الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - فقه الحلال والحرام
قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59].
وقال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117].
الله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض، وله خزائن السموات والأرض، أحل لنا ما فيه مصلحة، وحرم علينا ما فيه مضرة.
والله عز وجل يغار، ومن غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرم أشياء، وأباح أشياء؛ لأن الخلق عبيده وإماؤه، فهو يغار على إمائه كما يغار السيد على جواريه، ولله المثل الأعلى.
ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره، بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور، وفعل الفاحشة.
ويغار على خلقه جميعاً أن يتركوا ما ينفعهم، ويأكلوا ما يضرهم، أو يفعلوا السيئ والقبيح من الفواحش والآثام، ويتركوا الحسن والجميل من الأقوال والأعمال والأخلاق.
والله سبحانه خلق الإنسان وأكرمه وهيأ له ما يحتاجه من الطعام والشراب وأحل له أشياء، وحرم عليه أشياء، وأمره بأشياء، ونهاه عن أشياء، رحمة به وإحساناً إليه وحماية له.
فأمره الله بعبادته وطاعته وكل ما يصلحه وينفعه، ونهاه عن الشرك به ومعصيته وكل ما يضره ويفسده.
والمحرمات في الشرع قسمان:
الأول: محرم لعينه كالنجاسات من الخبائث، والنجاسات من الدم والميتة
والخنزير ونحوها.
الثاني: محرم لحق الغير، وهو ما جنسه مباح من المطاعم والمشارب والملابس والمراكب والمساكن والأموال ونحوها.
وهذه إنما تحرم لسببين:
أحدهما: أخذها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع فيها، كمن يأخذها بطريق السرقة أو الغصب أو الخيانة، وهذا هو الظلم المحض.
الثاني: أخذها بغير إذن الشارع وإن أذن صاحبها، وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا والميسر ونحوهما.
ومن حصلت بيده هذه الأموال فعليه التوبة، وردها إلى أهلها، فإن لم يعلم صاحبها فإتلافها إضاعة لها وهو محرم، وحبسها مع أنه لا يرجى معرفة صاحبها أشد حرمة من إتلافها، فتعين إنفاقها في جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله للتخلص منها، ونفع خلق الله بها، وأجرها يعود لمالكها الحقيقي، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على طاعة الله وعبادته، فتصرف في سبيل الله بهذه النية.
والله سبحانه وتعالى أحل للمؤمنين الأكل من الطيبات؛ ليستعينوا بها على طاعة الله، وحرم عليهم الخبائث؛ لئلا تضرهم.
وأما الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئاً من الطيبات، وإنما هي حلال للمؤمنين بالله فقط كما قال سبحانه:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 32].
والكفار معتدون على الطيبات التي أحلها الله للمؤمنين، ومحاسبون يوم القيامة على النعم التي تنعموا بها، ولم يشكروا الله عليها.
والله عز وجل لم يبح إعانة العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به على المعصية، فلا تكون مباحات لهم إلا إذا استعانوا بها على الطاعات.
فالله عز وجل أباح للمؤمنين الطيبات؛ لأنهم ينتفعون بها، ويشكرون الله عليها كما أمرهم ربهم بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172].
والله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم كل شيء يوصل إليه، ويستحيل على الحكيم العليم أن يحرم الشيء ويتوعد على فعله بأعظم أنواع العقوبات، ثم يبيح التوصل إليه بنفسه بأنواع الحيل.
وقد حرم الله على اليهود الشحوم فجملوها وباعوها حيلة، وحرم عليهم صيد السمك يوم السبت فحبسوه يوم السبت وأخذوه يوم الأحد حيلة فعاقبهم الله وجعلهم قردة خاسئين كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} [البقرة: 65].
وحرم الله على اليهود طيبات أحلت لهم عقوبة لهم على بغيهم وظلمهم وصدهم عن سبيل الله كما قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 160، 161].
فهذا كله تحريم عقوبة على اليهود البغاة الظالمين.
أما ما حرمه الله على هذه الأمة من الأشياء فهو صيانة لهم وحماية.
فهو سبحانه أمر عباده بما أمرهم به رحمة منه وإحساناً وإنعاماً عليهم؛ لأن صلاحهم في معاشهم وأبدانهم وأرواحهم بفعل ما أمروا به، فهو بمنزلة الغذاء الذي لا قوام للبدن إلا به بل أعظم، وليس مجرد تكليف وابتلاء كما يظنه كثير من الناس، ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحمية عما يضرهم.
فلم يأمرهم حاجة منه إليهم وهو الغني الحميد، ولا حرم عليهم ما حرم بخلاً منه عليهم وهو الجواد الكريم.
وما حرمه الله عز وجل نوعان:
الأول: محرم لذاته لا يباح بحال كالمذكور في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].
الثاني: محرم تحريماً عارضاً، فيباح في حال دون حال كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر، فهذه محرمات أبداً، لكنها تباح للمضطر بقدر الحاجة كما قال سبحانه:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)} [النحل: 115].
والمحرمات بالنسبة للإنسان قسمان:
أحدها: محرمات تعافها النفوس كالميتة والدم والنجاسات، فهذه اكتفى الشرع بتحريمها دون عقوبة.
الثاني: محرمات تشتهيها النفوس كالزنا والسرقة والخمر، وهذه جعل الله لها عقوبات مقدرة، تطهر من ارتكبها، وتزجر من همّ بها.
والمحرمات لها أربع مراتب:
فأدناها الفواحش .. وأشد منها تحريماً الإثم والظلم .. وأشد منهما تحريماً الشرك بالله سبحانه .. وأشد تحريماً من كل ما سبق القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].
فالقول على الله بلا علم أشد هذه المحرمات تحريماً، وأعظمها إثماً عند الله، فهو يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه، وإحقاق ما أبطله، وإبطال ما أحقه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه.
ووصف الله بما لا يليق به في ذاته وأسمائه وصفاته، وأقواله وأفعاله، فليس في جنس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثماً، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول
على الله بلا علم.
فلا يجوز لأحد أن يقول على الله بلا علم، ويكذب على الله ورسوله.
قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه (1).
وإذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم، فإما أن يكون عالماً بالحق فيها .. أو غالباً على ظنه .. أو لا يعلم.
فإن لم يكن عالماً بالحق فيها، ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله.
وإن كان عالماً بالحق فيها أو غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18].
والحلال ما أحله الله ورسوله من الأقوال والأعمال والأشياء، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأمر العباد ونهيهم عين حظهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ومصدر أمره ونهيه رحمته الواسعة، وبره وجوده، وإحسانه وإنعامه، فله الحمد والشكر على ما شرعه وأمر به.
وليس لأحد من الخلق أن يحل أو يحرم من عند نفسه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117].
والله تبارك وتعالى هو الخالق لعباده، وهو الرازق لهم، والجهة التي تخلق
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3).
وترزق هي التي تشرع فتحل وتحرم، وتأمر وتنهى.
وقد أباح الله للناس جميعاً أن يأكلوا مما رزقهم الله في الأرض حلالاً طيباً إلا ما شرع لهم حرمته لمضرته، وحذرهم من عدوهم الشيطان الذي غرَّ أباهم آدم فأوقعه فيما حرم الله فقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168].
وينادي الله المؤمنين بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع، وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام، ويذكرهم بما رزقهم، فهو وحده الرازق، الذي أحل لهم الطيبات التي تنفعهم وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم فيقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172].
والله عز وجل مالك الملك، ومالك كل موجود؛ لأنه موجده، وقد استخلف الإنسان في هذه الأرض، ومكنه مما ادخره له فيها من أرزاق وأقوات، وقوى وطاقات، على عهد منه وشرط.
ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه الإنسان ما يشاء، كيف شاء.
إنما استخلفه على أن يقوم بالخلافة وفق منهج من استخلفه، وحسب شريعته.
فما وقع منه من عقود وأعمال، وعبادات ومعاملات، ومعاشرات وأخلاق، وفق التعاقد فهو صحيح نافذ، وما وقع منه مخالفاً للعقد فهو باطل موقوف.
فإن أنفذه قوة وقسراً فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله، ولا يقره المؤمنون بالله.
فالخلق والأمر والحكم في الكون كله لله وحده، والناس كلهم ليس لهم أن يخرجوا عن منهج الله وشريعته؛ لأنهم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، ولهم حقوق وعليهم واجبات، وليسوا ملاكاً خالقين لما في أيديهم من أرزاق، ولا مدبرين بملك غيرهم إلا حسب أمره.
ومن بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم كإخوة.
فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده، فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الأمة وهو قادر على العمل.
وجعل سبحانه الزكاة فريضة في المال محددة، والصدقة تطوعاً غير محدد، وأمرهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، وأن يتجنبوا الإسراف والتبذير فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم، وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم.
وشرط عليهم في تنمية أموالهم أن يلتزموا وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد كالربا والغش والغصب والاحتكار، وغير ذلك ما يضر بحياة المسلمين، ويسبب العداوة والحروب، ويسحق البشرية سحقاً، ويشقيها أفراداً وشعوباً لمصلحة حفنة من المرابين، ويحطمها أخلاقياً، ويحدث الخلل في دورة المال بين الناس.
فالربا كله ظلم .. والغش ظلم .. والغصب ظلم .. والاحتكار ظلم، وقد لعن الله كل ظالم، وتوعده بالعذاب الأليم كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» أخرجه مسلم (1).
وإخراج المال له وجهان:
الأول: وجه طيب سمح جميل طاهر، وهو إخراج المال زكاة، أو هدية أو صدقة، والصدقة: نزول عن المال بلا عوض، ولا رد، ابتغاء وجه الله.
والهدية بذل المال لكسب الإخوان، وتأليف القلوب، وإكرام أهل الفضل.
والزكاة حق معلوم من المال بقدر معلوم، لطائفة مخصوصة.
(1) أخرجه مسلم برقم (1598).
الثاني: وجه كالح طالح محرم، وهو إخراجه من أجل الحصول على الربا.
والربا: إخراج المال ثم استرداده، ومعه زيادة محرمة مقتطعة من جهد المدين أو لحمه.
فالزكاة والصدقات مقابل للنظام الربوي الذي يمحق الأموال.
فالأول أمر به الرحمن الرحيم، والثاني أمر به الشيطان الرجيم.
ولما قام سوق الربا اختفى سوق الزكاة إلا ما شاء الله، وبهتت صورة الزكاة حتى ظنها بعض الناس إحساناً فردياً هزيلاً، فمن شاء أخرجها ومن شاء منعها، وحظ البشرية التي حرمت نفسها الدين أنها خسرت الدنيا والآخرة، وحرمت نفسها الطمأنينة والرضا، فوق حرمانهم من الأجر والثواب، وحرموا من الخير الذي يبشر الله به عباده وأولياءه بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} [البقرة: 277].
إن الذي يملك حق التحليل والتحريم في هذا الكون هو الذي خلقه، وهو الله وحده لا شريك له، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد، ولا طبقة، ولا أمة.
وكل جهة أخرى تحلل أو تحرم شيئاً في حياة البشر فإنما تصدر أحكاماً باطلة بطلاناً أصلياً، فليس لأحد غير الله أن يحلل أو يحرم في طعام أو شراب أو نكاح، ولا في لباس، ولا في حركة، ولا في عمل، ولا في عقد، إلا أن يستمد سلطانه من الله حسب شريعة الله.
وكل ما يشرعه البشر للبشر بغير سلطان من الله فهو من حكم الجاهلية، وهو اعتداء على حق الله في خلقه، ومن ثم فهو باطل بطلاناً أصلياً فما أعظم جرم هؤلاء الذين يشرعون للناس من دون الله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21].
وكل ما أحله الله عز وجل فهو الطيب، وكل ما حرمه فهو الخبيث، وليس
للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له لأمرين:
أحدهما: أن التحليل والتحريم من خصائص الله الرازق، فمن اختار لنفسه غير ما اختار الله فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولا يستقيم معه إيمان.
الثاني: أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات التي بها صلاحه وصلاح الحياة، فإن بصره بنفسه، وبصره بالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات، وليس هذا من الإيمان:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
فالإسلام دين العدل والرحمة والعمل، لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية، ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان تعمل عملاً نافعاً سوياً، ومن ثم حارب الرهبانية؛ لأنها كبت للفطرة، وتعطيل للطاقة، وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء.
كما نهى عن تحريم الطيبات كلها؛ لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها، وتحقيق مراد الله في الحياة.
وزوال الكفر والكبائر، والفواحش والمنكرات يبدأ من العقيدة، من شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وقد طالت فترة إنشاء لا إله إلا الله في القلوب في العهد المكي حتى بلغت ثلاثة عشر عاماً، وكانت غايتها تعريف الناس بإلههم الحق، وتعبيدهم له، وتطويعهم لأمره.
حتى إذا خلصت نفوسهم لله، وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله، عندئذ بدأت التكاليف بما فيها الشعائر التعبدية.
وبدأت كذلك عملية تنقية رواسب الجاهلية الأخلاقية والمالية والاجتماعية، بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال، بدأت الأوامر والنواهي بعد الاستسلام لله، بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء، بعد أن لم يعد يفكر
في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار.
فلما انحلت العقدة الكبرى عقدة الكفر والشرك انحلت العقد كلها.
ولما انتصر الإسلام على الجاهلية من أول يوم، وذلك بدخول الإيمان في القلوب، لم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي، ودخل الناس في السلم كافة بقلوبهم وأرواحهم وجوارحهم.
والعمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية لله، على الطاعة لله، إظهاراً لكمال العبودية لله سبحانه، وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يلتمس حكمة الله بقدر ما يستطيع فيما أمر الله به أو نهى عنه.
فإن عرف الحكمة فذلك من فضل الله، وإن لم يعرف فمقتضى العبودية الطاعة والانقياد والتسليم لله.
والحلال كله طيب .. والحرام كله خبيث .. فلا يستويان أبداً: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [المائدة: 100].
وإذا كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل من ألم أو مرض، وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها، بل أحسن منها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والاخرة.
والعقل كلما تخلص من الهوى بمخالطة التقوى له، ومراقبة القلب له، يختار الطيب على الخبيث، فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة والله سبحانه جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأكرمها بأفضل الكتب والرسل والشرائع، وأعدها لحمل منهج الله في الأرض، لتستقيم عليه، وتقيم الناس عليه.
وحينئذ تكون ربانية حقاً، وترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم.
وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ولو أعجبها كثرة الخبيث، فترفض الخبيث مع كثرته، وتأخذ الحق ولو جفاه الناس.
فحين ينتفش الباطل، فتراه النفوس رابياً، وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته، ثم ينظر المؤمن الذي ينظر ويزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه، ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له، ولا عدة حوله ولا عدد، إنما هو الحق المجرد إلا من صفته وذاته، وإلا من ثقله في ميزان الله.
والتحليل والتحريم بغير شرع الله هو والشرك سواء، فهو شرك مثله كما قال سبحانه:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه إنهم ما عبدوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» أخرجه الترمذي (1).
فمن أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه، ولو في جزئية واحدة، فإنما هو مشرك، خرج من الإسلام لله إلى الشرك بالله، ما دام أنه يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله كما قال سبحانه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121].
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الإسلام أو الشرك .. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة .. بل إن شريعته هي عقيدته .. إذ هي الترجمة الواقعية لها:
تظهر في العبادات التي بين العبد وربه .. وفي المعاملات التي بين العبد وغيره.
فكل ما جاء به الإسلام فنحن مأمورون باتباعه وعدم الخروج عنه كما قال
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (3095)، صحيح سنن الترمذي رقم (2471).
سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153].
والإيمان بالله يقتضي فعل جميع أوامر الدين، واجتناب نواهيه، ومن عمل ببعض أوامره، وترك البعض الآخر، فما أجدره بالخزي في الدنيا، والعذاب الشديد على جرمه في الآخرة كما قال سبحانه:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
ولا يفعل ذلك إلا من زهد في الدين فأخذ ما يروق له، وترك ما لا تحب نفسه، واشترى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال سبحانه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 86].
إنه لمن المؤسف حقاً أن كثيراً من المتحمسين لهذا الدين ضلوا الطريق، فجعلوا قضية الحكم بغير ما أنزل الله في شئون الحياة قضية منفصلة عن قضية العقيدة، لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة، ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة.
وهذا الدين هو مجموعة أوامر الله التي أنزلها في كتابه، وأمر بها جميع عباده، فلا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة، إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة قروناً طويلة، حتى انتهت مسألة الحكم بغير ما أنزل الله إلى هذه الصورة الباهتة، وانفصلت أوامر الساحة والسوق عن أوامر المسجد، وظل الدين محبوساً في النفس وداخل المسجد، وحكم الطاغوت في بلاد المسلمين بغير ما أنزل الله، وتركهم يصلون صلاة لا روح فيها، لا تذكر بالله، ولا تزجر عن منكر.
وهذا بلاء عظيم .. وشر مستطير .. ومنكر أكبر .. ألا وهو قيام الحياة على غير التوحيد.
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى
الطاغوت بالشرك، ويتحرجون من هذه، ولا يتحرجون من تلك، إن هؤلاء لا يقرؤون القرآن كما أنزل، ولا يفقهون نصوصه، ولا يدركون كلياته، فليقرؤوا القرآن فهو مملوء بتقرير ذلك كما قال سبحانه:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121].
وقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].
وكثير من المتحمسين لهذا الدين يشغلون بالهم وبال الناس، ويصرفون أوقاتاً طويلة وجهوداً كثيرة لبيان أن هذا القانون الصادر من الطاغوت منطبق على شريعة الله أو غير منطبق، وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك، كأن الإسلام كله قائم لا ينقصه إلا زوال هذه المخالفات.
هؤلاء وأمثالهم يؤذون الدين من حيث لا يشعرون، بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذا التصرف.
إنهم يغرفون الطاقة الإيمانية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجزئية، وإن كانت مطلوبة من كل أحد، لكنهم يتركون الأهم والأولى وهو التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به.
إنهم يؤدون بهذا شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية، بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه إلا أن تصحح هذه المخالفات، بينما الدين كله متوقف عن الوجود أصلاً، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع الحكم فيها لله وحده لا لغيره من العباد والطواغيت الذين جعلوا لأنفسهم حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد.
إن الله تبارك وتعالى يقرر في كتابه، بل غالباً في كل آية، أن الله وحده له الخلق والأمر، وله الحكم وحده لا شريك له، وأنه الذي يستحق الطاعة والعبادة وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس المسلمين في مكة، واطمأنت لها قلوبهم، يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة بنزول أحكام العبادات والمعاملات، فهم داخل المسجد وخارج المسجد يمتثلون كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم وبين الناس، وقدموا أوامر الله على كل ما سواه فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وفازوا بدار كرامته:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
إن كل تصرف في الحياة بما لم يأذن به الله فهو شرك، وفاعله مشرك أشرك مع الله غيره في طاعته، كما أشرك عابد الوثن مع الله غيره في عبادته، هذا شرك في الطاعة، وهذا شرك في العبادة، والشرك كله وألوانه وأشكاله وأهله في النار كما قال سبحانه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].
إن الخالق المالك الرازق هو الله وحده لا شريك له، وهو الحقيق بأن تكون له الربوبية والألوهية والعبودية بلا جدال، وأن يفرد سبحانه بتحكيم شرعه فيما خلق، وفيما رزق، وفيما أعطى، وفي كل شئون الحياة.
فالله وحده هو الذي له الحكم، إذا حرم الشيء فهو حرام، وإذا أحله فهو حلال، وإذا أمر فيجب أن يطاع أمره، وإذا نهى فيجب الكف عما نهى عنه.
وهو سبحانه وحده المشرع للناس، كما أنه وحده المشرع للكون:{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34، 35].
إن كفر مزاولة التشريع بالتحليل والتحريم ككفر الاعتقاد وإشراك أحد مع الله في العبادة كلاهما شرك، هذا شرك في العبادة، وذاك شرك في التشريع، وكلاهما
من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21].
فكل من شرع للناس ما لم يأذن به الله من الشرك والبدع، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله ونحو ذلك فهو مشرك، ومن أطاعه واتبعه فهو مشرك:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
وقد أقام الله سبحانه الخلق بين الأمر والنهي .. والعطاء والمنع، فافترقوا فرقتين:
فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه.
وفرقة قالوا: إنما نحن عبيدك إن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا كففنا عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.
فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة، فإذا ماتوا صاروا إلى النعيم المقيم.
كما أنه ليس بين أولئك وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم.
فلينظر الإنسان مع أي الفريقين هو؟ وإلى أي الدارين يسير؟.
ومن ذات الله تبارك وتعالى تنزل في كل لحظة مليارات الأوامر الكونية التي لا يحصيها إلا الله على كافة المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي:
أوامر بالإيجاد .. وأوامر بالبقاء .. وأوامر بالنفع والضر .. والحياة والموت .. والتحريك والتسكين .. والتصريف والتدبير.
فسبحان العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء: {وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف: 84].
ومنه تبارك وتعالى تنزل الأوامر الشرعية على الناس بواسطة الرسل، فإذا تطابقت أفعال الناس مع أوامر الله الشرعية سعدوا في الدنيا والآخرة، وإذا عصى الناس أوامر الله الشرعية شقوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الحلال والحرام من الأقوال والأعمال والأشياء، فأحل لهم الطيبات وكل ما فيه منفعة، وحرم عليهم الخبائث وكل ما فيه مضرة.
والمغالبات في الشرع تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: محبوب مرضي لله ورسوله، معين على تحصيل محاب الله، وذلك مثل السباق بالخيل والإبل، والرمي بالسهام ونحوهما مما فيه إعانة على الجهاد فهذا يشرع فيه بذل الرهن، وأكل المال به أكل بحق.
الثاني: مبغوض مسخوط لله ورسوله، موصل إلى ما يكرهه الله ورسوله كسائر المغالبات التي توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالنرد والشطرنج ونحوهما.
فهذا محرم وحده ومع الرهان، إذ مفسدته راجحة على مصلحته، وأكل المال به ميسر وقمار، وذلك رجس من عمل الشيطان، أمر الله باجتنابها وأخبر أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتهدد من لم ينته عنها كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90].
ومن لعب بالنرد فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه، والشطرنج أشد تحريماً من النرد؛ لأنه أشد شغلاً للقلب، وصداً عن ذكر الله وعن الصلاة.
فهذه المغالبات وأمثالها محرمة؛ لأنها تلهي بلا منفعة، وتصد عن ذكر الله وعن
الصلاة، لشدة التهاء النفوس بها، وإيقاعها للعداوة والبغضاء كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91].
وجميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان:
العداوة والبغضاء .. والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
الثالث: ما ليس بمحبوب لله ولا مسخوط له، بل هو مباح لعدم المضرة الراجحة كالسباق على الأقدام، والسباحة، والمصارعة، ورفع الأثقال ونحو ذلك، وهذا يكون بالنية الصالحة عملاً صالحاً.
فهذا القسم رخص فيه الشارع بلا عوض؛ لما فيه من المصلحة الراجحة، ولما فيه من إجمام واستراحة للنفس، واقتضت حكمة الشارع تحريم العوض فيه؛ لئلا تتخذه النفوس صناعة ومكسباً، وتلتهي به عن مصالح دينها ودنياها.
وأصول هذه المغالبات كالخمر، قليلها يدعو إلى كثيرها، وكثيرها يصد عن ما يحبه الله ورسوله، ويوقع فيما يبغضه الله ورسوله.