الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 - فقه الجهاد في سبيل الله
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
وقال الله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52].
وقال الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74].
لفظ الجهاد له معنيان:
أحدهما: بمعنى بذل الجهد لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه، بالدعوة إلى الله، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله سبحانه في الآيات المكية:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
وقال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 51، 52].
فهذا كله وما في معناه كله بمعنى الدعوة إلى الله، وبذل الجهد في نشر دينه.
الثاني: الجهاد بمعنى القتال كما هو غالب الآيات المدنية كقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41].
وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218].
فالجهاد بمعنى الدعوة حسن لذاته .. والجهاد بمعنى القتال حسن لغيره.
فالله خلق الخلق لعبادته وطاعته، وأرسل رسله لإبلاغ شرعه إلى عباده، وأنزل
كتبه ليهتدي بها الناس إلى ربهم.
فمن استجاب فآمن بالله وعمل بشرعه فهو من المؤمنين .. ومن أبى الإسلام فعليه أن يدفع الجزية مقابل رعايته في المجتمع الإسلامي .. فإن أبى الإسلام وأبى دفع الجزية فهذا مستكبر معاند، مؤذ ظالم كافر غير شاكر، عاص غير مطيع، يجب قتاله حتى يكون الدين كله لله.
فالقتال في سبيل الله له أسباب .. وله أوامر .. وله أوقات .. وله أحوال.
والدعوة إلى الله مشروعة ومفتوحة كل وقت لكل مسلم ومسلمة، والإسلام جاء لهداية الناس ورحمتهم ودعوتهم لعبادة الله وحده لا شريك له.
فالدعوة إلى الله واجبة على المسلمين في جميع الأوقات والأحوال ليلاً ونهاراً .. سراً وجهاراً .. حال الأمن وحال الخوف .. حال الإقامة وحال السفر، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطاها أكثر الوقت، وهي مسؤولية الأمة بعده.
أما الجهاد في سبيل الله فيشرع عند اللزوم، بل هو واجب لدفع عدو عن المسلمين، وقتال معاند، ونصر مظلوم، وحماية المسلمين، ورفع الظلم عنهم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
فنوح صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله ولم يقاتل، وهود وصالح، وإبراهيم ولوط، وإسماعيل وإسحاق، وموسى وعيسى، جميع هؤلاء الأنبياء دعوا إلى الله، ولم يؤمروا بقتال، وقاتل داود من أنبياء بني إسرائيل.
ثم مَنَّ الله على هذه الأمة بخاتم الأنبياء والمرسلين فدعا إلى الله، ولما أوذي والمؤمنون معه أذن الله لهم بالقتال بعد الهجرة إلى المدينة كما قال سبحانه:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40].
ولما أظهر الله دينه، وأعز أهله، وصارت لهم دار في المدينة، وقويت شوكتهم، عظم ذلك على الكفار، فزاد شرهم وظلمهم، وعظم كيدهم وطغيانهم، فحملوا سيوفهم وركبوا خيلهم للقضاء على الإسلام وأهله والدعاة إليه، واجتمع
المشركون كافة لإبادة المسلمين كافة، فحينئذ شرع الله للمسلمين قتالهم كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: 36].
وكلما احتاج المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى القتال بسبب ظلم الكفار لهم، وصدهم عن سبيل الله، شرعه الله لهم، وأمرهم به ورغبهم فيه لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74].
وقد جاهد المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم لرد كيد الكفار، وصد عدوانهم، ومنعهم من الصد عن سبيل الله كما حصل في بدر وأحد، والأحزاب، والحديبية وخيبر، وفتح مكة والطائف وغيرها كما قال سبحانه:{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88، 89].
وقد فرض الله الجهاد في سبيل الله على المسلمين كافة كما فرض عليهم الصلاة والزكاة، فلا يحل لأحد أن يتخلف عنه إلا من عذر كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190].
وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
والدعوة إلى الله كالمطر للنبات، فإذا لم يوجد مطر لا يوجد نبات ولا حيوان، وكذلك إذا لم توجد الدعوة لا يعرف الناس الإيمان، ولا العبادات كالصلاة والزكاة، والصيام والحج وغيرها، ولا يعرفون المعاملات والآداب والأخلاق
والسنن والأحكام.
فالصلاة لها وقت .. والصيام له وقت .. والحج له وقت، والجهاد له وقت .. والدعوة إلى الله لها كل الوقت لأنها أم الأعمال، وهي وظيفة كل فرد من الأمة كما قال سبحانه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
والجهاد نوعان:
جهاد داخلي .. وجهاد خارجي.
فالجهاد الداخلي:
جهاد النفس .. وجهاد الهوى .. وجهاد الشيطان .. وجهاد الدنيا.
أما الجهاد الخارجي: فهو جهاد الأعداء والكفار من شياطين الإنس والجن باللسان والسيف، والجهاد الداخلي مقدم على الجهاد الخارجي.
فإذا انتصر المسلم على عدوه الداخلي نصره الله على عدوه الخارجي، وإذا انتصر عليه عدوه الداخلي انتصر عليه عدوه الخارجي.
فيجب علينا الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والتوجه إليه في جميع الأمور، وامتثال أوامره، وفعل ما يرضيه ويحبه، واجتناب ما يكره، كما يجب علينا ألا نتأثر من الأشكال والأموال، والأشياء، والقوات وغيرها من المخلوقات والأسباب، فالكل في قبضة الله.
وإنما نتفكر ماذا يريد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ .. وماذا يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟.
وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء أعدائه فنفعله ليرضى الله عنا، وينصرنا على أعدائنا؛ لأنه تكفل بنصر رسله وأتباعهم.
والجهاد ذروة سنام الإٍسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ - أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ
الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (1).
وأهل الجهاد في سبيل الله هم الأعلون في الدنيا والآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه، واستولى صلى الله عليه وسلم على أنواعه كلها .. فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان .. والدعوة والبيان .. والسيف والسنان، فلهذا كان أرفع العالمين ذكراً، وأعظمهم عند الله قدراً، وأمره الله عز وجل بالجهاد من حين بعثه فقال:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52].
فهذه آية مكية أمره الله فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان، وإبلاغ القرآن.
ثم لما استمر في الدعوة إلى الله، وآذاه الكفار، وظلموه وسبوه، وأرادوا قتله، وكفروا به، وصدوا عن سبيل الله، وصدوه عن المسجد الحرام، وبالغوا في ظلمهم وطغيانهم، وأصروا على كفرهم وشركهم، أذن الله له بالقتال بعد أن مُنع منه ثلاثة عشر عاماً في مكة، فلما بلغ الأذى والظلم أشده:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39].
فجاهد عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة إلى المدينة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ويعبد الله وحده لا شريك له، امتثالاً لأمر ربه الذي قال له:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9].
والجهاد بالقلب واللسان، وبالسيف والسنان، كله لإعلاء كلمة الله ونشر دين الله، ليحصل الخير لجميع البشرية، ويكف عنهم الشر، وذلك يتطلب بذل النفس والمال والوقت، والتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.
وحقيقة المجاهدة تكون بثلاثة أشياء:
الأول: أن نكمل العمل من أوله إلى آخره، عبادة ودعوة، وشرطه أن يكون خالصاً لله، موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).
الثاني: التضحية بالبذل والترك من أجل الدين، فنقدم حاجات الدين على حاجات النفس، والدعوة على جميع الأعمال، والأهم على المهم.
الثالث: الاستقامة على هذا العمل، والاستمرار فيه، وإقامة الناس عليه، وبذلك تحصل لنا السعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].
وبهذه المجاهدة الله يرزقنا الإخلاص، وحسن العمل، وتحصل الهداية لنا ولجميع الناس كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم حين واجهوا الكفار في بدر لم يتفكروا من سيكون معهم الفرس أو الروم؟.
بل هم اجتهدوا كيف يكون الله معنا، وما زالوا يدعون الله ويبكون حتى نزلت عليهم نصرة الله مع قلتهم وقلة ما معهم كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123].
فالإيمان والدعاء والأعمال الصالحة عدة المجاهدين في سبيل الله، وهي سبب نصرهم سواء كان جهادهم بالسيف وهو القتال، أو باللسان وهو الدعوة إلى الله كما قال سبحانه:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47].
وقد أمر الله عباده المجاهدين في سبيله بالشجاعة الإيمانية وإعداد القوة، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان، والتخلص من قيد الشهوات وسيئ الأخلاق، والثبات والصبر، ليواجهوا الأعداء بكمال الإيمان، وكمال التقوى، وكمال الصبر فيحصل لهم النصر كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45، 46].
وفي ذلك كله نصرة لدين الله .. وقوة لقلوب المؤمنين .. وإرهاب للكافرين .. وإعلاء لكلمة الله .. وإظهار لدينه.
وقد بين الله في القرآن الكريم أن المجاهدين في سبيل الله إذا تخلصوا من ثلاث آفات حصلوا على كمال الإيمان والتقوى فحصل لهم النصر من الله وقهر بهم الأعداء، وهدى بهم من شاء من عباده.
وهذه الآفات هي:
آفة الأخلاق السيئة .. وآفة الشهوات .. وآفة اليقين على المشاهدات، فلا بدَّ أن ينقوا ويهذبوا وينخلوا، لتخرج منهم هذه الآفات، ويحصلوا على كمال الإيمان والتقوى الذي يحصل به النصر.
فإذا تمت التنقية بقي ما يحب الله وينصر به، وخرج ما يبغض الله ويخذل به.
فالأول: منخل الصفات، فلا بدَّ من التحلي بالأخلاق الحسنة من الإيمان والتقوى، والتخلص من الأخلاق السيئة من الكفر والكبر والحسد والعجب والغرور.
فطالوت كان فقيراً يسقي الماء بالقِرَب، فاختاره الله وبعثه ملكاً على قومه من بني إسرائيل، ولكنهم لم يقبلوه بسبب كبرهم وحسدهم:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة: 247].
فأنى يُنصر هؤلاء وقد ردوا بسبب أخلاقهم السيئة ما اختار الله لهم واصطفاه عليهم؟.
فلا بدَّ أن يتخلقوا بالأخلاق الطيبة التي يحبها الله، ويتخلصوا من الأخلاق
السيئة التي يبغضها الله، ولكن هذا لا يكفي، فلا بدَّ أن يمروا بمنخل آخر وهو:
الثاني: منخل الشهوات، فالله له محبوبات وأوامر، والنفس لها محبوبات وأوامر، فلا بد من تقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، فالنصر ينزل والهداية تحصل بامتثال أوامر الله، فمن قدم أوامر الله على شهواته فاز ونُصر، ومن قدم شهواته على أوامر الله خسر وحُرِم كما شرب أكثر جيش طالوت من النهر الشرب المنهي عنه فحُرموا الخير، ورجعوا على أعقابهم، ونكصوا عن قتال عدوهم، وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول، وتحصل به المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلاً على الله وثباتاً وتضرعاً إليه، فقعد من شرب كثيراً، وسار مع طالوت من اغترف غرفة بيده كما قال سبحانه:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249].
وحسن الأخلاق، وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس لا يكفي، فلا بدَّ من منخل آخر وهو:
الثالث: منخل المشاهدات، فالله سبحانه بيده كل شيء، وغيره ليس بيده شيء، فمن كان يقينه على الله نصره، وجعله سبباً لهداية الناس، ومن كان يقينه على المشاهدات والمصنوعات والأعداد أذله الله بها وهزم بسببها كما قال سبحانه عن طالوت وجيشه:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249].
فالمؤمنون الذين أطاعوا أمر الله، ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه وساروا مع طالوت لحرب عدوه صاروا فريقين:
فريق لما رأوا قلتهم وكثرة عدوهم قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده؛
لأنهم تأثروا بالمشاهدات من كثرة العدو، وكثرة عددهم وسلاحهم.
أما الفريق الآخر فهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ فقالوا مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [البقرة: 249 - 251].
فالتصفية الأولى: للتحلي بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن الصفات السيئة.
والتصفية الثانية: لتقديم أوامر الله على شهوات النفس.
والتصفية الثالثة: لتحصيل اليقين على الله، والتوكل عليه وحده في جميع الأمور، وعدم الالتفات مطلقاً إلى الأشياء والمشاهدات.
فمن نجح في هذه الابتلاءات الثلاثة نصره الله عز وجل، وجعله سبباً لهداية الناس.
والتقوى والصبر سبب لحفظ المؤمنين من كيد الأعداء، وإذا كادنا الأعداء وغلبونا علمنا أن حقيقة التقوى والصبر لم تكن في قلوبنا كما قال سبحانه:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 120].
وإذا تقابلت طائفتان من الناس في ميدان الجهاد، فإن كان يقينهما معاً على الأسلحة والرجال غلبت الطائفة التي معها الأشياء الأكثر، والرأي الأصوب، والصبر الأدوم.
وإن كان يقين إحداهما على الله، ويقين الأخرى على الأسباب والأشياء نزلت نصرة الله على من توجه إليه، وهلكت الأخرى ودمرت كما حصل في بدر كما
قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123].
والجهاد نوعان:
الأول: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير.
الثاني: جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين، لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، وطول مدته.
وفي ميدان الجهاد في سبيل الله كلما تركزت الأنظار على الأسباب رفع الله النصرة كما حصل للمؤمنين في بداية غزوة حنين كما قال سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25، 26].
ومقدار النصرة تكون على مقدار الاعتماد على الله، وحسن التوجه إليه في جميع الأمور، والتفويض إليه، والتسليم له، وعدم الالتفات إلى ما سواه:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3].
وتواجه المسلم في حياته قوتان:
قوى إنسانية .. وقوى طبيعية.
وموقف المسلم من القوى الإنسانية، أن القوى الإنسانية نوعان:
الأولى: قوة إنسانية مهتدية:
وهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون معها على نشر الخير، وإقامة الحق.
الثانية: قوة إنسانية ضالة:
وهذه يجب عليه دعوتها إلى الإسلام، فإن أبت ألزمت بدفع الجزية، فإن استكبرت ولم تذعن ولم تستجب فعليه أن يكافحها ويحاربها حتى لا تكون
فتنة ويكون الدين كله لله.
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية، فهي بضلالها عن مصدر قوتها الأول، قوة الله عز وجل، تفقد قوتها الحقيقية، كما ينفصل جرم ضخم من جرم ملتهب، فما يلبث أن ينطفئ ويبرد، ويفقد ناره ونوره، على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها، ومن كان الله معه فمعه كل شيء، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء.
أما القوى الطبيعية التي يرسلها الله عقوبة أحياناً، وابتلاء أحياناً كالخسوف والزلازل والبراكين، فموقفه منها الاتعاظ والاعتبار والتضرع إلى الله، والتوبة إليه.
والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، وكلاهما مطلوب من العبد، والجهاد باللسان مقدم على الجهاد بالسيف، وكلاهما مطلوب من العبد.
فمن كان له مال وهو يقدر على الجهاد بنفسه وجب عليه الجميع، وإن كان لا يقدر بنفسه وله مال وجب عليه الجهاد بماله.
فإن كان لا يقدر بالمال ولا بالنفس فالحرج عنه مرفوع كما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91].
والجهاد فريضة من فرائض الله إذا قامت أسبابه، فإذا تركته الأمة وأقبلت على الدنيا هلكت كما قال سبحانه:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195].
ويجب على المسلمين أن يقوموا بما أمرهم الله به من جهاد أعدائهم بحسب استطاعتهم، وأن يتوكلوا على الله وحده ولا ينظروا إلى قوتهم وكثرتهم ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو عليهم، ووهنهم عن لقاء العدو؛ لأن الله أمرنا بفعل الأسباب، ولكن لا نركن إليها، بل نتوكل على الله وحده كما قال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23].
وعلينا ألا نغتر بأهل الكفر، ولا بما أعطوه من القوة والعدة، فإن المسلمين يقاتلون بأعمالهم، فإن أصلحوها وصلحت وعلم الله منهم الصدق والإخلاص أعانهم ونصرهم على عدوهم وأذل أعداءهم وخذلهم، فالخلق كلهم عبيده، ونواصيهم بيده، وهو القوي الذي لا يقهر، والعزيز الذي لا يغلب، ينصر أولياءه، ويخذل أعداءه:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160].
ومن كفر سلط الله عليه العذاب والشقاء، وعذبه في دنياه بالأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
والله عز وجل أمر المؤمنين أن يجاهدوا الكفار لا طمعاً في أرضهم وأموالهم، إنما يجاهدونهم لأجل إنقاذهم من النار إن أسلموا، ولأجل كف ظلمهم وإراحة المسلمين من شرهم وتطهير الأرض من شركهم وكفرهم كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: 39، 40].
وقد شرع الله القتال في الإسلام وأذن به لتحقيق أهداف كثيرة:
أحدها: الدفاع عن المؤمنين، وحفظهم من الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم ودينهم.
الثاني: تقرير حرية الدعوة بعد تقرير حرية العقيدة، فقد جاء الإسلام بهذا الخير ليهديه للبشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وقلوبها، ثم من شاء بعد البيان أن يؤمن أو يكفر.
فمن وقف في وجه من يقوم بذلك، ومنع الناس من الاستماع للدين والحق، أو صدهم عنه، فهذا يجب قتاله لأنه منع الناس من قول الحق، وسماع الحق،
والعمل بالحق.
الثالث: إقامة خلافة الله في أرضه، ليعبد الله وحده لا شريك له، وتمتثل أوامره وحده، وتقرير ذلك وحمايته.
فالإسلام هو نظام الحياة المنزل من عند الله، وهو الذي يقرر حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان، فيقرر عبودية الله، ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر.
وهذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، فلا بدَّ له من أهل يبذلون جهدهم لتعريف الناس به، وتعليمهم إياه، وردهم إليه.
لا بدَّ من جهد بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة.
وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطيل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم.
وعدة الإنسان في الحياة والجهاد والقتال هي الإيمان، فالإيمان زاده وهو الذي يحركه، وهو الذي يحفظه، وبه يحصل له النصر والأمن، سواء كانت معه الأسباب أو لم تكن.
فالأنبياء والمؤمنون معهم قوة الله، فهم أقوى الخلق؛ لأن الله معهم يحفظهم وينصرهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
والطواغيت والكفار أضعف خلق الله وأخوفهم؛ لأن الله ليس معهم، فهم كالفأرة أمام الأسد .. بل كالحشرات .. بل هم صم بكم عمي .. بل هم أموات أمام الأحياء .. وأنى يفعل الميت بالحي شيئاً:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122].
فلما خفناهم ولم نخف الله أذلنا الله بهم، وخوفنا الشيطان منهم:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].
فالمؤمنون لقوتهم كالأسود .. والكفار بسبب كفرهم كالفأر.
ففرعون أمام موسى كالفأرة أمام الأسد .. ونمرود أمام إبراهيم صلى الله عليه وسلم كالفأرة أمام الأسد .. وأبو جهل وجيشه أمام محمد صلى الله عليه وسلم وجيشه كالفأرة أمام الأسد .. واليهود في المدينة وخيبر أمام الرسول صلى الله عليه وسلم كالفأرة أمام الأسد.
وكسرى وجيشه .. وقيصر وجيشه .. أمام المسلمين كالفأرة، فآلاف من الفئران لا تقف لأسد واحد حي .. فكيف إذا كانت الأرض مملوءة بالأسود؟.
ونحن اليوم فأرة مسنة معتلة تتحكم في ألف مليون أسد فما السبب؟.
السبب: أن أسود اليوم صور، وأسود الأمس حقائق، وإذا كان الأسد صورة جاءت إليه الحشرات والفئران، وأكلت أنفه ومزقت بدنه، وركبت عليه، ثم بالت عليه؛ لأنه صورة لا يخاف منه.
ويوم كانت الأسود حقائق كما في عهد النبوة والصحابة، فصيحة واحدة من أسد حي يفزع لها جميع من في الغابة:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8].
ولا بدَّ للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض، وأهم ما تصنعه هذه القوة، أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يصدون عنها، ولا يفتنون بعد اعتناقها، وأن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكرون في الاعتداء على دار الإسلام، وأن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، وتظلم العباد، وتحكم الناس بغير ما أنزل الله وتصد عن سبيل الله:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193].
أما الكفار الذين لم يقاتلوا المسلمين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يؤذوهم، فالله عز وجل لا ينهى عن برهم وصلتهم والإحسان إليهم من أقاربهم كما قال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 8، 9].
وبسبب ترك الدعوة والجهاد في سبيل الله تسلط الأعداء على المسلمين، وأهانوهم وأذلوهم في ديارهم، فإلى الله المشتكى من عَالَمٍ القوي فيه متحكم بهواه، والضعيف فيه لاهٍ عن خالقه، والمصلح غافل عن وظيفته.
والمسلمون الذين لم يقوموا بالدعوة إلى الله ظالمون؛ لأنهم لم يؤدوا الحق الذي للبشرية عليهم، وهو دعوتهم إلى الله، والكفار ظالمون؛ لأنهم لم يقبلوا الحق الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكانت النتيجة انتشار الباطل مكان الحق، والظلم مكان العدل، فلا الدعاء يستجاب من ظالم، ولا الهداية تنزل، والظلم يزداد، والدماء تسفك، والديار تستباح، والعقوبات تنزل، وهذا كله من فعل البشر:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: 44].
وما هو جزاء الظالمين؟ .. وما هي عقوبتهم؟.
أما في الدنيا فجزاؤهم:
عدم الهداية كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [التوبة: 19].
عدم الفلاح كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} [الأنعام: 21].
الهلاك كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص: 59].
الأخذ بالعذاب كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102].
عدم محبة الله لهم كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} [آل عمران: 140].
لعنة الله لهم كما قال سبحانه: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18].
وأما في الآخرة فلهم عذاب جهنم كما قال سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ
وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29].
والعالم الإنساني قسمان:
أولياء الرحمن .. وأولياء الشيطان .. وأنصار الحق .. وأنصار الباطل.
والجهاد في الإسلام رحمة من الله لعباده، فلم يشرع الله جهاداً ولا قتالاً إلا ضد أولياء الشيطان، وأنصار الباطل، أينما كانوا، ومن كانوا؟.
فغزوات النبي صلى الله عليه وسلم كانت مصدر سعادة البشرية، ورحمة الإنسانية إلى يوم القيامة؛ لأنها إما في نشر حق، أو دفع صائل، أو قمع معتد، أو صد ظالم، أو حماية آمن:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
غزوات معدودة، بنفقات محدودة، أعز الله بها الإسلام وأهله، ورد الله بها كيد الظالمين، وحصل بها من المنافع ما سعدت به البشرية إلى يوم القيامة.
أما الحروب المدمرة التي يشنها الكفار المتسلطون، فهي حروب إبادة وإهانة، وظلم وإذلال، للضعفاء والفقراء، يأكل فيها القوي الضعيف ظلماً وعدواناً.
ولذلك تأكل الأخضر واليابس، ووقودها دماء البشر وأموالهم، وعاقبتها الهلاك والدمار، والرعب والخوف، وهذه الحروب عقوبات للكفار، وابتلاء للمسلمين:{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} [محمد: 4].
والعدو إنما يدال على المسلمين بسبب ذنوبهم، والشيطان يستزلهم ويهزمهم بها، وهي نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد.
والنصر منوط بالطاعة، والتوكل على الله، وطلب النصر ممن يملكه وهو الله عز وجل، فلذلك بين الله صفة أوليائه بقوله:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل عمران: 147، 148].
فبسبب الذنوب والمعاصي يحصل التولي، وتقع العقوبة، وترتفع النصرة، وتحصل الهزيمة، فالذنوب أشد على المسلمين من أعدائهم، فتكون تلك الذنوب جنداً على المسلمين يزداد بها عدوهم قوة عليهم كما قال سبحانه للمؤمنين في أحد:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152].
فإن أعمال العبد جند له .. أو جند عليه.
فالطاعة معها النصر، والمعصية معها الخذلان، ولا بدَّ للعبد في كل وقت من سَرِيَّة من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سَرِيَّة تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، ولو فهم الناس هذا ما أقدموا على المعاصي، فهي تهلكهم في الدنيا قبل الآخرة.
فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى.
ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران: 155].
والله سبحانه سنته جارية بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين، لكن الله أحياناً يبتلي المؤمنين بغلبة عدوهم عليهم، وقهره لهم، وفي ذلك منافع ومصالح وحكم وأسرار منها:
استخراج عبوديتهم لله .. وذلهم له .. وانكسارهم له .. واستغاثتهم به .. وسؤالهم له النصر على عدوهم .. وعدم الالتفات إلى ما سواه.
ولو كان المسلمون منصورين دائماً، قاهرين غالبين، لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين، لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة.
فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غلبوا عدوهم أقاموا دين ربهم وشعائره، وإذا غلبهم عدوهم تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، واستغفروه وتابوا إليه.
وكذلك لو كانوا منصورين دائماً لدخل معهم من ليس مقصده الدين، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد.
فاقتضت حكمته سبحانه أن تكون لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، ليتميز بذلك من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
وكذلك الله عز وجل يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، فلا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان ولا تصح إلا بالحر والبرد، والراحة والتعب، والجوع والعطش.
وكذلك الله عز وجل يمحصهم بذلك، ويطهرهم من الذنوب كما قال سبحانه:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140، 141].
وجهاد النفس أعظم من جهاد الغير، وجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به وإن كانوا الأقلين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً، وأعظم الجهاد كلمة الحق عند من تخاف سطوته وأذاه كالسلطان الجائر.
ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له.
فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويجاهدها في الله لتستقيم على أوامر الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، إذ
كيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله، وهو نفسه الأمارة بالسوء.
فلا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج، فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به وهو الشيطان، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوات اللذات والمشتهيات، حتى يقعده عن الجهاد في سبيل الله، ثم يشغله بالمباحات والشهوات، ثم يوقعه في الكبائر والمحرمات.
والذين يخرجون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ويضحون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، هم عادة أكرم الناس قلوباً، وأزكاهم أرواحاً، وأطهرهم نفوساً، وأحسنهم طاعة واستقامة، وهم وإن ماتوا أو قتلوا في سبيل الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون كما قال سبحانه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)} [آل عمران: 169 - 171].
والإسلام هو الدين الكامل العظيم الشامل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه إلى كافة العالمين، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
وقد شرع الله هذا الدين ليكون قاعدة للحياة الإنسانية في الأرض كلها، وليكون منهجاً عاماً للبشرية بأجمعها، ولتقوم الأمة المسلمة بدعوة البشرية وقيادتها إلى ربها وفق النهج الإلهي الذي فيه كل خير، ورفعها إلى هذا المستوى العالي من الحياة الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا الدين، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة.
والتي تفقد البشرية كل فلاح ونجاح حين تحرم منها، ولا يعتدي عليها معتد
بأكثر من حرمانها من هذا الخير، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والسعادة في الدنيا والآخرة.
ومن ثم كان من حق البشرية جمعاء أن تُبَلَّغ إليها الدعوة إلى هذا الدين الإلهي الشامل، وأن لا تقف عقبة أو سلطة في وجه تبليغ هذا الدين الشامل لكافة الناس إلا حطمت.
وأيضاً من حق البشرية أن يُترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين، لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة.
فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد الدعوة والبيان لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها.
فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة، لا بالأذى، ولا بالإغراء، ولا بصد الناس عن الهدى.
وعلى إمام المسلمين أن يدفع عنهم بالقوة كل من يتعرض لهم بالأذى والفتنة ضماناً لحرية العقيدة، وكفالة لأمن الذين هداهم الله، وإقراراً لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.
وعلى المسلمين تحطيم كل قوة تعترض سبيل الدعوة إلى الله وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة، وتفتن الناس عنها، وأن يستمروا في الجهاد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله، لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يدين به أو يبلغه، وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله، ويضلهم عن سبيل الله، ويفتنهم عنه بكل باطل كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193].
والله عز وجل يريد لعباده أن يعيشوا في ظل الإسلام في أمن وسلام:
فقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان .. وجعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان .. تصان فيها الدماء والحرمات والأموال .. ولا يمس فيها حي بسوء .. ومن أبى أن يستظل بهذه الخيمة، وينعم بتلك الواحة، وأراد أن يحرم المسلمين منها، فجزاؤه أن يحرم هو منها، ويكف شره عن البشرية.
والجهاد في سبيل الله فريضة شاقة، ولكنها فريضة واجبة الأداء؛ لأن فيها خيراً كثيراً للمسلمين كافة، بل للبشرية كلها.
والفرائض والأوامر منها ما هو سهل محبوب للنفس كالنكاح وأكل الطيبات والصيد، ومنها ما هو شاق مبغوض للنفس وكريه المذاق كالقتال في سبيل الله، ولكن وراءه حكم ومصالح تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير.
فمن يدري فلعل وراء المكروه خيراً، ووراء المحبوب شراً، وهذا يفتح لقلب الإنسان عالماً آخر غير العالم المحدود المشهود الذي تبصره عيناه تترتب العواقب فيه على غير ما كان يظنه ويتمناه.
فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله، وأن الخير في طاعة الله، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير الكثير.
فالإنسان ضعيف محدود العلم والقدرة والرؤية، لا يدري أين يكون الخير، وأين يكون الشر؟.
لقد كان المؤمنون الذين خرجوا في بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ولا يودون ذات الشوكة والقتال، ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم بلا استعداد وجهاً لوجه بالمقاتلين من قريش، فكان النصر الذي دوى بالجزيرة العربية، ورفع راية الإسلام والمسلمين، وهشم رأس الباطل الذي حاد الله ورسوله،
وفرح المؤمنون بنصر الله، ونزول الملائكة، وهلاك أهل الباطل، وزاد إيمانهم بربهم الذي مكنهم من القتل والأسر والظفر بالغنائم:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)} [الأنفال: 7].
فأين تكون القافلة من هذه الخيرات والبركات التي حققها الله في بدر وأكرم بها المسلمين؟.
وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟.
والكافرون هم الظالمون حقاً:
ظلموا الحق فأنكروه .. وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك .. وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى .. وفتنوهم عن الإيمان .. وموهوا عليهم الطريق .. وخدعوهم بالباطل .. وحرموهم الخير الذي لا خير مثله، خير الإيمان والسلم والرحمة والطمأنينة.
فما أشد ظلمهم .. وما أعظم كيدهم .. وماذا ينتظرهم من عذاب الله الأليم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36].
إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب .. ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة .. ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع وتظهر على الجوارح، هؤلاء هم أعدى أعداء البشرية، وأظلم الظالمين لها، وأخطر المفسدين لحياتها، لسعيهم في غش الخلق، وإفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، وكفرهم بالله ورسوله.
فهؤلاء من آمن منهم وتاب وأصلح فالله يتوب عليه، ومن استمر منهم على كفره ومات ولم يرجع إلى ربه ولم يؤمن به فهو جدير بلعنة الله ولعنة خلقه
وعذابه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161، 162].
ومن واجب البشرية لو رشدت أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه، وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال ليستريح الناس من شرهم وطغيانهم.
وهذا هو واجب الأمة المسلمة الذي يندبها إليه ربها، ويأمرها به لرفع ظلمهم للبشرية، وصد عدوانهم على المسلمين، والله ناصرهم عليهم كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123].
وإلى أن ترشد البشرية وتعقل يجب على أهل الإيمان الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان أن يطاردوا الباطل في كل مكان، ليحل الحق مكان الباطل، والإيمان مكان الكفر، والعدل مكان الظلم.
فلا بدَّ من الجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي، فلم يجن أحد على البشرية جناية أعظم ممن يحرمها من هذا الدين الذي فيه كل خير، ويحول بينها وبينه:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)} [التوبة: 12].
والجهاد في الإسلام شريعة لازمة، به يدفع الله عن المؤمنين الأذى والفتنة والظلم، وبه يتم تقرير حرية الدعوة.
فقد جاء الإسلام بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وقلوبها، ويزين به حياتها وأخلاقها:{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16].
فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن، ومن شاء فليكفر ويدفع الجزية ولا إكراه في الدين كما قال سبحانه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256].
لكن يجب أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة كما جاء من عند الله للناس كافة، وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا ويقتنعوا، وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا.
وجاء الإسلام كذلك ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه، وفوق هذا يقوم نظام أخلاقي كريم تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد، حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل إنسان من مسلم وغيره، ولا يكره فيه أحد على الإسلام، إنما هو البلاغ والبيان.
فهذا الدين العظيم الذي أكرم الله به خلقه، وأنزله عليهم، وبعث به رسوله إليهم، وارتضاه للبشرية جمعاء، من حقه أن يجاهد ليحطم قوة الباطل التي تناصبه العداء، وتكيد له بغير حق، وتحرم الناس منه، وتصد الناس عنه، وتنفرهم منه.
فليسحقها الإسلام سحقاً، ويبيد هذه الحشرة السامة، ليعلن نظامه الإلهي الرفيع في الأرض، ويدعو الناس إليه، ثم يدع الناس في ظله أحراراً، لا يلزم أحداً إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية، والمالية والسياسية التي تتضمن العدل والإحسان لكل البشر.
أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار، فهو وإن كان يحب لهم الإيمان فهو لا يلزمهم به ولا يكرههم عليه، وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم، والإسلام يكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم.
والمجاهدون في سبيل الله كثير، وليس كل مجاهد في سبيل الله يرزق الشهادة، فالشهداء مختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه سبحانه.
فليست رزية ولا هوان أن يستشهد المسلم، إنما هو تكريم وانتقاء وتشريف، وتكريم من الرب لعبده:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140، 141].
وهؤلاء شهداء يتخذهم الله، فيؤدون الشهادة بجهادهم حتى الموت في سبيل إعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق وتقريره في حياة البشرية بهؤلاء الذين تجردوا للحق .. وبذلوا أموالهم وأنفسهم من أجله .. وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء من أجله .. لعلمهم أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق والنور.
يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون، وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
والمجاهدون في سبيل الله ليس لهم هَمّ إلا إعلاء كلمة الله في الأرض كلها، وهم يشعرون بمعية الله معهم، وهدايته لهم، ونصرهم على عدوهم.
فلا تضعف نفوسهم حينما يصيبهم البلاء والكرب، والشدة والجراح، ولا تضعف قواهم عن الاستمرار في الكفاح.
وهم حين يواجهون الأعداء، ويواجهون الهول الذي يذهل النفوس، يتوجهون إلى الله لا لطلب النصر أول ما تطلب، ولكن لتطلب العفو والمغفرة عن التقصير، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء.
فيا لها من نفوس مطمئنة إلى وعد ربها واثقة بنصره، عارفة بحقه متوكلة عليه وحده، وذلك لكمال الإيمان والتقوى في قلوبهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 146، 147].
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا جزاء ولا ثواباً، لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة.
فما أجمل هذا الأدب مع ربهم، وما أزكى تلك النفوس والقلوب، بينما هم يقاتلون في سبيله لم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام، والنصر على الكفار.
ولما لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً أعطاهم الله كل شيء يتمناه طلاب الدنيا وطلاب الآخرة، وشهد لهم بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب، وأحسنوا العمل، وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة، وأكبر من الثواب كما قال سبحانه:{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل عمران: 148].
فهل فوق هذا الأدب من المجاهدين في سبيل الله شيء؟.
وهل فوق هذا الإكرام لهم من رب العالمين شيء؟.
إن المسلم حين يخرج للجهاد في سبيل الله إنما يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في الأرض، ولتمكين منهجه من تصريف الحياة البشرية، ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعرضه عليهم، وصد عدوان المعتدين، فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل.
ليس في الإسلام قتال من أجل الغنيمة، ولا يعرف الإسلام القتال للمجد والفخر، ولا يعرف القتال للسيطرة والقهر.
إن المسلم في الإسلام لا يقاتل للاستيلاء على الأرض .. ولا للاستيلاء على السكان .. ولا للاستيلاء على الثروات .. ولا يقاتل لمجد شخص .. ولا لمجد بيت .. ولا لمجد طبقة .. ولا لمجد جنس .. ولا لمجد دولة .. إنما يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين، وصد عدوان الظالمين، فمن قتل في هذا السبيل فهو شهيد في سبيل الله، ينال بذلك
مقام الشهداء عند الله.
فليقاتل في سبيل الله من يريد أن يبيع الدنيا ويشتري بها الآخرة، ولهم على ذلك فضل وأجر من الله عظيم، سواء من يقتل في سبيل الله، ومن يغلب في سبيل الله كما قال سبحانه:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74].
فأين الدنيا من الآخرة؟ .. وأين غنيمة المال من فضل الله، وهو يحوي المال وما سواه؟.
إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته .. ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام فيه شريعة الله .. وأرضه التي يدافع عنها هي دار الإسلام التي تتخذ الإسلام منهجاً للحياة .. وكل تصور آخر للوطن غير هذا هو تصور غير إسلامي .. تنضح به الجاهليات ولا يعرفه الإسلام.
والمقاتلون في ساحات القتال فريقان يقاتلون تحت رايتين مختلفتين:
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته في الأرض، وإقامة العدل بين الناس.
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى غير منهج الله، وإقرار شرائع شتى غير شريعة الله.
ويقف الذين آمنوا مستندين إلى ولاية الله وحمايته ورعايته.
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم وشتى مناهجهم.
فعلينا مقاتلة أولياء الشيطان، متوكلين على الله الذي تكفل بنصر من ينصر دينه، ويقيم شرعه كما قال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41].
فالجهاد في سبيل الله رحمة للبشرية كلها:
فبه يتم إقرار منهج الله في الأرض .. وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم .. وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان .. تمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله .. وتمنع أن يحال بين الناس وبين الاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض .. وتمنع أن يفتن أحد عن دينه، والكف عن مطاردته في رزقه أو نشاطه حيث هو.
وحرب الله ورسوله التي يقوم بها أعداء الدين متحققة بالحرب لشريعة الله ورسوله، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله.
والإسلام دين العدل والرحمة، لا يعاقب العاصي والمجرم بالسيف وحده، إنما يرفع سيف العقوبة ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف.
فأما اعتماده الأول فعلى دعوة الناس إلى الخير، وتربية القلوب وتزكيتها، فإذا ردع بالعقوبة التي تزجر عن الفساد، أخذ طريقه إلى القلوب يستجيش فيها مشاعر التقوى، ويحثها على الإيمان والجهاد في سبيله كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35].
والإسلام لا بدَّ له أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لمنهج الله بالبيان والجهاد مجتمعين:
جهاد باللسان لتقرير منهج الله في الأرض، وتنفيذ شرعه في عباده.
وجهاد بالسيف لإزالة حكم الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شريعة الله، والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق الدين الذي مَنَّ الله به على عباده، وإقامة منهج الله في الأرض كلها.
وإذا كان البيان باللسان يواجه العقائد والتصورات والمذاهب الضالة، فإن
الجهاد بالسيف كذلك يواجه القوى المادية الشرسة، وهما معاً يواجهان الواقع البشري بجملته لرده إلى ربه، وانتزاعه من العبودية لغيره.
والجهاد في الإسلام له بابان:
الأول: باب يخرج منه ليدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجود الدين كمجتمع إسلامي مستقل، الحاكمية فيه لله وحده، لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله لسحقه، دفاعاً عن وجودها ذاته، وهنا لا بد له أن يدافع عن نفسه، إذ لا يمكن التعايش بين الحق والباطل.
الثاني: أن الإسلام ذاته لا بدَّ أن يتحرك إلى الأمام ابتداءً لنشر الدين في العالم، ولإنقاذ الإنسان في العالم من العبودية لغير الله، ولا يترك البشرية في الأرض للشر والفساد والعبودية لغير الله.
إن الإسلام جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض، وعبودية البشر جميعاً لإله واحد، فمن حقه أن يزيل العقبات كلها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم، دون حواجز ولا موانع مصطنعة.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء في كل اتجاه، فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام للعالم كله يحقق لهم الأمن والسعادة والطمأنينة، ويقضي على منابع الشر والعدوان، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض، والاستغلال الممقوت، ويقوم بذلك رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
وبالجهاد في سبيل الله يحق الله الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، ويقطع دابر الكافرين، ويخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام، وتعلو معها كلمة الله، وتظهر قوة الأمة، وتقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها، وتعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، إنما هو بقدر اتصال القلوب بالله، وبقوته التي لا تقف لها قوة العباد، وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي.
لتوقن كل عصبة مؤمنة أن الله معها، وأنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة، ومهما يكن عدوها من الكثرة، ومهما تكن هي من ضعف العدة، ومهما يكن عدوها من كثرة العدة؛ لأن النصر من عند الله وحده، وهم مؤمنون يجاهدون في سبيل الله.
ولا تستقر هذه الحقيقة في القلوب كما تستقر بالمعركة العملية المرئية الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان، كما تجلى ذلك كله في غزوة بدر كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123].
إن غزوة بدر لتمضي مثلاً للأمة، تتمثل فيها أصول النصر والهزيمة، وتكشف عن أسباب النصر والهزيمة، الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرية المادية.
ظهرت فيها قوة لا إله إلا الله كما ظهرت في أُحد قوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بدر أظهر الله قدرته، وفي أحد أظهر الله سنته، فلما عصى الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم رفع الله النصر، فالمعاصي سبب كل هزيمة.
إن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان ومكان، فهي آية من آيات الله، وسنةٌ من سننه الجارية في خلقه ما دامت السموات والأرض.
وحسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية، وأن يمضوا في طاعة أمر الله واثقين بنصر الله في أي معركة مع الباطل، حسبهم هذا لينتهي دورهم، ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم وتملك الكون كله.
وحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها، وتثبت في المعركة، ثم يجيء النصر كما يجيء المطر من الله وحده، حيث لا يملك النصر غيره:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10].
إن خروج العصبة المؤمنة لإعلاء كلمة الله أمر هائل عظيم، أمر يستحق معية الله
لملائكته والمؤمنين في المعركة، ليحق الحق ويبطل الباطل، وينصر أولياءه ويخذل أعداءه:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)} [الأنفال: 12، 13].
إنها سنة الله ليست فلتة عارضة ولا مصادفة عابرة أن ينصر الله المؤمنين، وأن يسلط على أعدائهم الرعب والملائكة وعباده المؤمنين.
إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، يصدون عن سبيل الله، ويحولون دون منهج الله للحياة، فلهم في الدنيا الرعب والهزيمة، وفي الآخرة عذاب النار:{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} [الأنفال: 14].
وقد وعد الله المؤمنين بالنصر على أعدائهم، ومن يكن الله معه فمن ذا يقف له؟.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 20، 21].
والذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك، واستقرت هذه العقيدة في الأرض، ودانت لها البشرية في كثير من أنحاء الأرض، بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد.
وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الشرك والإلحاد في بعض بقاع الأرض، فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة، فضلاً على أن فترات الإلحاد إلى زوال مؤكد؛ لأنها غير صالحة للبقاء.
ولله الأمر من قبل ومن بعد، فليست الغلبة والنصر بمجرد وجود الأسباب، بل لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر، فـ:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249].
والله تبارك وتعالى خالق كل شيء ومالك كل شيء، ولكن من فضله وجوده وإحسانه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فاستخلص سبحانه لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء.
لم يعد لهم خيار أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيل الله.
لم يعد لهم خيار أن يبذلوا أو يمسكوا، إنها صفقة مشتراة، ولمشتريها أن يتصرف بها كما يشاء، وليس للبائع فيها من شيء، سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يلتفت ولا يتخير ولا يجادل، فهو عبد مملوك، وليس للعبد إلا الطاعة والعمل والاستسلام والانقياد:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111].
فالثمن هو الجنة .. والطريق هو الجهاد والقتل والقتال لإعلاء كلمة الله، وكف العدوان، وإزالة الفساد .. والنهاية هي النصر أو الشهادة التي بعدها الجنة.
والمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا، فمن بايع هذه البيعة، ووفى بها فهو المؤمن الحق.
ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال وكل ما في الكون.
وهي بيعة رهيبة لازمة في عنق كل مؤمن، لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه، وقد جعل الله مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء بهذه البيعة، كما قال سبحانه:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34].
وقد تحولت هذه البيعة من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع مشهود، وقد قبلها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقوها للعمل المباشر بها، وحولوها إلى صورة منظورة عجيبة، لا إلى صورة متأملة تحكي ولا ترى.
فكم بذلوا من أجلها من نفس؟ .. وكم أنفقوا من مال؟ .. وكم هجروا من أجلها
من دار؟ .. وكم تركوا من شهوات؟ .. وكم تركوا من أهل وأولاد؟ .. وكم بذلوا من أوقات؟ .. وكم جاعوا وأوذوا؟.
وكم قاتلوا وقتلوا؟ .. فلله درهم، لقد وفّوا وصدقوا:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23].
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنصار يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قال:«اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ» ، فَقالوا: مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا، عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَدَا. متفق عليه (1).
فالجهاد في سبيل الله بيعة معقودة في عنق كل مؤمن، منذ كان دين الله، فهي سنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها كما قال سبحانه:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [البقرة: 251].
إن الحق الذي أرسل الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لا بدَّ أن ينطلق في طريقه في جميع الأرض، لتحرير البشر من العبودية للعباد، وردهم إلى العبودية لله وحده.
والحق إذا سار في الأرض فلا بدَّ أن يقف له الباطل في الطريق، بل لا بدَّ أن يقطع عليه الطريق، بل لا بدَّ أن يهاجمه في عقر داره كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36].
فأهل الباطل يقاتلون أهل الحق حسداً وبغياً من عند أنفسهم ليردوهم إلى الكفر والضلال كما قال سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2834)، واللفظ له، ومسلم برقم (1805)
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].
فما دام في الأرض كفر .. وما دام في الأرض باطل .. وما دام في الأرض عبودية لغير الله .. تذل كرامة الإنسان .. وتصرفه عن ربه .. فالجهاد في سبيل الله ماض .. والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء .. وإلا فأين الإيمان والوفاء والبيعة؟.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُّحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق» أخرجه مسلم (1).
فليستبشر من بذل نفسه وماله في سبيل الله، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً كما وعد الله في كتبه المنزلة.
وما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله، ويستعيض الجنة؟.
والله ما فاته شيء، بل ربح كل شيء، فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت، والغبن يوم التغابن.
ألا ما أعظم هذا الإنسان المؤمن وهو يعيش لله، حسب أمر الله، وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يجاهد في سبيل الله، وينتصر إذا انتصر لإعلاء كلمة الله، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية لسواه.
ويستشهد إذا استشهد في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة وجميع ما فيها.
فإذا أضيف إلى ذلك كله الدرجات العالية في الجنة، ورضوان ربه عليه، فهو بيع يدعو إلى الاستبشار، وفوز لا ريب فيه ولا جدال:{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111].
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، ولكن الجهاد في سبيل الله
(1) أخرجه مسلم برقم (1910).
ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر، وأخلاق عالية، وأعمال صالحة.
والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان، هم قوم يحملون أفضل الصفات الإيمانية وأحسنها وأعلاها، وهؤلاء المؤمنون هم:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة: 112].
إن أهل هذه البيعة عليهم أن يفوا بها ليدخلوا الجنة، وعليهم أن يتقوا الله فيما عاهدوا الله عليه، ولا يتخلفوا عن الجهاد مع المجاهدين الصادقين:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119].
ولا يليق بأهل هذه الدعوة، وحماة هذا الدين، وهم في عهده صلى الله عليه وسلم أهل المدينة الذين آووا ونصروا، وبايعوا واستعدوا، ومن حولهم من القبائل التي أسلمت.
لا يليق بهؤلاء .. وهؤلاء أن يتخلفوا عن رسول الله، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه كما قال سبحانه:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120].
فالخروج في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ورد كيد الأعداء، في الحر أو البرد، وفي الشدة أو الرخاء، وفي العسر أو اليسر، أمر مطلوب من كل مسلم، ولا يحل لأحد التأخر عنه في كل زمان أو مكان لمن يريد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو واجب يوجبه الحياء من رسول الله والمؤمنين المجاهدين، فضلاً عن الأمر الصادر من الله بقوله:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41].
ومع ذلك فالجزاء على هذا الخروج في سبيل الله ما أسخاه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} [التوبة: 120، 121].
إن الله عز وجل كريم يعطي المجاهدين على الظمأ جزاء .. وعلى النصب جزاء .. وعلى الجوع جزاء .. وعلى الخطى جزاء .. وعلى كل نيل من العدو جزاء .. يكتب به للمجاهد عمل صالح .. ويحسب به من المحسنين.
وكذلك على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر .. وعلى الخطوات لقطع الوديان أجر .. أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة.
ألا ما أجزل هذا العطاء من رب العالمين .. وما أوسع رحمته لعباده .. وما أعظم فضله عليهم.
خلقنا .. ورزقنا .. وهدانا .. واشترانا .. ووفقنا للعمل الصالح .. ويسره لنا .. وأعاننا عليه .. وحببه إلينا .. وأكرمنا بالإسلام .. وشرفنا بالدعوة إليه .. وضاعف لنا الأجر .. ووعدنا على ذلك الجنة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
إن العبادة أمانة .. وإن دعوة الناس إلى الله أمانة .. وإن تعليم الناس أمانة، وإن الجهاد في سبيل الله أمانة .. ونحن فيها خلفاء .. وعليها بعد النبي صلى الله عليه وسلم أمناء .. ونحن مسئولون عنها.
فعلينا جميعاً أن نقوم بأداء هذه الأمانات حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وإذا اتسعت رقعة الأرض الإسلامية، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد في سبيل الله، فقد آن أن توزع الجهود في الجهاد، وعمارة الأرض، والتجارة، وغيرها مما يحتاجه المجتمع المسلم، فهذه مرحلة أخرى، يصار إليها إذا صار الواقع كذلك كما قال سبحانه:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122].
فالمؤمنون لا ينفرون كافة، ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة على التناوب، لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة، وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الخروج والجهاد من ثمرات الإيمان، كنصر الله لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، ونزول الهداية على الخلق، وظهور الآيات، وتسخير المخلوقات كنزول الملائكة في بدر، وانفلاق البحر لموسى صلى الله عليه وسلم، وانبجاس الحجر بالماء لموسى، والتقاء ماء الأرض والسماء لنصرة نوح صلى الله عليه وسلم وإهلاك أعدائه، وغير ذلك من الآيات.
فهذا الدين كله جهد وعمل، لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله هم أولى الناس بفقهه، بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه، وبما يتجلى لهم به من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به.
فهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس لها عمل وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولها أخلاق تتزين بها بين الناس وهي أوامر الدين، وعليها مسئولية وهي الدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله في الأرض.
لذلك وصف الله المؤمنين بأعمالهم، وأثنى عليهم بأفعالهم المطلوبة منهم كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: 74، 75].
فالمؤمنون صنفان:
مهاجرون يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويدعون إلى الله في أرضه.
وأنصار يؤوون ويناصرون المهاجرين والخارجين في سبيل الله.
وبهذين الصنفين من المؤمنين أظهر الله دينه، وأعلى كلمته حتى دخل الناس في
دين الله أفواجاً.
وهذا عمل الأمة إلى يوم القيامة لمن كان يرجو رحمة الله، دعوة وجهاد، وهجرة ونصرة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218].
وبالهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه تنتشر الهداية في العالم، ويزول الباطل من الأرض، وتنزل رحمة الله على عباده، ويحصل لهم رضوانه، والفوز بجنته كما قال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
أما الذين يقعدون عن الجهاد في سبيل الله فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن خرجوا؛ لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا، ولا فقهوا فقههم، ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه هؤلاء الخارجون من أجله.
ولعله يتبادر إلى الذهن أن الذين يتخلفون عن الغزو والجهاد والدعوة والحركة هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين، ولكن هذا وهم، فإن الجهد والجهاد والمجاهدة قوام هذا الدين، ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به، ويضحون من أجله بكل شيء، ويجاهدون لتقريره في حياة الناس.
والجهاد في سبيل الله ماض إلى يوم القيامة، وخطة الجهاد ومداه بينها الله ورسوله وخلفاؤه من بعده، وقد سارت عليها الفتوحات الإسلامية، بالدعوة إلى الله، وقتال الظالمين من المستكبربن والمعاندين والطغاة، بداية بمن يلون دار الإسلام ويجاورونها مرحلة مرحلة كما أمر الله المؤمنين بذلك بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123].
فلما أسلمت الجزيرة العربية أو كادت، كانت غزوة تبوك على أطراف الروم، ثم
كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم، وفي بلاد الفرس، فاتسعت رقعة الإسلام، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء، متماسكة الأطراف.
ثم كان فتح مصر وشمال أفريقية، وبلاد ما وراء النهر، ثم فتح الأندلس وما جاورها.
وهكذا صارت دولة الإسلام بهذا الحجم الكبير تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، تقول كلمة التوحيد، وتعمل بها، وتدعو إليها.
فلما ضعف الإيمان .. ضعف الهم والعمل .. وأعرض كثير من الناس عن الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله .. واشتغلوا بحاجات دنياهم عن حاجات دينهم .. وقدموا شهوات النفس على أوامر الرب، هانوا على الله وعلى خلقه، ونزلت بهم العقوبات جزاء مخالفتهم لأوامر الله.
وعمل الأعداء بتدبير خبيث ماكر على تمزيق وحدتهم، وتقويض هذا البنيان الكبير وتمزيقه، ففرقوا أهل التوحيد، وأقاموا الحدود المصطنعة فيما بينهم على أساس تلك البيوت، أو على أساس القوميات، أو على أساس بيع الحكم مقابل ضرب الإسلام وأهله.
وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام أمة واحدة في دار الإسلام وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان، ستظل ضعيفة مهينة مقهورة إلا أن تثوب إلى دينها، وتعمل بشرع خالقها، وتتبع خطى رسول الله في حياتها، وبذلك يحصل لها العز والنصر والتمكين.
إن الأمر بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار هو الأمر الأخير الذي يجعل الإنطلاق بهذا الدين، ليشمل الأرض كلها هو الأصل الذي ينبثق منه الجهاد، وليس هو مجرد الدفاع كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد.
فالجهاد في الإسلام جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله، جهاد لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن أن يدين بالتوحيد لله وحده، وجهاد لتغليب منهج الله الهادي على
مناهج العبيد الظالمة، وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور بإذن ربهم كما قال سبحانه:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257].
ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في الأرض كلها لتحرير البشرية كلها من عبادة العبيد إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
والجهاد في سبيل الله ليس لإكراه الناس على العقيدة، بل لضمان حرية الاعتقاد التي انتهكها أعداء هذا الدين، وفرضوا على الناس من العقائد والمذاهب ما لا يقبله عقل، وفتنوهم بشتى الوسائل عن سماع الحق، وعن العمل به، وعن تعليمه، وعن الدعوة إليه.
ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة التي قهرت العباد، وأضلتهم وأفسدت حياتهم، ويدمر هذه القوى التي تحميها .. ثم ماذا؟.
ثم يترك الناس بعد ذلك أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها إذا كانوا أهل كتاب، إن شاءوا دخلوا في الإسلام ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية مقابل حمايتهم، وكفالة عاجزهم ومريضهم في حضن الإسلام، ولا إكراه في الدين.
إن المسلمين اليوم هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والأهواء، وتحكمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية، وإن المسلمين لن يستطيعوا أن يفقهوا أحكام هذا الدين وهم في مثل ما هم فيه من الهزال.
إنه لا يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم من أجله، ليُعبد الله وحده لا شريك له في الأرض.
وحفظ ما في بطون الكتب، والتعامل مع النصوص في غير حركة تغير طريقة الحياة، لا يؤهل لفقه هذا الدين، والتضحية من أجله.
وهذا ما خدع به الكفار كثيراً من المسلمين، فشغلوهم به عن الخروج إلى
ساحات الجهاد، وميادين الدعوة في العالم، فأثمر ذلك ذل المسلمين وهوانهم .. وزيادة الظلم والجهل والضلال في العالم .. وردة كثير من المسلمين عن دينهم.
فلله كم خسر العالم؟ .. وكم ضل في العالم؟ .. وذلك بسبب ترك المسلمين للدعوة والجهاد في سبيل الله.
فهل يكفي أن تسكب العبرات على هذه الجراحات الدامية الأليمة؟ ..
أم لا بد من حركة قوية لإنقاذ البشرية من هذا الدمار الشامل الذي يأكل الأخضر واليابس في كل حين؟.
والغلظة التي أمر الله بها المجاهدين في سبيله تكون على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم، وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين.
إنه قتال يسبقه إعلان وتخيير بين قبول الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد في حالة الخوف من الخيانة، فمن أبى أن يجيب دعوة الله وينقاد لحكمه فهذا يجاهد ويغلظ له كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9].
عن بريدة رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أمَّرَ أمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أوْ سَرِيَّةٍ، أوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا وَلا تَغْدِرُوا وَلا تَمْثُلُوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ (أوْ خِلالٍ)، فَأيَّتُهُنَّ مَا أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، فَإِنْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ
فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ» أخرجه مسلم (1).
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فأوصاه بقوله: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» متفق عليه (2).
إن العبادات والشعائر والشرائع الإلهية التي تنظم حياة البشرية، لا بدَّ لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله، وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة، وحرية العبادة، وأماكن العبادة، وحرمة الشعائر، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائمة على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية كافة في الدنيا والآخرة.
ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة، وحرية العبادة، وحرية الدعوة في ظل دين الله كما قال سبحانه:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39].
إن قوى الشر والباطل والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ خلق الله الإنسان.
والشر جامح، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع،
(1) أخرجه مسلم برقم (1731).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1395)، ومسلم برقم (19) واللفظ له.
ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت له قلوبهم.
فلا بدَّ للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتن، وتحرسها من الأشرار والبغاة والطغاة، وقد أمرنا الله بذلك في قوله:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال: 60].
ولم يشأ الله عز وجل أن يترك أهل الإيمان والخير والحق عزلاً تكافح قوى الطغيان والباطل والشر اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس، وتغلغل الحق في الفطر، وعمق الخير في القلوب.
فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب، وتفتن النفوس، وتزيغ الفطر، وللصبر حد، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم.
ومن ثم لم يشأ الله أن يترك المؤمنين للفتنة إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيأون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد، وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان، والله سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38].
والله سبحانه يكره أعداء المؤمنين لكفرهم، فهم مخذولون حتماً، والمؤمنون مظلومون غير معتدين، فليطمئنوا على حماية الله لهم، ونصره إياهم كما قال سبحانه:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39].
فلا بدَّ للمسلمين من الجهاد في سبيل الله لحماية العقيدة، وأماكن العبادة، والدفع عنها؛ لئلا تنتهك حرماتها، فما أرحم الله بعباده إذ شرع لهم الجهاد في سبيل الله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان .. والبِيَع للنصارى عامة .. والصلوات أماكن العبادة لليهود .. والمساجد أماكن العبادة للمسلمين.
وهذه الأماكن كلها معرضة للهدم، لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرماتها، ويعتدون على أهلها.
فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان ما وجد حق، إلا أن يدفعه الحق بمثل القوة التي يصول بها ويجول، ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بدَّ له من القوة تحميه، وتدافع عنه، وترهب أعداءه، وهي سنة شرعية مأمور بها كما قال سبحانه:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال: 60].
إن هذا الدين لا يقوم بغير حراسة، ولا يتحقق في الأرض بغير جهاد، ولا ينتشر بغير دعوة، ولا يبقى عزيزاً منيعاً بغير جهاد.
جهاد لتأمين العقيدة .. وتأمين الدعوة .. وحماية أهله من الفتنة .. وحماية شريعته من الفساد.
ومن ثم كان للشهداء في سبيل الله مقامهم، وكان لهم قربهم من ربهم كما قال سبحانه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهداء في سبيل الله: «أرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمِ اطِّلاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا
رَأوْا أنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أنْ يُسْألُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ! نُرِيدُ أنْ تَرُدَّ أرْوَاحَنَا فِي أجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أخْرَى، فَلَمَّا رَأى أنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» أخرجه مسلم (1).
وأصناف الخلق خمسة:
المتصدقون .. والصديقون .. والشهداء .. والمقتصدون .. والكفار.
فالمتصدقون هم المؤمنون الذين أكثروا من الصدقات الشرعية، وبذلوا أموالهم في طرق الخيرات، وجلّ عملهم الإحسان إلى الخلق، وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم، خاصة بذل المال في سبيل الله، فهؤلاء يضاعف لهم الأجر، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولهم الجنة يوم القيامة كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)} [الحديد: 18].
والصديقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان، والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق، فمرتبتهم دون مرتبة الأنبياء، وفوق مرتبة عموم المؤمنين.
والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فاستشهدوا في سبيل الله.
والمقتصدون هم الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، إلا أنه حصل منهم تقصير ببعض حقوق الله، وحقوق عباده، فهؤلاء مآلهم إلى الجنة، وإن حصل لهم عقوبة على التقصير.
والكفار: هم الذين كفروا بالله، وكذبوا برسله وآياته، ومآلهم النار.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} [الحديد: 19].
(1) أخرجه مسلم برقم (1887).
والجهاد في أول الإسلام كان للدعوة إلى الله حيث لا قتال، بل دعوة إلى الله كما قال سبحانه:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52].
ففي مكة قيل للمسلمين في أول الإسلام كفوا أيديكم كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77].
وفي المدينة بعد الهجرة كان جهاد المنافقين باللسان كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9].
ثم كان الجهاد بالسيف لما عز الإسلام وأوذي المسلمون كما قال سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39].
وكان الإذن بالقتال أولاً لمن آذى المسلمين وقاتلهم كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190].
ثم أذن الله للمسلمين بقتال المشركين كافة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: 36].
وقال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39].
والسلام الذي يدعو إليه الإسلام يقوم على أمرين:
الأول: أن تنقطع الفتن التي تلاحق المسلمين في كل أرض.
الثاني: أن يكون الدين كله لله.
وإذا قوي الإيمان سهل على العبد امتثال أوامر الله كلها، وتلذذ بمباشرتها.
فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان مع قوة البدن فذلك الذي يحبه الله في ميدان الجهاد.
فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.
والرجل الشجاع يفتك بالعدو ويمزق صفوفه، فإن جرح فإنه لا يقوم له شيء فتراه بعدها هائجاً مقداماً كالأسد إذا جرح فإنه لا يطاق، ولا يقف له شيء.
أما الرجل الضعيف في إيمانه وبدنه فلا إقدام له، فإن جرح ولى هارباً والجراحات في أكتافه، فلا هو في الصف مستقيماً، ولا عند الجراحة صابراً، وذلك ما لا يحبه الله بل يبغضه ويسخطه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15، 16].
والمجاهد في سبيل الله له حالات:
فإما أن يقصد دفع العدو .. وذلك إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالباً .. وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوباً .. وقد يقصد كلا الأمرين.
والأقسام الثلاثة المؤمن مأمور فيها بالجهاد في سبيل الله.
وجهاد الدفع أشد وأصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه دفع الصائل، ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، لكن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على النفس والمال مباح ورخصة، فإن قتل فيه فهو شهيد.
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوباً، ولهذا يتعين على كل أحد فلا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً.
وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، وأما الجهاد الذي يكون فيه المسلم طالباً مطلوباً، فهذا يقصده خيار الناس لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أواسطهم للدفع ومحبة الظفر.
وقد بعث الله عز وجل رسوله بالهدى ودين الحق فدعا إلى الله، وأمره الله
سبحانه بجدال الكفار بالتي هي أحسن، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة، وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً للحجة.
وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جدال الكفار على اختلاف مللهم إلى أن توفي، وأصحابه قاموا بذلك من بعده، وكل ذلك من أجل إعلاء كلمة الله كما قال سبحانه:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
وقد أقام الله سبحانه سوق الجهاد في هذه الدار بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فيقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون، وأخبر أن ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه وهي التوراة والإنجيل والقرآن كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111].
وقد وصف الله هؤلاء المجاهدين الذين اشتراهم بأحسن الصفات فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة: 112].
ولم يسلط الله عز وجل هذا العدو وهو الشيطان على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات إليه إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه، وأهله أرفع الخلق عنده درجات، وأقربهم إليه وسيلة.
والجهاد بذل الجهد في قتال الكفار، والدعوة إلى الدين الحق، ومجاهدة النفس والشيطان والفساق.
فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات.
وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب.
وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب.
وحق الجهاد: هو استفراغ الطاقة فيه، وألا يخاف في الله لومة لائم.
وأقسام الجهاد أربعة:
جهاد النفس .. وجهاد الشيطان .. وجهاد الكفار .. وجهاد المنافقين.
وعدو الإنسان الداخلي هو النفس، وعدو الإنسان الخارجي الكفار والمنافقون، ولا يمكن جهادهما إلا بجهاد الشيطان والتصدي له، وذلك بدفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات.
وجهاد الكفار والمنافقين مراتبه أربع:
بالقلب .. واللسان .. والمال .. والنفس.
وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وجهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات على ثلاث مراتب:
جهاد باليد إذا قدر .. فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (1).
ومن جاهد نفسه وشيطانه وعدوه الكافر والمنافق فإنما يجاهد نفسه؛ لأن نفعه راجع إليه، وثمرته عائدة إليه، والله غني عن العالمين كما قال سبحانه:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
(1) أخرجه مسلم برقم (49).
وجميع الأوامر والنواهي يحتاج فيها العبد إلى جهاد؛ لأن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير، وشيطانه ينهاه عنه، وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه كما ينبغي.
فعلى المسلمين أن يتقوا الله، ويحذروا من سخطه وغضبه، ويبتغوا إليه الوسيلة بطاعته، وحسن عبادته، والتقرب إليه، ويجاهدوا في سبيله لنصرة دينه، وإعلاء كلمته، وابتغاء مرضاته لتحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35].
وللمجاهدين في سبيل الله أجر عظيم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوِ الْغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» أخرجه البخاري (2).
فالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، وهم الأعلون في الدنيا والآخرة.
وجهاد أعداء الله في الخارج فرع على جهاد العبد نفسه في ذات الله، فجهاد النفس مقدم على جهاد العدو في الخارج وأصل له.
فما لم يجاهد العبد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج.
إذ كيف يمكنه جهاد عدوه وكسره، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه.
فالنفس والكفار عدوان امتحن الله العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).
(2)
أخرجه البخاري برقم (2892).
جهادهما إلا بجهاده وهو الشيطان، فهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذل ويرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتهيات.
وجنس الجهاد فرض عين:
إما بالقلب .. وإما باللسان .. وإما بالمال .. وإما باليد.
فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، كل أحد بحسبه كما قال سبحانه:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52].
فهذا أعظم الجهاد، وهو جهاد الدعوة وتبليغ الدين إلى الناس.
وقد أمرنا الله عز وجل بأن نجاهد في الله حق جهاده كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78].
وأمرنا كذلك أن نتقيه حق تقاته كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
وحق تقاته، وحق جهاده، هو ما يطيقه كل عبد في نفسه.
وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز، والعلم والجهل، والغنى والفقر.
فحق التقوى، وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء آخر.
فما جعل الله على أحد في الدين من حرج، بل جعله واسعاً يسع كل أحد، كما جعل رزقه يسع كل حي، فكلف العبد بما يسعه، ورزقه ما يحتاجه، وأغناه من فضله، وما جعل على عبده في الدين من حرج بوجه ما.
فاتقوا الله حق تقاته، وجاهدوا في الله حق جهاده:{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].
وإذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله ابتلاهم الله بأن يوقع بينهم العداوة
حتى تقع بينهم الفتنة كما هو واقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم.
وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض كما قال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: 38،39].
والعذاب قد يكون من عند الله مباشرة، وقد يكون بأيدي العباد كما قال سبحانه:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} [الأنعام: 65].
وأعظم ميادين الإصلاح والتوجيه ثلاثة:
ميدان الدعوة .. وميدان التعليم .. وميدان الجهاد في سبيل الله.
والكفار والشياطين والطغاة أشد ما تكون عليهم إذا كنت فيها، أو في واحد منها؛ لأنه بالدعوة تنزل الهداية، وبالعلم يزول الجهل، وبالجهاد يزول الباطل.
وبهذه الثلاثة يكون الدين كله لله، ويُعبد الله الذي يستحق العبادة، ويزول حكم أهل الباطل من الأرض.