشر، ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله.
فكل دين جاء به الرسل يقوم على أربعة أصول:
الأول: الإيمان بالله وحده لا شريك له، والتوجه إليه، والاستعانة به في جميع الأحوال.
الثاني: الشعائر التعبدية التي تربط المخلوق بخالقه كالصلاة ونحوها.
الثالث: الشرائع والأحكام التي تنظم حياة الناس وفق أمر الله.
الرابع: الأخلاق العالية التي تهذب النفوس، وتزكي القلوب.
فالدين الحق الذي يريده الله وأرسل به رسله يقوم على هذه الأصول الأربعة جميعاً، فلا يمكن أن ينفك الإيمان عن الشعائر التعبدية، عن الشرائع والأحكام، عن القيم الأخلاقية، في أي دين يريد أن يصرف حياة الناس وفق المنهج الإلهي.
وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة، ويخالف مفهوم الدين الذي أراده الله عز وجل.
فالدين تنظيم كامل وشامل لحياة الناس كلها، لا يقتصر على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا يقتصر على العبادات والشعائر وحدها، ولا يقتصر على الجانب التهذيبي للأخلاق وحده، ولا ينفصل فيها الجانب التشريعي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي.
وبدون هذه الأمور مجتمعة لا يكون دين على الإطلاق كما قال سبحانه محذراً من فعل بعضها وترك الآخر: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
فتوحيد الرب وعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والتخلق بأخلاقه، واتباع الشرائع
والسنن التي جاء بها، والدعوة إلى ذلك، والصبر عليه، هذا هو الصراط المستقيم، وما عداه عوج وضلال وانحراف كما قال سبحانه:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153].
وهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يلتقط الفرد الإنساني، بل المجموعة الإنسانية، من أي مستوى؟ ومن أي درجة؟ ومن أي جنس؟.
ويرفعها لتدرج في مدارج العز والعلا، والأمن والطمأنينة، والسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103].
والله عز وجل أرسل الرسل لهداية البشرية إلى الحق، ولتطاع بإذن الله، لا لمجرد الإبلاغ والإقناع كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64].
فإذا آمن الناس بالله فلا بدَّ أن يعملوا بدينه، ويتحاكموا إلى شرع الله ممثلاً في القرآن والسنة، ولا يكفي أن يتحاكموا إليه ليحسبوا مؤمنين، بل لا بدَّ أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين كما قال سبحانه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
ولا بدَّ للمؤمنين أن يطيعوا الله، ويطيعوا الرسول، وأولي الأمر منهم، وترد المسائل التي تشكل إلى الله ورسوله كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].
وكل نبي أرسله الله إلى قومه بسلطان مبين، فشريعة الله سلطان من الله، وكل
شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان، وما جعل فيها من سطوة على القلوب، بل كلها عذاب وشقاء وإن لوحت بما تحبه النفوس، لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب، وسيطرة الجلاد القاسي، فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها، ولها في النفوس مهابة وخشية، وقد أرسل الله الأنبياء والرسل إلى أممهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويبشرونهم بما أعد الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان، وينذرونهم ما أعده الله للكافرين والعصاة من جحيم وغضب:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165].
وكل الأنبياء تلقوا الوحي من الله، وكلهم جاءوا بوحي واحد لهدف واحد:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} [النساء: 163].
فهو موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بني البشر، موكب من الأنبياء والرسل من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين، في شتى الأوقات والأزمان.
لا يفرقهم نسب ولا جنس، ولا أرض ولا وطن، ولا لغة ولا لون، ولا وقت ولا زمن.
كلهم آت من ذلك المصدر الكريم، وكلهم يحمل ذلك النور الهادي، وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير، وكلهم أرسله الله رحمة بالعباد، ليأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور.
سواء منهم من جاء لعشيرة، ومن جاء لقوم، ومن جاء لمدينة، ومن جاء لقطر، ثم من جاء للناس أجمعين وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)} [الحديد: 9].
ولله الحجة البالغة الظاهرة البينة في الأنفس والآفاق، وقد أعطى الله البشر من العقول ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، وكان ذلك كافياً ليؤمنوا بالله سبحانه، ولكنه سبحانه رحمة منه بعباده، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها الله لهم وهي العقل، اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، يذكرونهم ويبصرونهم، ويحاولون استنقاذ فطرتهم، وتحرير عقولهم من غلبة الهوى، وركام الشهوات التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق كما قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 2].
فالله رؤوف بالعباد، اقتضت رحمته بالناس أن لا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها، فقد تضل هذه الفطر بسبب البيئة.
وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك، فالعقل قد يضل وينهزم تحت ضغط الشهوات.
وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات بينات، فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها أو بعضها في كيان الإنسان.
لقد ناط الله تبارك وتعالى بالرسل والأنبياء مهمة استنقاذ الفطر مما ران عليها من ركام الشهوات، واستنقاذ العقول من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس.
وجعل سبحانه العذاب مرهوناً بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله عليه، كذلك هي
تدل على أن الفطرة والعقل والحواس والبصائر لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات ما لم تساندها العقيدة، وما لم يضبطها الدين.
فالله جل جلاله إنما يرسل رسله رحمة بعباده، فهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، فهو غني عنهم، وعن إيمانهم به، وعبادتهم له، وإذا آمنوا وأحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
كذلك تتجلى رحمته سبحانه في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلاً آخر يستخلفه كما قال سبحانه:{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: 133].
فلا ينسى الناس كلهم أنهم موجودون بأمر الله، وأنهم باقون برحمة الله، وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله، وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه.
فما لأحد في نشأته ووجوده من يد، وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة، وأنتم أيها الكفار لستم بمعجزين، إنكم في يد الله وقبضته، ورهن مشيئته وقدره، فلستم بمفلتين أو مستعصين، ويوم الحشر ينتظركم، وإنه لآت لا ريب فيه، ويوم ذاك لن تعجزوا القوي المتين:{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} [الأنعام: 134].
وسنة الله عز وجل مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون أن يأخذهم أولاً بالضراء والبأساء، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب، ولعل المصيبة إذا أصابتهم أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله، واستكانوا للحق فإذا لم تهزهم يد البأساء، وكلهم الله إلى الرخاء وهو أشد فتنة من البأساء، حتى تلتبس عليهم سنة الله ولا ينتبهوا لها، ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} [الأعراف: 94، 95].
وكل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم فينذرهم ويبين لهم، وبذلك يستوفون حقهم الذي أوجبه الله على نفسه، بأن لا يعذب قوماً إلا بعد الرسالة، وبعد الإعذار لهم بالبيان، وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول كما قال سبحانه:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} [يونس: 47].
والأمر كله لله، وليس لأحد من الأمر شيء، وعلى الرسل والأنبياء والدعاة إبلاغ دين الله، والهداية بيد الله وحده، يسوقها لمن يستحقها ويطلبها، ويمنعها من لا يستحقها ولا يطلبها:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8].
وجميع الأنبياء والرسل دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فمنهم من آمن، ومنهم من كذب.
وهؤلاء المكذبون لا يسكتون عن الحق وأهله، فيؤذون الرسل وأتباعهم، ويسبونهم ويسخرون منهم.
وبعد الإنذار الطويل، والتذكير الطويل، والتكذيب الطويل، لا بدَّ أن ينتصر الله لأوليائه من أعدائه.
فيتوجه النبي إلى قومه متحدياً لهم، متوكلاً على ربه، مستعيناً به وليس معه إلا الإيمان بربه، القوة التي تصغر أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير.
إنه الإيمان بالله العزيز الجبار، الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المهيمنة على هذا الكون بما فيه.
وليس هذا التحدي غروراً ولا تهوراً ولا افتخاراً، إنه تحدي القوة الحقيقية
الكبرى للقوة الهزيلة الفانية التي تتضاءل مهما كانت أمام أصحاب الإيمان كما قال الله لرسوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)} [يونس: 71].
قال نوح صلى الله عليه وسلم لقومه: إن كان الأمر بلغ منكم مبلغ الضيق، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم، وتذكيري لكم بآيات الله، فأنتم وما تريدون، وأنا ماض في طريقي، لا أعتمد إلا على الله وحده فهو حسبي.
أما أنتم فأجمعوا أمركم، وخذوا أهبتكم متضامنين غير مترددين، ثم اقضوا إلي، ونفذوا ما عزمتم عليه بشأني، ولا تنظروني ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد.
فكل استعدادي هو اعتمادي على الله وحده دون سواه، فهو مولاي وناصري ممن بغى علي وآذاني، ولو كانوا جميع أهل الأرض فربي لهم بالمرصاد.
أرأيت قوة اليقين في قلوب الأنبياء؟.
إنه التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله قائل إلا وهو مطمئن إلى ربه، مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليغري خصومه بنفسه، ويثيرهم بمثيرات القول على أن يهاجموه.
فماذا كان مع نوح صلى الله عليه وسلم من القوة والعدد والعساكر؟.
إنه الإيمان الذي يصله بربه، الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
وأصحاب الدعوة إلى الله لهم أسوة برسل الله، وأنه ينبغي أن تمتلئ قلوبهم بالثقة بالله حتى تفيض، وإن لهم أن يتوكلوا على الله وحده، ويقفوا في وجه الطاغوت أياً كان.
ولن يضرهم الطاغوت إلا أذىً يسيراً ابتلاء من الله، لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه، ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف، ثم تعود الكرة للمؤمنين، ويحق وعد الله لهم بالتمكين كما قال سبحانه: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ (111)} [آل عمران: 111].
والله سبحانه يقص قصة نوح وهو يتحدى قوة الطاغوت في زمانه، هذا التحدي الواضح الصريح:{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} [يونس: 72].
إنه لا ينقص أجري بتوليكم وإعراضكم، فإن أجري على الله، ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي، فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها لله.
فماذا كان من أمر الله؟، وماذا حصل لنوح ومن آمن به؟، وماذا حصل لمن كفر به؟.
وعجل الله سبحانه إعلان نجاة نوح والمؤمنين معه؛ لأن نوحاً والمؤمنين معه كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة، فلم تكن النصرة مجرد إهلاك هذه الكثرة، بل كان قبلها نجاة القلة المؤمنة من جميع الأخطار، واستخلافها في الأرض تعيد تعميرها، وتجديد الحياة فيها على منهج الله فترة من الزمان.
هذه سنة الله في الأرض، وهذا وعده لأوليائه، ووعد الله آت لا محالة بنصر أوليائه وخذلان أعدائه.
وقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين، حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين، إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج.
وهذه وحدها لا تدوم؛ لأن فساد الحياة بالكفر والمنكرات والفواحش يقضي عليها بعد حين حتماً، فإذا تميزت الأمة المسلمة بدينها عن الأمة الكافرة، وتمايز الفريقان ووقف جند الرحمن أمام جند الشيطان، كانت قوة الله مع المؤمنين، والقوة الهزيلة مع المخلوقين.
فيحق وعد الله بنصر رسله وأوليائه مع أعدائه مع قلتهم وقلة عددهم، وكثرة عدوهم وكثرة أسلحتهم فـ:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249].
وهود صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى قومه عاد، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقال:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)} [هود: 50].
فأبوا وأصروا على كفرهم، واغتروا بما هم عليه من النعيم، وما وهبهم الله من القوة والبطش والغلظة:{قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)} [هود: 53].
وبعد هذا لم يبق لهود إلا التحدي وإلا التوجه إلى الله وحده، والاعتماد عليه وحده، وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين الظالمين، فماذا قال لهم؟ وبأي شيء واجه قوتهم؟.
وإن الإنسان ليدهش حقاً لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى، فيسفه أحلامهم وعقيدتهم، ويقرعهم ويؤنبهم، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي، ولا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفتأ غضبهم.
إنه لأمر عجيب أن يقتحم هذا الاقتحام رجل فرد على قوم غلاظ شداد، ولكن الدهشة تزول عندما يعلم الإنسان أنه رسول الله، والله معه، والإيمان يملأ قلبه، وإذا كان الله معه فلماذا يخاف البشر؟.
إنه يقول بإيمان الواثق من ربه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} [هود: 54، 55].
ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء، ثم كيدوني بلا تريث ولا تمهل، فما أبالي بكم جميعاً: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
إن ربي ورب الخلائق قوي قاهر، وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها، ويقهرها بقوته قهراً.
فما خوفه من هذه الدواب؟، وما احتفاله بها؟
وإن توليتم فقد أديت واجبي لله، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه، ويستخلف ربي قوماً غيركم، يليقون بتلقي دعوته، ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم، ولا تضرونه شيئاً فما لكم به من قوة.
والله حافظ دينه وسننه ورسله وأولياءه من الأذى والضياع: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} [هود: 57].
فلما أصروا على كفرهم وعنادهم وتكذيبهم لرسولهم أنزل الله بهم عقوبته، فأرسل عليهم الريح العقيم التي ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال سبحانه:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 6 - 8].
وحقت عليهم لعنة الله بسبب كفرهم واستكبارهم كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} [هود: 59، 60].
وقد بعث الله الأنبياء والرسل إلى أقوامهم وأممهم، فبلغوا ما أمرهم الله به، ثم توفاهم الله، وسوف يجمع الله يوم القيامة بين الرسل ومن أرسلوا إليهم، وسيسألهم جميعاً كما قال سبحانه:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6، 7].
وسوف يجمع الله الرسل يوم القيامة ويسألهم ماذا أجبتم كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}
[المائدة: 109].
سوف يجمع الله هؤلاء الرسل الذين فرقهم في الزمان فيتتابعوا على مداره، وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته، وفرقهم في الأجناس فذهب كل إلى قومه، وكلهم يدعون إلى الله بإذنه.
سيجمعهم الله على مشهد من الملأ الأعلى .. وعلى مشهد من الناس أجمعين ..
إنه الاستجواب الذي يراد به المواجهة .. مواجهة البشرية برسلها .. ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم ليعلن في موقف الإعلان أن هؤلاء الرسل إنما جاءوا من عند الله بدين الله.
فيعلنون أمام ربهم الذي أرسلهم أنه أعلم بهم وبأممهم، وأعلم بمن أجابهم، وأعلم بمن عصاهم؟.
وسوف يسأل الناس كلهم يوم القيامة عن أمرين:
{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: 65].
{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)} [الشعراء: 92].
وفي ختام الاستجواب كلمة الفصل من رب العالمين: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119].
واختيار الرسل للرسالة موكول إلى علم الله المحيط بمن يليق بهذا الأمر، فالرسالة أمر هائل خطير، أمر كوني من الرب لعبد من عباده، يتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثل فيه الحق الكلي في قلب بشر، وفي واقع الناس.
ويتجرد فيه الإنسان من حظ ذاته ليخلص لتحقيق مراد ربه، ويصبح موصولاً بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة.
ولا تتم هذه الصلة إلا إذا كان الإنسان صالحاً للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا موانع، فليس أي أحد يصلح للرسالة والنبوة.
والله وحده هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ويختار لها الذات التي تصلح أن ترسل من بين كافة البشر:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} [الأنعام: 124].
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة هم أولاً لا يصلحون لهذا الأمر، وهم جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح.
وقد جعلها الله سبحانه حيث علم، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم من لدن نوح حتى انتهت إلى محمد صلى الله عليه وسلم خير خلق الله، وخاتم النبيين:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)} [الحج: 75، 76].
وحياة الرسل والأنبياء وأتباعهم مملوءة بالابتلاء، وذلك لتربية قلوبهم على اليقين والصبر، لتتوجه إلى الله في جميع الأحوال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل من أشد الناس بلاء؟ فقال:«الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
وكم تبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل وهم يواجهون الكفار والمشركين، وأهل الإصرار والجحود، والعمى وأهل العناد.
وتمر عليهم الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم أحد إلا القليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).
إنها ساعات حرجة في حياة الرسل والباطل ينتفش ويطغى، ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد، فلا يتحقق لهم في هذه الأرض، فتهجس في خواطرهم الهواجس.
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه البشر في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة، في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110].
تلك سنة الله في الدعوات، لا بدَّ من الشدائد، ولا بدَّ من الكرب، حتى لا تبقى بقية من جهد، ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من باب واحد من عند الله العزيز الحكيم، فينجو الذين يستحقون النجاة .. وينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين .. وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون .. ويحل بأس الله ونقمته بالمجرمين، فلا يحسبن أحد أن شأن الدعوة هين، وشأن الإيمان سهل، بل لا بدَّ من الابتلاء:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214].
وذلك كي لا يكون النصر رخيصاً، فتكون الدعوات هزلاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئاً، والأدعياء لا يتحملون تكاليف الدعوة، فلا بدَّ من الابتلاء والصبر في محل الشدائد التي لا يصمد لها إلا الصادقون، الذين لا يتخلون عن دعوة الله ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة.
إن الدعوة التي كلف الله وشرف بها الأنبياء وأتباعهم ليست تجارة قصيرة الأجل، قد تخسر فيتركها إلى أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة.
إن الذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم برحلة مادية قريبة الأجل.
إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال، ويملكون استخفاف العامة، ويملكون تأليب الأمة على الدعاة إلى الله باستثارة شهواتها، وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات.
ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأنه لن ينضم إليها في أول الأمر الأقوام المستضعفة المستخفة الطائشة، إنما ينضم إليها الصفوة المختارة التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة.
وهم وإن كانوا قلة فإن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق بعد جهاد يطول أو يقصر، وعندئذ فقط يدخل الناس في دين الله أفواجاً كما حصل ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله عنه بقوله:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].
وقد أرسل الله كل رسول بلسان قومه، ليتمكن من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، وليبين لهم، وليفهموا عنه، فتتم الغاية من الرسالة.
وعلى الرسول البيان والبلاغ، أما ما يترتب على ذلك من هدى أو ضلال فلا قدرة له عليه، وليس خاضعاً لرغبته، إنما هو من شأن الله الذي وضع الله له سنة {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56].
فمن سار على درب الضلال ضل، ومن سار على درب الهدى وصل، وهذا وذاك يتبع مشيئة الله التي شرعت سنته في الحياة كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} [إبراهيم: 4].
والرسول صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى الإسلام حتى عم الإسلام الجزيرة العربية، ومن ثم
تكون مهداً يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض في كل زمان.
والحقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث برسائله إلى خارج الجزيرة العربية يدعو إلى الإسلام تصديقاً لرسالته إلى الناس كافة، ولكن الذي قدره الله له حسب عمره البشري المحدود أن يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم قومه بلسانهم، وأن تتم رسالته إلى البشرية كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى أصقاع الأرض وقد كان.
فلا تعارض بين رسالته للناس كافة، ورسالته بلسان قومه في تقدير الله وفي واقع الحياة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكل قوم هاد منهم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
ألا ما أعجب البشر، بدل أن يعتزوا باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته إليهم، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين كما قال سبحانه:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} [الإسراء: 94].
وما المانع أن يختار الله بشراً رسولاً، ويمن عليه ببعثته إلى الناس؟.
والرسل لا ينكرون بشريتهم، ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منَّة الله عليهم في منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى:{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)} [إبراهيم: 11].
وهي منَّة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم، ولكن كذلك على البشرية التي تتشرف باختيار أفراد منها لهذه المهمة العظمى، مهمة الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى، وهي منَّة كبرى على البشرية جمعاء.
إن الله تبارك وتعالى ربى الأنبياء على الإيمان والتقوى، فواجهوا الطغيان بالإيمان، وواجهوا الأذى بالصبر والثبات؛ لأنهم مطمئنون إلى ربهم متوكلون
عليه، فما لهم بغيره من حاجة كما قال الرسل لأممهم:{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} [إبراهيم: 12].
إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه، المالئ يديه من وليه وناصره، المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بدَّ أن ينصر ويعين.
والقلب الذي يحس أن يد الله سبحانه تقود خطاه، وتهديه السبيل، هو قلب موصول بالله القوي العزيز، فلا يتردد في المضي في الطريق مهما كانت العقبات.
وماذا يهم المسلم حتى ولو لم يتم النصر في الدنيا، إذا كان هو قد ضمن هداية السبيل كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
وماذا يخاف القلب الموصول بالله؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد لربه؟.
وقد حاول المشركون في مكة فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عما أوحى الله إليه، ليفتري على ربه غيره وهو الصادق الأمين، ولكن الله عصم رسوله من الفتنة وثبته على الحق، ولو تخلى عنه سبحانه لركن إليهم فاتخذوه خليلاً كما قال سبحانه:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 73 - 75].
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة يأخذونها.
ومن حملة الدعوة من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً، فأصحاب
السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما يطلبون تعديلات وتنازلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، ولا ريب أن الانحراف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.
والذي يقبل التسليم أول مرة لا يمكن أن يقف عند ما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد.
إن كل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول، وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 43، 44].
وأصحاب السلطان يستدرجون الدعاة، فإذا سلموا في جزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، ورفع السعر، ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها.
والتسليم في جانب ولو يسير من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها إنما هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الحق والدعوة، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فالله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، وفي جميع أمورهم، وهو نعم المولى ونعم النصير، فما حاجتنا إلى غيره؟.
ومتى دبت الهزيمة في أعماق القلوب فلن تنقلب الهزيمة نصراً، لذلك امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ثبته على ما أوحي إليه، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه من الركون إليهم، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهو عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير.
وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض أي مكة، ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجراً، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة، ولو أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنوة
وقسراً لحل بهم الهلاك كما قال سبحانه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} [الإسراء: 76، 77].
وقد جعل الله عز وجل هذه سنة جارية لا تتحول؛ لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم الفوري.
وهذا الكون تصرفه بأمر الله سنن مطردة لا تتحول أمام اعتبار فردي، فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشاً بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل لحكمة يعلمها لم يرسل الرسول بالخوارق، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة، بل أوحى الله إليه بالهجرة، ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول.
وصاحب الدعوة غني بربه، يعلم أن مولاه ناصره ولا بدّ، ولا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه لينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله.
والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه إلا أن يكون السلطان وخدمه من جندها، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)} [الإسراء: 80].
والله تبارك وتعالى يربي أنبياءه ورسله ويبتليهم؛ لتزكو قلوبهم، ويستعدوا لأعباء الرسالة، سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم كما في قصة نوح وهود، وصالح وشعيب، وإبراهيم ولوط صلوات الله وسلامه عليهم.
أو كان الابتلاء بالنعمة كما في قصة داود وسليمان، أو كان الابتلاء بالضر كما في قصة أيوب، فلا بدَّ من الصبر على تكاليف الرسالة وأعباء الدعوة وانتظار نصر الله لأوليائه:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام: 34].
وقد أرسل الله يونس صلى الله عليه وسلم إلى قرية نينوى فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدراً، وغادرهم مغاضباً، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظاناً أن الله لن يضيق عليه الأرض فهي فسيحة، والأقوام متعددون، والقرى كثيرة.
وقاده غضبه إلى شاطئ البحر فوجد سفينة مشحونة فركب فيها مع الركاب، حتى إذا كانت في لجة البحر ثقلت، فقال ربانها إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق، فساهموا فجاء السهم على يونس، فألقوه فالتقمه الحوت مباشرة بأمر الله واستلمه وضيق عليه أشد الضيق.
فلما كان يونس في الظلمات، ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، نادى ربه كما قال سبحانه:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87].
إن الدعوة إلى الله هي أم الأعمال، وأجورها أعظم الأجور، فلا بدَّ لأصحابها أن يتحملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها:
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60].
وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقاً ولكنه بعض تكاليف الرسالة، فلا بدَّ من الصبر والتأني والرفق والحلم مهما واجه الداعية من الإنكار والتكذيب والعتو والجحود:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33].
ولا بدَّ من استحياء القلوب بكل وسيلة، ولا بدَّ من محاولة العثور على العصب الموصل، ولمسة واحدة قد تحول الإنسان تحويلاً تاماً من الشر إلى الخير، ومن الظلام إلى النور:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 17].
إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب؛ لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس، إنه عمل مريح قد يهدأ به الغضب، وتهدأ الأعصاب،
ولكن أين هي الدعوة؟.
وما الذي عاد إليها من هجران المكذبين المعارضين؟.
إن الداعية أداة في يد الله، والله أرعى لدعوته وأحفظ، فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله، والهدى هدى الله:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [الأنعام: 35، 36].
وقد أعطى الله عز وجل كل نبي قوتين:
قوة الدعوة .. وقوة الدعاء.
وبحسب قوة الدعاء والاستجابة والاستقامة تكون سرعة إجابة الدعاء كما قال سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90].
فهم كانوا يسارعون في الخيرات فسارع الله في استجابة الدعاء الصادر منهم، وهم يدعون ربهم رغبة في رضوانه، ورهبة من غضبه، وقلوبهم وثيقة الصلة بالله، وهم خاشعون لا متكبرون ولا متجبرون.
بهذه الصفات وبهذا اليقين وبهذا العمل استحق زكريا وزوجه أن ينعم عليهما بالابن الصالح يحيى، فكانت أسرة مباركة تستحق رحمة الله ورضاه.
وأحب شيء إلى الأنبياء والرسل أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدرك الناس ما جاءوا به من عند الله فيتبعوه، وأن يؤمنوا بربهم ويعبدوه.
ولكن العقبات في طريق الدعوة كثيرة، والرسل بشر أجلهم محدود، وهم يحسون هذا ويعلمونه، فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6].
والله عز وجل يريد أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الشرعية، ثم من شاء أن يؤمن، ومن شاء فليكفر، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق.
فالاستقامة على أصول الدعوة كفيلة أن تثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم في نهاية المطاف.
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات فرصة للكيد للدعوة، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس.
ولكن الله سبحانه يحول دون كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هناك شبهة كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} [الحج: 52].
وسنة الله جارية في إرسال الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له منذ عهد نوح صلى الله عليه وسلم إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كل قرن يستوفي أجله ويمضي، وكلهم يكذبون، فتأخذهم سنة الله في الهلاك، ويصيرون عبرة لمن بعدهم:{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: 43، 44].
وجميع الأمم يشغلهم عما جاء به الرسول من الآيات البينات والدين القويم الاعتراض على بشرية الرسول، وعلى وضعه ومكانته بينهم كما قال سبحانه:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)} [المؤمنون: 45 - 48].
وكما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94، 95].
فاستهانوا بهما وكذبوهما لبشريتهما، فأما آيات الله التي معهما، وسلطانه الذي بأيديهما، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة، سببه انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكفار الكبراء المترفين وبين الوحي الإلهي الذي يصل الإنسان بخالقه الكريم.
ومن رحمة الله بالبشرية أن أرسل إلى كل قوم رسولاً منهم، ولكن كفار مكة اعترضوا عليه:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 7، 8].
إنه يمشي في الأسواق ليكسب رزقه، فهلا كفاه الله ذلك، وحباه بالمال الكثير من غير كد ولا عمل، أو ألقى إليه كنز يغنيه عن السعي، أو تكون له جنة يأكل منها، هذا ما قالوه.
والله سبحانه لم يرد للأنبياء أشياء تشغلهم عما أرسلهم الله به، فلم يرد لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون له كنز، ولا أن تكون له جنة؛ لأنه سبحانه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته.
ينهض بتكاليف رسالته العظيمة الهائلة، ويسعى في الوقت ذاته في طلب رزقه كما يسعى رجل من أمته.
وقد انهال المال بعد الهجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله عن إبلاغ رسالة ربه، فأنفقه في وجوه البر والخير، وكان فرحه بإنفاقه أعظم من فرح الآخذ له.
وكان صلى الله عليه وسلم كالريح المرسلة في جوده، وكان أجود ما يكون في رمضان، وذلك ليستعلي على فتنة المال، ويرخص من قيمته في النفوس.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ
فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ». متفق عليه (1).
والله قادر أن يجعل لرسوله الأموال والجنات والقصور والخزائن، ولكنه سبحانه شاء أن يجعل له خيراً من ذلك، وهو الاتصال بالله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومعطي كل شيء، والشعور برعايته وإحاطته، وتذوق حلاوة ذلك الاتصال الذي لا تقاربه نعمة من النعم، ولا متاع صغر أو عظم:{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)} [الفرقان: 10، 11].
وفوق هذا فسنة الله في جميع الرسل أنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، فهي سنة مقدرة مقصودة، لها غايتها المرسومة كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20].
وأي غرابة في أكل الطعام والمشي في الأسواق فهذه سنة الله في جميع البشر، فلا يعترض على ذلك إلا جاهل لا يدرك حكمة الله في تدبير خلقه، فليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره، فالله ابتلى الرسل بأممهم، وابتلى الأمم بالرسل، وابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الفقراء بالأغنياء؛ ليعلم سبحانه من يصبر على هذا الابتلاء، وينفذ أمر الله فيه.
ولا بد للمسلم من الصبر، وبث الشكوى إلى من بيده مقاليد الأمور، وقد واجه الأنبياء والرسل من أذى البشر ما لا يطيقه إلا من ثبته الله وأعانه، من الكفر والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والضرب والأذى، والتحقير والتنفير، والصد والإعراض.
وقد حكى الله عن رسوله شكواه لقومه أنهم هجروا كتاب ربهم: {وَقَالَ الرَّسُولُ
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6) واللفظ له، ومسلم برقم (2308).
يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان: 30].
لقد هجروا القرآن الكريم، الذي أنزله الله على عبده لينذرهم ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه رداً، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه منهج حياتهم.
وتلك سنة الله في جميع الرسالات، فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي جاءهم به، ويصدون عن سبيل الله، ولكن الله يهدي رسله وأتباعهم إلى طريق النصر على أعدائهم كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31].
ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها، ويطبعها بطابع الجد والحزم.
وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعوات الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائغين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المخلصة، التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقاً ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة، وتمزقت الأمة شيعاً وأحزاباً.
ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتماً مقضياً، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقوداً، فلا يكافح ويناضل إلا أصحاب دعوة الحق الجادون، الذين يؤثرون الدعوة والحق على كل شيء مهما كان.
فلا يثبت على الكفاح المرير والجهد المتواصل إلا أصلبهم عوداً، وأقواهم إيماناً، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله، واستهانة بما عند الناس، عندئذ تتميز دعوة الحق عن دعوة الباطل، وتمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، وأولئك هم الأمناء عليها.
والذي يقع غالباً أن أكثر الناس يقف متفرجاً على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات، فإذا ثبت أهل الحق ومضوا في طريقهم، قالت الكثرة المتفرجة: إنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم إلا أن وراءها ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن، وعندئذ يتقدمون ليروا ما هو العنصر الغالي الثمين الذي يجاهد هؤلاء من أجله، ويقدمون له حياتهم.
وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجاً في هذا الدين بعد طول التفرج على الصراع.
فمن أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين، وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما أصابهم وهم ماضون في الطريق، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر، وإما الشهادة كما قال سبحانه:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: 52].
إن بروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي، فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية:
فساد في القلوب .. وفساد في الأخلاق .. وفساد في النظم .. وفساد في الحكم .. وفساد في الأوضاع.
ووراء هذا الفساد العام الطام يكمن المجرمون المفسدون، الذين ينشؤون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية، والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء.
فأمر عادي أن يبرز المجرمون للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم، واستبقاءً
للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه.
وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن، وكذلك المجرمون.
ولكن دعوة الحق تنتصر في النهاية؛ لأنها تسير وفق أمر الله، موافقة للفطرة:{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31].
وهناك فئة من الناس يعاندون ويستهزؤون بالأنبياء والدعاة، والأنبياء لم يقصروا في الدعوة، ولم يقصروا في الحجة، إنما العلة فيهم أنفسهم، فهم يجعلون من هواهم إلهاً يعبدونه، ولا يرجعون إلى حجة أو برهان.
فهذا النوع من الناس غير قابل للهدى، وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره، ولا أن يحفل بشأنه، وقد أشار الله إلى هؤلاء بقوله:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [الفرقان: 43].
ثم يخطو القرآن خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يعبدون هواهم، فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل، ثم يخطوة الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من درجة الأنعام إلى درك أسفل وأحط كما قال سبحانه:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].
وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على دين الله الثابت، المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].
فهذا الدين هو العاصم من الأهواء والشهوات والشبهات، وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين، وكلاهما من الله.
والله الذي خلق القلب البشري، هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه، والفطرة ثابتة والدين ثابت، لا تبديل لخلق الله، فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة
لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة، فطرة البشر وفطرة الوجود:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].
وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزاً عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت الغنائم، ومع هذا فقد كان يمضي الشهر والشهران وما يوقد في بيوته نار، مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا، ولكن ذلك كان اختياراً للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله، رغبة الذي يملك ولكنه يقف ويستعلي ويختار.
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلفاً من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته.
فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته، ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفواً بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقاً، لا جرياً وراءها، ولا تشهياً لها، ولا انشغالاً بها، ولا انغماساً فيها.
ولم يكلف أمته أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد استعلاءً على اللذائذ والمتاع.
ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن نساءً من البشر، لهن مشاعر البشر، وعلى فضلهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن، فلما رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله والمؤمنين راجعن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النفقة، فلم يستقبلها بالرضا والترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضا، إذ كانت نفسه ترغب أن تعيش فيما اختاره لها، متجردة من الانشغال بذلك الأمر.
وأن تظل حياته وحياة من يلوذ به على ذلك الأفق السامي، بالتحرر من هواتف شهوات هذه الأرض الرخيصة، وأن تظل القيم الإسلامية العالية ممثلة ومترجمة في بيت النبوة، الذي سيبقى منارة للإسلام والمسلمين حتى يرث الله
الأرض ومن عليها.
فنزلت آية التخيير لنسائه، فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 28، 29].
فاختارت نساؤه الله ورسوله والدار الآخرة اختياراً مطلقاً، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.
ولمكانة أمهات المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن أزواجه، ومحل القدوة لنساء العالمين، ولهن حقوق وعليهن واجبات؛ تبعاً للمكان الذي هن فيه، يناسب مقامهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [الأحزاب: 30].
فالعذاب يضاعف للمقارفة ضعفين، كما أن الأجر يضاعف على الطاعة والقنوت ضعفين كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} [الأحزاب: 31].
وهن لسن كأحد من النساء، عليهن واجبات في معاملة الناس، وفي عبادة الله، وفي بيوتهن، وأمهات المؤمنين أطهر نساء على وجه الأرض، ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل والتوجيهات.
فللمؤمنات مكانة عالية بين نساء العالمين، فعليهن أن يوفين هذا المكان حقه، ويقمن فيه بما يقتضيه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا
خَبِيرًا (34)} [الأحزاب: 32 - 34].
فهذه حال سيد المرسلين، وهذه أوامر نسائه، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه نساء المؤمنين بين نساء العالمين إلى يوم القيامة.
إن النبوة والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية وفق أمر الله، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهاج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به وهم بشر، فلا بدَّ أن يكون رسولهم من البشر؛ ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يتبعوه.
ومن ثم كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معروضة لأنظار أمته، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحياة بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون:
حياته الشخصية .. وحياته المنزلية .. وحياته الأسرية .. وعباداته ومعاملاته .. ومعاشراته وأخلاقه .. وجهاده وغزواته .. وأحواله في سفره وإقامته .. وصحته ومرضه ..
وسننه في حال الأكل والشرب .. والنوم واليقظة .. واللباس والركوب .. والسلم والحرب .. والغنى والفقر .. وهكذا ..
حتى خطرات قلبه سجلها القرآن لتطلع على كل ذلك الأجيال، وتقتدي بها، وتسير على هديها إلى يوم القيامة كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
وقد أرسل الله الرسل مبشرين من أطاع الله بالجنة، ومنذرين من عصى بالنار، فيا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة الفوز والفلاح، وفرصة النجاة، فيعرضون عنها، وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم، لا يتدبرونها ولا ينتفعون بها.
ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين، ولكنهم يجافون أبواب الرحمة، ويسيئون الأدب مع الله:{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} [يس: 30].
إن في إهلاك المكذبين الأولين عظة لمن يتدبر، فما بال الإنسان يرى مصارع الظالمين المخزية، ثم يسير مندفعاً في ذات الطريق والغرور يملي له؟.
إن جميع الخلق عائدون إلى الله، وليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} [يس: 31، 32].
إن العجب من أن يكون الرسول بشراً قاله كل قوم، وتعللوا به منذ بدء الرسالات، وتكرر إرسال الرسل من البشر، وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض.
ومن البلاء أن يكون أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون هو الذي كان دائماً موضع العجب، فأي سفه فوق هذا؟.
فما المانع أن يكون الرسول من البشر، يدرك كيف يفكر الناس، ويعرف ما يستطيعه البشر وما لا يستطيعونه من جهد وعمل، يعيش بينهم، ويكون قدوة لهم، وتكون لهم فيه أسوة، وهم يحسون أنه واحد منهم، بشر منهم، من جيلهم خرج، وبلسانهم يتكلم، يعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتجاوبون وإياه.
ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة لاختلاف جنسه، أو اختلاف لغته، أو اختلاف طبيعة حياته، أو تفصيلات حياته.
فلم العجب مما خلافه هو العجب: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)}
…
[ص: 4].
والرسول صلى الله عليه وسلم شاهد على هذه البشرية التي أرسل إليها، يشهد أنه بلغها ما أمر به، وأنها استقبلته بما استقبلت به، وأنه كان منها المؤمنون، ومنها الكافرون، ومنها المنافقون، وكان منها الصالحون، ومنها المفسدون، فيؤدي الشهادة كما أدى
الرسالة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)} [الأحزاب: 45 - 47].
والمكذبون للرسل لهم طبيعة واحدة، وجبلة واحدة، يستقبلون بها الحق والرسل:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} [الذاريات: 52، 53].
وما تواصوا بشيء لأنهم لم يلتقوا، وإنما هي طبيعة الطغاة والطغيان وتجاوز الحق في كل جيل.
والله جل جلاله يوجه الأنبياء وأتباعهم ألا يحفلوا بهؤلاء المكذبين، وأن يستمروا بالتذكير مهما أعرض المعرضون، وكذب المكذبون:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 54، 55].
فالتذكير هو وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم، والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة، والأمر فيها لله وحده لا شريك له.
والله عز وجل أرسل رسله بالبينات والبراهين، وأنزل معهم الكتاب والميزان لتحقيق العبودية لله رب العالمين كما قال سبحانه:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25].
فكل الرسالات جاءت رحمة من رب العالمين لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزاناً ثابتاً ترجع إليه البشرية لتقويم الأعمال، والأحداث، والأشياء، والرجال، والنساء، وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء، واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع.
ميزاناً عادلاً لا يحابي أحداً؛ لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد؛ لأن الله رب الجميع.
هذا الميزان هو الدين الذي أنزله الله، وأرسل به رسله، هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات التي تحيق بها في معترك الأهواء، والعواطف، والمنافسة، وحب الذات.
فلا بدّ من ميزان ثابت يؤوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والإنصاف بلا محاباة، ليقوم الناس بالقسط وفق مراد الله.
وكما أنزل الله الكتاب والميزان، فكذلك أنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، وهذه إشارة إلى الجهاد بالسلاح، والذين ينصرون الله ورسله بالغيب، إنما ينصرون منهجه ودعوته ودينه، أما الله سبحانه فلا يحتاج إلى نصر من أحد، فإن الله قوي عزيز.
والله تبارك وتعالى وكل الأنبياء والرسل بنشر الهداية والدعوة إلى الله كما وكل الشمس بالإنارة، ووكل السحب بنقل المياه وتوزيعها في العالم.
فوظيفة الرسل الدعوة إلى الله، وإقامة حياة الناس على منهج الله الذي أرسلهم به إليهم، ليعبد الناس كلهم إلهاً واحداً لا إله إلا هو كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
وهذه الأمة مكلفة بما كلف الله به الأنبياء والرسل، وقد شرفهم الله بالقيام بذلك، وأسوتهم الأنبياء كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)} [الممتحنة: 6].
وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتأسى بإبراهيم والذين معه، فله فيهم أسوة تتبع، وسابقة تهدي، في الدعوة والعبادة، وإقامة الدين في الأرض.
ومن أراد من هذه الأمة أن يتولى عن هذا المنهج، من أراد أن يحيد عن طريق
القافلة، من أراد أن يقصر عن الصراط المستقيم، من أراد أن ينسلخ من هذا النسب العريق، فما بالله من حاجة إليه، فهو سبحانه:{هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} [يونس: 68].
وقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية الله، وخلقه لهذا الوجود، ورعايته وتدبيره لكل كائن في الوجود، ودعوة الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإقامة حياتهم على منهج الله.
وإنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص، أو لم تأت بهيمنة الله وتدبيره لكل كائن، فهذا كله من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة.
فدين الله واحد منذ أول الرسالات إلى خاتمة الرسالات، ويستحيل أن ينزل الله ديناً يخالف هذه القواعد.
لكن الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أوسع وأدق وأشمل وأكمل من كل تصور سابق في الشرائع الإلهية السابقة.
وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة، ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه، وتنشئ فيه هذا التصور الكامل الشامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره؛ ليدرك القلب البشري بمقدار ما يطيق حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية، ويراها في آثارها المشهودة في الكون، ويعيش في مجال هذه القدرة، وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام، ويراها محيطة بكل شيء، مهيمنة على كل شيء، مدبرة لكل شيء، حافظة لكل شيء، ولا يندّ عنها شيء، سواء في ذلك القليل والكثير، والصغير والكبير، والجليل والحقير.
وأن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة، وخشية وخوف، وطمع ورجاء، وأن يمضي في الحياة معلقاً في كل حركة وكل خالجة بالله، شاعراً بقدرته
وهيمنته، شاعراً بعلمه ورقابته، شاعراً بقهره وجبروته، شاعراً برحمته وفضله، شاعراً بقربه منه في كل حال، وأخيراً يشعر بالوجود كله متجهاً إلى خالقه، فيتجه معه مسبحاً بحمد ربه، فيشاركه تسبيحه، مدبراً بأمره وحكمته، فيخضع لشريعته وأوامره:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [التغابن: 1].
والله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27].
فكل رسول عبد لله، وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته، وظيفته الدعوة إلى الله، أما الغيب فهو مختص بالله دون العالمين، لا يعلمه أحد إلا الله، فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا ما يطلع عليه رسله، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس، فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه، يكشفه لهم في حينه، ويكشفه لهم بقدر، ويرعاهم وهم يبلغونه، ويراقبهم كذلك.
فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته يطلعهم على جانب من غيبه هو هذا الوحي، موضوعه وأحكامه، وقصصه وأخباره، والملائكة الذين يحملونه، ومصدره، وحفظه في اللوح المحفوظ.
وهو سبحانه في الوقت ذاته يحيط هؤلاء الرسل بالأرصاد والحراس من الحفظة للحفظ والرقابة، يحمونهم من وسوسة الشيطان ونزغه، ومن وسوسة النفس وتمنيها، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة، ومن النسيان أو الانحراف، ومن سائر ما يعترض البشر من النقص والضعف.
إنها الرقابة الدائمة الكاملة للرسول وهو يؤدي هذا الأمر العظيم.
إنه يتلقى التكليف بالبلاغ، ولا يملك إلا أن يؤدي ما أمره به ربه.
فالله عالم بكل ما لديه .. وكل ما في قلبه .. وكل ما حوله .. ليس متروكاً لنفسه .. ولا متروكاً لضعفه .. ولا متروكاً لهواه .. ولا متروكاً لما يحبه ويرضاه.
إنما هو الجد الصارم، والرقابة الدقيقة من ربه، فهو يعلم ما حوله من الحرس
والرصد، ويعلم ما هو مسلط عليه من علم وكشف، ويعلم من يراقبه، ويعلم من يحصي عليه أقواله وأفعاله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67].
إنه موقف يثير العطف على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى كل مسلم، كما يثير الرهبة حول هذا الشأن الخطير.
حقاً إن إنذار البشرية وإيقاظها وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان، إن ذلك كله واجب ثقيل شاق حين يناط بفرد من البشر مهما يكن نبياً رسولاً.
فالبشرية من الضلال والعصيان، والتمرد والانحراف، والعتو والعناد، والإصرار والاستكبار، يجعل من الدعوة أصعب شيء، وأثقل ما يكلفه إنسان في هذه الحياة لولا عون الله وتوفيقه.
ولكن الله يصطفي ويختار من يصلح لهداية البشرية، ويربيهم ويهديهم، ويوفقهم ويعينهم على حمل الأمانة العظمى.
إن الله عز وجل يأمر رسوله بإنذار البشرية كافة، ويوجهه في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره إلى تكبير ربه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3].
كبر ربك وحده، فهو وحده الكبير الذي يستحق التكبير، فكل شيء، وكل أحد، وكل مخلوق، وكل قيمة، وكل كائن صغير، والله وحده هو الكبير، والسموات والأرض، والأجرام والأحجام، والأحداث والأحوال، كلها تتوارى وتنمحي في ظلال الجلال والكمال لله الواحد الكبير المتعال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 22 - 24].
وهو توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشرية ومتاعبها وأهوالها وأثقالها بهذا التصور، وبهذا الشعور، وبهذا النظر.
فيستصغر كل كيد، وكل قوة، وكل عقبة، وكل شخصية، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه المهمة والنذارة هو الكبير الذي بيده كل شيء ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور، وهذا الشعور.
ويوجهه ربه كذلك إلى التطهر كما قال سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4].
فالطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى، وهي ألصق شيء بهذه الرسالة، وهي ضرورة لملابسة الإنذار والتبليغ.
ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث.
ويوجهه كذلك إلى هجران الشرك، وموجبات العذاب كما قال له سبحانه:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5].
ويوجهه كذلك إلى إنكار ذاته، وعدم المن بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه كما قال سبحانه:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر: 6].
وهو صلى الله عليه وسلم سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيقوم بالكثير من الجهد والتضحية والعناء، ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه، ويستكثره ويمتن به.
وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها، فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها الله إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله.
وهو اختيار واصطفاء وتكريم، يستحق الشكر لله لا المن والاستكثار.
وأخيراً يوجهه الله إلى الصبر لربه كما قال له: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} [المدثر: 7].
والصبر وصية الله لكل رسول، وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه
الدعوة.
فالصبر هو الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة، وهي الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس، وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات، وتدفعهم شياطين الأهواء، وهي معركة طويلة عنيفة، لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله.
ومنهج الله تبارك وتعالى الذي أرسل به رسله كلهم واحد، وهو الإيمان بالله وعبادته وحده لا شريك له، وإقامة الحق والعدل بين الناس.
وكان كل رسول يؤمن بمن قبله، ويوصي أمته أن ينصروا الرسول المقبل، وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء، وكان هذا الميثاق أن كل رسول يأتي في عصر رسول آخر يؤمن به كما حدث بالنسبة لإبراهيم ولوط مثلاً، فقد أرسلا في عصر واحد، هذا يعالج داءً، وهذا يعالج داءً آخر، وكان كل منهما مؤمناً بالآخر.
وإن لم يكن النبي الآخر في عصره أوصى أمته بالإيمان به ونصرته وطاعته.
فرسالة الله عز وجل للبشرية، في جوهرها واحدة كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
فالدعوة إلى منهج الله واحدة منذ أول الخلق حتى نهايته، فلا يتعصب قوم لملتهم ولا لنبيهم؛ لأنهم جميعاً يبلغون عن إله واحد منهجاً واحداً.
فموكب الرسل موكب واحد متلاحم متعاضد متكامل، ولا يجوز لنبي ولا تابع نبي أن يصادم دعوة الرسول الذي يأتي بعده، ما دام مصدقاً لما بين يديه، ومزيداً عليه، وبذلك يزداد موكب الإيمان ولا ينقص.
فرب الناس هو الله، وعدو المؤمنين هو الشيطان، والكفار في كل زمان ومكان.
فكل من تولى وأعرض عن الرسول الجديد الذي جاء مصدقاً لما معهم، ومبيناً
لهم بعض الذي اختلفوا فيه، فهذا يكون قد حارب موكب الإيمان، وفرق المؤمنين، وفسق عن الإيمان وخرج عنه.
لذلك فكل من أعرض وأعطى ظهره للنبي الجديد يقول الله عنه: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
…
[آل عمران: 82].
والفسق هو الخروج عن منهج الله لعباده، وقد أوجب الله علينا أن نأخذ الكمال الإيماني من مواكب الرسل جميعاً.
وما من رسول أتى وهاجم منهج الرسول الذي قبله أو سفهه أو أنكره.
بل كل رسول من رسل الله جاء مصدقاً بمن قبله، مبشراً بمن بعده، فمن آمن بهذا الرسول، وكفر بمن قبله من الرسل، فإنما هو بهذا خارج عن منهج الله؛ لأن الرسالات السماوية في جوهرها واحد، وفي مصدرها واحد:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة: 136].
والحقيقة: أن رفض الإيمان بالرسول الجديد له أسباب، وهذه الأسباب هي التي تدفع الذين اعتنقوا منهج الرسول السابق من تصديق الرسول الجديد.
وهؤلاء قد حرفوا وبدلوا منهج رسولهم لفائدتهم، ووضعوا منه ما لم يأمر به الله، وما لم يقله رسوله، ثم نسبوه إلى الله افتراءً وكذباً.
وهذا التحريف والتبديل، هو الذي يمنعهم من اتباع الرسول الجديد؛ لأن الرسول الجديد جاء بمنهج حق، يجردهم من ميزات الدنيا التي وضعوها لأنفسهم ومصالحهم، ونسبوها إلى الله ظلماً وعدواناً:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 79].
فهل هؤلاء من المؤمنين وهم يقدمون أكل الدنيا على الإيمان بالرسول الجديد؟ وهل يمكن أن يقال إن هؤلاء بقوا على إيمانهم، أم أنهم خرجوا عن منهج الله؟
والله سبحانه تكرم على البشرية بإنزال منهج يحيط بالإنسان في جميع أحواله، فلا تجد تصرفاً بشرياً إلا وله أمر من الله يستوعبه كما قال سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
فمنهج الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم يحيط بحياة الإنسان إحاطة كاملة .. وفيه شفاء للبشرية، وحل مسائلها إلى يوم القيامة.
فلا أحد يترك منهج الله وخاتم رسله إلا أن يكون له غرض شخصي، منهج يوافق هواه، فيترك منهج السماء، ويتبع منهجاً وضعه البشر، ولكن لماذا؟
إن الإنسان عادة لا يحب أن يتبع مساوياً له، بل لا بد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه؛ لأن عنده ما لا يملكه، فيتبعه للحصول عليه، ولكنه يتنازل عن هذا، ويتبع منهجاً بشرياً من مساو له، وذلك حين تتلاقى المصالح والأهواء، ويحلل الحرام، ويباح كل منكر، فحينئذ يتبع الإنسان منهج الإنسان.
فالأمم والشعوب حين تترك منهج الله، الذي هو عدل لا هوى فيه، والذي يعطي كل إنسان حقه، والذي هو أمن وأمان للجميع، حين تترك منهج الله وتتبع منهج البشر فذلك من هوى النفس:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].
ومن عناية الله ببني آدم وكمال رحمته بهم أن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين، منهم من قص الله علينا أخبارهم، ومنهم من لم يقص علينا أخبارهم، وذلك ليعلم الناس أن هناك مواكب للرسل.
ومن رحمة الله بعباده أنه لم يرسل رسولاً واحداً فقط كما نور الكون كله بشمس واحدة فقط لماذا؟
لأن الله عز وجل لو أرسل رسولاً واحداً في أول البشرية بتعاليم من الله، ثم بعد ذلك تعاقبت الأجيال، وأخفى كل جيل جزءاً من رسالة الله لضاعت الرسالة كلها.
ولجئنا يوم القيامة مجادلين بأن ما وصلنا عن الله سبحانه وتعالى هو غير ما أراده الله سبحانه، وهنا لا يكون الحساب عدلاً.
ولكن الله سبحانه وتعالى أرسل مواكب الرسل لتبين وتظهر ما حرف في الرسالات السابقة، وما أخفي عن الناس، وما نسي بقدم العهد.
وكل رسول يعالج الأدواء التي حدثت في زمنه، والانحراف عن منهج الله الذي حصل، وكان هناك أكثر من رسول في وقت واحد كإبراهيم ولوط، ويوسف ويعقوب، وموسى وهارون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثم جاء الكتاب الخاتم وهو القرآن الكريم، الذي جاء به الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وتكفل الله بحفظه إلى يوم القيامة، ليصل إلى العباد كما أنزله الله، ليس فيه إخفاء ولا تحريف ولا تبديل.
كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
وجميع الأنبياء جاءوا بدعوة التوحيد كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].
أما شرائعهم فهي مختلفة كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
فكل إنسان بفطرته التي فطره الله عليها يستطيع أن يهتدي بعقله إلى أن هناك خالقاً لهذا الكون، وهو الله وحده، ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هي مرادات الله من خلقه؟ ولا كيف يعبد الله؟ ولا كيف يشكر الله على نعمه؟ ولا يعرف ما يحب الله؟ ولا ما يبغض الله؟.
ولا يعرف ما هو الجزاء على الطاعات والمعاصي؟ ولا اليوم الآخر، ولا الجنة ولا النار؟.
ولذلك أرسل الله الرسل لبيان ذلك كله كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44].
فالرسل أرسلهم الله سبحانه مبلغين لمنهج الله، مفصلين أحكام دينه، مبشرين
من أطاعوه بالجنة، منذرين من عصوه بالنار، مثبتين للذين آمنوا أمام أحداث الدنيا وتقلباتها، وجعلهم أسوة للعباد في جميع أحوالهم ليقتدوا بهم، فمن اقتدى فقد اهتدى كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158].
وجاءت رسل الله لتبشر خلق الله برحمة الله، وإنعامه عليهم في الدنيا والآخرة.
فهو سبحانه بعد أن خلق لهم النعم في الدنيا، ثم خلقهم فيها، زادهم فضلاً على فضل بأن خلق لهم الجنة لينعموا بها في الآخرة، فهو سبحانه رحمان الدنيا والآخرة، ورسوله رحمة للناس في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الانبياء: 107].
ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن أرسل الرسل من البشر، يختارهم منهم، حتى يكون الرسول شهيداً على من أرسل إليهم يوم القيامة.
فإن قالوا إن هذا المنهج كلفنا ما لا نطيق، كانت هذه الحجة مردوداً عليها، فإن هذا المنهج طبقه بشر مثلكم، ولم يتحمل فوق ما يطيق، وكان مثلاً لكم تحتذون به، فالتكليف مناسب للمكلف به.
ولو أرسل الله إلى البشر ملكاً لقال الناس هذا ملك مخلوق من نور، ونحن مخلوقون من طين، وله قدرات فوق قدرتنا.
ولكن كون الرسول بشراً، وكونه من بين قومه، وكونه يطبق المنهج، يسقط حجة هؤلاء جميعاً:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94،95].
والرسل تهدي إلى طريق الحق والهدى، وتبين للناس أحكام الدين وتهديهم إلى الطريق المستقيم، وتوضح لهم سبله كما قال سبحانه لرسوله: {وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52،53].
أما قبول الناس للهدى والدين أو عدم قبولهم له فذلك بيد الله وحده، فهو الذي يعلم من يستحق الهداية ويطلبها فيسوقها إليه، ويعلم من لا يستحق ذلك ممن لا خير فيه فيصرفه عنها كما قال سبحانه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56].
ومدار السعادة في الدنيا والآخرة وعنوان الفلاح إنما يكون بطاعة الله ورسوله، وكل رسول مأمور أن يبلغ ما أرسل به إلى الناس بلاغاً تقوم به الحجة، وليس بيده من هداية الناس شيء، ولا من حسابهم شيء، وإنما يحاسبهم على أعمالهم من الطاعات والمعاصي عالم الغيب والشهادة كما قال سبحانه:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)} [التغابن: 12].
وهذا القرآن الكريم فيه كل ما يسعد العباد في الدنيا والآخرة، وبه يصلون إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، لما اشتمل عليه من العلوم الشريفة، والسنن والآداب، والأحكام والشرائع، والأخلاق العالية، والترغيب والترهيب، وأحوال اليوم الآخر، حتى يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
فما الذي دهى الأمة حتى أعرضت عنه، ونبذت أحكامه وسننه وشرائعه؟
إن هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه حق واجب لكل إنسان، فيجب إيصاله إليه ودعوته إليه، حتى لا تكون فتنة وفرقة وخلاف، ويكون الدين كله لله:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
وقد جمع الله للأنبياء بين الصديقية والنبوة، كما قال سبحانه:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم: 41].
والصديق كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله، المصدق بكل
ما أمر بالتصديق به، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لكمال اليقين، والعمل الصالح الكامل.
وجمع لهم بين النبوة والرسالة، فالرسالة تقتضي تبليغ كلام الرسل، وتبليغ ما جاء به من الشرع دقه وجله.
والنبوة تقتضي إيحاء الله إليه، وتخصيصه بإنزال الوحي إليه، فالنبوة بينه وبين ربه، والرسالة بينه وبين الخلق، كما قال سبحانه:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)} [مريم: 51].
والنبي صلى الله عليه وسلم ولد يتيماً .. ونشأ مسكيناً .. وعاش فقيراً .. ومع ذلك أمره الله بأمر عظيم، وهو إبلاغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافة، وما أعطي لإبلاغ ذلك شيئاً من الملك والأموال والأسباب؛ لأن معه معية الله ونصرته، التي أيد بها رسله.
فنصره الله على قوم يقينهم أن الفوز والفلاح في الأموال والدولة، ومعهم قوة الأسباب، ويقينهم أن قضاء الحاجات في أيدي الأوثان والأصنام.
ووقف أهل الأرض في وجهه، ولكن الله نصره عليهم مع قلة الأسباب؛ لأن النصر ليس بيد الأسباب، بل بيد الناصر وحده لا شريك له كما قال سبحانه:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51].
وقد نادى الله جميع الأنبياء والرسل بأسمائهم، ونادى محمداً صلى الله عليه وسلم بوصف النبوة والرسالة.
فنادى آدم صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} [البقرة: 35].
ونادى إبراهيم صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} [الصافات: 104،105].
ونادى موسى صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)} [القصص: 31].
ونادى عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} [آل عمران: 55].
أما محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين فقد ناداه ربه بوصف النبوة والرسالة؛ تذكيراً له بعظمة الوظيفة التي أرسل بها.
فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67].
وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب: 45،46].
وقد خير الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملكاً رسولاً، فاختار العبودية على الملك؛ لأنها أقرب إلى التواضع والافتقار، ولأنه إذا كان عبداً كان افتخاره بمولاه ومالكه، ويعظمه ويحمده ويثني عليه، ويتشرف بذكر أسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه وإحسانه، وإذا كان ملكاً كان افتخاره بملكه وعبيده وأمواله.
فالعبودية لله أعظم صفة شرف له ولأتباعه، وليس عند العبد شغل أو عمل إلا امتثال أوامر سيده، وطاعته في جميع الأحوال.
ولذا قال الله عنه في مقام الوحي: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10].
وفي مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1].
وفي مقام التنزيل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1].
وجميع الأنبياء والرسل أرسلهم الله عز وجل بثلاثة أشياء، وهي:
الدعوة إلى الله .. وبيان الطريق الموصل إليه .. وبيان حال المدعوين بعد قدومهم عليه.
فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل أمة، على لسان كل رسول.
فعرَّف الرسل ربهم عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، ويرونه يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء.
وعرَّفوا الخلق بالطريق الموصل إلى ربهم، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده ووعيده، وعرَّفوهم بما لهم بعد الوصول إليه، وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب، والميزان، والحوض، والصراط.
فقعد شياطين الإنس والجن على رأس القاعدة الأولى، فحالوا بين القلوب وبين معرفة ربها، وسموا إثبات صفاته وعلوه فوق خلقه واستواءه على عرشه تشبيهاً وتجسيماً، فنفروا عنه من انخدع بمكرهم وكيدهم.
وترتب على ذلك الإعراض عن الله، وعن معرفة أسمائه وصفاته، والإعراض عن ذكره ومحبته، والثناء عليه بأوصاف كماله، وانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه.
وجاء أهل الآراء الفاسدة، والأذواق المنحرفة، والعوائد الجاهلية، فقعدوا على رأس الطريق الموصل إلى الله، وحالوا بين القلوب وبين الوصول إلى نبيها، وما كان عليه هو وأصحابه، وعابوا من خالفهم في قعودهم عن ذلك، ورغب عما اختاروه لأنفسهم، فتركوا الإيمان والأعمال الصالحة، واشتغلوا بالأموال والأشياء، ورغبوا بالدنيا عن الدين، والعادات والتقاليد عن العبادات والسنن.
وجاء أصحاب الشهوات فقعدوا على رأس طريق المعاد، والاستعداد للجنة ولقاء الله، وعمروا الدنيا، واتبعوا الشهوات، وقالوا لا نبيع حاضراً بغائب،
وقالوا للناس خلوا لنا الدنيا، ونحن قد خلينا لكم الآخرة.
فالإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وشهود القلب لذلك هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السالكين، والحادي بهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد.
فمن لا شاهد له فلا سير له ولا طلب، وأعظم الشواهد صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه.
ولا يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله عز وجل له بفضله ومنِّه علماً يشاهده بقلبه فيشمر إليه، ويعمل عليه.
فسبحان من حال بين أعدائه وبين محبته ومعرفته، والسرور والفرح به، ورؤيته، والتمتع بخطابه في محل كرامته، ودار ثوا به، فلو رآها أهلاً لذلك لمنَّ عليها به، وأكرمها به، والله أعلم حيث يجعل كرامته، ويضع نعمته.
وقد شاء الله عز وجل برحمته وحكمته أن لا يأخذ الناس بعهد الفطرة، وهي معرفة ربهم، وأن لا يأخذهم بالآيات الكونية التي تدل على عظمة الله واستحقاقه الحمد، بل مع ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ إقامة للحجة، وإبلاغاً لدين الله سبحانه.
وأرسل الله الرسل لكل قوم، وفي كل أرض، فحيثما وجد الناس كانت رحمة الله معهم، وكان رسول الله بينهم:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر: 24].
ثم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
فعموم العالمين حصل لهم النفع برسالته:
أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.
وأما أعداؤه المحاربون له فالدين عجل قتلهم، وموتهم خير لهم من حياتهم،
فقد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير من طول أعمارهم في الكفر. وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده، وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له، وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإسلام حقن دمائهم، وحفظ أموالهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم في التوارث وغيره، وأما الأمم النائية عنه، فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته، فصلوات الله وسلامه على من بعثه الله رحمة للعالمين، فهو رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة، وانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها ولم يقبلوها، ولكن نالهم من بركتها ما هو رحمة لهم وإن لم يزيدوه:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].