المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب العاشرفقه النبوة والرسالة

- ‌1 - فقه الاصطفاء والاختيار

- ‌2 - فقه النبوة والرسالة

- ‌3 - حكمة تعدد بعث الرسل

- ‌4 - حكمة موت الرسل

- ‌5 - فقه الدعوة إلى الله

- ‌6 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌7 - فقه النصيحة

- ‌8 - فقه الهداية

- ‌9 - فقه الابتلاء

- ‌10 - فقه الشورى

- ‌11 - فقه الإنفاق في سبيل الله

- ‌12 - فقه الهجرة والنصرة

- ‌13 - فقه الجهاد في سبيل الله

- ‌14 - فقه النصر

- ‌15 - فقه الخلافة

- ‌الباب الحادي عشرفقه الأخلاق

- ‌1 - فقه الخُلق

- ‌2 - درجات الأخلاق

- ‌3 - تغيير الأخلاق

- ‌4 - فقه حسن الخلق

- ‌5 - فقه الأدب

- ‌6 - فقه مكارم الأخلاق

- ‌7 - فقه المروءة

- ‌8 - فقه الإيثار

- ‌9 - فقه الحكمة

- ‌10 - فقه العزة

- ‌11 - فقه المحبة

- ‌12 - فقه الرحمة

- ‌الباب الثاني عشرفقه الشريعة

- ‌1 - فقه الحق والباطل

- ‌2 - فقه العدل والظلم

- ‌3 - فقه الأمر والنهي

- ‌4 - فقه النفع والضر

- ‌5 - فقه الحلال والحرام

- ‌6 - فقه السنن والبدع

- ‌7 - فقه العبادات

- ‌1 - فقه الصلاة

- ‌2 - فقه الزكاة

- ‌3 - فقه الصيام

- ‌4 - فقه الحج

- ‌8 - فقه الذكر والدعاء

- ‌9 - فقه المعاملات

- ‌10 - فقه الحسنات والسيئات

الفصل: ‌1 - فقه الصلاة

‌1 - فقه الصلاة

قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238].

وقال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} [العنكبوت: 45].

الله عز وجل له الخلق والأمر، وله العبادة، وبه الاستعانة، ومنه النعم والثواب والعقاب، وإليه المرجع والمآب.

والمخلوقات بالنسبة للطاعة والعبادة قسمان:

الأول: من خلقه الله للطاعة والعبادة، فهم مسخرون لذلك منقادون له، وقد أعلمهم الله وألهمهم كيف يعبدونه، ونحن لا نعلم كيفية ذلك، وهم درجات، وهؤلاء جميع الخلائق في العالم العلوي، وفي العالم السفلي سوى الثقلين كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41].

وقال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].

فهذه عبادة، وصلاة، وتسبيح حقيقة يعلمها الله وإن جحدها الجاهلون المكذبون.

الثاني: الإنس والجن وهؤلاء قسمان:

فمنهم الجاحد الكافر الذي لا يصلي، فهو شاذ ناشز عن جميع المخلوقات التي أسلمت لربها وأطاعته.

ومنهم المؤمن المطيع، فهذا خير البرية، أكرمه الله بالإيمان، وعلمه كيف يتقرب إلى ربه ويناجيه، ويعظمه ويحمده، ويسأله ويستغفره، بما شرع له من الصلاة

ص: 2794

التي يتصل فيها المخلوق بخالقه، ويقرب منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم (1).

وإقامة الصلاة معناها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ظاهراً وباطناً، جسماً وعقلاً وروحاً.

والصلاة هي العبادة الكبرى في الإسلام، وهي مظهر لنشاط قوى الإنسان الثلاث، وتوجهها جميعاً إلى خالقها في آن واحد:

فالقيام والركوع والسجود تحقيقاً لحركة الجسد.

والقراءة والتدبر والتفكر تحقيقاً لنشاط العقل.

والتوجه والاستسلام والخشوع تحقيقاً لنشاط الروح.

كل ذلك في آن واحد، ومن أجل هذه المنافع فرضها الله خمس مرات يومياً على جميع المسلمين كما قال سبحانه:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103].

والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي صلة بين العبد وربه، وهي معراج المؤمن إلى ربه.

والصلاة لها جسد وروح .. وأقوال وأفعال .. وسنن وأحكام .. وبدء وختام .. ولها أحكام على البدن .. وأحكام على العقل .. وأحكام على الروح.

والصلاة تشتمل على أمور عظيمة من:

تعظيم الله وتكبيره .. وحمده والثناء عليه .. وسؤاله .. واستغفاره .. والصلاة على أفضل من عبده ودعا إليه.

فالتعظيم بقولنا: (الله أكبر) في مواضعها، والقيام والركوع والسجود، وقولنا:(سبحان ربي العظيم) في الركوع، و (سبحان ربي الأعلى) في السجود. وقولنا في دعاء الاستفتاح:(سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك)

(1) أخرجه مسلم برقم (482).

ص: 2795

وقولنا في الفاتحة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 1 - 4].

والحمد بقولنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2].

وقولنا بعد الركوع: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد).

وقولنا في التشهد: (التحيات لله والصلوات والطيبات).

والسؤال بقولنا في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6].

وقولنا بين السجدتين: (رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني وعافني).

وقولنا في التشهد الأخير: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» أخرجه مسلم (1).

والاستغفار بقولنا بين السجدتين: (اللهم اغفر لي).

وفي التشهد الأخير: «اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أنْتَ» أخرجه مسلم (2).

وقولنا بعد السلام: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.

وفي ختام الصلاة بعد التشهد الأخير ثناء ودعاء لمن بذل نفسه وماله ووقته في سبيل إعلاء كلمة الله، وأحسن عبادة ربه، وهما الخليلان محمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام، لنذكر عبادتهما وأعمالهما وأخلاقهما ونقتدي بهما: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ،

(1) أخرجه مسلم برقم (588).

(2)

أخرجه مسلم برقم (771).

ص: 2796

كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» متفق عليه (1).

والله عز وجل بحكمته جعل الدخول عليه في الصلاة موقوفاً على الطهارة، فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفاً على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فهما طهارتان:

طهارة القلب بالتوبة .. وطهارة البدن بالماء.

فإذا اجتمع للعبد هذان الطهران صلح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته في الصلاة.

فالجنة طيبة لا يدخلها من في قلبه نجاسة وخبث؛ لأنها دار الطيبين كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73].

فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والتوحيد والتوبة والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوق.

ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر والمشرك لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر من النار من تلك النجاسة، أو يغفر الله له.

والطاعات والحسنات تكسب القلب حياة ونوراً، والمعاصي والخطايا توجب للقلب حرارة وظلمة، ونجاسة وضعفاً، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة، فالخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.

ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه، والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.

فإن كان بارداً أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم، فكان أذهب لأثر الذنوب والخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3370) واللفظ له، ومسلم برقم (406).

ص: 2797

«اللَّهُمَّ! نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ! اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (1).

فالنجاسة تزول بالماء .. والخطايا تزول بالتوبة .. وصلاح القلب ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا.

وكما أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، فكذلك الذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، يزول الأول بالتخلص منه، ويزول الثاني بالتوبة والاستغفار.

ولله المنَّة والفضل في كل عمل صالح، وكلما عظمت طاعة العبد كانت منَّة الله عليه أعظم، فهو المانُّ بفضله، ولو أتى الناس بكل طاعة، وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله لكانوا في محض منَّته وفضله، وكانت له المنَّة عليهم.

ولمنافع الصلاة العظيمة ولحاجة المسلم لهذه الصلاة كل وقت، شرعها الله خمسين صلاة على المسلم، ثم خففها إلى خمس في العمل، وخمسين في الأجر رحمة منه وفضلاً.

والصلاة غذاء للمسلم لا يستغنى عنه كما لا يستغني عن الطعام والشراب؛ لما فيها من ذكر الله ومناجاته، والتلذذ بتلاوة كتابه، وتعظيمه وتكبيره، وحمده وشكره، وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، والاستغفار من الذنوب التي يقع فيها المسلم كل يوم.

وما أعظم افتتاح الصلاة باسم الله (الله أكبر)، وختامها باسم الله (السلام عليكم ورحمة الله).

فإن المصلي لما تخلى عن الشواغل، وقطع جميع العلائق، وتطهر وأخذ زينته، وتهيأ للدخول على ربه ومناجاته، شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598) واللفظ له.

ص: 2798

وهو قول: (الله أكبر).

فإذا استشعر المصلي بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره.

فإذا حضر القلب في الصلاة انتقل إلى فهم المعنى، ثم ارتحل وأناخ بباب المناجاة فعظم ربه وحمده، وسأله واستغفره، ثم انصرف بأنواع التحف والخيرات.

وما دام المصلي في صلاته بين يدي ربه، فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره بل هو في حمىً من جميع الآفات والشرور.

فإذا انصرف من بين يدي ربه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كل جانب، وجاء الشيطان بمصائده وجنده، فهو معرض لأنواع البلايا والمحن.

فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوباً بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى، فكان من تمام النعمة انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه.

والصلاة تشتمل على عبودية القلب، وعبودية الجوارح والأعضاء، فلكل عضو منها نصيب من العبودية، فجميع أعضاء المصلي وجوارحه متحركة في الصلاة عبودية لله، وذلاً له وخضوعاً.

فإذا أكمل المصلي هذه العبودية، وانتهت حركاته، ختمت بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوس تذلل وانكسار وخضوع لعظمة الله عز وجل، كما يجلس العبد الذليل بين يدي سيده.

ولما كان جلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس، وأعظمه خضوعاً وتذللاً لله، أذن الله تبارك وتعالى لعبده في هذه الحال بالثناء على الله أبلغ أنواع الثناء وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات، كعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم يما يليق بهم.

ص: 2799

والله جل جلاله أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد، فالثناء كله لله، والتحيات كلها لله، والصلوات كلها لله، والطيبات من الكلمات والأقوال والأفعال كلها لله.

فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإليه يصعد الكلم الطيب، والصلاة مشتملة على عمل صالح، وكلم طيب، والسلام من أسماء الله الحسنى، فهو السلام الحق بكل اعتبار.

وقبول الصلاة يتوقف على تحقيق ستة أشياء:

الإيمان بالله .. وصفة الإحسان .. وصفة الإخلاص .. وصفة العلم .. واستحضار عظمة الله .. وأداء حقوق الناس.

وإذا أقيمت الصلاة هكذا جاءت المعاملات طيبة، والمعاشرات طيبة والأخلاق طيبة.

وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتصفون بخمس صفات جذبت قلوب الكفار إلى الإسلام وهي:

الإيمان .. والعبادات .. وحسن المعاملات .. وحسن المعاشرات .. وحسن الأخلاق.

ففي الأسواق جذبهم إلى الإسلام حسن الأخلاق، وحسن المعاملات، وفي البيوت جذبتهم حسن المعاشرات.

وفي المساجد جذبتهم صفات الإيمان، وحسن العبادات، فتأثروا بذلك ودخلوا في دين الله أفواجاً.

والصلاة صلة بين العبد وربه، وهي تربية وتدريب للمسلم بأن لا يتحرك أي عضو من أعضائه إلا امتثالاً لأمر الله ورسوله، وذلك باستخدام الأعضاء في الحياة اليومية طبقاً للسنة المطهرة في مجال العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق.

سواء كان الإنسان ذكراً أم أنثى، وسواء كان حاكماً أو محكوماً، وسواء كان

ص: 2800

ولداً أو والداً، وسواء كان غنياً أو فقيراً.

في حال الحضر أو السفر .. وفي حال اليسر أو العسر .. وفي حال الأمن أو الخوف .. وعلى أية حال فلا يخرج عن طاعة الله ورسوله، فيكون مطيعاً وممتثلاً لأوامر ربه داخل الصلاة وخارج الصلاة كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].

ولأهمية الصلاة فقد ذكرها الله في القرآن أكثر من مائة مرة، فهي تصل المخلوق بخالقه، وتثمر الأخلاق الكريمة، وتذكر بالله العظيم، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ويمحو الله بها الذنوب والخطايا.

والصلاة عماد الدين، وإقامتها حرب للشيطان؛ لأن الشيطان يريد هدم الدين، فالذي لا يصلي كأنه رضي بهدم الدين؛ لأن الدين قائم بالصلاة، والدين كله معلق بالصلاة، وهي الركن الثاني بعد الشهادتين.

ولا يحصل التفقه في الدين إلا بالصلاة، ولا يوفق الإنسان للعمل الصالح إلا بالصلاة، ولا يسلم من الشرور والمنكرات إلا بالصلاة.

وتوفيق العبد يحصل له بقدر نوعية الصلاة التي يؤديها، وكلما ازداد العبد خشوعاً وخضوعاً في الصلاة اتجهت إليه الرحمة الإلهية:

فيستجاب دعاؤه .. وتستقيم أحواله .. وينال مراده .. ويأنس بمولاه.

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45].

والناس في صلاتهم درجات، كما هم في إيمانهم درجات، وبحسب الإيمان تكون الرغبة في الصلاة وحضور القلب فيها.

فمن الناس لجهله لا يبالي بالصلاة مطلقاً ولا يفكر فيها .. ومنهم من يعنى بالصلاة لكنه لا يهتم بالجماعة .. ومنهم من يصلي مع الجماعة ولكنه لا يهتم ولا يعتني بشروط وآداب الصلاة .. ومنهم من يصلي جماعة، ويهتم بشروط الصلاة وسننها وآدابها، وهذا أفضلهم.

ص: 2801

والصلاة التي تؤدى دون شوق لها، وترقب لأوقاتها، لا تثمر ولا تأتي بحلاوتها، فالصلاة لها جسم وروح، ولكل منهما أوامر:

فجسم الصلاة: القيام والقعود، والركوع والسجود.

وروح الصلاة: الخشوع والخضوع، والحمد والتعظيم لله، ومحبته والأنس بمناجاته، والتضرع والانكسار بين يديه.

فمن الناس من يصلي صلاة الجوارح ولا يصلي صلاة القلب، ومنهم من يصلي صلاة القلب ولكن يجهل في أحكام الصلاة.

والنجاة والفلاح: أن يصلي المسلم كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه وقالبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أصَلِّي» أخرجه البخاري (1).

والإيمان أكبر الأوامر، والصلاة أكبر الأعمال، فمن صلى صلاة كاملة تفتح له أبواب خزائن الله كاملة، ومن اجتهد على أوامر الله علماً وعملاً وتعليماً فتح الله له أبواب البركة في الدنيا كما سقى النبي صلى الله عليه وسلم من إناء اللبن جميع أهل الصفة، وكما أطعم أهل الخندق كلهم من عناق جابر رضي الله عنه، وكما سقى الله أهل الحديبية من الماء الذي خرج من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أنزل الله البركة في أموال الزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.

فالله عز وجل يعطي الرزق بدون الجهد مع كمال الإيمان والتقوى كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

والآخرة خير من الدنيا، ومنازل الآخرة كلها إنما تنال بالإيمان والتقوى لا بالأسباب والأموال والأشياء.

والمجاهد في سبيل الله حقاً هو الذي يحيي سنن النبي صلى الله عليه وسلم الميتة في نفسه وفي الأمة، ويعلم الناس أمور دينهم، ويجتهد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذا الذي تحصل له الهداية قبل الناس، وتكون معه معية الله كما قال سبحانه:

(1) أخرجه البخاري برقم (631).

ص: 2802

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].

والصلاة المقبولة صلاة الخاشعين كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2].

ولا بدَّ من ضبط الجوارح داخل الصلاة وخارجها.

فخارج الصلاة نحفظ أربعة:

السمع .. والبصر .. والفكر .. والكلام.

فلا نسمع إلا ما أمر الله ورسوله به .. ولا ننظر إلى لما أمر الله بالنظر إليه من الآيات الكونية، والآيات القرآنية ونحوهما .. ولا نفكر إلا فيما ينفعنا .. ولا نتكلم إلا بما ينفعنا من الدعوة إلى الله وتعليم شرعه ونحو ذلك.

وداخل الصلاة نحفظ أربعة:

النظر إلى محل السجود حال القيام .. والنظر حال الجلوس إلى محل التشهد وهو الإصبع .. ونتفكر ونتدبر ما نتلوه من القرآن والأذكار .. ونسمع القرآن بالتوجه .. ولا نتكلم إلا بما أمرنا الله به كالتكبير والأذكار في مواضعها، وقراءة القرآن.

وبذلك يتم ضبط هذه الجوارح داخل الصلاة وخارجها.

ونصلي بخمس صفات:

الأولى: أصلي وأنا أعتقد أن هذه الصلاة خير من الدنيا وما فيها، وفيها حل مشاكل العالم في الدنيا والآخرة، وبها تتم الاستفادة من خزائن الله.

الثانية: أصلي على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده، وإيقاع الألفاظ والأذكار في أماكنها.

الثالثة: أصلي ابتغاء مرضاة الله لا رياء ولا سمعة.

الرابعة: أصلي بصفة الإحسان والتوجه، كأني أرى الله وأسمعه، وكأنه يراني ويسمعني.

الخامسة: أصلي بصفة المجاهدة، والمجاهدة ضبط الفكر والتوجه؛ لئلا يشرد

ص: 2803

الذهن، ويفلت الفكر للدنيا، ويترك مناجاة الله.

يتدرب المسلم على ذلك في النوافل، حتى يجد اللذة في الفرائض، وبهذا يكون للصلاة نور، وتحل بها المشاكل، وتغفر بها الذنوب.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبقَى من دَرَنِهِ شَيْءٌ» ، قَالُوا: لا يَبْقَِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئٌ، قَال:«فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا» متفق عليه (1).

والقصد من امتثال أوامر الله تحقيق العبودية لله .. وطاعة الله .. والاستفادة من قدرة الله .. ومن خزائنه في الدنيا والآخرة.

وأي نقص خارجي في العمل سببه النقص الداخلي في القلب، لذلك الذي لا يسلم نفسه لله داخل الصلاة لا يستطيع أن يسلمها لله خارج الصلاة.

وليست المصيبة فقط التفات الوجه في الصلاة، بل المصيبة الكبرى التفات القلب عن الله، وهو واقف بين يديه، وكل من أحب غير الله لا تكاد تصفو له صلاة عن الخواطر.

وعلاقة المسلم مع الله بالإيمان والأعمال الصالحة، وعلاقته مع الخلق بالمعاملات والمعاشرات والأخلاق.

وإذا جاءت المشاكل والأحوال نفزع إلى الأعمال كما قال سبحانه: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153].

وإذا لم ترتفع الأحوال والمصائب فهناك خلل في الأعمال، ولا ننظر إلى الأحوال، ولكن ننظر إلى أمر الله فيها.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى الأحوال يوم بدر والخندق، ولكن نظر إلى أمر الله فحفظه الله ونصره وأيده بالملائكة.

وكذلك أبو بكر رضي الله عنه لم ينظر إلى الأحوال يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن نظر إلى

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667) واللفظ له.

ص: 2804

أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأنفذ جيش أسامة رضي الله عنه، وأرسل الجيوش لردِّ المرتدين إلى الدين، وقام لله فاستقامت له البلاد والعباد.

وحقيقة الصلاة:

هي الخشوع الكامل وقت الوقوف أمام الله جل علا في الصلاة.

وبذلك يحصل الفلاح كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2].

فمن صلى بدون خشوع فإنه ليس من مقيمي الصلاة .. ومن صلى بدون اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس من مقيمي الصلاة .. ومن صلى بدون إخلاص فليس من مقيمي الصلاة.

ويحصل الخشوع في الصلاة بالاهتمام بستة أمور:

الأول: حضور القلب، ومعناه التوجه إلى الله، وتفريغ القلب مما سواه.

الثاني: الفهم والإدراك لما يقرأ أو يسمع.

الثالث: التعظيم: ويتولد من أمرين:

معرفة جلال الله وعظمته وكبريائه .. ومعرفة حقارة النفس وخستها وجهلها وفقرها، وحاجتها إلى فاطرها، فيتولد من المعرفتين الانكسار والخشوع لله.

الرابع: الهيبة، وهي أسمى من التعظيم، فهي الخوف الذي منشؤه التعظيم وتتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته، وعظمته وجلاله، وتقصير العبد في حقه.

الخامس: الرجاء، وهو أن يكون العبد راجياً بصلاته ربه وثوابه وإحسانه، كما أنه خائف بسبب تقصيره من عقاب ربه عز وجل.

السادس: الحياء، ويتولد من شعور العبد بالتقصير في العبادة، مع رؤيته إحسان ربه إليه، وإنعامه عليه، وعلمه بعجزه عن أداء شكره وحقه.

فبهذه الأمور يصل المؤمن إلى الخشوع الكامل الذي قال الله عنه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2].

فما أعظم فضل الله على عباده بالصلاة الجامعة لكل خير.

ص: 2805

فإن الله إذا من على عبد وفقه وهداه للوقوف في الصلاة بين يدي ربه العظيم جل جلاله، الكبير المتعال الذي عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، القاهر فوق عباده.

ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكره، ثم أخذ في الثناء عليه وحمده وشكره على إحسانه لعباده ورحمته لهم، وتمجيده بالملك الأعظم يوم الدين، وإفراده بالتوحيد.

ثم سؤاله أفضل سؤال على الإطلاق وهو: اهدنا الصراط المستقيم، الذي جعله الله موصلاً لمن سلكه إليه وإلى جنته.

ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة كتابه، ربيع القلوب، وشفاء الصدور، وهو كلام رب العالمين.

فهو يجتني من تلك الآيات والسور ثماراً ومنافع .. خيراً يؤمر به .. وشراً ينهى عنه .. وحكمة وموعظة .. وتبصرة وتذكرة .. وتقريراً لحق .. ودحضاً لباطل .. وإزالة لشبهة .. وجواباً عن مسألة .. وإيضاحاً لمشكل .. وترغيباً في أسباب الفلاح والسعادة .. وتحذيراً من أسباب الخسران والشقاوة .. ودعوة إلى هدى .. وتحذيراً من اتباع الهوى.

فتنزل تلك على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه، ويحل فيها محل الأرواح من أبدانها، فيا له من نعيم وقرة عين تحصل بهذه المناجاة في الصلاة.

والرب عز وجل يسمع لكلامه جارياً على لسان عبده، ويقول: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي.

ثم يعود إلى تكبير ربه عز وجل، فيجدد لربه عهد التذكرة بكونه أكبر من كل شيء، ثم يرجع حانياً ظهره لربه خضوعاً لعظمته، وذلاً لعزته، مسبحاً له بذكر اسمه العظيم، منزهاً لعظمته عن حال ذل العبد، وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء، وربه فوقه يرى خضوعه وذله وخضوعه، ويسمع كلامه، فهو ركن

ص: 2806

تعظيم وإجلال.

ثم عاد إلى حاله من القيام، حامداً ربه، مثنياً عليه، بأكمل محامده وأحسنها.

ثم يعود إلى تكبيره، ويخر له ساجداً على أشرف ما فيه وهو الوجه، فيعفره في التراب ذلاً بين يدي ربه ومسكنة، وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع، ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلاً للخضوع والتذلل لمن له العز كله، والعظمة كلها.

وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده، فلو دام العبد على ذلك من حين خلقه الله إلى أن يموت لما أدى بعض حق ربه عليه فضلاً عن كل حقه.

ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى في سجوده، فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله هو، وينزهه عن مثل هذه الحال، فمن هو فوق كل شيء، وعال على كل شيء ينزه عن السفول، وكلما سجد العبد لربه سجدة رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها سيئة.

ولما كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال، فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب.

وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له، فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه، وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه، يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد، وجعل بين خضوعه خضوع قبله، وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والتمجيد، كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك، والقيام أفضل بذكره، والسجود أفضل بهيئته.

فما أعظم هذا الترتيب العجيب، وهذا التنقل في مراتب العبودية؟.

ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شرع في أشرف أحوال الإنسان، وهي هيئة القيام في الصلاة في أحسن هيئة.

ولما كان أفضل أركان الصلاة الفعلية السجود شرع فيها بوصف التكرار، وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، ويسأل ربه ومولاه أن يغفر له

ص: 2807

ويرحمه، ويهديه ويرزقه، ويجبره ويعافيه، وهذه تجمع له خير دنياه وآخرته.

ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شرع له تكرار الفاتحة والأذكار والدعوات مرة بعد مرة، ليجبر ما قبله بما بعده، وليشبع القلب من هذا الغذاء النافع، وليأخذ رواه ونصيبه وافراً من الدواء، فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء.

ومن كرر الصلاة كان شفاؤه وسلامته أتم وأدوم، فما حصل الغذاء والشفاء للقلب بمثل الصلاة، وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه.

ثم لما أكمل صلاته، شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده، ويثني عليه بأفضل التحيات، ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل، ومن نالته الأمة على يديه.

ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين القائمين معه في هذه العبودية.

ثم يتشهد شهادة الحق أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

ثم يعود فيصلي على من علم الأمة هذا الخير ودلهم عليه، وهم محمد وآل محمد، وإبراهيم وآل إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.

ثم شرع له بعد ذلك أن يسأل حوائجه، ويدعو بما أحب، ما دام بين يدي ربه مقبلاً عليه، فإذا قضى ذلك أذن له بالخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة، والسامعين والحاضرين من عباد الله من الملائكة وغيرهم.

ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهملاً جوارحه، قد أسامها في واقع الشهوات أمر بالعبودية بجميع جوارحه ليقبل على ربه، وتأخذ جوارحه بحظها من عبوديته داخل الصلاة وخارج الصلاة، وأمر بتكرار ذلك لئلا يطول الأمد عليه فينسى ربه، وينقطع عنه بالكلية.

فالصلاة أعظم نعم الله على عباده، وأفضل هداياه التي ساقها إليهم.

والله بصير بالعباد يرى مكانهم، ويسمع سرهم ونجواهم، ويعلم أحوالهم،

ص: 2808

والإنسان يعمل المعاصي في الظاهر فيسقط من عين الله تعالى؛ لأنه عصى الله في ملكه، ولكن الله برحمته شرع لنا الصلاة التي يمحو الله بها الخطايا والذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم:«أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبقَى من دَرَنِهِ شَيْءٌ» ، قَالُوا: لا يَبْقَِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئٌ، قَال:«فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا» متفق عليه (1).

وعلمنا سبحانه تعظيم الله قبل الصلاة .. وأثناء الصلاة .. وبعد الصلاة .. وعلمنا الاستغفار عن التقصير فيها بعد الصلاة؛ لأن حق الله عظيم، والإنسان جمع مع الجهل الغفلة والنسيان والكسل.

وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله في الصلاة .. والأجساد مزينة بالسنن، والألسنة ناطقة بالتكبير والحمد والاستغفار، فُتحت للإنسان أبواب السعادة في الدنيا والآخرة، وسمع الله دعاءه، وأجاب سؤاله.

والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين: أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له.

والذوق يولد الشوق، فمن ذاق طعم الإيمان اشتاق إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، وكل ما يرضي ربه.

وإقامة الصلاة تكون بأمرين:

إقامتها ظاهراً: بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها.

وإقامتها باطناً: بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وخشوعه لله، وتدبر ما يقوله ويفعله منها.

والصلاة فرضها ونفلها صلة بين العبد وربه، يجد فيها العارفون لذة مناجاة ربهم بتعظيمه، والثناء عليه، وسؤاله، واستغفاره.

يصلون مع الناس الفرائض والسنن، ولهم مع ربهم في الليل شأن آخر، يحنون

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667) واللفظ له.

ص: 2809

إلى غروب الشمس كما تحن الطيور إلى أوكارها عند الغروب.

فإذا جَنَّهم الليل .. واختلط الظلام .. وفرشت الفرش .. وخلا كل حبيب بحبيبه .. قاموا إجلالاً لمولاهم .. فتطهروا للوقوف بين يديه .. ونصبوا أقدامهم .. وافترشوا وجوههم .. وناجوا ربهم بكلامه .. وتملقوا إليه بإنعامه.

فهم بين خاشع وباك .. وبين متأوه وشاك .. وبين معظم وحامد .. وبين قائم وقاعد .. وبين راكع وساجد .. وبين مسبح ومستغفر وتائب.

والجبار الذي لا تأخذه سنة ولا نوم يراهم .. بعيني ما يتحملون من أجلي؟ .. وبسمعي ما يشكون من حبي؟.

فلله ما أعظم هؤلاء .. وما أكبر عقولهم .. وما أحسن عملهم .. وما أفقههم .. وما أعلمهم: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9].

وما أعظم لذتهم بمناجاة مولاهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16، 17].

وكثير من الناس لا يعرف من العبادة إلا الأعمال الظاهرة، أما حال القلب وعمله وحبه وشوقه وتعلقه بربه، فقد لا يبالي أن ينصرف لأي وجهة؛ لقصور نهمه، ونقص علمه.

فالتعبد هو غاية الحب لله، وغاية الذل له، فالمحب قد ذلَّله الحب لمولاه، وذلك لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له، فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة.

وكلما كان قلب العبد في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال في علوٍّ ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال في هبوط ما دام كذلك، ولهذا شرع الله الصلوات والعبادات لاستدامة ذكره سبحانه.

ص: 2810

وكل عبادة لها مقصد، فمقصد الصلاة استدامة ذكر الله، والاستفادة من خزائن الله، وقضاء الحاجات.

وإذا كانت الصلاة التي لم تحل مشاكل الدنيا الفانية الصغيرة، فلا يمكن لها أن تحل مشاكل الإنسان في الدار الآخرة الدائمة الكبيرة:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7].

ص: 2811