المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب العاشرفقه النبوة والرسالة

- ‌1 - فقه الاصطفاء والاختيار

- ‌2 - فقه النبوة والرسالة

- ‌3 - حكمة تعدد بعث الرسل

- ‌4 - حكمة موت الرسل

- ‌5 - فقه الدعوة إلى الله

- ‌6 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌7 - فقه النصيحة

- ‌8 - فقه الهداية

- ‌9 - فقه الابتلاء

- ‌10 - فقه الشورى

- ‌11 - فقه الإنفاق في سبيل الله

- ‌12 - فقه الهجرة والنصرة

- ‌13 - فقه الجهاد في سبيل الله

- ‌14 - فقه النصر

- ‌15 - فقه الخلافة

- ‌الباب الحادي عشرفقه الأخلاق

- ‌1 - فقه الخُلق

- ‌2 - درجات الأخلاق

- ‌3 - تغيير الأخلاق

- ‌4 - فقه حسن الخلق

- ‌5 - فقه الأدب

- ‌6 - فقه مكارم الأخلاق

- ‌7 - فقه المروءة

- ‌8 - فقه الإيثار

- ‌9 - فقه الحكمة

- ‌10 - فقه العزة

- ‌11 - فقه المحبة

- ‌12 - فقه الرحمة

- ‌الباب الثاني عشرفقه الشريعة

- ‌1 - فقه الحق والباطل

- ‌2 - فقه العدل والظلم

- ‌3 - فقه الأمر والنهي

- ‌4 - فقه النفع والضر

- ‌5 - فقه الحلال والحرام

- ‌6 - فقه السنن والبدع

- ‌7 - فقه العبادات

- ‌1 - فقه الصلاة

- ‌2 - فقه الزكاة

- ‌3 - فقه الصيام

- ‌4 - فقه الحج

- ‌8 - فقه الذكر والدعاء

- ‌9 - فقه المعاملات

- ‌10 - فقه الحسنات والسيئات

الفصل: ‌4 - فقه النفع والضر

‌4 - فقه النفع والضر

قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188].

وقال الله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71].

كل ما سوى الله عز وجل مملوك لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن الله، فالأمر كله لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

وهو سبحانه الذي يقلب الليل والنهار، ويقلب القلوب والأبصار، المتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

وذلك كله يقتضي تعظيمه ومحبته سبحانه، وعبادته وطاعته؛ لإحسانه إلى عباده، وإسباغ نعمه عليهم.

وكتاب الله عز وجل مملوء من ذكر حاجة العبيد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا.

فعلى العبد التوكل على ربه وحده، والشكر له ومحبته على إحسانه، وفي تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة على عبودية الله وتفريغ قلبه له.

والله سبحانه غني حميد، كريم رحيم، فهو المحسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه سبحانه، ولا يدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً.

ص: 2745

فالله تبارك وتعالى كامل الذات والأسماء والصفات، محسن لذاته، رحيم لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته، كما أنه غني لذاته، قادر لذاته، حي لذاته.

فإحسانه وجوده، وبره ورحمته من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك، كما أن قدرته وغناه، وعلمه وحلمه من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك.

وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لمصالحهم:

فإنهم إذا أحبوا أحداً طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله أو شجاعته أو رياسته أو كرمه.

وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة فهم يطلبون العوض، إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وأجراء المستأجر، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم.

فكل واحد من الخلق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل، فإن دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه.

وأما الرب سبحانه فهو يريدك لك ولمنفعتك، لا لينتفع بك، فهي منفعة محضة لك لا ضرر فيها:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].

فليتدبر العاقل ذلك حق التدبر، فملاحظته تمنعه أن يرجو المخلوق، أو يطلب منه منفعة له، فإنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأول، بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك، لا نفعك بنفسه.

وتأمل ذلك وتدبره فيه منفعة عظيمة وراحة، ويأس من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم، وفتحاً لباب عبودية الله وحده.

لكن لا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، وعدم احتمال أذاهم، بل أحسن إليهم لا لرجائهم، فكما لا تخافهم لا ترجوهم.

فأغلب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن

ص: 2746

صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك.

فما أشد ضلال من تعلق بالخلق من دون الله، حيث أعرض عن عبادة الغني المغني، الذي يملك النفع والضر، وأقبل على عبادة مخلوق مثله ليس بيده من الأمر شيء:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} [الحج: 12].

وماذا بيد المخلوق؟ .. وماذا يملك المخلوق؟ .. وهو فقير محتاج لا يملك إلا ما أعطاه الله إياه، فهو قاسم لا معطي، وضره أقرب من نفعه، فهل هناك أجهل وأضل ممن تعلق بمخلوق مثله، أو دونه، أو أكبر منه، وخافه ورجاه؟ وهل يليق بالمخلوق أن:

{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} [الحج: 13].

إن السعيد الرابح من أرضى الله بسخط الناس، ولم يرضهم بسخط الله، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه، وأحيا حب الله وخوفه ورجاءه فيه:{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: 105، 106].

فالخلق كلهم لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة البتة، ولا يجلب لك منفعة البتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره، فهو سبحانه الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ

ص: 2747

عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (1).

فالمنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده، فإن المرء إذا كان غير عالم بمصلحته، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فغيره أولى ألا يكون عالماً بمصلحته، ولا قادراً عليها، ولا مريداً لها.

والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا ليتكثر بك، ولا يتعزز بك.

وهو سبحانه يحب الجود والبذل، والعطاء والإحسان، أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته.

فإذا حبس الله عنك فضله ونعمته فلأمرين لا ثالث لهما:

أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، فإن الله قضى أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، ولا يزيد ويدوم بغير شكره، ولا منعت نعمة بغير معصيته.

وكذلك إذا أنعم الله عليك بنعمة ثم سلبها منك، فإنه لم يسلبها لبخل منه، ولا استئثار بها عليك، وإنما العبد هو المتسبب في سلبها عنه:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال: 53].

فما أعجب حال الإنسان؟.

يشكو المحسن البريء عن الشكاية، ويتهم أقداره ويلومها، والإنسان هو الذي ضيع وفرط، وقصر وعصى، وجهل وأساء، ثم قعد يعاتب ويحاسب القدر بلسان الحال أو المقال.

وهذه حال أكثر الخلق، فإن الفطرة إذا فسدت، وأطفأ الهوى نور العلم والإيمان حل الظلام، فضل المرء عمن أصل بلائه ومصيبته فيه، وأقبل يشكو الذي كل

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669).

وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).

ص: 2748

إحسان دقيق أو جليل وصل إليه منه، فإذا شكوته فإنما تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.

وإذا عرف العبد ذلك، وعرف سبب بلائه ومصيبته، استحى من نفسه إن لم يستح من الله أن يشكو أحداً من خلقه، أو يرى مصيبته وآفته من غيره كما قال سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].

وجميع المخلوقات كبيرها وصغيرها كالعرش والكرسي، والسموات والأرض، والطعام والشراب، والنملة والذرة، والهباءة والخردلة وغيرها.

كل هذه المخلوقات لإظهار ذاتها محتاجة إلى أمر الله في وجودها .. ومحتاجة لأمر الله في بقائها .. فكذلك لإظهار صفاتها من النفع والضر محتاجة إلى أمر الله.

فهي كالأواني الفارغة إن جاءها أمر الله بالنفع نفعت، وإن جاءها أمر الله بالضر ضرت بإذن الله، وكالعبيد ينتظرون أوامر سيدهم ليقوموا بالخدمة.

فجميع المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي إنما تعمل وتتحرك بأوامر الله الكونية، وأوامره الشرعية، فالخلق خلقه، والأمر أمره وحده لا شريك له:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

وجميع الأنبياء والرسل استعملوا الأشياء باليقين على الله عز وجل، وعلى أوامره، لا على ذات الأشياء كما قال هود صلى الله عليه وسلم:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].

فالأمر كله بيد الله، وليس بأيدي الرسل وللأنبياء ولا لغيرهم من المخلوقات شيء من الأمر والنفع والضر، فكل مخلوق، وكل رسول، وكل عبد، فقير مدبر لا يأتيه خير إلا من الله، ولا يدفع عنه الشر إلا الله، ولا يحصل على شيء من العلم إلا ما علمه الله، ولا يأخذ شيئاً من الرزق إلا ما رزقه الله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا

ص: 2749

مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188].

فيا جهالة من يقصد نبياً أو ولياً ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه الله عنه، ولا يعلم الغيب، ولا يعلم إلا ما علمه الله.

وإنما ينفع الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة وعمل بذلك، فقد أنذر صلى الله عليه وسلم بالعقوبات الدينية والدنيوية والأخروية، وبين الأعمال المفضية إلى ذلك وحذر منها، وبشر بالثواب العاجل والآجل، وبين الأعمال الموصلة إليه، ورغب فيها.

فهذا نفعه صلى الله عليه وسلم الذي نفع به البشرية، والذي فاق به نفع الآباء والأمهات، والأخلاء والإخوان، بما حث العباد على كل خير، وبما حذرهم من كل شر، وبينه لهم غاية البيان:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

والله تبارك وتعالى هو الواحد لا شريك له في ذاته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته بيده الملك وهو على كل شيء قدير.

الخلق والأمر بيده وحده .. والعطاء والمنع بيده وحده .. والنفع والضر بيده وحده .. والشفاء والمرض بيده وحده.

وكتابه القرآن فيه الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، ولكن ما كل أحد يوفق للاستشفاء به.

وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان ويقين، لم يقاومه الداء أبداً.

وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟.

فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وبيان سببه، وكيفية الحمية منه كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا

ص: 2750

هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82].

فالقرآن شفاء لجميع المؤمنين، وإنما ينتفع به من آمن به وتلقاه بالقبول، واعتقد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أسقامها، بل لا يزيد الكفار والمنافقين إلا رجساً إلى رجسهم ومرضاً إلى مرضهم.

فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، وإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله.

فالقرآن شفاء لجميع الخلق لكن المؤمنين انتفعوا به، والكفار أعرضوا عنه فزادت أسقامهم:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57].

وإذا علمنا هذا فعلينا التوجه إلى الهادي الكافي الشافي الرازق في جميع حوائجنا، وتقديم الشكوى فقط للغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، وقد تكفل سبحانه بإجابة الداعين، وإعطاء السائلين، والمغفرة للمستغفرين.

قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (1).

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).

ص: 2751