الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - فقه الحق والباطل
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33].
وقال الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81].
وقال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].
العلم نوعان:
العلم بالله .. والعلم بدينه.
فأما العلم بالله فهو العلم بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وأما العلم بدينه فمرتبتان:
الأولى: العلم بدينه الأمري الشرعي، المتضمن أمره ونهيه، وما أحله وما حرمه، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
الثانية: العلم بدينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، ويدخل فيه العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والحق: هو الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهو يتضمن: معرفة الحق، وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته، والانقياد له، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد أعدائه، وما سواه فهو صراط أهل الباطل، أهل الغضب والضلال، كما قال سبحانه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6،7].
فالطرق ثلاثة:
الأول: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهي طريق من عرف الحق وعمل به.
الثاني: طريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف الحق وعانده كاليهود.
الثالث: طريق أهل الضلال، وهي طريق من عرف الحق وضل عنه.
وسنة الله عز وجل سير الحق تدريجياً شيئاً فشيئاً، يظهر ويرتفع مستواه كالنبات ينمو شيئاً فشيئاً.
فلا نستعجل ظهوره، بل نصبر ونستمر حتى ينتشر الحق ويرتفع مستواه بما يشاء، كما أيد الأنبياء والرسل، وأظهر دينهم، وخذل أعداءهم.
وإذا اشتدت الأمور والأحوال نثبت على الحق، ولا نخالف الأوامر ولا نغير الترتيب، فالله يسمع ويرى ويعلم ما يفعله أهل الحق، وما يفعله أهل الباطل.
فأبو بكر رضي الله عنه لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب، لم يغير شيئاً أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنفذ جيش أسامة مع شدة الأحوال، وبعث الجيوش لحرب المرتدين مع شدة الأحوال، فكان نصر الله، وعاد الناس إلى الدين.
والنصر والتأييد يأتي تدريجياً، وأحياناً يتأخر لحكمة حتى يقول الناس متى نصر الله؟.
فلا نيأس ولا نمل، بل نستمر وندعو الله وننتظر الفرج، فتلك سنة الله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214].
فلا بدَّ مع الدعوة والعمل من الدعاء.
ولكن الأمة لما تركت الجهد والعمل لم تجد لذة الدعاء والمناجاة، وجاء الشك في الدعاء، وهذا مرض كبير، وإذا قمنا بجهد الدعوة فالله عز وجل يعطينا قوة الدعاء، ولذة المناجاة.
وقد عرض الله عز وجل الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخلق، فإن قام بها أثابه الله، وإن فرط فيها عاقبه الله.
فكل إنسان متحمل أمانة نفسه بأن يحملها على طاعة الله، واجتناب معصيته،
ومتحمل أمانة أهله، ومتحمل أمانة الأمة بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد انقسم الناس في تحمل الأمانة إلى ثلاثة أصناف:
الأول: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً وباطناً، وهم المؤمنون والمؤمنات، وهم درجات.
الثاني: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً، وضيعوها باطناً، وهم المنافقون والمنافقات.
الثالث: الذين فرطوا في الأمانة، فلم يتحملوها لا ظاهراً ولا باطناً، وهم المشركون والمشركات.
فهؤلاء والمنافقون والمنافقات ضيعوا الأمانة؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا به.
وقد وعد الله الصنف الأول الذين تحملوا الأمانة بالتوبة والمغفرة، وتوعد الصنفين بعدهم، الذين ضيعوا الأمانة بالعذاب الأليم فقال سبحانه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} [الأحزاب: 72،73].
ومن رحمة الله بالخلق وعنايته بهم أن بعث إليهم الرسل تبين الحق وتميزه من الباطل، بحيث يصير مشهوداً للقلب كشهود العين للمرئيات، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، والتي لا يعذب أحداً ولا يضله إلا بعد وصوله إليها كما قال سبحانه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [التوبة: 115].
فهذا الإضلال عقوبة من الله لهم حين بين لهم الحق فلم يقبلوه، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله أحداً قط إلا بعد هذا البيان، كما قال سبحانه:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5].
وهذا البيان نوعان:
بيان بالآيات المسموعة المتلوة .. وبيان بالآيات المشهودة المرئية.
وكلاهما أدلة على توحيد الله، وصدق ما أخبرت به رسله عنه.
وهذا البيان الذي بعث الله به رسله، وجعله إليهم وإلى العلماء من بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} [إبراهيم: 4].
فالرسل تبين الحق .. والله يضل من يشاء .. ويهدي من يشاء.
والكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب.
والسماع له ثلاث مراتب:
فسماع لفظه حظ الأذن .. وسماع حقيقة معناه حظ القلب .. وسماع القبول والإجابة حظ العقل.
فالكفار يسمعون الألفاظ التي هي حظ الأذن فقط كما قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 16،17].
فهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه.
وسماع الحق لفظه ومعناه وقبوله خاص بمن أراد الله هدايته كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17،18].
وسنة الله التي لا تتبدل أن الحق إذا جاء زهق الباطل، فالباطل لا يمكن أن يثبت للحق كما قال سبحانه:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81].
وإن ظهور الباطل وبقاءه منتفشاً فترة من الزمن .. ليس معناه أن الله تاركه .. أو أنه من القوة بحيث لا يغلب .. أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً.
وإن ذهاب الحق مبتلى .. وبقاءه ضعيف الحول والقوة فترة من الزمن .. ليس معناه أن الله جافيه أو ناسيه .. أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه.
كلا .. إنما هي حكمة وتدبير من الحكيم الخبير هنا وهناك.
يملي سبحانه للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران: 178].
فالله عز وجل يملي للظالم حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102].
ويبتلي سبحانه الحق؛ ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74].
والإيمان والكفر .. والهدى والضلال .. لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق .. فالحق برهان ذاته .. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله، ويخضع له، ويؤثره، ولكن المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق من الهوى والشهوات، والشبهات، وحب الدنيا، والعادات ونحو ذلك.
وقد ركب الله سبحانه في كل إنسان نفسين:
نفساً أمارة .. ونفساً مطمئنة.
وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على الأخرى، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى.
فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله .. وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله.
والملك مع هذه عن يمنة القلب، والشيطان مع تلك يسرة القلب.
فالباطل كله مع الشيطان والأمارة .. والحق كله مع الملك والمطمئنة، والحروب مستمرة دول وسجال، والنصر مع الصبر.
والباطل ضد الحق، فكل ما سوى الحق باطل.
وللباطل صور وألوان وشعب:
فمنها باطل الكبر، فالكبر عادة يحول دون قبول الحق، وأخطر ما يواجه الداعي إلى الله من صنوف الناس المتكبرون، فهم شر من يدعي إلى الحق فيأباه.
ودعوتهم ومعالجة كبريائهم تكون بالقول اللين، ومن ذلك دعوة موسى لفرعون، ودعوة نوح لقومه، ودعوة شعيب لقومه.
ومنها باطل التقليد، تقليد الأبناء للآباء، والخلف للسلف فيما يعتقدون ويعملون، فهذا التقليد من أكبر الحوائل التي تقف دون قبول المقلدين للحق ومعرفته، بل كثيراً ما يدفع المقلد إلى مناهضة الحق وأهله.
فالتقليد من أخطر ما يواجه الداعي إلى الحق.
وعلاج هذا الداء:
هو الدليل المنطقي .. والحجة الشرعية .. والبرهان العقلي، كما فعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه وقومه، حتى كسر أغلال التقليد، وحطم أصنامه، ورفع راية التوحيد.
ومنها باطل الحسد، فالحسد من الصوارف عن الحق، وهو أخطر من الكبر والتقليد؛ لأن الحاسد يحمله الحسد على الكيد للداعي والمكر به.
وقد حسد اليهود النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أولاد إسماعيل، وناصبوه العداوة، وحاولوا قتله، وسموه وسحروه، وحاربوه وألَّبوا عليه القبائل، كما قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109].
وظل الرسول واقفاً في وجوههم يدعوهم إلى الحق ويرغبهم فيه، وصبر على كيدهم ومكرهم حتى حكم الله بينه وبينهم، ونصره الله عليهم.
وعلاج هذا الداء يكون بعرض الدعوة بصدق وصراحة وشجاعة، وما هم بضاريه شيئاً إلا بإذن الله.
ومنها أهل المنافع والمصالح، وهم شخص أو أشخاص ينتفعون بوضعٍ ما من الأوضاع الفاسدة، فيعز عليهم تغيير ذلك الوضع كبائع صور، أو تاجر خمر، أو سادن قبر، أو حاكم مستبد، أو شريف مستغل.
فكل واحد من هؤلاء المستفيدين لا يرضى بتغيير وضعه حفاظاً على الذي يحصل له منه من الكسب المحرم.
ودعوة هؤلاء تكون بأمرين:
أحدهما: وعدهم بالخير، وبشارتهم بحال أحسن.
الثاني: أن يقدم لهم من النفع والخير ما يعوضهم عما فاتهم.
ومن هؤلاء أحبار اليهود الذين كتموا صفات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يسلم قومهم فيفقدون رئاستهم بينهم.
وكعبد الله بن أبي سلول، طمعه في الرئاسة جعله ينافق ويكيد للإسلام.
ومن هؤلاء أهل الهوى، فاتباع الهوى أخطر ما يحول بين المرء وقبوله دعوة الحق والخير.
وعلى الداعي أن يمضي في إبلاغ دعوته، معرضاً عن أصحاب الهوى، غير ملتفت إليهم، ولا مبال بهم.
والحق حق لكل أحد، وهو يمشي بقوتين:
قوة محركة وهي الإيمان .. وقوة ضابطة وهي الاتباع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذين مدار سعادة العبد في الدنيا والآخرة.
والحق يغلب على الباطل بأربعة أشياء ذكرها الله في قصة موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون:
الأول: التضحية بالنفس، ففرعون يريد قتل موسى، وموسى ضحى بنفسه من أجل الدين فلم يبال به وبملكه.
الثاني: التضحية بالزوجة والأولاد والأموال، فذهب موسى إلى فرعون وتركهم من أجل إعلاء كلمة الله.
الثالث: أن يجعل العبد حياته لله كما قال سبحانه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه: 41].
فليس له همّ إلا الدعوة إلى الله سبحانه.
الرابع: امتثال أوامر الله فوراً، كما قال سبحانه:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} [طه: 24].
فذهب إلى فرعون مباشرة ودعاه إلى الله، فلما أبى واستكبر خذله الله بين حاشيته .. وأمام الناس يوم الزينة .. وفي البحر أمام المؤمنين غرقاً:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40].
والله تبارك وتعالى خلق مخلوقاته كلها بسبب الحق، ولأجل الحق كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} [الدخان: 38،39].
والحق هو الحكم والغايات التي لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة:
منها: أن يعرف الله بأسمائه وصفاته، وأفعاله وآياته.
ومنها: أن يُّحَب ويُعبد، ويُذكر ويُشكر، ويُطاع فلا يُعصى.
ومنها: أن يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويدبر الأمر، ويتصرف في ملكه بما يشاء.
ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته،
فيظهر أثر عدله وفضله لعباده، فيُّحمد على ذلك ويُشكر.
ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله لغيره، ولا رب سواه.
ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها جلية في مخلوقاته.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر، ويسامح ويصفح، ولا بد من لوازم ذلك عقلاً وشرعاً.
ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه، ويُمدح ويُمجَّد، ويُسبَّح ويُعظَّم، وغير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق.
وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو أكمل ما جاءت به شريعة، وأمر أن يقبل من الناس ظواهرهم، ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم.
بل تجري عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه، وتجري عليهم أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم.
فأحكام الدنيا تجري على الإسلام .. وأحكام الآخرة على الإيمان.
ولهذا قبل الله عز وجل إسلام الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين كما قال سبحانه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 14،15].
وقَبِل إسلام المنافقين ظاهراً، وأخبرهم أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئاً، وأنهم في الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].
فأحكام الرب عز وجل في الدنيا جارية على ما يظهر للعباد، ويوم القيامة يجري الحساب على ما في البواطن والقلوب.
وكل من عُرض عليه الحق فرده ولم يقبله عوقب بفساد قلبه وعقله ورأيه كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5].
ومن كفر بالحق بعد أن عمله كان سبباً لطبع الله على قلبه كما قال سبحانه: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155].
وإن الحق لا يحق والباطل لا يبطل في أي مجتمع بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل، وإن كانت الهداية تنزل على من شاء الله من عباده، ولكن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس، والباطل لا يبطل ولا يذهب من واقع الناس إلا بالتضحية وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله، وتحطيم سلطان الباطل حتى يعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74].
وإذا كان ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه .. فما علة إصرار قوم على التكذيب؟.
العلة هي: أن كلمة الله وسنته اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها، فتكون نهايته إلى الضلال مهما تكن الآيات والبينات، وعندئذ تكون كلمة الله وسنته قد حقت عليهم بعدم الإيمان كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96،97].
والإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب؛ لأنه لم يجئ عن اختيار، ولم تعد هناك فرصة لتحقيق مدلوله، كما آمن فرعون حين أدركه الغرق كما قال الله عنه:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} [يونس: 90].
لكن لو عاد المكذبون للحق عن تكذيبهم قبيل نزول العذاب كشفه الله عنهم كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98].
فأغلب القرى لم تؤمن، ولذلك نزل بها العذاب، أما قوم يونس فكان عذاب مخزٍ يتهددهم، فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف الله عنهم العذاب، وتركهم يتمتعون بالحياة إلى أجل.
ولو لم يؤمنوا لحل بهم العذاب وفقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19].
وفي هذا إيحاء للمكذبين من هذه الأمة أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة، فيتوبون إلى الله لعلهم ينجون كما نجى قوم يونس.
إن الحق شأنه كبير، وما تقف له أي قوة مهما كانت إلا ويدفعها؛ لأن الله هو الحق، وهو الذي أنزل الحق، ولكن الحق لا يتحقق في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير.
وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن.
إن للحق والإيمان والتوحيد حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها، فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية.
فأما إذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب، وظل الحق شعاراً لا ينبع من القلب، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان؛ لأنهما يملكان قوة مادية حقيقة لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان.
فإذا استقرت حقيقة الحق والإيمان في القلب أصبحتا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل، ويصول بها الطغيان.
وبهذا وقف الأنبياء لكل قوة غاشمة تواجههم في الأرض، فنصر الله أولياءه، وخذل أعداءه.
كما وقف نوح صلى الله عليه وسلم أمام الكثرة .. ووقف هود صلى الله عليه وسلم أمام أهل القوة .. ووقف صالح صلى الله عليه وسلم أمام أهل الصناعة .. ووقف إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمام عباد الأصنام .. ووقف موسى
- صلى الله عليه وسلم أمام فرعون .. ووقف أمام السحرة .. ووقف محمد صلى الله عليه وسلم أمام كفار قريش .. وأمام يهود المدينة .. وأمام قبائل العرب، فنصره الله عليهم وخذلهم.
وتحقق وعد الله لأنبيائه ورسله وأتباعهم بالنصر على أعدائهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173].
إن منطق الباطل هو الطغيان الغليظ كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يستعلي الحق بما فيه من قوة وفصاحة، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب، كما آمن السحرة الذين جاء بهم فرعون ليغلبوا موسى صلى الله عليه وسلم ومن معه، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار، فما موقف فرعون وملئه من الحق الذي جاء به موسى؟:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} [غافر: 25،26].
هكذا قال فرعون الطاغية الوثني الضال عن النبي المصطفى المؤمن الهادي، وهي الكلمة التي يقولها كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح.
إنها كلمة الباطل الطالح في وجه الحق الجميل، وكلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه أهل الإيمان والهدى، وهي تتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، في كل زمان، وفي كل مكان:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} [غافر: 26].
فما أظلم هؤلاء الطغاة؟ .. وما أجهلهم بالحق؟ .. وما أضرهم على أنفسهم وعلى من تحت أيديهم؟.
فلماذا قَتْلُ الدعاة المصلحين بغير حق؟ .. ولماذا ترويعهم ومطاردتهم؟ ..
{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} [غافر: 28].
هل الداعي إذا قال ربي الله الذي بيده كل شيء، هل هذه الكلمة البريئة تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق الروح؟.
وهل من جاء بالحق الذي يصل المخلوق بخالقه ضال مفسد يستحق القتل والطرد؟.
أليس من الإنصاف أن يترك، فإن كان هذا النبي أو الداعي كاذباً فعليه كذبه، وهو يتحمل تبعة عمله ويلقى جزاءه، وإن كان صادقاً فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال؛ لئلا يصيبهم ما يكرهون؟.
هذه رسالة الأنبياء .. رحمة الخلق .. ودعوتهم إلى الله .. وتوجيههم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ليسعدوا في الدنيا والآخرة.
ولكن هل يقبل الطغاة هذه الدعوة؟.
إن فرعون يأخذه ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة، تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه، واقتحاماً لمنزلته، ونقصاً من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان.
{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} [غافر: 29].
هذه مقالة فرعون، وهي مقالة كل طاغية يقف في وجه الحق، لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً، وأعتقده نافعاً، وإنه لهو الصواب بلا شك.
وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟.
وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟.
وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً، وإلا لم كانوا طغاة؟.
وأكثر الناس للحق كارهون؛ لأنه يسلبهم القيم الباطلة التي بها يعيشون، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون.
فكل ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حق، لا يملك من يتدبره أن يظل معرضاً عنه، ففيه من الجمال والكمال وموافقة الفطرة ما يحرك الوجدان للإيمان والطاعة والعبادة، وكل ما سواه باطل:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257].
وفيه من غذاء القلوب، ومظاهر الآلاء والنعماء، والرحمة والإحسان، وآثار القدرة والقوة، وقويم المناهج، ومحكم التشريع، ما يستجيش عناصر الفطرة ويغذيها، ويبهر العقول والأفهام.
فأين أولو العقول والتدبر؟: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)} [المؤمنون: 68،69].
لقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق كما قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)} [المؤمنون: 70].
والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى، وبالحق قامت السموات والأرض، فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة.
وبالحق الواحد يدبر الله الكون كله فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة.
ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين وتأرجحت كلها بين الغضب والرضا، والكره والحب، والرغبة والرهبة، وسائر ما يعرض من الأهواء بالانفعالات:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} [المؤمنون: 71].
ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره بأمر الله جعل الله التشريع للحياة البشرية جزءاً من الناموس الكوني تتولاه اليد التي تدبر الكون كله، والبشر جزء من هذا الكون، خاضع لناموسه الكبير.
فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، وبذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل، إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير الذي له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر في الكون كله.
والله تبارك وتعالى فطر قلوب العباد على قبول الحق والانقياد له، والطمأنينة به، والسكون إليه، ومحبته، وفطرها كذلك على بغض الباطل والكذب، والنفور عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره.
ومن تدبر القرآن أيقن أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأتقاهم، وأعلمهم.
ولهذا ندب الله عباده إلى تدبر القرآن كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].
فلو رفعت الأثقال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الهدى والإيمان، وعلمت أنه الحق، وما سواه باطل كما قال سبحانه:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6].
فالقلوب السليمة لا تطمئن إلا به، ولا تسكن إلا إليه كما قال سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
فهذه القلوب هي التي تنقاد لحكم الله، وتسلم لأمره.
وقد نفى الله الإيمان عن كل من لم ينقد لحكم الله، ولم يسلم لأمره كما قال سبحانه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
والتسليم نوعان:
تسليم لحكم الله الديني الأمري .. وتسليم لحكمه الكوني القدري.
فالأول تسليم المؤمنين العارفين، وأما التسليم للحكم الكوني فيحمد إذا لم
يؤمر العبد بمنازعته ودفعه، ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها، وأما الأحكام التي أُمر بدفعها، فلا يجوز له التسليم إليها، بل العبودية مدافعتها بأحكام أُخًر أحب إلى الله منها كما يدفع قَدَر الجوع بالأكل، وقَدَر المرض بالدواء.
والقلوب عند ورود الحق عليها لها أربعة أحوال:
قلب يفتتن به كفراً وجحوداً .. وقلب يزداد به إيماناً وتصديقاً .. وقلب يتيقنه فتقوم عليه به الحجة .. وقلب يوجب له حيرة وعمى فلا يدري ما يراد به كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)} [المدثر: 31].
وهذه الأمة أولى الأمم باتباع الحق، ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها، وذكر كما قال سبحانه:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10].
وما كان لها لولاه من ذكر في العالمين، وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام وصعد بها إلى القمة الساحقة.
وقد ظل ذكرها ومجدها وعزها يدوي في آذان القرون حينما كانت مستمسكة به، إيمان وأمان، وعدل وإحسان، ورحمة وشفقة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، فوا أسفاه وقد تضاءل ذكرها الآن عندما تخلت عنه في كثير من ديار الإسلام، فأصبحت تؤمر ولا تأمر، وتنصت ولا تتكلم، وترقد في آخر مواطن الذل والهوان، فما لها لا تعود إلى ربها، وقد ملكها الله الدين الذي تصل به إلى مدارج العز والعلا:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} [المؤمنون: 71].
ومنهج البحث عن الحق سهل، ومعرفة الافتراء من الصدق لازم: {قُلْ إِنَّمَا
أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46].
إنها دعوة إلى القيام لله بعيداً عن الهوى، بعيداً عن المصلحة، معتمداً على مراقبة الله وتقواه، متجرداً من الرواسب والمؤثرات.
القيام لله وحده مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي، بعيداً عن انفعالات العامة، فيأخذ الحجة والدليل من صاحبه في هدوء، وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق، ثم التفكر فيمن يحمل الحق؟ .. وما الحق الذي يحمل؟ .. ومن أين جاء به؟.
ثم التفكر ثانياً فيمن جاء بهذا الحق؟ .. ما مصلحته؟ .. وما بواعثه؟ .. وماذا يعود عليه منه؟.
إنه لا يريد عوضاً من أحد، بل يرجو ثوابه ممن كلفه، ولا يتطلع أبداً إلى أجر من أحد:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)} [سبأ: 47].
ثم التفكر ثالثاً في هذا الحق، فهو الحق الذي يقذف به الله، فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟.
لا أحد، فالطريق أمامه مكشوف:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)} [سبأ: 48].
ورابعاً: إذا جاء الحق بقوته فقد انتهى أمر الباطل، وما عادت له حياة:{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} [سبأ: 49].
وإنه لكذلك، فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح، ولم يعد للباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم.
ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق، إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق، غلبة الناس لا غلبة المبادئ، وهذه موقوتة ثم تزول.
وأخيراً: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 50].
وقد وعد الله عباده أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء، حتى يتبين لهم أنه الحق، هذا الدين، وهذا الكتاب، وهذا المنهج.
ولقد صدقهم الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق وفي الأنفس، ووَعْد الله ما يزال قائماً كما قال سبحانه:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53].
وإنها لرحمة من الله، فكلما ابتعد الناس عن زمن النبوة، وعن منهج النبوة، فتح الله لهم من أبواب العلم ما يردهم إلى الله، ويذكرهم به، ويسهل عليهم أمور معاشهم.
فالبشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم أخذت عن طريق العلم تثوب إلى الدين، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق.
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون، فقد أطلع الله البشر على أسرار وخصائص في الجسم البشري، وعرفوا تركيبه وتكوينه ووظائفه وغذاءه، وأمراضه وعلاجه، وعرفوا من أسرار حركته ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله الباري.
إن الله وحده الذي خلق هذا الكون، له الحق وحده أن يشرع لعباده ما يشاء، وليس لأحد من خلق الله أن يعتدي على خلقه، فيشرع لهم غير ما شرعه الله وأذن به كائناً من كان.
فالله مبدع هذا الكون، ومدبره بالأوامر الكلية التي اختارها له، والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع أوامر الكون الأخرى، ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها محيط بالكون وما يجري فيه.
وكل ما سوى الله قاصر وعاجز عن تلك الإحاطة بلا جدال، فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور، وكيف يرضى الناس بمخلوق مثلهم أن يشرع لهم:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21].
لقد شرع الله عز وجل للبشرية من الدين ما يوافق طبيعتها وفطرتها، ووضع الأصول لذلك، وترك للبشر استنباط التشريعات الجزئية التي تتجدد مع تجدد الحياة في حدود المنهج الكلي للدين، فإذا اختلفوا في شيء، رجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها الله للناس، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي، وكل تطبيق حادث على مدار الزمن.
وبذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده وهو خير الحاكمين.
وما عدا هذا المنهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى الله به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام.
ومع وضوح هذا إلا أن بعض الناس يجادلون في هذا، ويجرأون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون لشعوبهم ما يسعدهم، كأنما هم أعلم من الله، وأحكم من الله، ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم.
لقد قضى الله عز وجل بإمهالهم إلى يوم الفصل، ولولا ذلك لقضى الله بينهم، فأخذ المخالفين لما شرعه الله، المتبعين لشرع من عداه بالجزاء العاجل، ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء، وهناك ينتظرهم جزاء الظلم، وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟.
إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، وكل ما في السموات والأرض متوجه إلى ربه، مسبح بحمده، ذاكر له، مطيع له، وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة، والله محمود بذاته، ممجد في مخلوقاته:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [التغابن: 1].
فإذا وقف الإنسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب، جامد
الروح، متمرداً عاصياً، لا يسبح الله، ولا يمجد خالقه، ولا يتجه إلى مولاه، فإنه يكون شاذاً بارز الشذوذ، كما يكون في موقف المنبوذ من كل ما في الوجود.
والإنسان وحده هو الذي يقف في خضم الوجود المؤمن المسبح بحمد ربه مؤمناً تارة .. وكافراً تارة، كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)}
…
[التغابن: 2].
فإيمان العباد وكفرهم كله بقضاء الله وقدره، وهو سبحانه الذي جعل لهم القدرة والإرادة على اختيار ما يريدون.
فعن إرادة الله ومشيئته صدر هذا الإنسان، وأودع إمكان الاتجاه على الكفر، وإمكان الاتجاه إلى الإيمان، وتميز بهذا الاستعداد المزدوج من بين خلق الله، وأنيطت به أمانة الإيمان بحكم هذا الاستعداد.
وهي أمانة ضخمة، وتبعة هائلة.
ولكن الله كرم هذا المخلوق فأودعه القدرة على التمييز، والقدرة على الاختيار، وأمده بعد ذلك بالميزان الذي يزن به عمله، ويقيس به اتجاهه، وهو الدين الذي نزله على رسله، فأعانه بهذا كله على حمل هذه الأمانة، ولم يظلمه شيئاً، والله رقيب على هذا الإنسان فيما يعمل، بصير بحقيقة نيته واتجاهه، فيجازيه بما عمل من خير أو شر.
فسبحان الذي لا يخرج مخلوق عن ملكه .. وله الحمد كله .. حمد على ماله من صفات الكمال .. وحمد على ما خلقه من الأشياء .. وحمد على ما شرعه من الأحكام .. وحمد على ما أسداه من النعم، وحمد على ما صرفه من النقم.
والله تبارك وتعالى هو الحق الذي يحب الحق ويدعو إليه، ويكره الباطل ويحذر منه، وما ترك أحد الحق إلا جرته الشياطين إلى الباطل.
فاليهود لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم جرتهم الشياطين إلى الكفر والكذب كما قال سبحانه عنهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 101،102].
والحق: هو ما أوصاه الله إلى رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، المتضمن للعلم النافع، والعمل الصالح، والخلق الفاضل، فإذا جاء هذا الحق زهق الباطل كما قال سبحانه:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81].
فكما لا يجتمع النور مع الظلام، ولا الليل مع النهار، ولا الحر مع البرد، كذلك لا يجتمع الحق مع الباطل؛ لأن كل واحد منهما يطرد الآخر.
والباطل زهوق، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك.
ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمنة والأمكنة الخالية من العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بآياته وبيناته، والعلم بدينه وشرعه.
ودين الله هو الحكم بما أنزل الله في كل حالة دون سواه، وليس معنى دين الله أن ما أنزل الله من خير ودين هو خير مما يختاره البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع فحسب، فهذا سبب، ولكن السبب الأصل أن الحكم بما أنزل الله والدينونة له إقرار بربوبية الله وألوهيته، ونفي لذلك عما سواه.
وقد أكمل الله الدين وحفظه، فهو دين البشرية إلى يوم القيامة، ومن رحمة الله أنه أنزله وتكفل بحفظه كما قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
وقد يغلب الكفار على المسلمين في موقعة أو في فترة، ولكنهم لا يتغلبون على هذا الدين ولا على كتابه، فلن يبطلوه أو ينقصوه، أو يحرفوه:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
لكن الله جل جلاله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة تحفظ الدين، وتقوم به ويبقى فيها كاملاً محفوظاً حتى تسلمه إلى من يليها من أهل العلم والإيمان والتقوى وصدق الله وعده، فما كان للكفار أن ينالوا من ذات الدين أبداً، وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه.
والناس صنفان:
عالم .. وأعمى.
فما ثم إلا عالم أو أعمى، فأهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون، وأهل الجهل صم بكم عمي، وكما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي العالم والجاهل كما قال سبحانه:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد: 19].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
والله عز وجل خلق نورين في هذا العالم للتمييز بين الأشياء كالسماء والأرض وأشكال النبات والحيوان.
وخلق هذين النورين لاستفادتنا، النور الخارجي كنور الشمس والقمر، والنور الداخلي وهو نور العين.
ولكن بهذين النورين لا نستطيع أن نميز بين الكفر والإيمان، وبين الحق والباطل، فالإيمان والأعمال والصفات لا تظهر بهذين النورين.
فجعل الله لمعرفة ذلك نورين آخرين وهما:
نور أنزله الله من السماء، وهو القرآن هدى ونور، والنور الآخر أمرنا الله أن نجتهد حتى يأتي في قلوبنا وهو نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب من يعلم
أنه يزكو عليه، فمن ليس عنده نور الإيمان لا يستفيد من نور القرآن.
ولمعرفة الحق، والاستفادة منه، والعمل به، وقبوله، لا بدَّ من النور الخارجي وهو القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، والنور الداخلي وهو الإيمان ومحله القلب، وإذا امتلأ القلب بالإيمان وتزين به فرَّق بين الحق والباطل، وأحب الطاعات، وأبغض المعاصي.
ولما جاء الإيمان في حياة الصحابة رضي الله عنهم جاء أمران:
الاستعداد لامتثال الأوامر .. وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، ثم جاء أمران: الرضا عن المؤمنين .. والنصرة من الله عز وجل.
قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} [الفتح: 18،19].
فبجهد التجارة نحصل على المال .. وبجهد الزراعة نحصل على الثمار .. وبجهد الدعوة نحصل على مرضاة الله في الدنيا والآخرة .. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
والحق نوعان:
حق موجود، فالواجب معرفته .. وحق مقصود، فالواجب إرادته والعمل به.
وقد فطر الله النفوس على محبة الإيمان دون الكفر، ومحبة العلم دون الجهل، ومحبة الصدق دون الكذب، ومحبة النافع دون الضار، ومتى حصل للعبد ضد ذلك فلمعارض من كبر أو هوى أو حسد ونحو ذلك.
كما أن الله عز وجل لصالح الجسد خلق فيه محبة الطعام والشراب الملائم له دون الضار، فإذا اشتهى ما يضره، أو كره ما ينفعه فلمرض في الجسد، وكذلك إذا اندفع عن النفس المعارض من الكبر والهوى والحسد ونحو ذلك أحب القلب ما ينفعه من العلم النافع، والعمل الصالح.
كما أن الجسد إذا اندفع عنه المرض أحب ما ينفعه من الطعام والشراب، وتلذذ به.
فإذا ضعف العلم غلب الهوى، وإن وجد العلم والهوى فالحكم للغالب منهما.
وإذا كان كذلك فصلاح البشرية بأمرين:
بالإيمان .. والعمل الصالح .. ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان: الجهل المضاد للعلم، واتباع الهوى والشهوات، فبالأول يكونون ضلالاً، ويالثاني يكونون غواة، مغضوباً عليهم.
فاللهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6،7].