الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - فقه الهجرة والنصرة
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74].
الهجرة في سبيل الله ضربان:
هجرة إلى الله ورسوله بالقلب .. وهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالبدن، فالله عز وجل غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده في قلوب من اختارهم لعبوديته، واختصهم بنعمه، وفضلهم على سائر خلقه.
ولا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإذن ربها من طيب القول، وصالح العمل.
فلكل واحد من هؤلاء في كل وقت هجرتان:
هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة والتسليم، والتفويض والافتقار، والخوف والرجاء.
وهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون جميع حركات العبد وسكناته موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته.
واتخذ رسوله صلى الله عليه وسلم وحده دليله، وإمامه، وقدوته، وقائده، وسائقه.
فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأفرد رسوله بمتابعته والاقتداء به، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، فهذه الهجرة بالقلوب.
«فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» متفق عليه (1).
أما الهجرة بالأبدان، فهي الهجرة في سبيل الله من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن قوم إلى قوم، حين يشتد عليه الأذى، ويحيط به الظلم، ولا يتمكن من إظهار دينه، فيهاجر إلى بلد يأمن فيه على نفسه، ويتمكن من إظهار دينه، والعمل بشرعه.
فالهجرة في سبيل الله ليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة لتكميل اللذات والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الدنيا الفانية.
ومن يهاجر هذه الهجرة في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً لأعداء الله، حيث يتمكن من إقامة دين الله، وجهاد أعداء الله ومراغمتهم.
كما يجد سعة وفسحة، فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة للنجاة والرزق والحياة.
ولكن ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق، وأسباب الحياة، وأسباب النجاة، هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين، ثم تتعرض لذلك المصير البائس، مصير الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 97 - 99].
فالهجرة عند حصول الأذى والظلم من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر؛ لما في تركها من تكثير سواد الكفار، وفتنة المؤمنين وظلمهم،
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (54)، ومسلم برقم (1907)، واللفظ له.
وتفويت الجهاد مع المؤمنين، وربما ظاهر الكفار على المؤمنين، ولا يستثنى من ذلك إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا قدرة لهم على الهجرة، ولا يهتدون سبيلاً، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم ويعذرهم لعدم قدرتهم، والله تبارك وتعالى يعد كل من يهاجر في سبيل الله أنه سيجد في الأرض منطلقاً، وسيجد فيها سعة، وسيجد الله معه في كل مكان يذهب إليه، يحييه، ويرزقه، وينجيه، ويحفظه.
وقد ضمن الله الأجر لكل من هاجر إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت قبل الوصول إلى غايته بقتل أو غيره كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100].
يوفيه الله أجره كله:
أجر الهجرة .. وأجر الوصول إلى دار الإسلام .. وأجر الحياة في دار الإسلام .. فماذا بعد ضمان الله من ضمان؟.
ومع ضمان الأجر كاملاً التلويح بالمغفرة للذنوب، والرحمة في الحساب، وكان الله غفوراً رحيماً.
إنها صفقة رابحة دون شك، يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى في الهجرة.
والموت هو الموت لا يتقدم ولا يتأخر، ولا علاقة له بهجرة أو إقامة، ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده، ولخسر الصفقة الرابحة فلا أجر، ولا مغفرة، ولا رحمة، بل هناك الملائكة تتوفاه ظالماً لنفسه.
والذين هاجروا من ديارهم وأموالهم، وتعروا عما يملكون، وعما يحبون من أجل الله، وتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن.
هؤلاء يرجون في الآخرة عوضاً عن كل ما خلفوا .. وكل ما تركوا
…
وقد عانوا الظلم وفارقوه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} [النحل: 41 - 42].
فذكر لهم سبحانه ثوابين:
ثواباً عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهني الذي رأوه عياناً بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم وفتحوا البلدان.
والأجر الآخر أكبر وأعظم وأدوم، ويحصل عليه المؤمنون في الجنة في الآخرة كما قال سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 20 - 22].
إن الهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو إليه النفس، ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه من الأهل والأولاد، والأموال والديار، وسائر أعراض الحياة الدنيا، وإيثار العقيدة على هذا كله، ابتغاء رضوان الله، وتطلعاً إلى ما عنده، هو خير مما في الأرض جميعاً.
فالذين جمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأهل والأموال والأوطان، طلباً لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله، فماذا أعد الله لهؤلاء؟ .. وبماذا وعدهم؟.
والإيمان والهجرة والجهاد، هذه الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وقطب رحي العبودية، وبها يُعرف ما مع العبد من الربح والخسران.
فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل
السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة وأهل النار.
وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل منه صرف ولا عدل، ولا فرض ولا نفل.
وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب المألوف من أجل رضا الله تعالى.
فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله وخلانه تقرباً إلى الله، ونصرة لدينه.
وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان وعبدة الأوثان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام، وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين، ويكون باللسان والسنان.
فمن قام بهذه الثلاثة على مشقتها كان بغيرها أشد قياماً، فجدير بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله؛ لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218].
والهجرة كانت قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فلم تعد هجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها صارت دار إسلام، فمن جاهد في سبيل الله وعمل بدينه كان له حكم الهجرة وكان له ثوابها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» متفق عليه (1).
ويبقى حكم الهجرة سارياً من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحج: 58، 59].
فقد خرج هؤلاء من ديارهم وأموالهم في سبيل الله، مستعدين لكل مصير،
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2783)، واللفظ له، ومسلم برقم (1353).
وضحوا بكل أعراض الحياة ابتغاء رضوان الله، ونصر دينه، فتكفل سبحانه لهم بالعوض الكريم عما فقدوه، وهو الرزق الحسن، وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا.
وقد خرجوا مخرجاً يرضي الله، فتعهد لهم بأن يدخلهم مدخلاً يرضونه، فييسر لهم دخول الديار التي قصدوها، ويفتح لهم البلدان، ويمكنهم من الاستيلاء على أموالها وخيراتها عوضاً عما فقدوه، وهذا ما حصل للمهاجرين السابقين، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم الجنة، والله سبحانه العليم بما وقع عليهم من ظلم ومن أذى، وبما يرضي نفوسهم ويعوضها، العليم بجميع الأمور ظاهرها وباطنها، الحليم الذي يعصيه الخلائق ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال قدرته وعلمه، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله، حليم يمهل ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى.
إنه إذا اشتد الأذى على المؤمنين، وفُتنوا في دينهم، ولم يملكوا أن يعبدوا الله، فعليهم أن ينجوا بدينهم بالهجرة إلى أرض الله الواسعة.
وما دامت الأرض كلها لله فأحب بقعة منها هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه، وإظهار شعائر دينه، فليهاجروا إليها:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} [العنكبوت: 56].
وكل نفس ذائقة الموت، والله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، فلا داعي للخوف من خطر الهجرة، فالآجال مقدرة:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)} [العنكبوت: 57].
وهؤلاء المهاجرون في سبيل الله فراراً بدينهم مهاجرون إلى الله في أرضه الواسعة، من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وهم عائدون إليه في يوم القيامة، وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة، فلماذا الخوف والقلق؟.
ومع هذا فالله الكريم لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده، فإذا فارقوا وطنهم فلهم في الأرض سعة، وإذا فارقوا الدنيا فلهم في الجنة عوض أعظم وأدوم،
فليصبروا على ما ينالهم، وليتوكلوا على الله، ويحسنوا الظن به، فهو مولاهم الذي سيحقق لهم ما وعدهم به في الدنيا والآخرة:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)} [العنكبوت: 58، 59].
ولا داعي كذلك لقلق المهاجرين على الرزق بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل، وأسباب الرزق المعلومة، فإن رزق الإنسان يطلبه كما يطلبه أجله:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} [العنكبوت: 60].
فالله تبارك وتعالى قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم قويهم وضعيفهم، قادرهم وعاجزهم، فكم من دابة في الأرض، وعلى ظهر الأرض، ضعيفة القوى، ضعيفة العقل، لا تحمل رزقها ولا تدخره، ولا يزال الله يسخر لها الرزق في كل وقت بوقته.
فالله يرزق هؤلاء الدواب وإياكم، فكلكم عيال الله، القائم برزقكم كما قام بخلقكم وتدبيركم، وهو السميع لأقوالكم، ودعائكم، العليم بأحوالكم، فلا تخفى عليه خافية، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه.
وكيف يقلق المؤمن على الرزق عند الهجرة، وهو يرى مليارات الدواب تدب على وجه الأرض، وهي لا تحصل رزقها، ولا تجمعه، ولا تحمله، ولا تهتم به، ولا تعرف كيف توفره لنفسها، ولا كيف تحتفظ به لنفسها، ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعاً سواء كانت على ظهر الأرض، أو في قعر البحار، أو في أعالي الجبال.
فكذلك الله هو الذي يرزق الناس حيثما كانوا، وإن خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم ويجمعونه، فالله الذي وهبهم وسيلة الرزق وأسبابه، وهذه الهبة ذاتها رزق من الله.
فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة، فهم عباد الله مهاجرون إلى أرض الله
الواسعة من أجل الله، والله يرزقهم حيث كانوا كما يرزق كل دابة وهي لا تحمل رزقها، ولكن الله يرزقها ولا يدعها.
ولا هجرة بعد الفتح من مكة إلى المدينة لأنها صارت دار إسلام، ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة.
وقد وقع في صدر الإسلام هجرتان:
الأولى: هجرة المسلمين إلى الحبشة فراراً من أذى قريش، وفي الحبشة كان لهم إيواء بلا نصرة، فلم ينتشر الدين هناك.
الثانية: هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة إلى المدينة، وفي المدينة كان الإيواء والنصرة بتهيئة الفرصة للدعوة فانتشر الدين.
والهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد.
ومن العجيب أن الإنسان يوسع الكلام في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة من مكة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، وبما لا تتعلق به في العمر أصلاً.
وأما الهجرة إلى الله ورسوله بالإيمان والأعمال الصالحة، والتي هي واجبة على مدى الأنفاس والأزمان لا يحصل فيها علماً ولا إرادة، وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره.
وهذه حال من ضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال، وغشيت بصيرته، وانتكس قلبه، فقدم الأدنى على الأعلى، وآثر الفاني الرخيص على الباقي النفيس.
وهذه الحياة الدنيا ليست إلا لهو ولعب .. حين لا ينظر المرء فيها إلى الآخرة .. حين تكون هي الغاية العليا للناس .. حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة .. فلا ينخدع العبد بزينتها ويلهو بلعبها .. وليعمل للحياة الآخرة .. فهي الحياة الفائضة بالحيوية والرضا، والبقاء والخلود، وبكل ألوان النعيم: {وَمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64].
فلو كان الخلق يعلمون ذلك لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان إلى دار اللهو واللعب.
أما الذين يعلمون حال الدارين فلا بدَّ أن يؤثروا الآخرة على الدنيا بالإيمان بالله وطاعته، وبذل كل شيء في سبيل مرضاته.
والهجرة في سبيل الله هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، والهجرة البدنية مبنية على الهجرة القلبية، فمن هاجر إلى الله ورسوله بالإيمان والعبودية لله، والاقتداء برسوله ولم يتمكن من القيام بذلك هانت عليه الهجرة البدنية، وسهل عليه فراق الأهل والدار والمال، وما يهاجر أحد إلا من أجل هدف.
وهجرة الأنبياء وأتباعهم كانت من أجل إعلاء كلمة الله، وعبادته، والعمل بشرعه، وهم يسيرون في رعاية الله، يحفظهم ويرزقهم، ويوفقهم ويهديهم كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)} [العنكبوت: 26].
فلما لم يستجب له قومه هاجر من العراق إلى الأرض المباركة في الشام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)} [الصافات: 99].
فهاجر صلى الله عليه وسلم وترك كل شيء وراءه، ترك أباه وقومه، وأهل بيته ووطنه، وترك وراءه كل عائق وكل شاغل، وهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء، طارحاً وراءه كل شيء، مسلماً نفسه لربه، موقناً أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن يقين إلى يقين، إنها الهجرة الكبرى التي يختار الله لها الكُمَّل من الناس.
فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه، اتجه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات: 100].
واستجاب الله دعاء عبده الصالح الذي ترك كل شيء وراءه، وجاء إلى ربه بقلب سليم:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 101].
ولما رزق الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالغلام الحليم وهو إسماعيل صلى الله عليه وسلم ابتلاه الله به، ليتبين صفاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وكمال محبته لربه وخلته.
فإن إسماعيل لما وهبه الله لإبراهيم أحبه حباً شديداً، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة.
فلما تعلقت شعبة من شعب قلب إبراهيم بابنه إسماعيل، أراد الله أن يصفي وده، ويختبر خلته، فأمره أن يذبح ويقطع بالسكين من زاحم حبه حب ربه كما قال سبحانه:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 100 - 102].
فأمْرُ الله تعالى لا بدَّ من تنفيذه، فقال إسماعيل صابراً محتسباً مرضياً لربه، وباراً بوالده:{يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات: 102].
فقام إبراهيم ليضجع ابنه إسماعيل للذبح، وسلما لأمر الله، الأب جازم على قتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالاً لأمر ربه، وخوفاً من عقابه.
والابن إسماعيل قد وطن نفسه على الصبر، وهانت عليه نفسه في طاعة ربه، ورضا والده.
وحان وقت التنفيذ، فَتَلَّ إبراهيم ابنه إسماعيل على جبينه ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه لئلا ينظر إبراهيم إلى وجه إسماعيل وقت الذبح فيرحمه ويشفق عليه فلا ينفذ أمر ربه.
وفي تلك الحال الشديدة نادى الله إبراهيم وأخبره بصدقه، وفعل ما أمر به جازماً، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه كما قال سبحانه:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 103 - 106].
فلما قدَّم إبراهيم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال سبحانه:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 106، 107].
فلكمال إيمان إبراهيم وكمال يقينه، وكمال طاعته ومحبته لربه، وسرعته لتنفيذ أمره بذبح أحب شيء إليه، حفظ الله له ابنه، ورضي عنه، وفداه بذبح عظيم، فهو عظيم من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قرباناً وسنة إلى يوم القيامة، بذبح كل حب يزاحم حب الله ويشغل عنه.
وبعد هذا البلاء وحسن الطاعة والانقياد من إبراهيم صلى الله عليه وسلم أثنى الله على إبراهيم، وأبقى له الذكر الحسن إلى يوم القيامة، وهذا جزاء الكريم للمحسنين في عبادة الله ومعاملة خلقه أن يفرج عنهم الشدائد، ويجعل لهم العاقبة والثناء الحسن؛ لكمال إيمانهم بربهم كما قال سبحانه:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} [الصافات: 108 - 113].
والمؤمن حقاً لا يقعد به حب الوطن، وإلف المكان، وأواصر النسب، والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها إذا ضاقت به في دينه، وعجز فيها عن الإحسان والعبادة، فالالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان، ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان، وذلك مدخل من مداخل الشرك الخفية في قلب الإنسان:{قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].
والله تبارك وتعالى يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن ترك مألوف الحياة، ووسائل الرزق، واستقبال الحياة في أرض جديدة، تكليف صعب على الناس، ومن ثم يفتح الله على الصابر على ذلك أبواب العوض عن الوطن والأرض، والأهل والإلف، عطاء من عنده بغير حساب.
والإيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط، وإنما هو نور وحركة دافعة في القلب، يتولد منها أحسن الأقوال والأعمال والأخلاق.
وهذا الإيمان لا يأتي ولا يتم ولا يقوى إلا بالتضحية بكل شيء من أجله، والتضحية مركبة من أمرين: بذل كل شيء .. وترك كل شيء، من أجل إعلاء كلمة الله.
فالمهاجرون هجروا وتركوا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان، والأموال والشهوات، والأحباب والأهل، وبذلوا الأنفس والأموال والأوقات رغبة في الله، ومحبة لرسول الله، ونصرة لدين الله، وإعلاء لكلمة الله.
فهؤلاء هم الصادقون الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، والعبادات الشاقة، وهم أسبق الناس إلى الإيمان، وأحقهم بكل فضيلة؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة كما قال سبحانه:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8].
والأنصار: وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم طوعاً ومحبة واختياراً، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوؤا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المهاجرون، إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، والأنصار يحبون من هاجر إليهم، ويؤوونهم في المدينة ويطعمونهم ويستقبلونهم بالمحبة والإيثار، ويعلمونهم الدين، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئاً فشيئاً، وينمو قليلاً قليلاً، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.
فما أجمل هذه الصفات في الأنصار، وما أحسن أخلاقهم، إيمان ومحبة، وإيثار مع الحاجة، وبذل بلا بخل ولا شح كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9].
فهم يحبون من هاجر إليهم من أجل إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه.
وهؤلاء الأنصار لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، لسلامة صدور الأنصار، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها.
ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة.
وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى ودينه مقدمة على شهوات النفس ولذاتها.
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ بَاتَ بِهِ ضَيْفٌ، فلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلا قُوتُهُ وَقوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصّبيَةَ وَاطفِئي السِّراجً، وَقَرِّبي لِلضَيْفِ ما عنْدَكِ، قَالَ: فَنزلَتْ هذِهِ الآَيَةَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} » [الحشر: 9] متفق عليه (1).
ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه، ومن وقي شح نفسه سمحت نفسه بامتثال أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ففعلها طائعاً منقاداً، منشرحاً بها صدره.
وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوباً للنفس.
وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
وبذلك يحصل للعبد الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام من المهاجرين والأنصار، الذين حازوا من السوابق والمناقب والفضائل ما سبقوا
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3798)، ومسلم برقم (2054) واللفظ له.
به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقدوة المتقين، وأفضلهم المهاجرون ثم الأنصار.
وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ويتخلق بأخلاقهم:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، هم الذين سبقوا هذه الأمة، وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والنصرة، والجهاد، والدعوة والأعمال الصالحة، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، إذا اتبعوهم بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداءً منهم بالسابقين الأولين.
فهؤلاء هم المؤمنون حقاً؛ لأنهم صدَّقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة، والموالاة بعضهم لبعض، وجهاد أعدائهم من الكفار والمنافقين من أجل إعلاء كلمة الله كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74].
فهؤلاء الأصناف الثلاثة:
المهاجرون .. والأنصار .. والذين اتبعوهم بإحسان.
هم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم الجنات في الآخرة، وقد ذكرهم الله بصفاتهم وأعمالهم لا بأنسابهم ومناصبهم فقال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
فالهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله وإقامة دين الله أصل من أصول الدين،
وعمل الأنبياء والمرسلين، ومن سار على هديهم إلى يوم القيامة، وبذلك يقوم الدين في العالم، وتنتشر الهداية في أنحاء الأرض، وتظهر السنن والآداب الشرعية في الأمة، ويزول الباطل، ويظهر الحق، ويُعبد الله وحده لا شريك له.
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة المجتباة، وهؤلاء هم أهل الإسلام الذين هم أهله، جعلنا الله وإياكم منهم.
وإبلاغ هذا الدين إلى العالم يحتاج من كل مسلم إلى التضحية بكل شيء من أجل الدين:
تضحية بالمال .. وتضحية بالنفس .. وتضحية بالأهل .. وتضحية بالوقت .. وتضحية بالديار .. وتضحية بالشهوات .. وتضحية بالجاه.
فأهل مكة كانوا تجاراً فتركوا كل شيء وهاجروا إلى المدينة من أجل الدين.
وأهل المدينة كانوا مزارعين فتركوا كل شيء وقاموا بنصرة دين الله، فَنَشْرُ هذا الدين قائم على الهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله، والمهاجرون والأنصار لما صدقوا وعملوا نشر الله بسببهم هذا الدين في العالم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه.
ونحن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان والأعمال الصالحة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وواجبنا في هذا الزمان:
إحياء الدين .. وإحياء جهد الدين.
فالمطلوب من كل مسلم ومسلمة جهدان:
جهد لإحياء الدين كله في العالم كله.
وجهد لإحياء جهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، ليكون كل إنسان في العالم عابداً لربه .. معلماً لدينه .. داعياً إليه.
وذلك يتطلب منا التضحية بالوقت والنفس، والمال والشهوات كما فعل الأنبياء صلوات الله عليهم، والصحابة رضي الله عنهم.
وكثير من المسلمين اليوم بدؤوا يخرجون من الدين إلى حياة اليهود والنصارى، فكيف نحفظ الدين في هؤلاء؟.
أبو بكر رضي الله عنه لم يتحمل نقص عقال من الدين، واليوم كم نقص من الدين في حياة كثير من المسلمين؟.
لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدت القبائل عن الدين، اجتهد عليهم أبو بكر رضي الله عنه لردهم إلى الدين، وحفظ الدين في حياة المسلمين، وكان فكره وفكر المهاجرين والأنصار لحفظ الدين في الأمة كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما رجع الناس إلى الدين الكامل، وتاب من ارتد من المسلمين، انطلق هؤلاء وهؤلاء لنشر الدين في بلاد الكفر، ثم جاء عهد عمر رضي الله عنه، وكان فكر الأمة لنشر الدين، فكانت الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق ومصر وغيرها.
وهكذا وقتنا الآن يشبه زمن أبي بكر فنقوم بالدعوة إلى الله، ونجتهد على المسلمين حتى يعودوا إلى الدين والصفات التي كانت في القرن الأول، وبذلك يرى الكفار الإسلام قائماً في حياة المسلمين فيسهل دخولهم فيه، ويأتي اليوم الذي يدخل الناس في الدين أفواجاً كما دخلوه أفواجاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
والأصل في دين الله أن يكون السيف تابعاً للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعاً لذلك، كان أمر الإسلام قائماً، فقوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وذلك شرع الله، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، جاء من الاضطراب والمصائب بحسب ذلك، وفسدت أحوال الناس.
ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو اتباع القرآن والسنة، والاقتداء بخير القرون، وهو القرن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
العبادة موعودها الجنة .. والدعوة موعودها النصرة .. وبسبب ترك الدعوة رفع
الله النصرة .. وبقيت العبادة صورة بلا روح.
فالعمل الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوقت هو الدعوة، نحن تركناه أو أعطيناه أقل الوقت، والعمل الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أقل الوقت هو نوافل العبادات نحن أعطيناه أكثر الوقت.
والمسلمون يأتون إلى مكة للعبادة، ولكنهم لا يرجعون بالمقصد وهو الدعوة.