الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 - فقه العبادات
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
وقال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60، 61].
حاجة العباد إلى الله أعظم من حاجة الجسد للطعام والشراب، ذلك أن الإيمان بالله وعبادته ومحبته هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه.
فليست عبادة الله تكليفاً ومشقة لأجل الابتلاء فقط، أو لأجل التعويض بالأجرة، فليس ذلك المقصد الأول بالأوامر الشرعية، وإنما يقع ذلك إن وجد ضمناً، وإنما المقصود الأول بالعبادات إرادة وجه الله عز وجل، والتوجه إليه، والإنابة إليه وحده؛ لأنه الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب وحده.
فأوامر الله عز وجل فيها قرة العيون، وسرور القلوب، ولذة الأرواح، وكمال النعيم.
فكل حي وكل مخلوق وكل موجود سوى الله فهو فقير محتاج إلى الله في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، فيجب أن يكون الله مقصوده، فيعبده محبة وإنابة، وإجلالاً وإكراماً.
والله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم.
أعطاهم في الدنيا أعظم شيء وهو معرفته والإيمان به، ويعطيهم في الآخرة أعظم شيء وهو النظر إليه عز وجل.
وليس في الكائنات كلها ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله وحده، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة ولذة وسرور في الدنيا
فهو مفسدة لصاحبه، فضلاً عن أنه لا يدوم.
وكل من أحب غير الله عذب به ولو اجتمع فيه الكمال والجمال.
فكل مخلوق ليس بيده شيء، وليس عنده لنفسه ولا لغيره نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان.
بل ذلك كله بيد الله الذي خلقه ورزقه وهداه، وأسبغ عليه نعمه، فلا يليق بالإنسان أن يتوجه إلى غيره، بل يجب عليه أن يتوكل على الله الذي بيده كل شيء، ويستعين به، ويحبه ويعبده وحده لا شريك له كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 65، 66].
وتعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، وإن أحب غير الله حباً تاماً فلا بدَّ أن يسأمه أو يفارقه، ومن أحب شيئاً لغير الله فلا بدَّ أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه في الدنيا والآخرة، والضرر حاصل له إن وجد أو إن فقد، فإن وجد حصل له من الألم أكثر من اللذة، وإن فقد تعذب بالفراق وتألم.
وصلاح العبد في عبادة ربه والاستعانة به، ومضرته وهلاكه في عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه.
فكل من توكل على غير الله خاب، وخذل من جهته، وكل من استنصر بغير الله خذل:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22].
والله تبارك وتعالى غني حميد، يحسن إلى عباده مع غناه عنهم، يريد بهم الخير، ويحسن إليهم، ويكشف الضر عنهم، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً.
والعباد لا ينفعون إلا لحظوظهم، وكل عبد لا يقصد منفعتك دون نفسه، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان في هذا ضرر عليك.
والرب عز وجل يريدك لك ولمنفعتك بك لا ينتفع بك، فلا ترجو المخلوق أو
تطلب منه منفعة لك، وتدعو وتسأل من ضره أقرب من نفعه، وليس له من الأمر شيء كمن:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
…
[الحج: 12، 13].
لكن أَحْسِن إلى الناس لله لا لرجائهم، وكما لا تخافهم فلا ترجوهم، وارجُ الله ولا ترجُ الناس.
والخلق كلهم لو اجتهدوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا على أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، ولن ينفعوك أو يضروك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك.
ولو أصابتك مضرة كالخوف والجوع والمرض لم يقدر جميع الخلق على دفعها إلا بإذن الله، وهم لا يدفعونها إلا لغرض لهم في ذلك.
والإنسان كلما كان أذل لله، وأعظم افتقاراً إليه، وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعزَّ له، وأعظم لقدره، وأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله عز وجل.
والرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، وأعظم ما يكون العبد قدراً عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه.
فإن أحسن إليهم مع الاستغناء عنهم كان أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتاج إليهم ولو في شربة ماء نقص قدره عندهم بقدر حاجته إليهم.
وهذا من حكمة الله ورحمته ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيئاً.
والعابد حقاً من جمع بين أمرين:
الأمر الشرعي .. والأمر الكوني.
وعلى هذين الأمرين مدار الدين.
فإن العبد إذا شهد عبوديته لربه، ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته.
بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه، وينظر بالأخرى إلى أمر سيده ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه.
والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي حق الله على خلقه، وفائدتها وثمرتها تعود إليهم:
فمن عبد الله وحده بما شرع فهو مؤمن، وثوابه الجنة، ورضوان الله.
ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، وجزاؤه النار، وسخط الله عليه.
ومن أبى أن يعبد الله، أو عبد غير الله فهو كافر مستكبر جزاؤه جهنم خالداً فيها، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
فلا بدَّ في العبادة من أصلين:
إخلاص الدين لله .. وموافقة أمره الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعبادة الله عز وجل مبنية على أصول عظيمة:
أحدها: أن يشرعها الله عز وجل كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18].
الثاني: أن تكون العبادة خالصة لله عز وجل كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].
الثالث: أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفعل ما أمر به، ونجتنب ما نهى عنه كما قال سبحانه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7].
الرابع: أن تكون العبادة قائمة على محبة الله وتعظيمه والذل له، وخوفه ورجائه وحده دون سواه كما قال سبحانه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90].
الخامس: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز مخالفتها ومجاوزتها كما قال الله في الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103].
وقال في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
السادس: أن يقوم بالعبادة من البلوغ إلى الوفاة كما قال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99].
السابع: أن يقوم بالعبادات حسب استطاعته كما قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» متفق عليه (1).
والإنسان عبد فقير إلى الله من جميع الوجوه:
من جهة خلقه .. ومن جهة رزقه .. ومن جهة بقائه .. ومن جهة عبادته له .. ومن جهة استعانته به .. ومن جهة هدايته له.
والعبادة لها معنيان:
أحدهما: بمعنى الطاعة والاستسلام، ويشمل ذلك كل ما في الكون كما قال سبحانه:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].
الثاني: بمعنى العابد طوعاً، وهو المؤمن الذي يعبد الله، ويستعين به.
وهذه العبودية قد يخلو منها الإنسان تارة، وأما الأولى فهي وصف لازم له، إذا أريد بها جريان القدر عليه، وتصريف الخالق له، والاستسلام له.
والذل لازم لكل عبد، وإن كان أحياناً يعرض عن ربه ويستكبر، إلا أنه عند
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337) واللفظ له.
الاضطرار لا بدَّ من الخضوع له، والاستسلام لأمره.
لكن المؤمن يسلم له طوعاً فيحبه ويطيع أمره، والكافر إنما يخضع لله عند رغبة أو رهبة، فإذا زال ذلك عنه أعرض عنه كما قال سبحانه:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} [الإسراء: 67].
والأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب كغيرها من الأسباب، فالأعمال الصالحة كلها من توفيق الله ومَنِّه وفضله، وصدقته على عبده، فقد وفقه الله لها، وأقدره عليها، وأعانه عليها، وحببها إليه، وزينها في قلبه، وكره إليه أضدادها كما قال سبحانه:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17].
ومع هذا فالأعمال ليست ثمناً لجزائه وثوابه، ولا هي على قدره سبحانه، بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكراً لله على بعض نعمه عليه.
فلو طالبه ربه بحقه لبقي عليه من الشكر على ما يعلمه وما لا يعلمه ما لم يخطر بباله.
والعبد له في المأمور ثلاثة أحوال:
الأول: حال قبل الفعل، وهو العزم على الامتثال، والاستعانة بالله على ذلك.
الثاني: حال أثناء الفعل، وهو أن يؤديه أداءً حسناً كما جاء في السنة يبتغي به وجه الله عز وجل.
الثالث: حال بعد الفعل، وهو الاستغفار من التقصير، وشكر الله على ما أنعم به من الخير.
والناس في العبادة والاستعانة أربعة أصناف:
الأول: أهل العبادة لله والاستعانة به، وهؤلاء خيار الناس وأفضلهم، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، فإن أنفع الدعاء طلب العون على
مرضاة الله كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فإن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، وهؤلاء شر الناس.
الثالث: من لهم نوع عبادة بلا استعانة.
الرابع: من شهد تفرد الله بالنفع والضر، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه الله ويرضاه، فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته فقضيت له ولكن لا عاقبة له.
فهذه لا تستلزم الإسلام فضلاً عن الولاية والقرب من الله.
فالأموال يعطيها الله المؤمن والكافر .. والبر والفاجر .. فلا تدل على محبة الله للعبد.
والله سبحانه يسأله من في السموات والأرض .. يسأله أولياؤه وأعداؤه .. ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه إليه عدوه إبليس سأله حاجة وهي طلب الإنظار إلى يوم البعث فأعطاه الله إياها، ولكن لما لم تكن عوناً له على مرضاته كانت زيادة له في شقوته، وهكذا بنو آدم.
وإجابة الله لسائليه ليست لكرامة كل سائل، بل يسأله العبد الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه، ويكون منعه لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة لا بخلاً.
يفعل الله هذا بمن يحب فيظن بجهله أن الله لا يحبه، فعطاؤه ومنعه ابتلاءً واختباراً، أيشكرني إذا أعطيته فأعطيه فوق ذلك؟، أم يكفرني فأسلبه إياه؟.
وإذا ضيقت عليه أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق؟، أم يتسخط فيكون حظه السخط؟.
والله سبحانه إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته.
فله الحمد على هذا .. وعلى هذا .. وهو الغني الحميد.
وحب الله ورسوله وطاعة الله ورسوله لا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما.
فكل من قدم طاعة أحد على طاعة الله ورسوله .. أو قدم قول أحد على قول الله ورسوله .. أو قدم مرضاة أحد على مرضاة الله ورسوله .. أو قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله .. فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
والعبودية تقوم على أصلين عظيمين:
كمال الحب لله .. وكمال التعظيم لله والذل له.
وذل العبودية له أربع مراتب:
الأولى: ذل الفقر والحاجة إلى الله، ويدخل في هذه جميع الخلق، فجميع أهل السموات والأرض محتاجون إلى الله فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم.
الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته، وهو سر العبودية.
الثالثة: ذل المحبة، فالمحب ذليل لمحبوبه، وعلى قدر جماله وجلاله وكماله وإحسانه تكون محبته، وعلى قدر محبته له يكون ذله له.
الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا وقع العبد في الجناية والمعصية أوجب له ذلك ذلاً وانكساراً بين يدي ربه.
فإذا اجتمعت هذه الأربع كان الذل لله والخضوع له أتم وأكمل، فيذل له خوفاً وخشية، ومحبة وإنابة، وطاعة وعبودية، وفقراً وفاقة .. وهذا لب العبودية وسرها.
وحصولها للعبد أنفع شيء له، وأحب شيء إلى الله.
والعبادات الواردة في الشرع أربعة أقسام:
الأول: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سن كل واحد من الأمرين، واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك، لكن اختلفوا في الأفضل كالدعاء في آخر التشهد، وأدعية الاستفتاح في الصلاة، فهذه ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلها سائغة.
الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلاً من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه، لكن تنازعوا في الأفضل، وفيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله كالقنوت في الفجر والوتر، والجهر بالبسملة، وصفة الاستعاذة ونحوها من المسائل.
الثالث: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيه الأمرين، لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين أو كرهه لكونه لم يبلغه أو تأول الحديث.
والصواب أن ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو مسنون لا ينهى عن شيء منه كأنواع التشهدات في الصلاة، وألفاظ الأذان والإقامة، وأنواع صلاة الخوف، والصوم والفطر في السفر.
الرابع: ما تنازع فيه العلماء، فأوجبه أحدهم أو استحبه، وحرمه الآخر، والسنة لا تدل إلا على أحد القولين.
فهذا أشكل الأقسام كالنزاع في قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر، وتحية المسجد في أوقات النهي ونحوهما.
والصواب عدم قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر، وأداء تحية المسجد وإن كان وقت نهي لثبوت الأدلة على ذلك.
ودين الإسلام يقوم على خمسة أركان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه (1).
وإذا كان الإسلام لا يقوم بلا أركان، فإن الإسلام وأركانه الأربعة لا يقوم بلا شهادتين، بل لا يكون موجوداً أصلاً.
فالشهادتان بالنسبة للإسلام كله كالروح بالنسبة للجسد، فكما أن كل ذرة من ذرات الجسد لا تكون بها حياة إلا بالروح فكذلك (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) هي حياة كل جزء من أجزاء الإسلام.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (8) واللفظ له، ومسلم برقم (16).
فأي عمل يعمله الإنسان من الإسلام لا يكون نابعاً من هذا الأصل يعتبر ميتاً، وهو في ميزان الله معدوم، ولذلك فإن الكافرين لا قيمة لأعمالهم عند الله ولو كانت صالحة؛ لأنها ميتة لا روح فيها كما قال سبحانه:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
وكذلك المسلم إذا عمل عملاً صالحاً ولم يكن في عمله روح الشهادتين فإنه يكون غير مقبول لفقده الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
وهاتان الشهادتان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، فشهادة أن لا إله إلا الله تتمها شهادة أن محمداً رسول الله.
فإذا قال المسلم (لا إله إلا الله) فإنه يعتقد جازماً أنه لا معبود بحق إلا الله .. ولا مطمأن إليه، ولا مستجار به إلا الله .. ولا محبوب ولا معبود بحق إلا الله .. ولا ملك ولا مطاع إلا الله .. ولا معظم ولا معتصم به إلا الله .. ولا سيد ولا حاكم ولا خالق إلا الله.
فالإيمان به واجب .. والتوكل عليه واجب .. ومحبته واجبة .. والاستجارة بغيره باطلة .. ومحبته فريضة .. ومعاني العبودية وأنواع العبادة لا تقدم إلا له .. وهو مالكي وحده فلا أطيع غيره إلا بإذنه .. وهو المستحق للتعظيم فبه أعتصم .. وهو الذي له حق السيادة المطلقة على البشر.
فهو صاحب الحق في الأمر والنهي، وهو صاحب الحق في التحليل والتحريم، وهو صاحب الحق في التشريع.
وشهادة أن لا إله إلا الله لا تنجي صاحبها من الكفر والإثم إلا إذا شهد أنه لا إله إلا الله بالعقل والقلب .. وشهد على هذا بلسانه .. وأن تكون شهادته جازمة لا شك فيها.
ولا يقوم الإنسان بلوازم لا إله إلا الله إلا إذا عرف رسوله، وتعرف بواسطة رسوله على الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ليحقق مراد الله منه، باتباع ما جاء به
رسوله صلى الله عليه وسلم.
لذلك كانت معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم تعدل معرفة الله سبحانه، إذ لا يقوم أحد بحق الله إلا إذا عرف رسوله الذي أرسل بدينه، وفوز الإنسان وفلاحه مرهون بطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].
والإيمان بالرسول يقتضي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ولذلك كان شعار الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا تغني واحدة منهما عن الأخرى.
وقد أمر الله كل مسلم بعد إقراره بالشهادتين أن يقيد حياته بأربعة أشياء:
الصلاة .. والزكاة .. والصيام .. والحج.
وهذه هي أركان الإسلام مع الشهادتين، وهي تتعلق:
بنفس الإنسان .. ومال الإنسان .. وشهوة الإنسان .. وطبيعة الإنسان.
وفي كل منها تمرين لتنفيذ أوامر الله على نفس الإنسان، وماله، وشهوته، وطبيعته حسب ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فلا يقضي الإنسان حياته حسب هوى نفسه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يتصرف في ماله حسب هواه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يقضي شهوته حسب هواه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يقضي حياته حسب طبيعته ومزاجه كالحيوان، بل حسب أمر الله ورسوله .. وهكذا.
والمطلوب من المسلم أن ينفذ أوامر الله ورسوله في جميع الأحوال، فكما ينفذ أوامر الله في الصلاة على كل عضو من أعضائه من القراءة والركوع والسجود ويصلي بقلبه ولسانه وجوارحه، ويصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حسب مزاجه وهواه، بل حسب أمر الله ورسوله.
فكذلك مطلوب من هذا المصلي أن يكون خارج الصلاة مطيعاً لربه في شئون
الحياة كلها كما هو مطيع لربه داخل الصلاة، فيكون كأنه في الصلاة مطيعاً لربه في جميع أحواله في نفسه، في بيته، في معاشرته، في أخلاقه.
وفي الزكاة تطهير وتزكية لأصحاب الأموال من البخل والحرص، وتطهير لأموالهم مما يفسدها وإنقاذ للفئات المحتاجة من هوان الفقر والحاجة.
وفي الصيام تمرين للعبد على تقديم أوامر الله على شهوات النفس، وكلما اصطدمت شهوات النفس مع أوامر الله قدم أوامر الله في الصيام، وهكذا في سائر شئون حياته المختلفة.
وكما يلتزم في رمضان بكيفية الصيام كذلك يلتزم في غير رمضان بأوامر الله ورسوله في طعامه وشرابه، وحركته ونومه، وفي سائر أحواله طيلة العام.
والحج يرمز لاستسلام الإنسان لله إذا بلغه أمر الله بواسطة رسوله، إذ ينفذ الأمر بصرف النظر عن المعنى العملي لهذا الأمر، وما الطواف والسعي والوقوف والحلق والرمي وغيرها من أعمال الحج إلا رمز لاستسلام المسلم لأمر الله دون نقاش.
وهو رمز لوحدة الأمة الإسلامية، ومظهر عملي للأخوة الإسلامية، والمسابقة إلى الأعمال الصالحة، وخضوع المسلمين لربهم.
والحج مدرسة يتعود فيها المسلم، ويرتفع بها إلى آفاق أعلى، يتعلم بها على بذل الجهد مع الصبر، وأن يعيش في عبادة دائمة، أن يكون لطيفاً مع المؤمنين ويتعلم بها دروس العبودية، وكيف ينفق في سبيل الله دون مقابل، وكيف يعظم ما عظمه الله، وكيف يحقِّر ما حقَّره الله، وكيف يوالي من والى الله، ويعادي من عادى الله.
ويتعلم مشاعر الولاء لله والرسول والمؤمنين، ومشاعر التوجه الخالص لله، ومشاعر التجرد عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، ومشاعر العزم على فتح صفحة جديدة مع الله، وغير ذلك من العبر والمعاني والعظات.
والعبادات على أربعة أقسام:
منها ما يتعلق بالمكان والزمان كالحج.
ومنها ما يتعلق بالمكان دون الزمان كالعمرة.
ومنها ما يتعلق بالزمان دون المكان كالصيام.
وغالبها لا يتعلق بزمان ولا مكان كالصلاة والزكاة والصدقة والذكر وتلاوة القرآن ونحو ذلك.
فما أعظم هذه الشريعة، وما أعدل أحكامها.
وهذه إشارة مختصرة إلى فقه الصلاة والزكاة والصيام والحج والذكر والدعاء.