الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].
وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (1).
المعروف: هو التوحيد والإيمان والطاعات وكل خير.
والمنكر: هو الشرك والكفر والمعاصي وكل شر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهمان من سهام الإسلام، وهما وظيفة الأنبياء والرسل، وقد شرف الله بهما هذه الأمة، فهم خير الأمم إذا قاموا بذلك.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أصول الدين، وهما وظيفة الأمة، فهما واجبان على كل مسلم ومسلمة كما قال الله عز وجل:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
والمسلم يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذه وظيفته التي شرفه بها ربه، وكلفه بها، ووعده على ذلك الثواب العظيم والأجر الجزيل.
والمسلم يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثالاً لأمر الله ورسوله: إما رجاء الثواب الذي يحصل له عند القيام بهما .. وإما خوف العقاب على تركهما .. وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه .. وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم وإنقاذهم مما وقعوا فيه من التعرض لعقوبة الله .. وتارة يحمل
(1) أخرجه مسلم برقم (49).
العبد على القيام بهما إجلال الله وتعظيمه ومحبته، وأنه أهل أن يطاع ويذكر ويشكر .. وتارة لرؤية الشيطان يتلاعب بالعباد، ويسوقهم إلى المعاصي والفواحش فيغار الإنسان عليهم.
والواجب شكر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والدعاء لهم، وإكرامهم والوقوف معهم، فمن نبهك على وجود عقرب في بدنك، أو أهدى إليك هدية فعليك أن تشكره، وترضى عنه، وتدعو له، لا أن تمتعض منه.
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يصبر على إهانة الناس له: فإن كانت إهانتهم تعود لكوني مشاركاً في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأحيل ذلك الشخص إلى مُنزل القرآن، الذي استخدمني في هذه المهمة، فهو عزيز حكيم.
وإن كان كلامه من نوع تحقير وإهانة لشخصي بالذات، فهذا أيضاً لا يخصني، وإنما أنا كالأسير، وإهانة الأسير تعود إلى مالكه، فهو الذي يدافع عنه كما قال الرجل الصالح الناصح لقومه:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} [غافر: 44، 45].
ويجب على من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أولاً: العلم بالمعروف والمنكر، والتمييز بينهما، والعلم بحال المأمور، وحال المنهي.
ثانياً: الرفق بالناس حال أدائهما، فالله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه، واللين يقطع أعظم مما يقطع السيف.
ثالثاً: الحلم والصبر على الأذى من الناس كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} [المزمل: 10].
فلا بدَّ من هذه الثلاثة:
العلم قبل الأمر والنهي .. والرفق معه .. والصبر بعده.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاهما لازم، لكن الأمر بالمعروف قبل النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف هو الأصل، وبه يستقيم الناس على الدين، فإذا ركب الناس الفواحش، وغشوا المحرمات، وتركوا الطاعات، وأقبلوا على المعاصي، وجب تغيير هذه المنكرات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (1).
ولتغيير المنكر ثلاث درجات:
الأولى: تغيير المنكر باليد، وهذا خاص بولي الأمر، أو من ينيبه عنه، إذ جعل الله له القوة والسلطان والجاه، وخضوع الرعية له.
فكل من مكنه الله في الأرض لزم عليه تغيير المنكر باليد، وذلك يشمل حاكم الدولة، والقاضي في محكمته، والقائد في جيشه، والمدير في مصلحته، والأب في منزله.
الثانية: تغيير المنكر باللسان، وهذا خاص بالعلماء والدعاة، ويكون بالقول الحسن، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا يخشى في الله لومة لائم.
الثالثة: تغيير المنكر بالقلب، وهذا أضعف الإيمان، وآخر المراتب، وهو في الوقت نفسه مهم جداً، ولذا يجب على كل مسلم ومسلمة من العامة والخاصة، ولا يسقط عن المكلف في كل زمان ومكان.
والإنكار بالقلب يكون كالتالي:
بغض المعصية التي رآها أو سمعها .. التمني وهو أن يتمنى أن لو يستطيع أن
(1) أخرجه مسلم برقم (49).
يزيل هذا المنكر بيده أو لسانه .. والدعاء بأن يدعو الله أن يزيل هذا المنكر، وأن يهدي قلب صاحبه إلى الصراط المستقيم.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة أحوال:
فتارة يصلح الأمر .. وتارة يصلح النهي .. وتارة يصلح الأمر والنهي .. وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقاً، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق.
والمنافع التي يجب على المسلم بذلها نوعان:
منها ما هو حق المال كالزكاة الواجبة في الأموال لحاجة الفقراء والمساكين ونحوهم.
ومنها ما هو واجب لحاجة عامة الناس إليها، فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة كتعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة، والحكم بينهم بالعدل، والجهاد في سيبل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنقاذ الإنسانية من مهلكة ونحو ذلك.
وقد أمرنا الله عز وجل أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله، وأمرنا أن ننهى عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم،
ففي المخلوقات والصفات والأعمال ما نبغضه ونسخطه ونكرهه، وفيها ما نحبه ونرضاه، وكل ذلك بقضاء الله وقدره.
وإذا كان الله يبغض السيئ منها ويكرهه وهو المقدر لها فكيف لا يكرهها من أمره الله أن يكرهها ويبغضها؟.
وقد أمر الله عباده بكل ما يحبه ويرضيه، ونهاهم عما يبغضه ويسخطه كما قال سبحانه:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي سلطة تأمر وتنهى، والأمر والنهي
غير الدعوة، فالدعوة بيان، والأمر والنهي سلطان، وقد جمع الله بينهما في قوله سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
والإصلاح درجات تبدأ:
أولاً: بإصلاح النفس وتزكيتها بالأخلاق العالية، لتكون زهرة فواحة بالروائح الطيبة، من لم يقترب منها تأثر برائحتها الطيبة.
ثانياً: ثم إصلاح المجتمع، حتى تنتقل هذه الأخلاق الكريمة إلى المجتمع فرداً فرداً، فتدخل البيوت، وتتجمل بها الأسر، وتتزين بها القبائل.
ثالثاً: ثم إصلاح الدولة، ليكون حكامها ووزراؤها وعمالها وتجارها هم نواة هذا المجتمع الذي آمن بالله ورسوله، وامتثل أوامر الله ورسوله في كل حال.
فإصلاح أحوال المملكة لا يتم إلا بعد إصلاح النفس ثم إصلاح المجتمع، وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم النفوس في مكة، فلما آمنت واستعدت للطاعة نزلت الأحكام وقامت الولاية في المدينة.
وقد بعث الله عز وجل هذه الأمة كما بعث الأنبياء بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتبشير والإنذار، والتعلم والتوجيه كما قال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وكثيراً ما يقع ثناء الناس على البناء والأصباغ دون الأساس؛ لأنه لا يرى، ولا قيمة للبناء لولا الأساس.
وكذلك كثيراً ما يثني الناس على العالم أو الداعية، وينسون الأنبياء والرسل الذين هم سبب الهداية، بل ينسون ربهم الذي أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وهداهم صراطه المستقيم، فلا يذكرونه ولا يحمدونه، فاعتبروا يا أولي الأبصار؟.
وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبين على كل مسلم ومسلمة
فهل للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟.
والله يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44].
ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3].
والجواب: نعم.
فإن المسلم مأمور بشيئين:
أحدهما: فعل الطاعات وترك المعاصي.
والثاني: أمر غيره بفعل الطاعات وترك المعاصي.
وكمال العبد بالقيام بهما معاً، والإخلال بأحد الأمرين لا يقتضي الإخلال بالآخر.
ومعنى الآيتين تنبيه وتحذير للمسلمين لعدم الجمع بينهما فعل المحرم، ونهي الناس عنه، فهذا لا يليق بالعامل، فضلاً عن المسلم، فضلاً عن العالم أو الداعي إلى الله.
ومن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التعريف، فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكراً فإذا عرف أقلع عنه، فيجب تعريفه بلطف.
ومنها ستر العيوب والقبائح: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» أخرجه مسلم (1).
وفي الجهر بذكر العيوب والسيئات مفسدتان كبيرتان:
الأولى: أن ذلك يجلب العداوة والبغضاء بين من يجهرون بالسوء، ومن ينسب إليهم هذا السوء، وقد يفضي إلى جحد الحقوق، وسفك الدماء.
الثانية: أن الجهر بالسوء بين الناس يؤثر في نفوس السامعين، فيقتدي بعضهم
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).
بعض، فيجهر بالسوء مثله، أو يقلد فاعل السوء في عمله، والجهر بالسوء مباح للمظلوم للضرورة كما قال سبحانه:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)} [النساء: 148].
والمعروف قسمان:
ظاهر كالصلاة والزكاة ونحوهما .. وباطن كالإيمان والتوحيد ونحوهما.
والمنكر قسمان:
ظاهر كالقتل والزنا والفواحش .. وباطن كالشرك والكبر والنفاق.
وإنكار المنكر له أربع حالات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزُل بجملته.
الثالثة: أن يزول ويخلفه مثله.
الرابعة: أن يزول ويخلفه ما هو شر منه.
فالأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار المنكر وتغيير المنكر ليحصل بذلك من المعروف ما يحبه الله ورسوله.
فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله منه، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإن ذلك أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟. فقال: «لا، مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ» أخرجه مسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأى مِنْ أمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ
(1) أخرجه مسلم برقم (1855).
شِبْراً فَمَاتَ، إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» متفق عليه (1).
ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الصغار والكبار رآها من إضاعة هذا الأصل العظيم، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات وألوان الشرك في أول بعثته ولم يستطع تغييرها بيده مع بغضه لها.
بل لما فتح مكة، وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالجاهلية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم «يا عائشة: لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ؛ لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأدْخَلْتُ فِيهِ مَا أخْرِجَ مِنْهُ، وَألْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيّاً وَبَابًا غَربيّاً، فَبَلَغْتُ بِهِ أسَاسَ إِبْرَاهِيمَ» متفق عليه (2).
ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه من سفك الدماء واضطراب الأمن.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كالرماية وسباق الخيل ونحوهما.
وإذا رأيت الكفار المقاتلين يشربون الخمر فلا تنكر عليهم؛ لأن الله عز وجل إنما حرم الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية، وأخذ الأموال، وهكذا.
وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب الحرج والمشقة، وحصول الفتن، وتكليف ما لا سبيل إليه، وما يُعلم أن الشريعة لا تأتي به.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الأنبياء والرسل، ووظيفة هذه
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7054) واللفظ له، ومسلم برقم (1849).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1586)، واللفظ له، ومسلم برقم (1333).
الأمة، والقيام بها من أشرف الأعمال، فلا بدَّ لمن يقوم بهما من العلم لئلا يقع فيما حرم الله، ويوقع عباد الله فيما حرم الله، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إفتاء عملي بدون سؤال، تثيره أحوال الناس وفشو المعاصي بينهم.
ولا بدَّ من سلطة في الأرض وجماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالدعوة إلى الله تعود بالناس إلى خالقهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صيانة للمؤمنين لئلا يقعوا فيما حرم الله، وليقبلوا على ما يحبه الله ويعرفونه ويدعون إليه كما قال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
ومنهج الله في الأرض إيمان وعمل، وبناء وتكوين، وأمر ونهي، وليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان فقط فهذا شطر.
والشطر الآخر الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لتستقيم الحياة البشرية على منهج الله، وتصان حياة الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى، وكل ذي شهوة، وكل ذي مصلحة.
والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف ليس بالهين ولا باليسير إذا نظرنا إلى طبيعته وما يتطلبه من جهد وصبر وبذل، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم.
وفيهم الجاهل الغافل .. وفيهم الجبار الغاشم .. وفيهم الحاكم المتسلط .. وفيهم الهابط الذي يكره الصعود .. وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد .. وفيهم المنحل الذي يكره الجد .. وفيهم الظالم الذي يكره العدل .. وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة .. وفيهم من يكره المعروف .. وفيهم من يحب المنكر ويفعله وينشره ويدافع عنه.
ولا يمكن أن تفلح الأمة، بل لا تفلح البشرية قاطبة إلا أن يسود فيها المنهج
الإلهي، ويكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً محارباً، وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى وتطاع.
ومن ثم فلا بدَّ من جماعة تتلاقى على الإيمان بالله والأخوة في الله، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى، ثم بقوة الحب والإلفة، وهؤلاء هم المفلحون كما قال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
والله عز وجل بقدر ما كلف هذه الأمة بهذا الواجب العظيم، أكرمها في نفس الوقت ورفع مكانها ومقامها، وأفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه أمة أخرى كما قال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].
فهذه الأمة أخرجها الله للناس لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة بما أنها خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة والإمامة للخير لا للشر في هذه الأرض إلى أن تقوم الساعة، ومن ثم فهي تمثل حياة الأنبياء والرسل، ولا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية، إنما يجب عليها أن تعطي هذه الأمم مما لديها، وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه:
من الاعتقاد الصحيح .. والفكر الصحيح .. والنظام الصحيح .. والعلم الصحيح .. والعمل الصحيح .. والخلق المليح.
فهذا الواجب يحتم عليها أن تكون في الطليعة دائماً وفي مركز القيادة دائماً، وفي منبر التوجيه والإرشاد دائماً.
وأول متطلبات هذا المكان أن تدعو الناس إلى خالقهم، وأن تقوم على صيانة حياة البشرية من الشر والفساد، وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي خير أمة أخرجت للناس بعملها في حفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد
المعروف والمنكر، لتتحقق الصورة الحسنة التي يحب الله أن تكون الحياة عليها، ويتحقق مراد الله من خلقه، وتحصل للبشرية السعادة في الدنيا والآخرة.
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها، وأن تتعاون على البر والتقوى، وأن تتواصى بالحق، وأن تهتدي بهدى الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها، ولا يضرها بعد ذلك أن يضل الناس حولها ما دامت قائمة على الدين والهدى.
وليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى، والهدى هو دينها وشريعتها.
فإذا هي أقامت نظامها في الأرض، بقي عليها أن تدعو الناس كافة إليه، وأن تحاول هدايتهم إليه.
وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة، لتقيم العدل بينهم، ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم.
وكون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، وذلك لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولاً ثم في الأرض جميعاً.
وأول المعروف وأعظمه الإسلام لله، وتحكيم شرعه في كل شيء، وأول المنكر وأعظمه الكفر بالله، وتحكيم غير شرعه في خلقه.
فعلى المسلم أن يدري ويعلم أن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، ولا يصلح إلا بعلم وعمل ونصح.
ولا بدَّ لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه، وإقامتهم عليه، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولإقامة شريعة الله في الأرض، وإقامة الناس عليها.
لا بدَّ من جهد بالحسنى حتى تنتشر الهداية في البشرية، وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يعمل
به في ملكه.
وبذلك تبرأ ذمة المؤمنين، وينال الظالم جزاءه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة: 105].
والمؤمن يفرح دائماً بالإيمان بالله وطاعته وعبادته كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].
وهو كذلك مستعد دائماً لتنبيه الغافل، وتذكير الناس، وهداية الضال، ونصح من زل، في كل زمان ومكان، وعلى أي حال حسب استطاعته، فماذا يبقى من الشر والفساد إذا كان كل مسلم يؤدي هذه الوظيفة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (1).
إن كمال كل شيء بأمرين:
الأول: أن يبلغ في تلك الصفة شأوه البعيد.
الثاني: أن تستحكم فيه تلك الصفة لحد يجعله يؤثر في غيره، ويطبعه بطابع نفسه.
فالثلج مثلاً كماله الأول ببرودته في ذاته، وكماله الثاني أن يبرد غيره.
والنار كمالها الأول بشدة حرارتها في ذاتها، وكمالها الثاني بإحراق غيرها.
فكذلك الكمال الأول للرجل الصالح أن يبلغ قمة الصلاح في حد ذاته، وكماله الثاني أن يكون مصلحاً لغيره بتأثيره فيه.
فالمؤمن إذا كان راسخاً في إيمانه كاملاً في طاعته للحق فهو على الكمال الأول من حيث اتصافه بصفة الإيمان.
فإذا قويت فيه تلك الصفة واستحكمت لدرجة أنه بدأ يدعو غيره إلى الحق،
(1) أخرجه مسلم برقم (49).
ويهيب به إلى اتباعه، والسير في طاعة الله من خلال سلوكه المثالي وأخلاقه الكريمة، فإنه يرقى إلى الكمال الثاني بإصلاح غيره.
فللإيمان كمالان:
أولهما: أن يكون المؤمن في حد ذاته متقياً لله، خاشعاً له، مطيعاً لأحكامه وأوامره إلى آخر أنفاس حياته، معتصماً بحبله المتين بكل ما له من قوة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
الثاني: أن يكون المؤمن داعياً إلى الخير، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، كما قال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
وهذا النوع من الكمال على مراتب متفاوتة:
فالشمعة والمصباح، والقمر والشمس، كل هذه أدوات تنوير وإضاءة، فالشمعة لا تنير إلا حجرة صغيرة، بينما المصباح ينير بيتاً كبيراً، ويضيء القمر والأرض وما حولها، وتضيء الشمس عالماً كبيراً.
وكذلك المؤمن إذا جعل قلب غيره يستنير بنور الإيمان، فإنه يدخل في مرتبة الكمال الثاني، ولكن لا يكون ذلك إلا أدنى مراتب هذا الكمال.
ثم هناك مراتب أخرى يختلف بعضها عن بعض باختلاف أبعادها وفق قيامه بالدعوة في نطاق فئة من الفئات، أو شعب من الشعوب، أو قطر من الأقطار، أو أمة من الأمم.
وأعلى مراتب هذا الكمال أن تكون دعوته تشمل العالم بأسره، فلا يسمح بوجود المنكر في ناحية من المعمورة إلا ويتجافى جنبه عن المضجع، ويشمر عن ساق جده لمحوه واستئصال شأفته، ولا يعد نفسه مختصاً بأمة أو قطر أو رقعة من الأرض، أو جنس من الأجناس.
وقد بين الله عز وجل أن غاية المسلم هي عبادة الله وحده لا شريك له، واستفراغ
جهده لجعل العالم من أقصاه إلى أقصاه متبعاً للشريعة الإلهية الغراء كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].
والمعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع مما يحبه الله ويرضاه.
والمنكر: كل ما قبحه الشرع وحرمه ونهى عنه من الأقوال والأعمال والأعيان وغيرها مما يغضب الله ويسخطه.
ومن حق المسلم على أخيه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح دنياه وآخرته وينقذه من مضارها، ولهذا كانت الأنبياء والرسل أولياء المؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها.
وإبليس وذريته أعداء المؤمنين لسعيهم في إفساد إيمانهم وأعمالهم وإضلالهم عن ذلك.
ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحد، ولو كان لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه الأمر والنهي، والهداية والقبول بيد الله:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)} [المائدة: 99].
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كان عالماً بما يأمر به وبما ينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الناس والأشياء.
فإن كان من الواجبات الظاهرة كالصلاة والصيام، والمحرمات المشهورة كالزنا والخمر ونحوهما، فكل المسلمين علماء بذلك.
وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال والأحكام لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلف فيه مما لم يرد فيه دليل فلا إنكار فيه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ومسلمة كما قال
والمسلم يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان، في إقامته وسفره، وفي بيته وسوقه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ» . فَقالوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قال:«فَإِذَا أبَيْتُمْ إِلا الْمَجَالِسَ، فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا» . قالوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قال: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ» متفق عليه (1).
والمسلم إذا أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، وذكره بما يجب عليه، وأحبه الناس ودعوا له، وإذا نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، وذكر الغافل، وانبعث له من المؤمنين من يؤازره ويعينه.
ومن أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر على الأذى، وليثق بالثواب من الله تعالى، وليتيقن أن الله معه، فمتى شعر بذلك لم يجد مس الأذى، واشتغل بإصلاح نفسه وإصلاح غيره، وهذا عمل الأنبياء والرسل وأتباعهم:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17].
والناس يختلفون في قبول الإيمان والعمل بالأحكام، وعند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بدَّ من مراعاة ذلك.
فالناس أربعة أقسام:
الأول: قوي الإيمان، عالم بالأحكام.
فهذا ليس له عذر، فإذا وقعت منه معصية ينكر عليه بقوة، ويعامل معاملة أشد،
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2465)، واللفظ له، ومسلم برقم (2121).
لئلا يكون قدوة لغيره في المعصية، كما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك خمسين ليلة، وأمر الناس بهجرهم لما تركوا الخروج لغزوة تبوك مع كمال إيمانهم وعلمهم.
الثاني: قوي الإيمان، جاهل بالأحكام.
فهذا يدعى مباشرة ببيان الحكم الشرعي، وبيان خطر اقتراف المعاصي، وإزالة المنكر الذي وقع فيه.
عَنْ عبْدِالله ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ في يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ:«يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِنْ نََارٍ فيجْعَلُهَا في يَدِهِ» ، فَقيلَ لِلَّرََجُلِ، بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِِهِ، قَالَ لا، وَاللهِ! لا آخُذُهُ أَبَدًا، وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» أخرجه مسلم (1).
الثالث: ضعيف الإيمان، عالم بالأحكام.
فهذا يدعى بالرفق واللين بالحكمة والموعظة الحسنة، ليزيد إيمانه فيطيع ربه، ويتوب من معصيته.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ:«ادْنُهْ» فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ:«أَتُحِبُّهُ لأُِمِّكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأُِمَّهَاتِهِمْ» ، قَالَ:«أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» ، قَالَ:«أَفَتُحِبُّهُ لأُِخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأَِخَوَاتِهِمْ» ، قَالَ:«أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» ، قَالَ:«أفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ،
(1) أخرجه مسلم برقم (2090).
وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». قال: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. أخرجه أحمد والطبراني (1).
الرابع: ضعيف الإيمان، جاهل بالأحكام.
فهذا نصبر عليه، ونرفق به، ونعرفه بعظمة من يعصيه، ونعلمه الحكم بالرفق واللطف، ولا نوبخه ولا نزجره ولا نعنفه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد.
عن أنس رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ. قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ» . فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ:«إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عز وجل، وَالصَّلاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» . أوْ كَمَا قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فَأمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. متفق عليه (2).
فالمعاصي آفات تصيب القلوب والجوارح، ولإزالتها لا بدَّ من تخلية وتحلية، ببيان عظمة الله، وعظمة كتابه، وعظمة أوامره، وعظمة اليوم الآخر.
وبيان خطر المعاصي والسيئات على النفس، وعلى المجتمع، وعلى الأمة، وبيان فضل الطاعات والفضائل وحسن التحلي بها، وبيان خطر المعاصي والرذائل وقبح التلوث بها.
فهل نقوم بوظيفة الأنبياء والمرسلين، ونبتعد عن وظيفة الشياطين والملحدين كما قال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 104، 105].
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (22564)، وهذا لفظه.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8: 162)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (370).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (219)، ومسلم برقم (285)، واللفظ له.