المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب العاشرفقه النبوة والرسالة

- ‌1 - فقه الاصطفاء والاختيار

- ‌2 - فقه النبوة والرسالة

- ‌3 - حكمة تعدد بعث الرسل

- ‌4 - حكمة موت الرسل

- ‌5 - فقه الدعوة إلى الله

- ‌6 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌7 - فقه النصيحة

- ‌8 - فقه الهداية

- ‌9 - فقه الابتلاء

- ‌10 - فقه الشورى

- ‌11 - فقه الإنفاق في سبيل الله

- ‌12 - فقه الهجرة والنصرة

- ‌13 - فقه الجهاد في سبيل الله

- ‌14 - فقه النصر

- ‌15 - فقه الخلافة

- ‌الباب الحادي عشرفقه الأخلاق

- ‌1 - فقه الخُلق

- ‌2 - درجات الأخلاق

- ‌3 - تغيير الأخلاق

- ‌4 - فقه حسن الخلق

- ‌5 - فقه الأدب

- ‌6 - فقه مكارم الأخلاق

- ‌7 - فقه المروءة

- ‌8 - فقه الإيثار

- ‌9 - فقه الحكمة

- ‌10 - فقه العزة

- ‌11 - فقه المحبة

- ‌12 - فقه الرحمة

- ‌الباب الثاني عشرفقه الشريعة

- ‌1 - فقه الحق والباطل

- ‌2 - فقه العدل والظلم

- ‌3 - فقه الأمر والنهي

- ‌4 - فقه النفع والضر

- ‌5 - فقه الحلال والحرام

- ‌6 - فقه السنن والبدع

- ‌7 - فقه العبادات

- ‌1 - فقه الصلاة

- ‌2 - فقه الزكاة

- ‌3 - فقه الصيام

- ‌4 - فقه الحج

- ‌8 - فقه الذكر والدعاء

- ‌9 - فقه المعاملات

- ‌10 - فقه الحسنات والسيئات

الفصل: ‌11 - فقه المحبة

‌11 - فقه المحبة

قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165].

وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24].

المحبة: ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيراً.

وحقيقتها: ابتهاج القلب وسروره بربه لكماله وجلاله، وجماله وإحسانه.

وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فرض، والناس فيه متفاوتون، وتفاوتهم بحسب معرفتهم بربهم وأسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه وإحسانه.

وأسعد الخلق في الدنيا والآخرة أقواهم وأشدهم حباً لله تعالى:

أما في الدنيا: فأنسهم به، ولذتهم بمناجاته وعبادته.

وأما في الآخرة: فبالقدوم عليه، والأنس برؤيته، ودوام رضاه، وسماع كلامه.

وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، ودوام مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، ومن غير رقيب ولا مزاحم، ومن غير خوف انقطاع.

إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب، فكلما ازدادت المحبة ازداد العمل، ثم ازدادت اللذة.

وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن؛ لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، لكنه يختلف قوة وضعفاً بحسب المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

وقوة الحب لله تحصل بأمرين:

أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فإن القلب مثل

ص: 2672

الإناء، إذا امتلأ بشيء لم يتسع لغيره:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222].

الثاني: معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة آلائه وإحسانه.

والمحبة ضربان:

أحدهما: محبة طبيعية، وذلك يكون من الإنسان والحيوان كحب الطعام والشراب.

الثاني: محبة اختيارية، وذلك مختص بالإنسان.

والمحبة الاختيارية ضروب كثيرة، وأفضلها حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ودينه وشرعه، والمؤمنين والمتحابين في الله.

والعبودية معقودة بالمحبة، بحيث متى انحلت المحبة لله انحلت العبودية.

والمرء مع من أحب، وإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص والمتابعة للمصطفى صلى الله عليه وسلم، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.

ولا يزال سعي المحب صاعداً إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10].

والأسباب الجالبة للمحبة:

قراءة القرآن بالتدبر .. التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض .. دوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب والعمل .. إيثار محاب الله على محاب العبد .. مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته وأفعاله، فمن عرف الله أحبه لا محالة .. مشاهدة بر الله وإحسانه، ونعمه الباطنة والظاهرة، فكل ذلك داع إلى محبته .. انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى .. الخلوة بالله وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه وذكره، وتعظيمه وحمده واستغفاره .. مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطيب ثمرات كلامهم .. ومباعدة كل سبب يحول بين القلب

ص: 2673

وبين الله عز وجل.

وعلامة صحة محبة الله:

الذل للمؤمنين .. الشدة على الكافرين .. الجهاد في سبيل الله .. عدم الخوف إلا من الله.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54].

والناس قبيل واحد تجمعهم الإنسانية، وهم إما أن يكونوا فضلاء أو نقصاء.

فالفضلاء تجب محبتهم لموضع فضلهم وحسن تقواهم، والنقصاء تجب رحمتهم لأجل نقصهم، فينبغي لمحب الكمال أن يكون رحيماً لجميع الناس، متحنناً عليهم، رؤوفاً لهم، متودداً إليهم، خاصة الملك والراعي، فإن الملك لا يكون ملكاً ما لم يكن محباً لرعيته رؤوفاً بهم؛ لأنه بمنزلة رب الدار.

والمحبة والعدل من أسباب نظام الناس، ولو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة؛ لأستغنوا بها عن العدل، فالعدل خليفة المحبة، يستعمل حيث لا توجد المحبة، ولهذا عظَّم الله المنة بإيقاع المحبة بين المسلمين كما قال سبحانه:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [الأنفال: 62،63].

ومحبة العبد لله يدعيها كل أحد، لكن ينبغي ألا يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخداع النفس مهما ادعت محبة الله، ما لم يمتحنها بعلامات تدل عليها.

فالمحبة شجرة طيبة في القلب، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح، وتدل تلك الآثار عليها كدلالة الدخان على النار، ودلالة النور على الشمس.

ص: 2674

ومن علامات محبة العبد لله:

حب لقاء الله، فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه.

وأن يكون العبد مؤثراً ما يحبه الله على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه، فلا يزال مواظباً على طاعة الله، ومتقرباً إليه بالنوافل، وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه:

وأن يكون مولعاً بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره.

فعلامة حب الله حب ذكره وحب كلامه، وحب رسله، وحب كل ما ينسب إليه، وكل ما يحبه.

ومنها أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى، وتلاوة كتابه، والمواظبة على التهجد.

ومنها ألا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل، ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته.

ومنها أن يتلذذ بطاعة الله تعالى ويتنعم بها، ولا يستثقلها؛ بل يفرح بها.

ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله، رحيماً بهم، شديداً على جميع أعداء الله، وعلى كل من يفارق شيئاً مما يكرهه الله كما وصف الله ورسوله والمؤمنين بقوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].

ومنها أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم.

والمحبة نوعان:

محبة نافعة .. ومحبة ضارة.

فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع:

محبة الله .. ومحبة في الله .. ومحبة ما يعين على طاعة الله، واجتناب معصيته.

والمحبة الضارة ثلاثة أنواع:

المحبة مع الله .. ومحبة ما يبغضه الله .. ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله

ص: 2675

أو تنقصها.

فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق:

فمحبة الله تعالى أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.

والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها، ولا عيب على الإنسان في محبة زوجته وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه حب الله ورسوله.

فكل محبة زاحمت حب الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة.

وإن أعانت على محبة الله ورسوله وطاعته، وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة كالطعام الطيب، والشراب الحلو البارد، والحلواء والعسل، ونحو ذلك، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.

فإن نوى الإنسان به القوة على أمر الله تعالى، والاستعانة به على طاعته، كان ذلك قربة إلى الله.

وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب، ولم يعاقب.

فالمحبة النافعة: هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم.

والمحبة الضارة: هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والعذاب.

وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته، ونهاية مطلبه هو الله وحده.

والحركة الطبيعية سببها ما في المتحرك من الميل، والطلب لكماله وانتهائه، كحركة النار للعلو، وحركة النبات للنمو.

والحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة والمحبة التي تحرك المريد إلى فعل ما يفعله.

فالمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يكمل بحصوله له:

ص: 2676

فتحرك محب الرحمن .. ومحب القرآن .. ومحب العلم والإيمان .. وهي نفسها التي تحرك محب الأوثان .. ومحب الصلبان .. ومحب النسوان والمردان .. ومحب المتاع والأثمان .. ومحب الأوطان .. ومحب الإخوان.

فالمحبة تثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء، فيتحرك عند ذكر محبوبه دون غيره.

والنفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب أحسن منه، ولا تتحمل مكروهاً إلا لتحصيل محبوب، أو للتخلص من مكروه أشد منه، فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه، ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار من وقوعه فيما يكرهه ويخشاه.

وخاصية العقل التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين.

فأصل كل حركة في العالم من الحب والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات في العالم، كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف.

وقلوب البشر مفطورة على حب إلهها وفاطرها، وتأليهه وعبادته وطاعته، وصرف هذا التأله والمحبة والطاعة إلى غير الله تغيير للفطرة وكلما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها، وردها إلى حالتها التي خلقت عليها:

فمن استجاب لهم وآمن بما جاءوا به رجع إلى أصل الفطرة.

ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها.

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].

فنفس خلق الله لا تبديل له، فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة، كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع، لا تبديل لنفس هذا الخلق، ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى

ص: 2677

الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟». ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} متفق عليه (1).

وخلو القلب مما خُلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، والوقوف مع أمره ونهيه، وما يحبه وما يسخطه، هذا أكبر خطر عليه، فإن ذلك يسبب له الشقاء في الدنيا والآخرة.

وإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان، وذوق طعمه، أغناه ذلك عن محبة الأنداد، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه.

والحب في الله من كمال الإيمان .. والحب مع الله هو عين الشرك.

والدين كله يدور على أربع قواعد:

حب وبغض .. وفعل وترك.

فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان، وما نقص من إضافة هذه الأربعة إلى الله نقص من إيمانه بحسبه.

أما الحب مع الله فنوعان:

أحدهما: ما يقدح في أصل التوحيد وهو شرك، كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165].

وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذه المحبة محض الشرك الذي لا يغفره الله.

الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1359)، واللفظ له، ومسلم برقم (2658).

ص: 2678

المسومة، والأنعام والحرث، وهذه ثلاثة أنواع، ولها ثلاثة أحكام:

فإن أحبها توصلاً إلى طاعة الله، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها.

وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله.

وإن كانت هي المقصودة، وقدمها على ما يحب الله، كان ظالماً لنفسه، متبعاً لهواه، فهذه تقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا تخرج من الإسلام.

والمحبة إذا كانت صادقة أوجبت للمحب تعظيماً لمحبوبه يمنعه من الانقياد إلى غيره، فالتعظيم إذا كان مجرداً عن الحب لم يمنع انقياد القلب إلى غير المعظم، وكذلك إذا كان الحب خالياً من التعظيم لم يمنع المحب أن ينقاد إلى غير محبوبه.

فإذا اقترن الحب بالتعظيم، وامتلأ القلب بهما، امتنع انقياده إلى غير المحبوب.

والمحبة نوعان:

أحدهما: محبة خاصة، وهي المحبة المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، وهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلاً، ولا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب بها غير الله كان شركاً لا يغفره الله.

والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها.

فهو أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله، وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها، فهي روح الإيمان، وساق شجرة الإسلام، وروح الإيمان والأعمال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاد إليها، ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك فيها مع الله غيره.

ص: 2679

ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم الله لها.

والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها.

الثاني: محبة مشتركة، وهي ثلاثة أنواع:

أحدهما: محبة طبيعية مشتركة كمحبة الجائع للطعام، ومحبة الظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه المحبة لا تستلزم التعظيم.

الثاني: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم.

الثالث: محبة أنس وإلف، وهذه محبة المشتركين في صناعة أو علم أو تجارة أو سفر، بعضهم بعضاً، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً.

فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله سبحانه.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان يحب نساءه، وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها، وكان يحب أصحابه رضي الله عنهم، وأحبهم إليه الصديق رضي الله عنه.

وإذا استقرت محبة الله في القلب، استدعت من المحب إيثار محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها وصدقها.

فإن آثر غير المحبوب عليه لم يكن محباً له، وإنما هو محب لحظه ممن يحبه.

والمحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله .. وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته .. وأن الذي يوجب هذه المحبة فناء العبد عن إرادته لمراد محبوبه .. فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه .. لا على مراده هو من محبوبه.

وحب الله ورسوله يكون بالإيمان بالله، وإحياء سنة رسول الله في شعب الحياة كلها في العبادات والمعاملات، وفي المعاشرات والأخلاق.

ص: 2680

فهذا الذي يحب الله ورسوله بقلبه، وتظهر آثار هذه المحبة على بدنه وجوارحه، وصدق اعتقاده وقوله بفعله.

أما من يقول بلسانه أنا أحب الله ورسوله وهو يأكل الحرام، ويلبس لباس الكفار، ويتشبه باليهود والنصارى في لباسه وأكله، ومعاملاته ومعاشراته، فإنما يوبخ نفسه، ويشهد الله وخلقه على سوء فعله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31].

ص: 2681