الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - فقه الإيثار
وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16،17].
الإيثار: أن يؤثر الإنسان غيره بالشيء المحبوب مع حاجته إليه.
وعكسه الأثرة: وهي استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه.
والفرق بين الإيثار والأثرة:
إن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك، والأثرة اختصاصك به على الغير.
والإيثار له حالتان:
فهو إما أن يتعلق بالخلق .. وإما أن يتعلق بالخالق.
فإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك، بما لا يضيع على الإنسان وقتاً، ولا يفسد عليه حالاً، ولا يهضم له ديناً، ولا يسد عليه طريقاً، ولا يمنع له وارداً.
فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن المؤمن حقاً من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان.
فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على أهله الإيثار بالدنيا من طعام ومال، ومسكن ومركب ونحو ذلك، لا بالوقت والدين، وما يعود بصلاح القلب كما وصف الله الأنصار بذلك ومدحهم به بقوله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9].
والله عز وجل أمر المسلمين بالمسابقة في أعمال البر والخير، والمسارعة إليها، والمنافسة فيها، والقرعة عند التزاحم عليها، وهذا ضد الإيثار بها.
فلم يجعل الله الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة، فلا يستحب الإيثار بالقربات؛ لأن الإيثار بها قد يشعر بالزهد فيها، والاستغناء عنها، وعدم الحاجة إليها.
كما أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه كالطعام والشراب، واللباس والمركب، والمجلس ونحو ذلك.
أما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشتركت الألوف المؤلفة في الطاعة الواحدة كالصلاة والصوم لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووسعتهم كلهم، وأن قدر التزاحم في عمل واحد، فإن في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله.
وأيضاً فالمقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله، والمنافسة في محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه، وعدم المنافسة فيه، وهذا غير مناسب.
وإيثار المحبوب نوعان:
إيثار معاوضة ومتاجرة .. وإيثار حب وإرادة.
فالأول: يؤثر محبوبه على غيره طلباً لحظه منه.
والثاني: يؤثره إجابة لداعي محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائماً إلى إيثار محبوبه بكل ما يحب، فإيثاره هو أجل حظوظه، فحظه في نفس الإيثار، لا في العوض المطلوب بالإيثار.
وهذا مطلب عال لا تفهمه إلا النفس اللطيفة المشرقة الورعة، وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعشها فلتدرج .. والدين كله .. والمعاملة كلها في الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره.
والنفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار، ولكن الذي يسهل على النفس هذا الإيثار أمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق، ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق
الإنسان وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.
الثاني: النفرة من خلق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله لبعض المسلمين على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف على حده، بل لا بدَّ من مجاوزته إلى الفضل، أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه من البركة، وفيضان الخير عليه.
والأخلاق ثلاثة:
خلق الإيثار: وهو خلق الفضل.
وخلق التسوية: وهو خلق العدل.
وخلق الاستئثار والاستبداد: وهو خلق الظلم.
فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه، ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها.
وصاحب الاستئثار، النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل في حدوره، وهل أزال الممالك وقلعها من جذورها إلا الظلم والاستئثار والاستبداد، فإن أصعب شيء على النفوس هذه الصفات، فإنه لا صبر لها عليها.
والإيثار ضد الشح، ومراتبه ثلاثة:
أحدها: أن يعطي غيره الأكثر، ويبقى له شيئاً، فهو الجود.
الثاني: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو سخاء.
الثالث: أن يؤثر غيره بالشيء المحبوب مع حاجته إليه، فهو الإيثار وهو أعلى المراتب.
فهذا الإيثار المتعلق بالخلق.
وأما الإيثار المتعلق بالخالق فهو أجلّ من هذا وأفضل، وهو إيثار حب الله على حب غيره، وإيثار رضاه على رضا غيره، وإيثار خوفه على خوف غيره، وإيثار رجائه على رجاء غيره، وإيثار الذل له سبحانه، والخضوع له، والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره، وإيثار الطلب منه، والسؤال له، وإنزال الفاقات به وحده دون غيره.
فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر الله على نفسه وغيره من أعظم الأغيار، فآثر الله عليها، وترك محبوبها لمحبوب الله عز وجل.
وعلامة هذا الإيثار شيئان:
الأول: فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه.
الثاني: ترك ما يكرهه الله إذا كانت النفس تحبه وتهواه.
فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار.
ومؤنه هذا الإيثار شديدة؛ لغلبة الأغيار، وقوة داعي العادة والطبع، ولا تتم سعادة العبد وفلاحه إلا به، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، والذي يسهله على العبد أمور:
أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة.
الثاني: أن يكون إيمانه راسخاًَ، ويقينه قوياً، فإن الإيثار ثمرة الإيمان.
الثالث: قوة صبره وثباته.
والإيثار ضد الشح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح به، وبخل بإخراجه.
فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» أخرجه مسلم (1).
(1) أخرجه مسلم برقم (2578).
وقد وصف الله عز وجل الأنصار بالإيثار، وأخبرهم أنهم سيلقون بعده أثرة فليصبروا كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار:«إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ» متفق عليه (1).
وقد وقع ما قال صلى الله عليه وسلم من استئثار الناس على الأنصار في الدنيا، وهم أهل الإيثار، ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس.
فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته، ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة.
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار، فاعلم أنه لخير يراد بك.
والإيثار على ثلاث درجات:
الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك ديناً، ولا يقطع عليك طريقاً، ولا يفسد عليك وقتاً، كأن تطعمهم وتجوع، وتسقيهم وتظمأ، وتريحهم وتتعب، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب ما لا يجوز في الدين، ولا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك لربك، ومثل أن يؤثر بوقته غير ربه.
فكل سبب يعود على الإنسان بصلاح قلبه ووقته وحاله مع الله فلا يؤثر به أحداً من الناس، فإن آثر به فإنما يؤثر الشيطان على الله، وهو لا يعلم.
الثانية: إيثار رضا الله على رضا غيره، ولو غضب الخلق كلهم، وهي درجة الأنبياء والمرسلين، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة القريب والبعيد في الله.
وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضا ربه لومة
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3793)، واللفظ له، ومسلم برقم (1845).
لائم حتى أظهر الله دينه.
وقد جرت سنة الله التي لا تتبدل أن من آثر مرضاة الله على مرضاة الخلق، أن يرضى الله عنه، ويرضى عنه الخلق، فتنقلب مخاوفه أماناً، وتعبه راحة، وبليته نعمة.
ومن آثر مرضاة الخلق على مرضاة ربه أن يسخط الله عليه، ويسخط عليه الناس، خاصة من آثر رضاه من الناس، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه.
فيعود حامده ذاماً، ومن آثر مرضاته مساخطاً، وتلك سنة الله.
ورضا الخلق لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل، فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحسن لك من أن يرضوا عنك، والله غير راض عنك، وكل من آثر رضا الله فلا بدَّ أن يعاديه أراذل العالم وجهالهم، وأهل البدع والفجور منهم، وأهل الرياسات الباطلة، وكل من يخالف هديُه هديَه.
الثالثة: أن ينسب العبد إيثاره إلى الله دون نفسه، وأنه سبحانه هو الذي تفرد بالإيثار دون الإنسان، فهو المؤثر حقيقة، إذ هو المعطي حقيقة، والمالك لكل شيء، والمعين لكل أحد.
والناس صنفان:
منهم من يؤثر الدنيا على الآخرة، ويختار نعيمها المنغص المكدر على نعيم الآخرة، وهم الكفار.
ومن يؤثر الآخرة على الدنيا، ويؤثر نعيمها وسرورها الدائم الكامل على نعيم الدنيا الناقص الزائل، وهم المؤمنون.
والمؤمن العاقل يختار الآخرة؛ لأنها خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء.
وحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة، وذلك ثمرة فساد العقل والقلب:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16،17].