الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10 - فقه الشورى
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)} [الشورى: 38].
الشورى: هي استلهام الرأي السديد لمصلحة الدين.
والشورى جزء من الدين، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي شعار هذه الأمة، والدين يحتاج إلى الشورى، لينتشر في العالم، وتظهر سننه وآدابه في الناس.
ومهمة الشورى: تقليب أوجه الرأي، واختيار الاتجاه السليم من الآراء والاتجاهات المعروضة.
فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى، وجاء دور التنفيذ، التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله يصل الأمر بقدر الله، ويكل أمر العواقب إليه.
فللشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتأرجح والتردد، ومعاودة تقليب الرأي من جديد، فهذا مآله الشلل والسلبية وتوهين العزائم، والتأرجح الذي لا ينتهي:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].
وإذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة، فلا ينبغي أن يقع الاعتماد عليه، بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته في جميع الأمور.
والشورى في أمور الدين والدعوة والجهاد من العبادات المتقرب بها إلى الله، وفي الشورى من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:
فمشاورة الرسول أو الداعي للمؤمنين توجب علو شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له، وحسن انقيادهم إليه، وخلوصهم في طاعته.
وبالشورى تُعلم مقادير عقول الناس وأفهامهم، ومقدار حبهم للدين، ومقدار استعدادهم للقيام بالدين، فيستخدمهم للدين كل حسب منزلته.
ومشاورة المسلمين في أمور الدين تشعرهم بأن لهم قدراً عند الله، وعند الخلق، وأنهم مسؤولون عن الدين، والملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، وبذلك تجود عقولهم بأنفس الآراء وأصوبها.
وفي الشورى تسميح لخواطر المؤمنين، وإزالة لما يصير في النفوس من آثار سوء الفهم، فإن من له الأمر على الناس إذا جمع أهل الرأي والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح المسلمين.
وفي الاستشارة تنور الأفكار بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.
ومنها ما تنتجه الشورى من الرأي المصيب، فإن المشاوِر لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم؛ لأنه فعل ما يمكنه، وما ندم من استخار، ولا خاب من استشار.
وللشورى آداب:
فأساس الشورى الأمانة والنصيحة، والرحمة والشفقة، واللين والمحبة، والعفو والصفح عن الإساءة، وجمع القلوب على الهدى، وخفض الجناح للمؤمنين.
فنعطي الرأي بأمانة وصدق لمصلحة الدين .. ونحب الخير للجميع .. ونحترمهم ونوقرهم حتى نستفيد من استعداد الناس لخدمة الدين ونشره وتعليمه .. ونلين لهم حتى تجتمع القلوب على الإيمان ولا تنفر من العمل، وحتى لا يضيع الاستعداد الموجود في الأمة .. والناس معادن كمعادن الذهب والفضة فنستفيد من كل واحد بحسبه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ونعفو ونستغفر لأهل الشورى كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
فالعفو عن منصب النبوة الذي قصروا فيه، فلهذا المنصب حق عليهم، فإن قصروا فيه فاعف عنهم تأليفاً لقلوبهم.
والاستغفار لهم عن تقصيرهم في حق الله، لعل الله سبحانه أن يغفر لهم بدعائك لهم.
فأنت تعفو عن حقك يا محمد .. والله يعفو عن حقه .. حتى يصير الأمر نقياً .. فإذا عفوت عنهم، والله غفر لهم، فالآن:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
لأن الدين كله مسؤوليتهم .. وهم سيتحملونه بعدك.
ونستخدم أسلوب التأليف في الشورى:
كيف ترون؟ .. ، ماذا ترون؟ .. ماذا تقول يا فلان؟ ..
تعظيماً للدين .. وإجلالاً لحملته .. وتأليفاً لقلوبهم .. لتخدم الدين .. وتشعر بالمسؤولية .. وتنهض بأعبائها على الدوام.
والله عز وجل يريد منا الاجتماع وعدم التفرق، فلا نشذ عن أهل الشورى ونخالفهم، وإذا انقطع أحد تبعه غيره يلتمس له العذر، ويؤلف قلبه حتى يعود إلى الجماعة، ولما بويع لأبي بكر رضي الله عنه بالخلافة تأخر علي رضي الله عنه وغيره عن البيعة، فذهب أبو بكر رضي الله عنه إليهم ورغبهم ليبايعوا؛ لأنه صار خليفة فرضوا، فطلب منهم أبو بكر أن تكون البيعة في المسجد لئلا يكون في قلوب الناس عليهم شيء، ليكون المجتمع سوياً مستقيماً كأسنان المشط، لا طمعاً في الولاية والتسلط، فحضروا وبايعوا.
وفي الشورى نشاور جميع من حضر، من عنده القدرة، ومن ليس عنده القدرة؛ للتأليف، ولكن لا يؤخذ الرأي إلا من أهل الرأي، فنأخذ رأيهم لوجود الاستعداد عندهم.
ويكون عندنا الاستغناء عن أموال الناس، ولكننا بحاجة إلى استعدادهم لخدمة
الدين، فنبين مناقبهم وفضائلهم في خدمة الدين، لينشطوا ويرغبوا غيرهم في ذلك كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم مناقب أصحابه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد ومعاذ وأبي عبيدة وغيرهم رضوان الله عليهم، وفي ذلك إظهار لمحاسن أصحابه ليقتدى بهم.
فنظهر محاسن أصحابنا ونجمعها ونعلنها لخدمة الدين.
ونوقر ونحترم أهل الشورى، ونقدمهم في الرأي والمكان، خاصة ممن لهم قدم صدق في الدين، ممن بذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لخدمة الدين، ونعرف لهم فضلهم، ونعتني بهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم يحملون المسؤولية وهم تحت الشورى، وهؤلاء يفيدون جميع الأمة، وبسببهم ينتشر الإيمان وتنتشر الأعمال في العالم، فحقهم كبير، وأجرهم عند الله عظيم.
ونجتنب في جميع الأحوال الطعن واللمز، والسب والشتم، فليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء.
ونقدم الرأي ونشير به على أساس الأمانة لمصلحة الدين، ومصلحة المسلمين، ومصلحة الإنسانية، نقدمه ونحن مستعدون للقيام به.
ونجلس في الشورى ونحن مستعدون للقيام بأي عمل من أعمال الدين نكلف به، وذلك ليحصل لنا أجر ذلك العمل وإن لم نكلف به، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
ونحترم الآراء في الشورى، ونسمعها كلها، ولا نحقر أحداً، ولا رأيه، ولا نكتم الرأي، بل نقدمه خدمة للدين، وبقدر صفاء القلب، وشدة الحب، وقوة الهم، تكون قوة الرأي، وقوة العمل، وقوة التضحية.
ونتجنب الإصرار على آرائنا والاستكبار على غيرنا، فالإصرار والاستكبار مرضان في قوم نوح الذين أهلكهم الله بعدما شكاهم نوح إلى ربه:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)} [نوح: 5 - 7].
فقوم نوح أصروا على رأيهم الباطل، واستكبروا عن الحق الذي جاء من الله، فنقول رأينا بصدق، ونسمع من الآخرين، والله يلهمنا الصواب منهما.
ومن الآداب: عدم الإعجاب بالنفس أو الرأي بل يكون عنده الاستعداد إن أخذ منه الرأي، وكان علي رضي الله عنه يجلس خلف المجلس ويسأله عمر رضي الله عنه أخيراً .. ماذا ترى يا أبا الحسن؟.
فإن أخذ أهل الشورى برأي أحدنا استغفرَ الله؛ لأنه قد يكون خطأ، وإن لم يأخذوا برأيه جزم بأن رأي غيره أصوب منه، وبذلك يسلم ويطرد العجب عن نفسه.
ونقدم الآراء في الشورى لمصلحة الدين بحرية كاملة مع احترام آراء الآخرين.
وتارة نسمع الآراء ثم يأتي الفصل كما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الآراء في أسارى بدر ثم فصل بأخذ الفدية وإطلاقهم، وكما سمع الآراء في الخروج إلى قريش في أحد ثم فصل بالخروج إليهم.
وتارة يفصل النبي صلى الله عليه وسلم برأي واحد كما أخذ برأي سلمان رضي الله عنه في حفر الخندق، وفصل به؛ لأنه لا يعرفه غيره.
ونتوجه إلى الله في جميع أمورنا، نتوجه إليه وحده في الشورى، ونستلهمه الرأي السديد لخدمة الدين، فالدين يحتاج إلى رأي كل فرد، كالبدن يحتاج إلى كل الجوارح.
فنطلب الجميع في الدعوة والجهاد .. والتعليم والشورى، فالجميع عليهم مسؤولية الدين.
وينبغي توحيد الفكر، واجتماع القلوب في الشورى، فنجتمع، ثم نتفكر، ثم نتفق، ثم نقوم بالعمل.
فالماكينة تؤدي وظيفتها وهي مكونة من مجموعة قطع وأجهزة، فهكذا أعمال الدين من عبادة ودعوة، وتعليم وجهاد، لا تزيد إلا بالاجتماع، وإذا حصلت الفرقة جاء الخلل والنقص كما حصل في أُحد، كما أن الآلة بفقد جزء منها
يحصل الخلل، ويتغير الصوت، ويقل الإنتاج.
ونقبل المسؤولية مهما كانت، ولا نفزع منها، ولا نتأخر عنها، نقبلها تحملاً للأمانة، وأداء لها، ولا نقبلها من باب الحرص عليها فنوكل إليها ونعجز عنها، فنحن لا نطلبها ولكن لمصلحة الدين نتحملها، فالله يعيننا عليها، ونتحملها بنية نفع المسلمين، ولنكون سبباً لدخولهم الجنة.
والمستشار مؤتمن، والدين النصيحة، والأحوال والمسائل التي تظهر بسبب الجهد والدعوة لا بد من إظهارها في الشورى ليتم حلها، ولا تكتم المسائل، بل تُظهر ليعلم بها أهل الشورى، فيأتي عندهم الفكر في حلها، وتزول من النفوس، وتبقى مطمئنة مستعدة لأي عمل.
وكتمان المسائل والأحوال عن أهل الشورى يؤدي إلى سوء الظن، وسوء الفهم، وسوء العمل.
فتأتي الغيبة .. ثم تأتي الفرقة .. ثم يأتي الانقطاع والحرمان.
وإذا حصل سوء الفهم بسبب النسيان نعتذر ونقول: نسينا أن نخبرك فسامحنا.
والتفكر من أجل الدين، والشورى من أجل الدين، من أهم الأعمال وأجلها، فنجلس من أجل الدين يومياً، ونتشاور في مجال الدعوة كيف تنشر الهداية في العالم؟.
وبعد سماع الآراء يكون الفصل وأخذ الرأي السديد، ثم يكون بعد ذلك التنفيذ فوراً، وبذلك ينتشر العمل في العالم.
وبعد الشورى ننفق ما عندنا من الجهد والمال والوقت لتنفيذ ما فصل به في هذه المشورة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3].
فإذا اتفقوا أنفقوا على ما اتفقوا عليه مما رزقهم الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم مع كبار الصحابة رضي الله عنهم يتفكرون ويتشاورون كل يوم من أجل الدين ونشر الهداية في العالم.
وكان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتشاورون مع عمر رضي الله عنه أثناء خلافته في
المسجد النبوي من أجل الدين ونشره والجهاد من أجله، وما يقارب من ثلاثين ألفاً من المسلمين كانوا في الحركة في العالم، فكانت المسائل والأحوال تأتي من الخارج، من الميدان في أنحاء الأرض، وعمر رضي الله عنه يحملها لأهل الشورى، تارة للمهاجرين والأنصار كلهم، وتارة لبعضهم، حسب أهمية الأمر.
وبذلك انتشر الإسلام، واتسعت الفتوحات، ودخل الناس في دين الله أفواجاً؛ لأن في الصحابة كلهم ثلاثة أشياء:
فكر محمد
…
وحياة محمد .. وجهد محمد صلى الله عليه وسلم.
فانتشر التوحيد والإيمان .. والعلم والعمل .. والأخلاق والآداب .. والسنن والأحكام .. كلها في وقت واحد .. لأنهم تيقنوا أنه كما أن العبادة على جميع الأمة .. فكذلك الدعوة على جميع الأمة.
والمجالس بالأمانة، فكل ما يجري في الشورى مما لا يصلح نشره ولا يليق إظهاره، فلا نظهره للناس، ونبشر ولا ننفر، ونتطاوع ولا نختلف، ونيسر الأمور، ونتوجه إلى الله بالدعاء في حل جميع المسائل.
ونقوم بالعمل، ونستمر فيه، حتى يحيا الدين كله في العالم كله.
ونستغفر من التقصير، فالعمل عظيم، والرب له حقوق.
والعبد عليه واجبات فيما يخص نفسه، وفيما يخص غيره، والتقصير حاصل في هذا وهذا.
فالاستغفار لازم، والتوبة واجبة، ونعفو ونصفح عن بعضنا، وندعو لبعضنا بالإعانة والتوفيق، ونتوجه إلى الله، ونكل أمورنا إليه، ونبادر إلى ما أمرنا به:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [الشورى: 15].
والمؤمنون لاجتماعهم وتآلفهم وتوادهم، وتراحمهم وتحابهم وكمال عقولهم لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم.
فإذا أرادوا أمراً من الأمور التي تحتاج إلى إعمال فكر ورأي، اجتمعوا لها وتشاوروا، حتى إذا تبين لهم الرأي السديد أخذوا به، وبادروا إلى تنفيذه كما أخبر الله عنهم بقوله:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
ويجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من مسائل الدين، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحروب والغزوات، ومشاورة وجوه الناس فيما يتعلق بمصالح المسلمين.
وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الرأي من أصحابه في أمور عامة وخاصة.
فاستشارهم في شأن المنبر .. وفي النداء للصلاة ..
واستشار صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أربع مرات:
شاور صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم في الخروج إلى عير قريش .. وشاورهم لما علم بخروج قريش لقتاله.
وشاورهم صلى الله عليه وسلم في المنزل يوم بدر.
وشاورهم صلى الله عليه وسلم الرابعة في أسارى بدر.
وشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج إلى أحد لقتال قريش، وشاور أصحابه في غزوة الخندق مرتين:
الأولى: في كف كيد الأحزاب، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فحفره.
الثانية: استشارهم في مصالحة المشركين على ثلث ثمار المدينة، ويرجعوا فأبى المسلمون إلا قتالهم.
وشاور أصحابه عام الحديبية .. وشاورهم في حصار الطائف ..
وشاور علياً وأسامة في أمر عائشة في قصة الإفك .. وغير ذلك كما ورد في السنة.
والشورى مجالها فيما لم ينزل فيه وحي، أما ما ورد فيه نص من الكتاب أو السنة فلا مجال للشورى فيه، فإنه واجب الاتباع كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
والأمة فيها الاستعداد لنشر الدين، بل الواحد منا عنده استعداد لكافة الأمة، ولكن ضاع الاستعداد في الغفلات والشهوات وحب الدنيا.
والآراء في الدين تلهم في القلوب حسب صفاء القلوب، وكم كان صفاء قلب عمر فينزل الوحي حسب رأيه.
والكبير يستشير الصغير؛ لأن الأمر يعود إلى الكبير، وتؤخذ الشورى ممن يقوم بالعمل لا ممن لا يقوم بالعمل ولا يعرفه، ونأخذ الرأي من الجميع، فمن لم نستشره كيف نستخدمه.
ولا نجتهد في العمل بل نعمل بالسنن كما وردت، ولا نحدث شيئاً لأنه يشوش الآخرين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة أن يذهب إلى عسكر المشركين في غزوة الأحزاب ولا يحدث شيئاً، فذهب وجاء بالخبر، وفي صلح الحديبية أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأشياء وصبروا على ما جاء في الصلح فكان بعدها الفتح الأعظم ودخول الناس في دين الله، والعواطف ولو كانت حسنة فإنها لا تقدم على الأوامر، ولا بد من اتحاد الفكر، واجتماع القلوب على المنهج الصحيح.
ونحن أدلاء، والله هو المربي، والتربية تكون بالصحبة، والصحبة لا تنفع إلا مع سلامة الصدر، وكذلك المشورة.
والمشورة عمل اجتماعي لمصلحة الدين، والمشورة تجمع القلوب، وتنشط الأفكار في قلوب الدعاة.
ونجعل الشورى عملاً اجتماعياً بأمرين:
الأول: أن نضحي بأوقاتنا، ونؤخر أشغالنا، ونحضر في الشورى، فالذي لا يحضر في الشورى كالذي لا يحضر الصلاة، والذي يحضر ويجتهد الله يلهمه المراشد لهداية الأمة كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
فالأمة تجتمع في العبادات في الصلاة، وتجتمع على الدعوة بالشورى، فنحضر
في الشورى كما نحضر في الصلاة.
الثاني: أن نتشاور في الدعوة جميعاً؛ لئلا تكون الأحزاب، ويتصرف كل واحد حسب هواه.
ففي أي عمل اجتماعي الحوائج تقضى .. والمانع يزول .. والبركة تنزل .. وأعمال الدين فيها نور النبوة، دعوة وتعليم، عبادة وشورى، والدعوة لا تمشي إلا بمزاج النبوة.
ونتجنب الإصرار على الرأي؛ لأن الذي يصر على رأيه يجد في نفسه أنه هو الأحق بالعمل، والرأي حق العمل لا حق الإنسان.
والله عز وجل يريد لهذا العمل استعداد الرأي السديد، واستعداد الإنفاق، واستعداد الدعوة، واستعداد التعليم، لينتشر الخير في العالم كله.
ولا بدَّ من الحيطة في العمل كما قال سبحانه: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} [الكهف: 19، 20].
وبعض الناس جعل الاحتياط تجاوز الأمور، وبعضهم جعله ترك العمل بالكلية، وهذا خروج عن الاعتدال.
فالأعمال الاجتماعية كالدعوة والجهاد والتعليم لا بدَّ فيها من الاعتدال والتلطف، وفي مزاج الأنبياء اللين والرحمة والشفقة على الخلق وجهد الدعوة إلى الله ليس إحساناً للبشرية، بل هو حقهم الذي يجب إيصاله إليهم.
وإذا تفرغنا لجهد الدين الله يغنينا بفضله عمن سواه، كما أن الإنسان إذا تفرغ لخدمة السلطان فهو يغنيه.
وسبب ترك الأعمال فساد اليقين، وضعف الإيمان، وقلة الاحتساب، فنقوم بكل عمل باليقين التام على أن الأمور كلها بيد الله وحده.
والإيمان لا نهاية له، والإيمان بالغيب هو الأصل، فنتعلم الإيمان بالنظر في الآيات الكونية والآيات القرآنية التي تبين عظمة الله وقدرته.
والمقصود من تقوية الإيمان امتثال أوامر الله عز وجل، والاستفادة من خزائنه، وبقدر قوة الإيمان تأتي شعب الإيمان من التقوى والتوكل والخوف والرجاء والمحبة.
وبقوة الإيمان يتمتع الإنسان بكثرة الأعمال الصالحة، وبكثرة المال يتمتع بكثرة الأشياء التي تعقب الحسرة والتعب.
والعمل الاجتماعي أقوى من العمل الانفرادي، فالدعوة الانفرادية يكون معها التكذيب والرد والاستهزاء غالباً.
والدعوة الاجتماعية تنزل معها الهداية والنصرة.
وطلب العلم لغير الله يولد الفتنة، ويمزق الأمة، ويورث الكبر والجدل والفرقة.