الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - فقه الدعوة إلى الله
قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
وقال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
الله تبارك وتعالى بمنِّه وفضله شرَّف هذه الأمة وأكرمها بالدين، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، واصطفاها واجتباها من بين الأمم، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما قال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
وعلى كل مسلم ومسلمة واجبان:
إصلاح نفسه بالعبادة .. وإصلاح غيره بالدعوة، ولا يتم ذلك إلا بالعلم والإيمان، فمن قام بهما فاز، ومن أخل بواحد منهما خسر كما قال سبحانه:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].
والمسلم عبد لله وحده، وليس عند العبد عمل إلا امتثال أوامر سيده.
وأوامر الله عز وجل تدور على أربعة أصول:
الدعوة إلى الله .. والعبادة .. وتعلم الدين وتعليمه، وأعمال البر التي تكون سبباً
لمحبة الناس للدين وللداعي إليه.
والدعوة إلى الله هي أم الأعمال، وبسبب الدعوة يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ووقت المسلم كله في امتثال أوامر ربه في العبادة والدعوة:
ففي النهار قيام بالدعوة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3].
وقال سبحانه: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} [المزمل: 7،8].
شبه الدعوة بالسباحة، فلو غفل السباح عن الحركة يغرق، وكذلك الداعي إذا غفل عن الدين والدعوة غرق في شئون الدنيا.
وفي الليل يقوم بالعبادة والدعاء أمام ربه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4].
وقال سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)} [الإنسان: 26].
ففي الليل جهد أمام الله بالدعاء والبكاء والتضرع، وتعظيم الرب وتسبيحه، والاستغفار من الذنوب، وشكر المنعم، وطلب العون والهداية له ولغيره.
وفي النهار جهد على عباد الله بالدعوة بتكبير الرب ليعظموه، وبذكر نعمه وآلائه ليشكروه، وبذكر وعده ليرغبوا في طاعته وعبادته، وبذكر وعيده ليحذروا من معصيته.
والله عز وجل أرسل الرسل وأنزل الكتب ليظهر الحق ويبطل الباطل كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33].
والله قادر على إظهار الحق وإبطال الباطل بلا جهد أحد، ولكنه سبحانه وكل الرسل وأتباعهم بالهداية، كما وكل الشمس بالإنارة، والأرض بالإنبات، والسحب بحمل الغيث وتفريقه في البلاد، فجعل سبحانه الدعوة سبباً للهداية
وشرف بها الإنسان.
فإذا جاهد الرسل وأتباعهم بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا أوقاتهم وجاههم، وضحوا بشهواتهم ومحبوباتهم من أجل الدين، أظهر الله الحق، وأبطل الباطل، ونصر أولياءه، وخذل أعداءه.
والدعوة إلى الله رسالة كل مسلم، وهو فيها أجير عند الله، يبلغ دين ربه، ويتوكل عليه وحده، وينال أجره منه وحده.
وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن تُوْكل إليه مهمة القيادة، كي لا يقنط إذا أعرض عنه مَنْ علم الله أنه لا يصلح، أو أوذي في الدعوة، ولا يغتر إذا استجابت له الجموع، وأنصت له الناس، أو دانت له الرقاب، فإن هذا كله بإذن مالكه، وإنما هو أجير، وأجره على من أرسله وأمره كما قال سبحانه:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)} [الشعراء: 145].
والمسلم إذا قام بالدعوة حصلت له الهداية، وحصل له الأجر وإن لم يستجب له الناس كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
ولا بدَّ أن تتوفر في الداعي صفات الإيمان والتقوى ليؤثر في غيره، ويكون الله معه، كالفرشاة لا بدَّ أن تمتلئ بالصبغ أولاً، ثم يصبغ بها الجدار، وحينئذ تكون سبباً لتلوينه، وتغيير صورته، وكالمال فمن ليس في جيبه مال لا يستطيع الإنفاق على غيره.
فكذلك الداعي لا بدَّ أن تكون فيه صفات الإيمان والتقوى، فمن ليس عنده إيمان ولا تقوى ولا أعمال كيف ينشر ما لا يملك؟
وقد تكفل الله لمن يبلغ دينه في مشارق الأرض ومغاربها بكل ما يحتاج من الطعام والشراب، والسكن والمركب، والأجر والحفظ في الدنيا والآخرة، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ» متفق عليه (1).
والدعوة إلى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
والموعظة الحسنة:
هي التذكير بفضل الله على عباده .. والتذكير بعظمة الله وجلاله .. والترغيب في العمل الصالح لنيل الدرجات العلى من الجنة .. والترهيب من النار للنجاة من عذابها.
وساحة الإيمان والتقوى مملوءة بكل خير، وبكل بر، وبكل عمل صالح يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وساحة الكفر والشرك مملوءة بكل شر، وبكل إثم، وبكل معصية، وبكل فاحشة، وبكل ظلم ونحو ذلك مما يبغضه الله ورسوله.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما قام بالدعوة إلى الله انحلت العقدة الكبرى، عقدة الشرك والكفر، ولما انحلت هذه العقدة الكبرى، انحلت العقد كلها.
وهكذا جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي لكل واحد من أصحابه.
فلما آمنوا دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم، لا يشاقون الرسل بعد ما تبين لهم الهدى، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر ونهى.
والداعي إلى الله من ذا يخيفه؟ وماذا يخيفه إذا كان الله معه؟.
فحين أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 45،46].
والداعي يقوم بالدعوة والبلاغ، وليس له من أمر الهداية والضلالة شيء، فالله
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2442) ومسلم برقم (2580) واللفظ له.
يعلم من يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا، فلا مبدل لما شاء:{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23].
والسموات والأرض أكبر من خلق الناس، قالتا لربهما أتينا طائعين، وهذا الخلق الصغير من البشر الذي يدب على الأرض مع سائر الدواب الطائعة ..
يأكل من رزق الله .. ويسكن في أرض الله .. ويكفر بالله .. ويعارض رسل الله .. ويسخر بهم .. ويستهزئ بآيات الله.
فماذا يكون جزاء هذا الكفر والإعراض والاستهزاء والاستكبار؟.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصلت: 13].
وماذا ينتظر هؤلاء من العقوبات؟: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].
وهذا الإنذار المخيف يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب من الإنسان.
والسنن الكونية لها أصول وأهداف، والسنن الشرعية كذلك لها أهداف وأصول.
فالشجرة لها زينة وهي الأوراق والأزهار، ولكن المقصد من الشجرة الثمرة، والشجرة إنما جاءت من البذرة، والبذرة لا بدَّ لها من بيئة، وهي الأرض والماء والهواء والضوء، وبعد ذلك تظهر الشجرة، ثم تكون الثمرة.
وكذلك الإنسان زينة قلبه بالإيمان، وزينة جسده بالأعمال الصالحة، ورضى الله هو الغاية والمقصد من الدين كما قال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
وذلك لا يكون إلا بطاعة الله ورسوله، وذلك لا يتم إلا بالإيمان، والإيمان لا يأتي إلا بالدعوة، ولا بدَّ للإيمان من بيئة صالحة يزداد فيها الإيمان، وتحفظه من النقصان، تتمثل فيها أوامر الله من العبادة، والدعوة، والتعليم، واتباع السنن
النبوية، والآداب الإسلامية، والتحلي بالأخلاق الكريمة، وكل ما يرضي الله ورسوله.
فكمال الآدمي وسعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة بخمسة أمور:
الأولى: الدعوة إلى الله .. ثم يأتي الإيمان .. ثم تأتي طاعة الله ورسوله .. ثم يأتي رضى الله عنه .. ثم دخوله الجنة.
وإذا أهملنا الدعوة إلى الله ضعف الإيمان .. وإذا ضعف الإيمان رغبت النفس في معصية الله ورسوله .. وإذا عصى العبد الله ورسوله غضب الله عليه .. وإذا غضب الله أنزل عقوبته بمن عصاه، وعقوبته سبحانه للعصاة والكفار الشقاء في الدنيا، والنار في الآخرة.
والداعي إلى الله يدعو الناس على اختلاف طبقاتهم إلى الاستقامة على الدين، وتنفيذ أوامر الله فيما هم فيه:
فيقول للحكام كونوا كنبي الله سليمان لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كفرعون فتدخلوا النار.
ويقول للوزراء كونوا كيوسف صلى الله عليه وسلم لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كهامان فتدخلوا النار.
ويقول للتجار كونوا كتجار المهاجرين لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كقارون وقوم شعيب فتدخلوا النار.
ويقول لأهل الزراعة كونوا كالأنصار لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كقوم سبأ فتدخلوا النار.
ويقول للعامة والخاصة: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف: 59].
والمسلم يحترم المسجد؛ لأنه بيت الله، ومحل أداء فرائض الله، وكذلك الفقير نحترمه ونكرمه؛ لأنه محل صدقاتنا وزكاتنا فلا نحقره.
وهكذا الكافر والمشرك والعاصي هؤلاء عبيد الله، ولهم حق الرحمة والدعوة،
والرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه، فالمسلم يرى الكافر غريقاً ويجتهد عليه لعل الله أن يرحمه وينقذه من النار.
والشفقة والرحمة أعظم سلاح أعطيه الأنبياء والرسل كما قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
والشفقة والرحمة لخلق الله تكون وتنمو بكثرة الجهد للدين حتى تصبح كالأمواج في البحار بعضها فوق بعض، فتنبعث أمواج الشفقة والرحمة بقدر الجهود والتضحيات على خلق الله سبحانه:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
وإذا كان مسؤولية أهل الدنيا تفقد الملك والأموال والأشياء والفكر فيها، وحسن رعايتها، والقيام عليها، فمسؤولية أهل الدين:
هي تفقد الإيمان والأعمال الصالحة .. وكيف تأتي فينا وفي حياة الناس .. وكيف يتحقق مراد الله من عباده فيعبدوه وحده لا شريك له .. وكيف يتحقق مراد الخلق من ربهم فيتوجهوا إليه في جميع حوائجهم لينالوا رضاه، ويفوزوا بجنته، وينجوا من عذابه
…
وتعريف الناس بربهم وخالقهم .. وما هو حقه عليهم؟
…
ولماذا خلقهم؟
…
وماذا يريد منهم؟
…
وبيان طريق السعادة وطريق الشقاوة
…
وتعريف الخلق بما يحب ربهم ليفعلوه
…
وتعريفهم بما يبغض ليجتنبوه
…
وتعليمهم الآداب الإسلامية
…
وحسن المعاشرات وأحسن الأخلاق
…
وتعريفهم بنعم الله ليشكروه
…
وتعريفهم بأسمائه وصفاته، وأفعاله وخزائنه ليعظموه ويحمدوه ويسألوه .. وإخبار الناس بما أعد الله من الكرامة لمن أطاعه .. وما أعد من العذاب لمن عصاه.
وكيف يقضي الإنسان حياته على طريقة الأنبياء والمرسلين، لا على طريقة البهائم والشياطين.
وتعريف الناس بالطريق الموصل إلى الله
…
وما لهم بعد القدوم على الله يوم
القيامة.
وأُمر الناس بتكميل محبوبات رب العالمين في الدنيا من الإيمان، والطاعات والعبادات، والمعاملات، وحسن المعاشرة، وحسن الأخلاق، حتى يكمل الله لهم في الآخرة ما يحبون من المطاعم والمشارب والمساكن والملابس والأزواج والحور.
فمسؤولية كل فرد من المسلمين عظيمة، ووظيفته كبيرة، وعمله مستمر دائم ما دام حياً كما قال سبحانه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
ومكانة المسلم عند الله عظيمة، وحياته عند الله غالية؛ لأنه مؤمن بالله، ويقيم أمر الله، ويعبد الله، ويدعو إلى الله، ولذا توعد الله من قتل مؤمناً بغير حق متعمداً بأشد العقوبات كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}
[النساء: 93].
وبحسب المكانة تكون المسؤولية، ويكون المقام عند الله، فمكانة المسلم عظيمة، ومسؤوليته كذلك عظيمة.
ولا أحب عند الله من المسلم الذي يدعو الناس إلى ربهم، ويحببهم إليه، ويردهم إليه كما قال سبحانه:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
فأعظم الواجبات بعد الإيمان والتقوى الدعوة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
لذا فواجبنا جميعاً رجالاً ونساءً .. كباراً صغاراً .. العامة والخاصة .. الأغنياء والفقراء .. والسادة والعبيد .. والعرب والعجم .. أن نقوم بالدين، ونستقيم عليه، ونقيم الدين وندعو إليه في العالم حتى يكون الدين كله لله، وينعم الناس بهذا الدين الكامل الذي رضيه الله لهم، وأرسل به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال
سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
والدعوة إلى الله .. ونشر الدين .. وهداية البشرية إلى ما يسعدها في الدنيا والآخرة عمل عظيم وكبير .. يحتاج إلى فكر مستمر .. وعمل دائب .. وهم مذيب .. وسير الأقدام .. وإيلام الأبدان .. وبذل الأموال .. والتضحية بالأنفس والأوقات والشهوات .. والصبر على المشاق .. وتحمل الأذى .. وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه في الأرض، وإزالة الباطل.
وهذا العمل العظيم جزاؤه عند الله عظيم كما قال سبحانه: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88،89].
وبداية الفكر والعمل:
أن نجتهد أولاً على أنفسنا حتى تكون حياتنا مطابقة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم في سره وسيرته، وعباداته ومعاملاته، ومعاشراته وأخلاقه، وسائر أحواله كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
فالمقصود صفات الرسول لا ذات الرسول، وأعمال الرسول لا ذات الرسول، والناس يتأثرون من الصفات والأخلاق، لا من الأبدان والذوات.
فكل إنسان له ذات، لكن ليس مع كل إنسان الصفات والأخلاق العالية، وإنما فضل الله المسلم على غيره بالإيمان والأعمال الصالحة والصفات العالية، لا بالذات أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الجاه، كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].
والصفات التي يحبها الله، والأعمال التي يحبها الله، والأقوال التي يحبها الله،
أظهرها الله في الأنبياء، وأكملها في حياة سيد الأنبياء والمرسلين، فعلينا التخلق بها، ودعوة الناس إليها.
فإذا جاءت فينا الصفات والأعمال التي يحبها الله كان الله معنا، وإذا كان الله معنا فما نحتاج لأحد سواه، فلا نرجو إلا إياه، ولا نخاف إلا منه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نستعين إلا به، ولا نسأل إلا إياه، وهو مولانا وناصرنا:{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].
ثم ننظر ونتفكر في العالم البشري .. وفي العالم الإسلامي .. وفي العالم الجاهلي .. لنعرف حجم العمل .. وحجم التقصير .. ونعلم مساحة الكفر .. ومساحة الإسلام .. ومقدار العدل .. ومقدار الظلم .. وحجم الصلاح .. وحجم الفساد في الأرض، ونضع العالم بين أيدينا وأمام أعيننا، ونجعل ذلك همّ قلوبنا، وشغل أبداننا، فنحن مسؤولون عن إبلاغهم الدين ومأمورون به كما قال سبحانه:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَهُ مِنْهُ» متفق عليه (1).
وقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهذا الدين رحمة للعالمين، وهو حق لكل إنسان في العالم، لا بدَّ من أدائه إليه وإيصاله له، واسماعه إياه، ودعوته إليه.
إن حجم المسؤولية كبير واسع، طويل الأمد، فلا بدَّ من الفكر والعلم والعمل، وتصور أحوال الأمم في الأرض:
فكم قارة في العالم؟ .. وكم بلد في العالم؟ .. وكم مدينة في العالم؟ .. وكم قرية في العالم؟ .. وكم بيت في العالم؟ وكم إنسان في العالم؟ .. وكم كافر في
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67)، واللفظ له، ومسلم برقم (1679).
العالم؟ .. وكم مسلم في العالم؟ ..
وكم جاهل في العالم؟ .. وكم غافل في العالم؟ .. وكم ضال في العالم؟ .. وكم تائه في العالم؟ .. وكم محتار في العالم؟.
وكم مشرك في العالم؟ .. وكم مبتدع في العالم؟ .. وكم مطيع لله في العالم؟ .. وكم عاص لله في العالم؟ ..
وكم ظالمٍ في العالم؟ .. وكم من مظلوم في العالم؟ .. وكم من فاسق في العالم؟.
وكم داعٍ إلى الحق في العالم؟ .. وكم داعٍ إلى الباطل في العالم؟ .. إن هذه الأمم والشعوب والأفراد، والقارات والمدن والقرى، كلها تحتاج إلى رسالتين:
الأولى: (لا إله إلا الله) لإصلاح قلوبها بالإيمان واليقين والتوحيد.
الثانية: (محمد رسول الله) لإصلاح أبدانها وعباداتها ومعاملاتها ومعاشراتها وأخلاقها، فلا بدَّ من الحركة والقيام والجهد والتضحية والسير في الأرض لنعرف حجم المرض الكبير الذي تفشى في البشرية، وهو الشرك والكفر والمعاصي والفواحش، والإثم والبغي والظلم والفساد.
ثم نقوم فوراً بعلاج هذا الداء الذي عمَّ وطمَّ، بالدعوة إلى الله، ليعود الناس إلى ربهم، ويتوبوا إليه، ويؤمنوا به وحده لا شريك له.
فقد جاء الباطل في حياة الأمة لأنهم تركوا الدعوة إلى الله، فجاءهم من يدعوهم إلى الباطل، ويقول لهم إن السعادة والنفع والضر في المخلوقات والأشياء، وأن المخلوق يفعل ما يريد، وله أن يقضي حياته كالبهائم كيف شاء، وهذه دعوة الباطل، وهي توجب غضب الرب، وتمنع نزول النصر، وتسبب الشقاء، وتحول بين المرء والسعادة.
أما دعوة الحق فهي أن نعلم أن الله هو الخالق وحده، وهو الفعّال لما يشاء، وهو الذي بيده كل شيء، وما سواه مهما كان ليس بيده شيء، فله سبحانه الخلق والأمر وحده، لكن الله عز وجل يفعل من وراء الأسباب.
فذاته وقدرته سبحانه مغيبة وراء الأسباب ابتلاء وامتحاناً، وبسبب ضعف
الدعوة ضعف الإيمان فجاء اليقين على المخلوقات والأسباب، وصار تعامل الناس معها بدون اللجوء إلى الله سبحانه، فأصابهم بسبب ذلك التعب والشقاء.
فكل من لم يرض بالتوجه إلى رب الأسباب وكله الله إلى الأسباب وأذله بها، ثم عاقبه على ذلك كما قال سبحانه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].
فالله عز وجل هو الفعال وحده لا شريك له، ولكنه أخفى قدرته وراء الأسباب امتحاناً وابتلاءً للعباد.
فالله عز وجل بحكمته وعلمه يفعل ما يشاء، ويظهر ما يشاء، ويخفي ما يشاء، وقد أظهر سبحانه أربعاً، وأخفى أربعاً:
أظهر المخلوقات وأخفى نفسه .. وأظهر الدنيا وأخفى الآخرة .. وأظهر قيمة الأشياء .. وأخفى قيمة الأعمال .. وأظهر الأبدان والأجساد وأخفى الأرواح والعقول.
والأمة إذا تركت الدعوة إلى الله أصيبت بآفتين: ذهاب الدين من حياتها تدريجياً حتى لا يبقى منه إلا بعض الشعائر والآداب .. وصار اليهود والنصارى أئمتها في أمور حياتها كلها.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما عرفوا حقيقة الإيمان، وقاموا بالدعوة، صار إمامَهم إمُام الهدى محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالهم، فسعدوا وأسعدوا، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.
وكل إنسان يملك ثلاثة جواهر:
النفس .. والمال .. والوقت ..
وقد جاد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الثلاثة، وبذلوها للدين، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله.
وبجهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه خرج كثير من الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن البدعة إلى السنة، ومن
الضلال إلى الهدى، ومن غضب الله إلى رحمة الله ورضاه.
وجهد الدعوة لا يؤتي ثمرته حتى يكون حسب ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من فكر وقول، وعمل وأخلاق.
فأول ما دعا عليه الصلاة والسلام إلى الله اجتهد على ثلاثة أصناف من الناس: الرجال، والنساء، والأطفال.
فأول من استجاب له من الرجال أبو بكر رضي الله عنه.
وأول من استجاب له من النساء خديجة رضي الله عنها.
وأول من استجاب له من الأطفال علي رضي الله عنه.
فآمنوا بالله ورسوله، ولازموا رسول الله يتعلمون منه، ويقتدون به، وأول ما انتقل إليهم منه جهد الدعوة قبل العبادة، فقاموا به خير قيام قبل نزول الأحكام.
وما قاموا به هو ما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان واليقين وذلك بالدعوة إلى الله لنقل فكر الناس من اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق وحده .. ومن اليقين على الأموال والأسباب إلى اليقين على الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن العادات والتقاليد الجاهلية .. إلى السنن والأحكام الشرعية .. ومن عمارة الدنيا إلى عمارة الآخرة .. ومن الشرك والكفر .. إلى الإيمان والتوحيد ..
وأهم أعمال الأنبياء والرسل الدعوة إلى الله، بالجولة على الناس وزيارتهم، وغشيانهم في مجالسهم وبيوتهم لدعوتهم إلى الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغشى الناس في مجالسهم، ويذكرهم بالله، ويدعوهم إليه، ويتلو عليهم القرآن.
وكان صلى الله عليه وسلم يتجول في سوق ذي المجاز على الناس ويقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَاّ الله تُفْلِحُوا» قَالَ: وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ وَتَتْرُكُوا اللَاّتَ وَالْعُزَّى.
قَالَ: وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد (1).
وفعل فِعْله أصحابه في مكة، وفي المدينة، وفي الحضر والسفر، وفي الليل والنهار، وفي البيوت والأسواق.
وأمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يذهبا إلى فرعون لدعوته إلى الله بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43،44].
وكان همُّ النبي صلى الله عليه وسلم تغيير فكر الناس من الشرك إلى التوحيد .. وتغيير القلوب .. وتغيير اليقين .. وتغير العمل .. وتغيير البيئة .. وتكميل الإيمان والأعمال الصالحة.
وليس همه تغيير الأشياء، ولا جمع الأشياء، ولا الفكر في الأشياء، ولا اتباع الشهوات والملذات.
وقد أمر الله عز وجل رسوله بأربعة أشياء:
أن يتعلم الوحي .. وأن يعمل به .. وأن يعلمه .. وأن يقيم الناس عليه.
وهذه المسؤوليات انتقلت إلينا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فبالدعوة يأتي الإيمان، وإذا جاء الإيمان جاءت الرغبة في الأعمال والطاعات، والنفرة من المعاصي والمنكرات، ولما ضعف الإيمان والعمل بالدين في عهد نوح أرسل الله نوحاً صلى الله عليه وسلم، فلما دعا الناس إلى الله جاء الإيمان والدين، فلما مات ضعف الإيمان ثم ضعفت الأعمال، وبقي العلم وحده فجاء الكفر.
وهكذا كلما ضعف الإيمان والعمل بعث الله رسولاً يدعو الناس إلى ربهم، والعمل بشرعه، وهكذا بعث الله رسولاً بعد رسول، حتى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فدعا إلى الله فجاء الإيمان والدين في الأمة، ومن أول يوم أقام الأمة على الإيمان والدعوة إلى الله.
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16603)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
ووضع الشيء في غير موضعه ظلم، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه ظلم، وعدم أداء الأمانة ظلم، والمسلم عليه حق وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وله حق وهو دخول الجنة إذا أدى حق الله، وعليه واجب وهو الدعوة إلى الله، فالمسلم ميدانه الدعوة إلى الله، فإذا لم يستعمل نفسه في ميدانه ولم يؤد الأمانة فهو ظالم لنفسه ولغيره، والله لا يحب الظالمين.
وجهد الداعي إلى الله نوعان:
جهد على الكافر حتى يأتي عنده الإيمان.
وجهد على المسلم ضعيف الإيمان ليقوى إيمانه، وتحسن أعماله، فإذا زاد إيمانه جاءت عنده الرغبة في الأعمال الصالحة كلها من عبادة، ودعوة، وتعليم، وحسن خلق وغيرها.
والدعوة إلى الله على منهاج النبوة واجبة على كل مسلم بحسب ما لديه من الإيمان والعلم الشرعي، يدعو إلى الله، ويحيي السنن، ويميت البدع، وينصر الحق، ويخذل الباطل، ويكون قدوة لغيره، يفعل الخير ويدعو إليه، وينتهي عن الشر ويحذر منه.
أما من يملك قسطاً من الحماس مع خلو من الفقه الشرعي، أو يقول فسد الزمان ويدعو إلى العزلة، أو من قعد يبكي وصلح في نفسه وأعرض عن آلام أمته، أو من رمى الناس بالكفر ويأس من الإصلاح، أو من قنع من الإسلام بالزهديات، وكف عن النزول في الساحات، وغشيان الناس في أماكنهم وأسواقهم، فهؤلاء وأمثالهم ومن في حكمهم بحاجة إلى دعوة وعودة إلى منهج النبوة؛ ليزول عنهم الخطر، وتنتفع الأمة بهم.
أما من أعرض عن الدعوة وركض وراء المال والجاه، واتبع الشهوات وأضاع الأوامر، فهؤلاء نعوذ بالله من شرورهم.
والدعوة والعبادة والتعليم أهم أعمال الدين، وحتى تكون مقبولة عند الله لا بدَّ أن تقوم على المحبة والإخلاص والمتابعة، فيجب دعوة الناس إليها باللين
والرفق والحكمة من غير تنفير، حتى تنشرح لها صدورهم، وترغب فيها نفوسهم، وتتحرك بها جوارحهم.
وجميع الأمة عمال يعملون في دار الملك إلى أجل مسمى، فليحذروا معصيته في قصره، ومخالفة أمره في مملكته، فإن أخذه أليم شديد:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102].
ومن أهم أصول الدعوة:
أن يجعل المسلم هدفه في الدنيا عبادة الله، والدعوة إلى دينه، فيصلح نفسه بأوامر الله ورسوله، ويدعو الناس إلى ذلك.
وأن يختار في إبلاغ دين الله لعباده الطرق النبوية التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أصحابه عليها، وعلمهم إياها، وأمرهم بها، من بذل المال والنفس والوقت لنشر دين الله، والتضحية بكل ما يملك من أجل إعلاء كلمة الله.
وفي القرآن والسنة خيرات كثيرة، وكنوز مختلفة، وسير عبقة للأنبياء، فيأخذ الداعي منها ليفلح في دعوته، وأن يستمر في إبلاغ الدين والعمل به وتعليمه في أي حال ومهما كانت الأحوال، في الليل والنهار، وفي حال العسر واليسر، وفي حال الصحة والمرض، وفي حال الأمن والخوف، في البيت والسوق، وفي حال الإقامة والسفر، ولا تؤثر عليه التغيرات والتقلبات الجوية والمكانية والاجتماعية، ولا يعبأ بأي عارض أو معرض، أو كائد أو حاسد، فإن الله معه يسمع ويرى، وهو حامل رسالة الله إلى خلقه، فليؤد الرسالة، ويبلغ ما أمر به، والله يعصمه من الناس:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67].
وأن يستمر في دعوته، ويبلغ دين الله، ولا يأخذ على ذلك أجراً من أحد، فقد تكفل الله بأجرته، فعليه الصبر وانتظار العقبى الحسنة.
وأن يجعل هذا الدين والعمل به والدعوة إليه مقصد حياته، ويواصل العمل
حتى يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، فلا تفلت منه لحظة في غير طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162،163].
إن كل ما يراه الإنسان من ظاهرة التمسك بالكتاب والسنة، وحسن الاستقامة، والرغبة في الدين لدى بعض الناس، إنما ذلك ثمرة جهود العلماء والدعاة المخلصين، فلا نكتفي بالفرح والنظر إلى هذه الثمار الطيبة فحسب، بل يجب أن نقوم نحن بزرع بساتين جديدة كما فعلوا حتى يعم الإسلام أقطار الأرض، فتلك أمانة تحملناها، وحق علينا يجب أداؤه لكل إنسان، حتى يكون الدين كله لله.
فالمسلم لو صام نهاره، وقام ليله، وقرأ القرآن كله في يوم، وتصدق بآلاف الريالات يومياً، فإنه لا يصل بعمله الفردي هذا إلى درجة ما يصل إليه الدعاة من الأجر والثواب.
فالدال على الخير كفاعله، حيث ينال هؤلاء الدعاة أجور المدعوين الذين اعتنقوا الإسلام، أو رغبوا فيه واستقاموا عليه بتبليغهم إياه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (1).
فالدعاة مشاركون في أجور مئات الألوف من المصلين، والصائمين، والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في أنحاء العالم من غير أن ينقص من أجور المدعوين شيء.
وكما أن الله أمر بعبادته بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21].
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
فكذلك أمر سبحانه بالدعوة إلى دينه بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
فكما أن العبادة أمر الله فكذلك الدعوة أمر الله، وكل منهما يجب أداؤه، فالدين خطوتان:
خطوة للعبادة .. وخطوة للدعوة .. وحركة في إصلاح النفس .. وحركة في إصلاح الغير.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإحسان منه لعباده، ولا يستطيع أحد أن يؤدي شكر هذه النعمة، فإن عمل العبد ينقطع بعد موته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَاّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَاّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم (1).
ولكن الداعي إلى الله يستمر أجره وثوابه ما بقي وتناسل من دعاهم إلى الله إلى يوم القيامة، ولذلك قال سبحانه:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
وكثير من المسلمين اليوم تركوا الدعوة إلى الله؛ لأنهم صاروا قانعين بالعمل الصالح، فنشأ من ذلك أن ضعف إيمانهم، ثم قلت طاعاتهم، وكثرت معاصيهم، حتى خرج بعضهم من الدين بالكلية، وتمرغ في الشهوات، وأعرض عن أوامر الله وشرعه، كما قال سبحانه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
والفرق بيننا وبين الصحابة ر ضي الله عنهم، أن الصحابة لما آمنوا رأوا الدين غالياً جداً، ورأوا الدنيا رخيصة جداً، فقدموا أوامر الدين على أوامر الكسب، واشتغلوا بزيادة الإيمان والأعمال الصالحة، فغزوا ورزقهم الله، وفتح لهم
(1) أخرجه مسلم برقم (1631).
بركات السماء والأرض، ورضي الله عنهم، ورضوا عنه.
واجتهدوا وبذلوا أنفسهم وأموالهم لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، فزاد إيمانهم، ونزلت الهداية على أهل الأرض.
وكثير من المسلمين اليوم رأوا الدنيا غالية جداً، والدين رخيصاً جداً، فقدموا أوامر الكسب على أوامر الدين، واشتغلوا عما أراد الله منهم من الإيمان والأعمال الصالحة بما قسم لهم من الأرزاق، فحصل لهم الشقاء والتعب والذلة، بسبب الإقبال على المخلوق والإعراض عن الخالق وعن أوامره.
وأفضل الأوامر {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 2].
وبه يحيا الدين كله، والدعوة على الله أم الأعمال، وأوامر الدعوة إلى الله أول الأوامر، وأوامر الكسب آخر الأوامر، وإذا تعارض الأمران في وقت قدمنا أوامر الدعوة على أوامر الكسب.
والصحابة رضي الله عنهم لما قدموا أوامر الجهد والدعوة على أوامر الكسب نقصت الأموال والأشياء، وبالمقابل زاد الإيمان وزادت الأعمال الصالحة.
ونحن لما قدمنا أوامر الكسب على أوامر الدعوة جاء أمران:
زادت الأموال والأشياء .. ونقص الإيمان والأعمال الصالحة، والصحابة لما قاموا بالدعوة إلى الله امتلأت قلوبهم بالإيمان وامتلأت بيوتهم بالأعمال الصالحة، وخلت من كثرة الأموال والأشياء، وانتشر الخير في العالم.
ونحن لما تركنا الدعوة إلى الله، امتلأت بيوتنا بالأموال والأشياء، وأقفرت من الأعمال الصالحة إلا من رحم الله، وانتشر الشر في العالم، وأقبل الناس على سنن اليهود والنصارى يعملون بها ويدعون إليها.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضعف الإيمان، ثم ضعف العمل بأوامر الدين، فجاء فينا صفتان من صفات اليهود والنصارى:
الأولى: الاهتمام بجمع الأموال، وهذا فيه تشبه باليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم.
الثانية: الاهتمام بتكميل الشهوات، وهذا فيه تشبه بالنصارى الذين ضلوا عن الحق وأضلوا الناس عنه، فغضب الله عليهم ولعنهم.
والجهد موجود ومستمر إما للدنيا وإما للدين، وسبب الخسران الجهد في غير محله، واتباع الهوى وترك الهدى، وتقديم ما يفنى على ما يبقى، وإيثار الدنيا على الآخرة.
وطريق الحق له علامات منها:
المشي فيه بالمكاره .. وإثارة الشبهات والشكوك حول من يمشي فيه .. والاستهزاء به .. والسخرية منه .. وسب وشتم من يمشي فيه: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات: 52].
ومنها الابتلاء بالسراء والضراء .. والشدة والرخاء .. ليعلم الله الصادق من الكاذب .. ويعلم هل يشغله ذلك عن الحق والعمل به والدعوة إليه والصبر عليه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2،3].
ونشر الدين يتم بقول اللسان .. وحركة القدم .. وكتابة القلم .. وحسن العمل .. وحسن الأخلاق .. وبذل المال والنفس والوقت من أجل الدين .. وحسن التدبير .. وكثرة الدعاء .. وقوة اليقين ..
وجهد الداعي نوعان:
جهد على فاسد الأخلاق، وهذا سهل، وأهله أسرع انقياداً كمن يجتهد على الفساق ومن يزني أو يسرق أو يشرب الخمر ونحوهم من أهل الشهوات بالترغيب في الجنة وما فيها من الشهوات، والترهيب من النار، وبيان عظمة الله، وذكر آلائه ونعمه ونحو ذلك، فإن القلوب تلين بالتذكير والوعظ فتقلع عن المعاصي، وتقبل على الطاعات، وترغب في التوبة.
وجهد على فاسد الفكر، وهذا يحتاج إلى جهد أقوى كالجهد على أصحاب الأفكار الرديئة، وأهل الشبهات والأهواء ونحوهم.
فعلى جميع المسلمين أن يقوموا بالدعوة إلى الله في جميع أوساط الناس، ويدعونهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والرحمة والشفقة، في جميع الأوقات، وفي سائر الأقطار.
ويجتهدوا في دعوة سائر الناس:
الراغبين والطالبين .. والشاردين والمعرضين .. والغافلين والجاهلين، ولا نشغل أنفسنا بمن يعارضنا ويؤذينا، بل ندعو الله لهم، ونحسن الظن بهم، ونرفق بهم، ونكون البيئة الصالحة التي تظهر فيها الأعمال والصفات والأخلاق وهم يأتون إليها، وإن يرد الله بهم خيراً يأت بهم كما جاءت الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة منقادة طائعة راغبة في الإسلام من كل مكان.
والله تبارك وتعالى يعلمنا بالمخالفين والمعارضين حسن الصبر، والتوجه إلى الله، فالبيئة المخالفة تربي الداعي وتزكي قلبه، وكلما زادت المعارضة زاد التوجه إلى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، فتأتي نصرة الله كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف من التكذيب فدعا ربه فاستجاب له.
قالت عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قال: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِيَالِيلَ بْنِ عَبْدِكُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إِلا وَأنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقال: إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قال: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وأنا مَلَكُ الْجِبَالِ، وقَدْ بَعَثَني رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأمْرِكَ، مِمَّا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخْشَبَيْنِ؟ فَقال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لا يُشْرِكُ
بِهِ شَيْئًا» متفق عليه (1).
والداعي يدعو الناس إلى الله حتى يعبدوا الله وحده لا شريك له.
والعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، ويعرفهم بما أمر الله به من الطاعات ويرغبهم فيه، ويحذرهم عما نهى الله عنه من المعاصي والمحرمات.
والدعوة إلى الله أعظم واجبات الدين، ولذلك فهي واجبة على كل مسلم ومسلمة كما قال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
وبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل المسائل والأحكام؛ لأنها مسؤولية الأمة. وأعظم وظائف الدين:
الفتوى .. والتذكير .. والدعوة.
فالإفتاء: مسؤولية العلماء، فمن علم حكماً أفتى به.
والتذكير: وهذا واجب على كل مسلم لإخوانه المسلمين كما قال سبحانه:
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55].
والدعوة: وهذه واجبة على كل مسلم لعموم الناس.
والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة بالدين الكامل لا ببعضه، بالإيمان والأعمال الصالحة، بالعبادة والدعوة، بالعلم والعمل.
فالعابد فقط جهده على نفسه، وعنده عاطفة إنكار المنكر، والداعي جهده على نفسه وعلى غيره، وعنده عاطفة تغيير المنكر، ونقل حياة الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن المعاصي إلى الطاعات، ومن طاعة هواه ونفسه إلى طاعة ربه ورسوله.
والله عز وجل اجتبى هذه الأمة من بين الأمم، وتوَّجها بتاج الانبياء وهو الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3231)، ومسلم برقم (1795) واللفظ له.
وكثير من الناس رمى هذا التاج، وتَوَّج نفسه بتاج اليهود والنصارى، جمع الحطام واتباع الشهوات.
والواجب على كل مسلم أن يتعلم شيئين:
جهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الدعوة .. وحياة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الدين الكامل.
وإذا كانت الدعوة موجودة في الأمة، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم ليست موجودة، فلا يكون في الدعوة فلاح، ولا تنزل هداية ولا نصر.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون للناس إذا دعوهم إلى الله: كونوا مثلنا؛ لأن حياتهم كانت مثل حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك رضي الله عنهم وجعلهم نواة خير أمة أخرجت للناس.
فهم خير القرون وخير الناس للناس كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].
وهذا الفساد في الأمة سببه ترك جهد الدعوة، الذي يزيد الإيمان ويحرك الجوارح للطاعات، ويحجزها عن المحرمات، ويكون سبباً لنزول الهداية على الخلق، فإذا قامت الدعوة ظهر الحق، وبطل الباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وصار من الصالحين مصلحون، ومن الفجار أبرار، ومن الغافلين ذاكرون.
ومدار جهد الأنبياء والمرسلين يقوم على أمرين:
كيف يكون الله معنا .. وكيف الله يدخلنا الجنة.
وللحصول على هذين الشيئين كان الأنبياء يقومون بأمرين:
الأول: تعليق القلوب بالله، وذلك بالإيمان بالله سبحانه.
الثاني: تعليق الأجساد بالله، وذلك بالعمل الصالح.
فالعمل الصالح لا ينفع إلا إذا كانت هناك علاقة بالله، وهي الإيمان، والإيمان لا
ينفع إذا لم تظهر ثمرته على الجوارح، وهي العمل الصالح الذي جاء به الأنبياء، والأنبياء لا يدعون الناس لترك الأموال والأشياء، بل يدعونهم لاستعمالها حسب أمر الله ملكاً، أو جاهاً، أو مالاً، أو عملاً، وسليمان عليه الصلاة والسلام جعل الله على كرسيه جسداً يدبر ملكه فتنة، فلم يتوجه إلى الأسباب، ولكن توجه إلى الله واستغفر وأناب مع أن عنده الملك والمال، فأعطاه الله ما طلب منه كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص: 34 - 39].
وإذا قمنا بهذين الأمرين الإيمان والأعمال الصالحة فالله عز وجل يعطينا كل شيء، البركة والعزة والخلافة، فالصحابة رضي الله عنهم لما سلموا القلب والجسد لله رضي الله عنهم وأعزهم، وجعل الأموال والممالك تحت أقدامهم.
وكما أن للعبادات أصولاً وأوامر، فكذلك للدعوة إلى الله أصول وأوامر ومن أصول الدعوة:
أولاً: أن ندعو كل إنسان إلى الله غنياً أو فقيراً، حاكماً أو محكوماً، ذكراً أو أنثى، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، وحسن القول، وحسن الخلق، وإنزال الناس منازلهم.
ثانياً: ندعو إلى الله في كل مكان، في المدن والقرى، وفي الأسواق والبيوت وغيرها.
ثالثاً: نقوم بالدعوة إلى الله في كل وقت ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً، فالعبادة كالصلاة والصيام والحج لها أوقات، لكن الدعوة مشروعة كل وقت، وفي كل مكان، ولكل جيل.
رابعاً: نقوم بالدعوة في جميع الأحوال، في حال الأمن والخوف، وفي حال الشدة والرخاء، وفي حال الغنى والفقر وهكذا، ولا نأخذ على ذلك أجراً لأن
أجرنا على الله.
خامساً: نقوم بالدعوة إلى الله بصفة الإحسان فنتحلى بأحسن الصفات وندعو الناس إلى أحسن الصفات، ولا نسأل الناس أجراً كالشمس طبعها النور، وتعطي الناس النور بلا أجر.
سادساً: ندعو الناس إلى الدين بالشفقة والرحمة، ونتحمل منهم كل أذى في سبيل إعلاء كلمة الله كالأم تعطي ابنها اللبن وتتحمل منه كل أذى.
وإذا قام الداعي بالدعوة إلى الله بهذه الأصول تعرض للأذى، فعليه أن يصبر ويعفو، ولا يغضب ولا يجادل، ويكون هيناً ليناً رحيماً، ولا يكون فظاً غليظ القلب لئلا ينفر منه الناس.
ويكون قدوة حسنة في صورته وسيرته وسريرته، يقلل من جهد الدنيا، ويكثر من جهد الدين، يدعو إلى الله وإلى القيام بأوامر الله وإلى طاعة الله ورسوله، ويكون أسبق الناس إلى ذلك.
يعرض دعوته على الناس مع التواضع، ولا يحقر أحداً من الناس، ويدعو للناس بالهداية، ويحب للناس ما يحب لنفسه، يدعو الناس إلى الإيمان والأعمال الصالحة ويكون أسبقهم إليها، وأحسنهم أداء لها ومحافظة عليها.
وكما أن للوضوء نواقض وللصلاة نواقض وللإسلام نواقض فكذلك للدعوة إلى الله نواقض.
منها: الرياء وعدم الإخلاص
…
ومنها بيع كلام الله ورسوله بالوظيفة أو الأجرة .. ومنها الدعوة إلى النفس وحب الشهرة .. ومنها حمية الجاهلية والعصبية كمن يدعو إلى حزب أو طائفة أو جماعة ولا يقبل الدعوة من غيره، والله أمرنا أن ندعو إليه، ولا ندعو إلى غيره.
وكل من ترك أصول الدعوة، ودعا على هواه، ابتلي بخمسة أشياء: تزكية النفس .. الحرص على الجاه والمنصب .. احتقار الآخرين .. النظر في عيوب الدعاة إلى الله .. الإنفاق على شهواته وعدم الإنفاق على الدين.
وعبادة الله والدعوة إلى الله أهم الأوامر بعد الإيمان، فمن قام بهما حفظه الله وأسعده وجعله سبباً لهداية العالم.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم ترك ذريته بوادٍ غير ذي زرع ليقيموا الصلاة، حيث أسباب الموت موجودة، وأسباب الحياة مفقودة، فحفظهم الله وأخرج من هذه الذرية سيد الأولين والآخرين، وخير أمة أخرجت للناس كما قال إبراهيم:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37].
والله عز وجل أخفى في المجاهدة الهداية، وحصول البركات، والرزق الحلال، والحفاظة، والترقي في الدين كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
وكل عمل له بداية ونهاية كالصلاة بدايتها التكبير ونهايتها التسليم، وكذلك الدعوة، فكما أن المسلم عليه الصلاة إلى أن يموت، فكذلك عليه الدعوة إلى الله إلى أن يموت.
فالعبادة أعظم الأعمال، والدعوة أم الأعمال كلها، فإذا قامت الدعوة نزلت الهداية، وجاءت العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق العالية، وحصلت السعادة للعباد في الدنيا والآخرة.
لقد اجتهد شياطين الإنس والجن على هذه الأمة ليحولوا بينها وبين ربها ودينها ومصدر عزها، فضربوها بثلاثة معاول:
الأول: طرد حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسننه من حياة المسلمين، وترغيبهم في حياة اليهود والنصارى الذين غضب الله عليهم ولعنهم، وحياة البهائم الضالة، والشياطين المضلة الملعونة، وإشغالهم بالشهوات عن الأوامر.
الثاني: طرد جهد النبي صلى الله عليه وسلم من حياة الأمة، ومحاربة العلماء والدعاة إلى الله، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، واتهامهم والتضييق عليهم، والقضاء
عليهم، وإماتة جهدهم حسياً ومعنوياً.
الثالث: إحياء ومساندة الدعوة إلى الباطل، وإلى زينة الدنيا، وإلى تكميل الشهوات، وإلى جمع الأموال بأي وسيلة، وإلى الإنفاق على النفس لا على الدين، وإضاعة الأوقات والأموال في اللعب واللهو، وإشغالهم بتكميله وتحسين المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب.
هذا جهد الباطل على الحق في كل زمان ومكان، وبسبب ترك الدعوة نال الأعداء ما نالوه من إفساد أحوال المسلمين وإضلالهم وصرفهم عن دينهم.
والأم إذا فر منها ابنها تضطرب حتى يعود إليها، ونحن لا بدَّ أن نتفكر ونجتهد ونعمل لتعود الأمة إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه وشرعه، وإلى جهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله.
والابن إذا كان مريضاً اضطرب أبواه حتى يشفى، وإذا أصيب جميع الأولاد بمرض خطير فماذا تكون حال أبويهم؟.
لقد ابتلي كثير من المسلمين بمرض ترك الدين، وترك الدعوة إليه، فكيف يأتي عندنا الهم والفكر والعمل لإعادة الأمة لجهد الدعوة إلى الله، وإحياء أوامر الله في جميع الأمة، وفي جميع شعب الحياة؟.
والأمة الآن أصابتها أمراض خطيرة وكبيرة وكثيرة جداً، غيرت صورتها وبدلت سعادتها شقاء، وأمنها خوفاً، وعزها ذلاً، فلا بدَّ من الدعوة والدعاء في جميع الأوقات والأحوال حتى تعود الأمة إلى الله وإذا قامت الأمة بالدعوة إلى الله ظهر الحق، وانتشرت الفضائل في العالم، وإذا تركت الأمة الدعوة واشتغلت بالدنيا ظهر الباطل وانتشرت الرذائل في العالم.
والخير والشر الموجودان في العالم إنما هما ثمرة حركة الناس في العالم رجالاً ونساءً، إن تحركوا بخير انتشر الخير في العالم، وإن تحركوا بشر انتشر الشر في العالم.
وكثير من المسلمين يعرفون أحكام الدين، ولا يعرفون أوامر جهد الدين وهي
الدعوة؛ لأنهم يشعرون أنهم غير مسئولين ولا مكلفين بالدعوة، وإنما هي واجب العلماء منهم.
وهذا من الجهل الذي عمَّ وطمَّ، وانتشر بسببه كل شر وبلاء وفساد، فإن الدعوة واجبة على كل مسلم كما أن الصلاة واجبة على كل مسلم.
كما أن أوامر الصلاة لا تتغير فكذلك أوامر الدعوة لا تتغير، وقد أكمل الله لنا ذلك وبينه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وسلاح الدعوة الأخلاق العالية، فنكرم كل أحد، ونتحمل الأذى من كل أحد، ولا نجرح أحداً، وندعو لكل أحد بالهداية، وندعو جميع طبقات الأمة إلى الإسلام، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام:
فأسلم أبو بكر من الرجال، وعلي من الصغار، وزيد من الموالي، وخديجة من النساء، وشعر كل واحد من هؤلاء أنه مسئول عن الدعوة إلى الله من أول يوم.
فأبو بكر رضي الله عنه اجتهد على الخواص والأغنياء فدعاهم إلى الله فأسلم منهم ستة من العشرة المبشرين بالجنة.
وعلي رضي الله عنه اجتهد على أقرانه، وعلى الزائرين إلى الحرم لأنه من أهل البيت.
وزيد بن حارثة رضي الله عنه اجتهد على أقرانه من العبيد والمماليك.
وخديجة رضي الله عنها اجتهدت على النساء، فأسلم على يديها فاطمة بنت الخطاب التي كانت سبباً في إسلام أخيها عمر، وأسلمت على يديها سعدى بنت كريز التي كانت سبباً في إسلام عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكلاهما من الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة.
وإذا بذلنا للدين ما نستطيع، الله يرزقنا وييسر لنا ما لا نستطيع، كما أنزل الملائكة يقاتلون مع المؤمنين في بدر، وأرسل الريح والجنود على الأحزاب، ونصر أولياءه وخذل أعداءه:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25].
وكما نتفكر لحل مسائل الدنيا، كذلك يجب أن نتفكر لحل مسائل البشرية في
الدنيا والآخرة، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وهدايتها إلى الصراط المستقيم الموصل إلى النعيم المقيم.
وكلما جاءت علينا الأحوال والمسائل والمشاكل في مجال الدعوة لا ننظر إلى الأحوال، بل نتوجه إلى الله بالدعاء، ونقدم الشكوى إليه، فهو الذي بيده تغيير الأحوال، وبيده النصر والتمكين.
وننظر مع ذلك إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا فعل في تلك الحال؟، وبماذا أمر؟.
كما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم الكفار في بدر في قلة من المؤمنين، وقلة من العدة، ومخالفة الأحوال، فنصره الله وخذل أعداءه وأمده بجند من الملائكة وكما أنفذ أبو بكر جيش أسامة مع مخالفته للأحوال التي أعظمها موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وكما أخرج أبو بكر الجيوش لحرب المرتدين مع مخالفته في الظاهر لتلك الأحوال .. وهكذا ..
وقبل ذلك وعلى ذلك سار الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم، فالله مع الأنبياء وأتباعهم يحفظهم ويؤيدهم وينصرهم.
فالنمرود لما جمع الحطب لإحراق إبراهيم صلى الله عليه وسلم وألقاه في النار، كان مع إبراهيم كمال الإيمان والتقوى، فلم يلتفت للنار ومن أشعلها، بل توجه إلى الله الذي بيده كل شيء أن ينجيه، فأنجاه الله من النار، ولم يتوجه إلى الأسباب والمخلوقات، بل توجه إلى الله مباشرة، فوجه الله النار بأمره مباشرة أن تحفظه ولا تضره كما قال سبحانه:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68،69].
والامتحان الآخر: أن الله أمر إبراهيم أن ينقل بعض أسرته، هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة، ويضعهم بوادٍ غير ذي زرع حيث أسباب الهلاك موجودة، وأسباب الحياة مفقودة لأمر يريده الله، فامتثل إبراهيم أمر ربه، وأسكنهم بواد غير ذي زرع، وراح وتركهم فحفظهم الله، وساق الناس إليهم، وأنبع الماء لهم، وجبى لهم الثمرات من كل مكان.
وأكرم سبحانه خليله إبراهيم بأن جعله إماماً للناس، وجعله أمة في العبادة والدعوة، وجعل الأنبياء من بعده من ذريته، فهو أب الأنبياء وخليل الرحمن:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37].
والامتحان الثالث: أن الله عز وجل أمر إبراهيم لما بلغ ابنه إسماعيل السعي أن يذبحه كما قال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 101 - 106].
فاستسلم إبراهيم لذبح ابنه، وسلم إسماعيل رقبته للذبح، وكان قضاء الله أن يباشر الأب ذبح الابن؛ لأعلان كمال الطاعة والانقياد لأمر ربه مع مخالفته للطبيعة والأحوال.
فحفظه الله وحفظ ابنه وأبقى إسماعيل، وأخرج من نسله سيد المرسلين، وبعثه رحمة للعالمين.
فما أعظم هذا البلاء، وما أعظم تلك الطاعة .. وما أعظم ذلك التسليم والانقياد لأمر الله.
والله عز وجل أعطى الأنبياء الدين وجهد الدين، وأعطى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته الدين وجهد الدين.
وأول الأوامر بعد التوحيد والإيمان هي أوامر الدعوة في مكة، ثم جاءت أحكام ومسائل الدين في المدينة ..
وتفصيل أصول الدعوة والدعاة إلى الله من النبيين والمرسلين، وما واجهوه من أقوامهم فصله الله في القرآن، وهو من أول ما نزل، وهو غالب سور القرآن.
وتفصيل أحكام الدين بينها النبي صلى الله عليه وسلم وفصلها في السنة النبوية بعد الهجرة إلى المدينة كأحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحوها.
وأول الشهداء شهداء الدعوة في سبيل الله كما حصل لسمية وياسر وغيرهم في مكة قبل الهجرة وقبل مشروعية القتال في سبيل الله.
فالتوحيد والإيمان والعبادة والدعوة هي أعظم حقوق الله على عباده فيجب تذكيرهم بهذه الحقوق جميعاً في جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، وفي جميع الأحوال كما قال سبحانه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
وأعظم أصول الدعوة:
نفي المخلوق واثبات الخالق الذي بيده كل شيء.
ونفي جميع الطرق وإثبات طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال والأعمال.
وتوجيه الناس من الدنيا إلى الآخرة .. ومن العادات والتقاليد إلى السنن النبوية .. ومن تكميل الأموال والشهوات إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن محبوبات النفس إلى محبوبات الرب .. ومن جهد الدنيا إلى جهد الدين .. ومن جهد غير الرسول إلى جهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وندعو إلى الله بيقين النبي صلى الله عليه وسلم على ذات الله وأسمائه وصفاته.
ونجتهد على الناس بنية النبي صلى الله عليه وسلم لهداية العالم كله إلى يوم القيامة.
ونقوم في جميع الأحوال بأعمال النبي صلى الله عليه وسلم حيثما كنا.
ونؤدي جميع الأعمال بطريقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نفعل إلا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر به أو أقره أو شرعه.
فإذا فعلنا ذلك وقمنا بالدعوة بهذه الأصول الأربعة:
يقين النبي .. ونية النبي .. وأعمال النبي .. وطريقة النبي.
جاء الابتلاء من الله لتكميل تربية العبد، وامتحان صدقه وصبره كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجوع والخوف والأذى، والسب والشتم والاستهزاء،
والمكر والكيد وغير ذلك.
فلما صبروا لله واستقاموا على دينه، وتوكلوا على ربهم، وامتثلوا أوامره، بدل الله أحوالهم، وأذهب عنهم الجوع والخوف والمرض، وأعزهم ونصرهم، واستخلفهم في الأرض، وخذل أهل الباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأكمل الله الدين، وأتم النعمة كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فخلف هذه الأمور الأربعة من العباد .. أربع كرامات من رب العباد وهي:
نصرة الله عز وجل .. والتمكين في الأرض .. ونزول الهداية .. والفوز بالجنة والنجاة من النار.
فدين الإسلام عند الله عظيم، ومكانة المسلم كذلك عند الله عظيمة.
ومسؤولية المسلم تجاه الدين عظيمة، والواجب على كل مسلم ومسلمة أربع مسؤوليات:
تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. وإبلاغ الدين.
فتعلم الدين والعمل بالدين للإنسان نفسه، ليعرف المسلم شرع ربه، ويقوم بامتثال أوامر الله ورسوله، ويؤدي ذلك بعلم، وتعليم الدين والتذكير بمواعظه لعموم المسلمين ليفعلوا الطاعات ويجتنبوا المعاصي.
وإبلاغ الدين حق واجب على المسلم يؤديه لعموم الناس ليدخلوا في الدين وتقوم عليهم الحجة كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
وجهد النبي صلى الله عليه وسلم كان على الكفار ليهتدوا ويدخلوا في الإسلام، وعلى المؤمنين بالتذكير والتعليم والوعظ ليستقيموا على أوامر الله عز وجل كما قال سبحانه:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
وقال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55].
وجهدنا الآن ينبغي أن يكون على المسلمين أولاً لتكون حياتهم كحياة الأنبياء والصحابة، وأخلاقهم كأخلاق الأنبياء والصحابة، ويقينهم كيقين الأنبياء والصحابة، وهذا تذكير لا تبليغ.
فإذا قامت الأمة على الجهد، واستقامت على أوامر الله، وجاءت فيها الصفات التي يحبها الله، والأعمال التي أمر بها الله، سهل عليها تبليغ الدين للناس كافة بالأقوال والصفات والأعمال كما قال سبحانه:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
وبسبب ترك الدعوة حلت بالمسلمين المصائب، وكثرت المعاصي، وظهرت فيهم صفات اليهود والنصارى، فارتد بعضهم عن الإسلام، وولى الدين ظهره، واتبع سنن اليهود والنصارى الذين حذرنا الله منهم بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 100، 101].
وأول ما خرج من الأمة اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته .. ثم خرجت طاعة الله ورسوله، وجاءت طاعة النفس والشيطان والكفار .. ثم خرج الدين من حياة جمهور كبير من المسلمين.
والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما علم الأمة بعد التوحيد والإيمان أوامر الجهد للدين والدعوة إليه في مكة من أول يوم، ثم علمهم في المدينة بعد الهجرة أحكام الدين.
ولكن الأمة الآن نسيت وتركت الجهد للدين، وجهلت أوامر الجهد التي فصلها الله في القرآن في قصص الأنبياء، وبينها الرسول عملياً ففقدت الدين وأقبلت على الدنيا:
تجمع الأموال .. وتتمرغ في الشهوات .. وتضيع الأوقات باللهو واللعب: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أصول دعوة الكفار بالترتيب: الدعوة إلى الله .. فإن لم يستجيبوا طالبناهم بالجزية .. فإن أبوا قاتلناهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
ِإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ (أوْ خِلالٍ)، فَأيَّتُهُنَّ مَا أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، فَإِنْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ، إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ» أخرجه مسلم (1).
والصحابة رضي الله عنهم كانت أمامهم الدعوة إلى الله أصالة، فإذا لم يقبل الناس الدعوة طالبوهم بدفع الجزية، فإن أبوا قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ثم جاء بعد من قدم القتال على الدعوة فخاف الملوك والكفار، ورفعت النصرة من الله، فتوجهت القلوب إلى الأسباب والأشياء، وصار المسلمون كالكفار في الاعتماد على الأسباب فغلب من أسبابه أقوى.
وصار المسلمون الآن أذلة لتغير اليقين والترتيب وكثرة المعاصي والذنوب، وقوة أسباب الأعداء، ولا يرفع الله عنهم هذا الذل حتى يرجعوا إلى الدين ويستقيموا عليه ويدعوا إليه كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
(1) أخرجه مسلم برقم (1730).
ومسؤولية الأنبياء وأتباعهم أعظم مسؤولية، فالرؤساء والعامة يتفكرون للأحوال الدنيوية وحلها قبل الموت.
بينما فكر الأنبياء كيف تصلح أحوال البشرية كلها قبل الموت وبعد الموت.
وإذا كان العالم سبب لبقاء أعمال الدين، فإن الداعي سبب لبقاء الدين، فبسبب ترك تعليم الدين انتشرت في الأمة البدع، وعم الجهل، وصار كثير من المسلمين يقترف المحرمات، ويترك الطاعات، ويعبد الله على جهل وضلال، فهذا تقصير العالم.
وبسبب ترك الدعوة حلت بالأمة عقوبات ومصائب، وتسلط أهل الشر والباطل، فأقفلت كثير من المساجد، والتي لم تقفل عطلت عن أعمال المسجد من العبادة والدعوة والتعليم، وبقيت مكاناً تؤدى فيها الصلاة ثم تقفل.
وملئت الأسواق بالسلع، وأماكن اللهو بالملاهي، وأماكن اللعب بالألعاب، وغشى الناس أسواق الفساد والشهوات وأماكن اللهو واللعب، واشتغلوا بالدنيا عن الدين، رجالاً ونساءً، ليلاً ونهاراً.
وخلت كثير من المساجد من جهد الدعوة إلا ما رحم ربك، فأغلقت إلا لصلاة فريضة، ولما خلت المساجد من الأعمال تبعتها البيوت فصارت خالية من الأعمال إلا ما رحم ربك، مملوءة بالأشياء المباحة والمحرمة التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
خلت المساجد من حلقات الذكر والتعليم، والشورى والتفكر لهداية البشرية، وخلت البيوت كذلك وجلس الناس مجالس الغيبة والنميمة .. واللهو واللعب .. وتكميل شهوات النفس.
وتشاوروا ماذا يأكلون؟، وماذا يبنون؟، وماذا يعملون؟، وكم يربحون؟.
وصاروا يتعلمون ما يقيمون به دنياهم، وتتلمذ كثير منهم على أيدي من غضب الله عليهم ولعنهم من اليهود والنصارى، فجاؤوا بحياة اليهود والنصارى وأفكارهم وأعمالهم، ووضعوها في صحن الإسلام وسفرته، ودعوا الناس
إليها باسم العلم، فقعد الناس عليها وهم مطمئنون، يتلذذون بطعمها وحلاوتها، ولو كانت تغضب الله، وتوجب لعنته، وتجلب سخطه، وتسبب عقوبته:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79].
وصار الفكر والعمل عند هؤلاء بالإجماع كيف تزيد الأموال والأشياء، لا كيف يزيد الإيمان والأعمال، وماذا يريد الناس لا ماذا يريد الله.
وصارت حياة اليهود والنصارى وسائر الكفار تنقل إلينا، بل تفرض علينا، وحياتنا وديننا لا تنقل إليهم، ولا تعرض عليهم.
وبدأ كثير من المسلمين يخرجون من الدين بسبب ضعف الإيمان واليقين، وقلة العلماء والدعاة والمصلحين، والكفار ينفرون من الدين، فزادت الدنيا ونقص الدين، وتعلق كثير من الناس بالمخلوق، وأعرضوا عن الخالق ودينه وشرعه.
وإذا قامت الدعوة فتحت أبواب الدخول في الدين، وإذا فقدت الدعوة فتحت أبواب الخروج من الدين، وبدأ يخرج اليقين من الإيمان والأعمال، إلى اليقين على الأموال والأسباب والأشياء.
وإذا قامت الدعوة إلى الله فتحت مداخل الخير كلها، فيدخل الإيمان واليقين والإخلاص، ويدخل الصبر والعفو والإحسان، وتدخل الرحمة والشفقة والتقوى، ويدخل الكفار والعصاة في الهداية والطاعة .. ويجتمع الناس على الحق والهدى.
وإذا لم تقم بالدعوة فتحت مداخل الشر كلها، فيدخل كل شر بكل لون، في كل وقت، ولكل نفس، وإذا دخل كل شر خرج كل خير، فيخرج من الإنسان كل شيء جميل.
يخرج الإيمان واليقين والتقوى، والأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة، حتى في النهاية يخرج الناس من دين الله أفواجاً كما دخلوه أفواجاً.
والفقه في الدين والإنذار بالدعوة متلازمان، ومن غلب هذا على ذاك، أو ترك هذا من أجل ذاك، فقد ضل عن الصواب، وكان كمن له رِجلٌ أطول من الأخرى، فلا يستقيم له المشي:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122].
والله تبارك وتعالى بحكمته ابتلى عباده الذين يدعون إلى الله بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع، وله من الكلام والدعوة ما يناسبه:
الأول: من عرف الحق فعاداه حسداً وبغياً كاليهود، أو عرف الحق وضل عنه كالنصارى كما قال سبحانه:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109].
الثاني: الرؤساء وأهل الأموال، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يقيدهم بأوامره، ويمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه، كما قال سبحانه:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].
الثالث: الذين نشأوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق وهم على باطل، وهؤلاء هم الأكثرون:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} [الصافات: 69، 70].
وهؤلاء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170].
والدعوة إلى الله كما أنها مسئولية الأمة كلها فهي كذلك حاجة الأمة كلها،
فالدعوة إلى الله سبب للهداية كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
والدعوة إلى الله أمان للأمة من العذاب والهلاك كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117].
وكما أن العبادة أمر الله يجب امتثاله من كل مسلم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21].
فكذلك الدعوة أمر الله يجب القيام به من كل مسلم كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
وعلى الداعي حين يقوم بالدعوة إلى الله أن يتعرف على المدعوين، وأن يراعي أحوالهم، فالله سبحانه جعل مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، والناس ثلاثة أقسام:
الأول: من إذا عرض عليه الحق اعترف به واتبعه، فهذه يدعى بالحكمة بحسن بيان الحق ومقاصد الشرع.
الثاني: من إذا سمع الحق اعترف به، لكنه لا يسرع لقبوله والعمل به، فهذا يحتاج مع البيان إلى الموعظة الحسنة بالترغيب في الجنة، والتحذير من النار، ليعلم ثواب الطاعات فيقبل عليها، ويعلم عقوبة المعاصي فيحذر منها، وينشرح صدره للعمل الصالح.
الثالث: من إذا عرض عليه الحق لا يعترف به ولا يقبله، بل يرده بالشبهات، فهذا يجادل بالتي هي أحسن حتى تزول شبهته.
وقد بين الله ذلك كله بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
والدين لا ينتشر ولا يحفظ إلا بأمرين:
الدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيل الله.
فالدعوة أولاً لعموم الناس، ثم الجهاد في سبيل الله لمن عاند وأبى إلا الكفر أو آذى المسلمين أو اعتدى عليهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وهذا واجب المسلمين في كل زمان ومكان، فاتباع المهاجرين والأنصار ليس فقط بأداء العبادات وترك المحرمات.
بل يكون مع ذلك الاقتداء بهم في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: 39، 40].
وجميع طبقات الأمة محتاجون إلى الدعوة إلى الله:
فالكفار والمشركون يُدعون إلى الدخول في الإسلام والخروج من الكفر.
والمبتدعة والعصاة يُدعون إلى الله ببيان أحكام الدين الصحيحة، والترغيب في الأعمال الصالحة، والترهيب من الأعمال السيئة لعلهم يتوبون.
والعباد يحتاجون إلى الدعوة ليزيد إيمانهم، ولتحسن أعمالهم، ولتتحرك قلوبهم لدعوة غيرهم.
والعلماء يحتاجون إلى الدعوة ليعملوا بعلمهم، وينشروا علمهم في الأمة.
وعامة المؤمنين يدعون إلى الله ليزيد إيمانهم ويكمل، فيتوبوا من ذنوبهم، ويحسنوا أعمالهم، ويحفظوا إيمانهم لئلا ينقص.
فليس أحد يستغني عن الدعوة إلى الله والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح والإرشاد، لا المؤمن ولا الكافر، ولا العالم ولا الجاهل، ولا المطيع ولا العاصي.
وكل يدعو بحسب حاله .. وكل يُدعى بحسب حاله.
وإذا قمنا بالدعوة إلى الله يجب أن نخرج من قلوبنا عاطفة الانتقام من الناس
مهما فعلوا بنا وآذونا.
فالمريض إذا زاد مرضه واشتد أحياناً يضرب الطبيب الذي يعالجه، والطبيب يشفق عليه ويواصل علاجه، ويسهر من أجله.
وهكذا أعداء الأنبياء وأعداء المسلمين بسبب شدة مرضهم وجهلهم يسبون الأنبياء والدعاة والمسلمين ويؤذونهم ويقاتلونهم، والأنبياء وأتباعهم كلما زاد الأعداء في أذاهم زادوا شفقة عليهم، ودعوا الله لهم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].
ولما كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تَوَّجها الله بتاجين:
أحدهما: صفة الأمة: وهو تاج الإيمان، والعبادات، والمعاملات والمعاشرات والأخلاق.
الثاني: عمل الأمة: وهو تاج الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح للخلق.
والأمة إذا تركت الدين فقد قطعت صلتها بالله، وأحلت بنفسها عقاب الله .. وإذ تركت الدعوة إلى الله خرج الدين من حياتها، وجاء الفساد في الأمة وفي العالم كله .. وانتشر الظلام مكان النور .. والشرك مكان التوحيد .. والمعاصي مكان الطاعات .. وأوجب ذلك غضب الله وسخطه ولعنته كما قال سبحانه:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79].
وإن آفة أهل العلم والدعوة حين يقصدون بعملهم غير وجه الله من طلب مال أو جاه أو منصب، فحينئذ يصبح الدين حرفة وتجارة خاسرة لا عقيدة حارة دافعة.
فهنا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، وينهون عن الشر ويقتحمونه، فهؤلاء قد ضلوا وأضلوا، وهم
يحسبون أنهم على شيء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16].
وكثير من المسلمين يجهل أنه مكلف بالدعوة إلى الله، وبعضهم اكتفى بالعبادة عن الدعوة، وبعضهم اشتغل بالعلم وتعليمه، وبعضهم يؤدي العبادات، وجل وقته للشهوات، وبعضهم ليس معه من الدين إلا اسمه فلا عبادة ولا دعوة، والناس في ذلك طبقات ودرجات، ولكي يعرف كل إنسان ربه ودينه وأعمال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعرف أنه مسؤول عن الدين ونشره في العالم، ولكي يعود إلى ربه ويتوب إليه، ويحب دينه، ويرى جهد رسوله، لا بدَّ من تكوين بيئة صالحة يرى فيها المسلم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم: من العبادات والدعوة والتعليم والآداب والسنن القولية والفعلية، وحسن المعاشرات والأخلاق.
فإذا دخل في هذه البيئة الصالحة زاد إيمانه، وتغير فكره، وحسنت أعماله، وأقبل على الطاعات، وترك المعاصي، وصار عابداً داعياً، معظماً لربه، ممتثلاً لأوامره، شاكراً لنعمه، محسناً إلى خلقه، كما حصل ذلك كله في المدينة في المسجد النبوي، وفي بيوت النبي، وفي بيوت أصحاب النبي، فكل من دخل تلك الأماكن تأثر بما فيها من الإيمان والأعمال، واكتسب السنن والأحكام والآداب، فعمل بها داعياً إليها كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119].
وقال سبحانه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122].
ولا بدَّ من التدرج في إيصال هذه الأصول لكل إنسان، ولكل جاهل، ولكل ضال، ولكل عاص، ولكل معاند، ولكل مستكبر، فلما تكونت بيئة الإيمان والأعمال الصالحة في المدينة جاءت الوفود تعلن إسلامها وطاعتها لله ورسوله، ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً.
وعودة الناس إلى الدين والعمل به والدعوة إليه لها أصول، ويتم ذلك بما يلي:
التأليف .. ثم التعريف .. ثم التكليف.
فنؤلف قلوب الناس بالثناء عليهم، وذكر محاسنهم، وإنزالهم منازلهم، ونهدي لهم ما يحبون، ونكرمهم ونحترمهم ونوقرهم، وبذلك يحبوننا، فيسمعون كلامنا، ويتأثرون بصفاتنا، ويرغبون في ديننا.
ثم نبين لهم عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته ليعظموه، ثم نبين كثرة نعمه على عباده، وجميل إحسانه إليهم، خاصة هذا الدين الذي منَّ الله به على عباده، ليشكروه ويطيعوه ليزيدهم من فضله.
ثم نبين حاجة البشرية الماسة للدين ليسعدوا في الدنيا والآخرة ثم نبين فضائل الدعوة إلى الله، وفضل الخطوات في سبيل الله، وجهود الأنبياء في نشر دين الله، ونرغب الناس في جهد الأنبياء.
فإذا عرف الناس ذلك جاءت عندهم الرغبة في العمل بالدين والدعوة إليه، والصبر على ذلك.
فإذا قام المسلم بالدعوة إلى الله زاد إيمانه، ونزلت الهداية على العباد، وجاءت عنده الرغبة في التضحية في سبيل الله بنفسه وماله، وأوقاته وشهواته، وبلده وأولاده، وكل ما يملك كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88، 89].
ثم تأتي في قلبه رحمة الناس، والشفقة عليهم، والإحسان إليهم، والدعاء لهم، ثم يرى عياناً مظاهر رحمة الله لعباده، وفضله عليهم.
وأهم أصول دعوة الأنبياء التي تنزل بسببها الهداية:
الإيمان واليقين، والتقوى والإخلاص، والاستقامة على أوامر الله، والتوكل على الله، والصبر على كل أذى، والعفو والصفح، والرحمة والشفقة، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال، والقيام بالدعوة إلى الله، وعدم سؤال الناس
الأجرة عليها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يدعون إلى الله بالعزة؛ لعلمهم أن الله معهم وهو مولاهم، ويمشون بالانكسار والتواضع؛ لعلمهم أن الهداية بيد الله وأنهم لا يملكون شيئاً، ويرحمون الناس ويشفقون عليهم، ويرفقون بهم، لعلهم يهتدون فينجون من عذاب الله؛ لأنهم يعلمون ما لا يعلمون.
ولم يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة تقاليد الجاهلية من خمر وزنى وميسر وربا من أول الأمر؛ لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة، فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها جهد ضائع.
وإنما بدأ صلى الله عليه وسلم من شهادة أن (لا إله إلا الله).
وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله في القلوب حتى بلغت ثلاثة عشر عاماً في مكة، تم فيها تعريف الناس بإلههم الحق، وتعبيدهم له، وتطويعهم لسلطانه، وتذكير الناس بنعم الله على عباده، وبيان ثواب أهل الطاعة، وعقاب أهل المعصية، واطمأنت القلوب وأسلمت نفسها لله.
حتى إذا خلصت نفوسهم لله، وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله، وجاءت فيهم محبة الله ورسوله ودينه، واستعدت نفوسهم للطاعة وتنفيذ أوامر الله، بدأت التكاليف بما فيها الشعائر التعبدية وتفصيل أحكامها وأوقاتها ومقاديرها في المدينة.
وعندئذ بدأت تنقية رواسب الجاهلية في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق.
بدأت في الوقت الذي يأمر الله بأمر فيطيع العباد بلا جدال، بل نزلت أوامر الدين في المدينة كالمطر فاستقبلوها بالطاعة التامة، وتلذذوا بأدائها وتنفيذها، وقالوا سمعنا وأطعنا لله ورسوله؛ لأنهم أسلموا وجوههم لله، فلا يختارون إلا ما اختاره الله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: إما مؤمن .. وإما كافر .. وإما منافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، بخلاف ما كانوا وهو بمكة، فلم يكن هناك منافق، ولم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في المدينة في قبائل الأنصار.
فإن مكة كانت قبل الفتح بيد الكفار وهم زعماؤها، فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن، والمدينة آمن بها أهل الشوكة والزعامة، فصار للمؤمنين بها عزة ومنعة بالأنصار، فمن لم يظهر الإسلام من الكفار انكشف أمره، وبطل كيده ومكره، فظهر النفاق، واحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان وشعائره مع أن قلوبهم لم تؤمن:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} [التوبة: 101].
وجميع العبادات مركبة على الرخص، فبدل الوضوء التيمم عند الحاجة، والفطر بدل الصيام في السفر، وقصر الصلاة وجمعها في السفر، والصلاة للمريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب .. وهكذا.
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6].
أما الدعوة فهي مركبة على العزيمة كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].
وقال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52].
وحاجة البشرية للدين أعظم من حاجتهم للطعام والشراب، بل أعظم من الهواء والتنفس؛ لأنهم بفقد الهواء والتنفس يفقدون الحياة الدنيا، وبفقد الدين
يخسرون الدنيا والآخرة، وأي خسران فوق هذا؟
{وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119].
فلا بدَّ من الانتشار في الأرض لإبلاغ دين الله، ونشر السنن والأحكام بين الناس، ومقاتلة من يصد عن سبيل الله، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .. كما قال سبحانه:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41].
ومن أجل ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في كل مكان، وعرض دعوته وما جاء به من الدين على أهل مكة .. وأهل الموسم .. وأهل الطائف .. وأهل المدينة .. وأنذر الناس كافة .. والعالمين قاطبة. وجاهد بنفسه، وغزا بنفسه، وأرسل البعوث والسرايا لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وقمع المعتدين، ودفع عدوان الظالمين. وكذلك فعل الصحابة معه، ومن بعده، فساروا في مشارق الأرض ومغاربها دعاة إلى الله، مبلغين دين الله، معلمين سنن رسول الله، مجاهدين في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم.
ومضوا في هذا السبيل داعين إلى الله، مجاهدين في سبيل الله، في مشارق الأرض ومغاربها، حتى مات أكثرهم في غير مكان مولده، فعلوا ذلك كله امتثالاً لأمر ربهم:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
فعقبة بن نافع مات في الجزائر .. وأبو لبابة في تونس .. وأبو أيوب الأنصاري في أسطنبول .. وأبو طلحة الأنصاري في جزائر الروم .. وقثم بن عباس في سمرقند .. وقتيبة بن مسلم الباهلي في فرغانة .. وعبد الرحمن الغافقي في فرنسا .. والنعمان بن مقرن في نهاوند .. وعلي بن أبي طالب في الكوفة .. والبراء بن مالك في تستر .. والحارث بن هشام في اليرموك .. وأبو عبيدة في الأردن .. وعبد الله بن رواحة في مؤتة .. وخالد بن الوليد في حمص .. وسلمان
الفارسي في المدائن .. وبلال في دمشق .. وأنس بن مالك في البصرة .. وجعفر بن أبي طالب في مؤتة .. وعبد الرحمن بن سمرة في خراسان .. وعمرو بن العاص في مصر .. وشرحبيل بن حسنة في الأردن .. وسهيل بن عمرو في الشام، وغير هؤلاء كثير.
والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم له عشرة أبناء، سبعة منهم قبورهم في بلاد شتى وولادتهم في مكة:
الفضل في الشام .. وعبد الله في الطائف .. وعبيد الله في اليمن .. وقثم في سمرقند .. وعبد الرحمن ومعبد في إفريقيا.
وحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أكثر من مائة ألف، فلما قال لهم:«لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَهُ مِنْهُ» متفق عليه (1).
خرجوا بأموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة الباطل من الأرض، وما دفن منهم في المدينة إلا ما يقارب عشرة آلاف، والباقون ماتوا مجاهدين مسافرين مبلغين لدين الله في أنحاء الأرض، فرضي الله عنهم أجمعين:{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88، 89].
وكانت الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة اجتماعية على كل فرد كالعبادة، ثم بقيت العبادة اجتماعية، وتحولت الدعوة إلى أفراد من الأمة، واقتصرت على قلة من الناس، فتأثرت عقيدة الأمة، وفسد يقينها، واهتز أمنها، وكثرت جراحها.
فضعف الإيمان .. وبسبب ضعف الإيمان ضعفت الطاعات .. ثم ضعف العلم والذكر والتذكير .. ثم تأثرت الأخلاق .. ثم تغيرت المعاشرات .. وساءت المعاملات .. وتغيرت النيات.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67) واللفظ له، ومسلم برقم (1679).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من التأثر والنقص والضعف، بل أخذ مكان كل صفة ضدها عند كثير من المسلمين:
فكان مكان قوة الإيمان ضعف الإيمان .. ومكان قوة الأعمال ضعف الأعمال .. ومكان حسن الأخلاق سوء الأخلاق .. ومكان الدعوة إلى الله الدعوة إلى الأموال والأشياء .. ومكان جهد الدين جهد الدنيا.
حتى ظهر في الأمة من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف على كافة المستويات.
وركب أكثر الأمة مراكب اللهو واللعب والغفلة والاشتغال بالدنيا كما هو واقع صريح في العالم الإسلامي، فضلاً عن العالم الجاهلي.
واقتحم كثير من المسلمين المعاصي والفواحش علانية بلا مبالاة ولا خوف ولا حياء.
فهل تُترك هذه الجراح تنزف المعاصي والذنوب والكبائر التي تغضب الله وتسبب سخطه، وتوجب لعنته، وتحل بنا نقمته؟ وهل تترك الأمة تسير وراء الشياطين والمجرمين بلا هدى إلى جهنم؟.
وإذا كان العالم الآن ما يقارب سبعة مليارات إنسان، أكثرهم بلا إيمان ولا هدى، ويموت منهم يومياً أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان إلى جهنم؛ لأنهم كفار يعيشون كالبهائم والشياطين بلا هدى.
فمن المسئول عن هؤلاء؟، ومن المسئول عن التقصير في دعوتهم إلى الله؟، وماذا خسرت البشرية لما قصرنا في إبلاغها الدين؟ إن مسؤولية البشرية كافة يتحملها المسلمون كافة، فقد اجتباهم الله، وأكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، وأخرجهم للناس بأعظم دين، وأشرف وظيفة كما قال سبحانه:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
إن لكل مسلم أخوين:
أخ في الدين والنسب وهو المسلم .. وأخ في النسب لا في الدين وهو الكافر، ولكل منهما حق عليه.
فحق المسلم النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وحق الكافر دعوته إلى الله، والعمل بشرع الله.
والدعوة إلى الله واجبة على كل فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي أول واجب وأعظم واجب بعد الإيمان والعبادة على جميع الأمة وفي جميع الأحوال لكل الناس، فمن تركها وشغل نفسه بغيرها فهو آثم مقصر في وظيفته، ومسؤول عن تقصيره.
والله عز وجل يحتج على الحكام والملوك إذا تركوا الدعوة بسليمان عليه الصلاة والسلام، فلم يشغله ملكه عن الدعوة إلى ربه.
ويحتج سبحانه على الفقراء إذا تركوا الدعوة بمحمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
ويحتج على الأغنياء إذا تركوا الدعوة إلى الله بأغنياء الصحابة كأبي بكر وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم.
ويحتج على المرضى إذا تركوا الدعوة إلى الله بأيوب صلى الله عليه وسلم .. وهكذا.
والناس مختلفون في قدراتهم ووظائفهم فمنهم الملك، ومنهم الوزير، ومنهم التاجر، ومنهم الطبيب، وهذه الوظائف الصغرى وقتها قليل، ومنافعها محدودة، فلا تعطى كل الوقت وكل الفكر وكل العمل.
أما الوظيفة الكبرى لكل مسلم ومسلمة مهما كان فهي مركبة من أمرين:
الأول: عبادة الله .. الثاني: الدعوة إلى الله.
ففي الأولى إصلاح النفس .. وفي الثانية إصلاح الغير.
وكل عمل فيما سوى ذلك فهو خسران محقق على صاحبه كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].
فهاتان النسبتان لازمتان لكل مسلم ومسلمة في جميع الأحوال.
وقد قسم الله الغني الكريم أرزاق العباد، وجعل لها أسباباً دينية ودنيوية تنال بها، فطلب المعاش وكسب الرزق لا مانع منه، بل هو فريضة بعد أداء فرائض الدين.
ولكن نقوم بالكسب بجوارحنا، ونعتمد على الله في حصوله بقلوبنا، فإن الله هو الرازق الذي لا رازق سواه.
فنقوم بالكسب وفي قلوبنا دائماً العبودية لله، بامتثال أوامر الله في التجارة، والدعوة إلى الله في كل وقت.
فالإسلام حق لكل فرد في الأمة، والناس محتاجون إليه، ولا بدَّ من عرضه عليهم، فالإسلام لكي يقبله الناس لا بدَّ من إحسان عرضه على الناس في مساجدهم وبيوتهم وأسواقهم عن طريق العبادات .. وحسن المعاملات .. وجميل المعاشرات .. وحسن الأخلاق.
وبيان عظمة ربهم وجلاله ليعظموه .. وذكر نعمه وآلائه ليشكروه .. وتذكيرهم بإحسانه وفضله ليحبوه ويحمدوه .. وبيان شرعه وأحكامه ليتقربوا به إليه .. وذكر منازل أهل الطاعة في الجنة ليقبلوا على الطاعات .. وذكر منازل أهل المعصية في النار ليحذروا معصيته.
وبيان الفضائل والسنن والآداب قولياً وعملياً ليعبد الناس ربهم على بصيرة .. ويقبلوا على طاعته محبين له معظمين له.
وعلينا أن نتكلم مع الناس حسب عواطفهم وحاجتهم لا حسب عواطفنا، فكل من لزم عملاً أو سلك طريقاً هو في الغالب مقتنع به خيراً كان أو شراً.
فالكافر والعاصي يبين له حسن عمله، ويبين له الأحسن منه، ويذكر بمحاسنه وجميل أفعاله، ويكرم ويدعى له، ويذكر بربه ونعمه.
وبمثل هذه الأخلاق ينشرح صدره، ويتأثر قلبه، وينفتح عقله، فيستعد لسماع الحق وقبوله والعمل به والدعوة إليه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8].
وهل الدعوة إلا توجيه الناس إلى ربهم ودينه بالتي هي أحسن .. ونقلهم بالحكمة والرحمة من الشرك إلى التوحيد .. ومن الكفر إلى الإيمان .. ومن الباطل إلى الحق .. ومن القبيح إلى الحسن .. ومن الحسن إلى الأحسن.
فالدعوة أم الأعمال، والعبادة من ثمراتها، والعبادة خاصة بالنفس، والدعوة عامة للبشرية، ولذلك بين الله أصول الدعوة في القرآن مفصلة؛ لأنها وظيفة الأمة الكبرى.
ولكن يعرض للداعي إلى الله عقبات تعوقه أو تثبطه أو تقطعه، فلا بدَّ من معرفتها، ومعرفة علاجها، والحذر منها، وهي خطوات الشيطان التي يسلكها ليضل الخلق عن الحق، ويصرفهم عن الدين.
فأولاً إذا قام الداعي بالدعوة إلى الله جاءه العدو الألد (اليأس) ففتت من همته لما يراه من سعة مساحة الكفر، وكثرة الطغاة والعصاة.
وعلاجه بقوله سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 17].
ثم يشن (حب الظهور) هجومه، فيهوي بضرباته على رأس الهمة ويطرحها على الأرض، فيحترق العمل لفقده الإخلاص.
وعلاجه بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8].
ثم يبرز إلى الميدان مفسد الأعمال وهادم البنيان (داء الاستعجال)، فتنقلب الأعمال على عقبيها لعدم استوائها ووضعها في غير محلها. وعلاجه بقوله سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200].
ثم يتصدى للدعوة (الرأي الشخصي المستبد) الذي يبدد أعمال الإنسان وأعمال الجماعة، ويسبب رفع نصرة الله عنهم، وتمكين الأعداء منهم.
ثم يبرز (التفكير الانفرادي) فيهتم بنفسه، ويهمل غيره، فلا يتماسك له بناء، ولا تثمر له شجرة، وإنما خير الناس أنفعهم للناس وعلاج ذلك كله بقوله سبحانه:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
ثم يخرج إلى الساحة عدو آخر ماكر وهو (التقليد) فيجد الفرصة سانحة لتقليد الكسالى والقاعدين، وبه يقصم ظهر الهمة، فيكثر القاعدون، فتتراكم الظلمات، وتزداد الجهالات، وتنبت البدع، وتختفي السنن.
وعلاجه بقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41].
ثم يلوح العدو الغدار وهو (التسويف) الناجم عن العجز وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ معه تأجيل الأعمال الصالحة الأخروية من اليوم إلى الغد، ثم ينسيه الشيطان إياها.
وعلاجه بقوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133].
ثم يدخل الساحة العدو الملحد وهو (التدخل فيما هو موكول أمره إلى الله).
فليس للعبد أن يتأمر على سيده، وإنما واجبه تنفيذ أوامر سيده وطاعة مولاه.
وأخيراً يقبل داء (حب الراحة والدعة) الذي هو أم المصائب وعلاجه بقوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [النجم: 39 - 41].
وهذه الدار دار المجاهدة والعمل، والناس في جهاد إما لدينهم وإما لدنياهم، وأحسن الجهاد ما ثمرته كبيرة نافعة باقية، وهو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
وإذا كان الداعي يدعو الناس إلى الله، فالعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، وكما أن كل مسلم مأمور بالعبادة، فهو كذلك مأمور بالدعوة.
والناس محتاجون إلى الداعي الذي يدعوهم إلى الله، وإلى العالم الذي يعلمهم أحكام دينهم.
والفرق بين الدعوة والإفتاء:
أن الفتوى خاصة بمن اختارهم الله لذلك من العلماء والفقهاء الذين مكنهم من العلم بالسنن والأحكام، وأعطاهم القدرة على الحفظ، ووفقهم للفقه في الدين، فهؤلاء العلماء يعلمون الناس، ويجيبون من سأل عن الأحكام ومشكلات المسائل.
وكثير من الصحابة كانوا يخافون من الفتوى ويتدافعونها مع غزارة علمهم وكمال معرفتهم بدينهم، ولم يكن فيهم مفت إلا قلة كابن عمر وابن عباس، وعلي ومعاذ، وابن مسعود رضي الله عنهم.
أما الدعوة إلى الله فهي عامة لكل فرد من الأمة رجالاً ونساءً، فالدعوة لعموم الناس، والنصيحة لعموم المسلمين، والفتوى خاصة بالعلماء.
ومن الناس من اختلط عليه الأمر فظن أن الدعوة خاصة بالعلماء والفتوى مباحة لكل أحد، وهذا بلاء عظيم، وقول على الله بلا علم، وذلك قرين الشرك، بل هو أخطر منه كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].
فلنسأل القرآن لينكشف الصواب، ويتميز الحق من الباطل.
ففي الفتوى نسأل العلماء كما قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43].
والدعوة وظيفة كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
والعبادة واجبة على كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21].
فعلينا القيام بثلاثة أمور:
الأول: أن نجعل حياتنا تابعة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن نقوم بجهد النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله لعموم البشرية.
الثالث: أن نقيم الأمة على جهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الدعوة إلى الله، كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على ذلك من أول يوم.
والدعوة إلى الله وإن كانت إحساناً للبشرية، فهي في نفس الوقت حقهم الذي يجب إيصاله إليهم وإبلاغهم إياه:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
والأمة لما تركت الدعوة إلى الله ضعف فيها الإيمان، وقلت الطاعات، وكثرت المعاصي، وجاء فيها صفتان من صفات اليهود والنصارى:
الأولى: الاهتمام بجمع الأموال بأي وسيلة، وفي كل وقت، وشغل الفكر والبدن بذلك كاليهود الذين لعنهم الله.
الثانية: الاهتمام بتكميل الشهوات وإضاعة الأوامر، وشغل الفكر والبدن بذلك كالنصارى الذين ضلوا عن الحق.
وكان الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أمة الإجابة وهم المسلمون .. وأمة الدعوة وهم الكفار.
ثم أقبل كثير من المسلمين على الدنيا بسبب ترك الدعوة فصار الناس على ثلاثة أقسام:
أمة الإجابة وهم المسلمون .. وأمة نيابة وهم المسلمون الذين يقومون بالدعوة .. وأمة دعوة وهم الكفار.
فالواجب الآن أن نجتهد على من ترك وظيفة الدعوة من المسلمين، حتى يكون الجميع أمة نيابة، ثم نجتهد على أمة الدعوة وهم الكفار إذا ظهرت صفات الإسلام وعباداته وأخلاقه في المسلمين، والتي هي سبب للهداية.
والله تبارك وتعالى جعل هذا الدين العظيم أمانة عندنا نقوم به وندعو إليه، فلا بدَّ من حفظ هذه الأمانة، وأدائها إلى أهلها، ووضعها في أماكنها، وهي قلوبنا وقلوب الناس، وأبداننا وأبدان الناس.
ومن فضل الله عز وجل على هذه الأمة أن أكرمها بوظيفة الدعوة إلى الله في جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، ولكل الناس، فبالدعوة يزيد الإيمان، ويقوى اليقين، وتكثر الطاعات، وتقل المعاصي، وتزيد الأجور، ويهتدي الناس، ويزيد الخير، ويقل الشر، وتصلح أحوال البشرية في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70،71].
ومن أجل ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله في جميع الظروف والأحوال.
في حال العسر واليسر .. وفي حال الأمن والخوف .. وفي حال الشدة والرخاء .. وفي حال الحر والبرد .. وفي حال الصحة والمرض .. وفي حال السفر والإقامة .. وفي حال الغنى والفقر.
فحين مات عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب وزوجته خديجة في مكة لم يترك الدعوة، بل ضاعف الجهد والعمل، وهاجر من أجل الدين إلى المدينة مع تهديد قريش له، وسعيهم في قتله.
وماتت ابنته رقية في المدينة، وهو يجاهد في سبيل الله في غزوة بدر، وقتل عمه حمزة بين يديه في أحد، وجرح في وجهه وكسرت رباعيته في أحد، وقتل
سبعون من أصحابه بين يديه في أحد.
ورمى المنافقون زوجته عائشة بالفاحشة، فما منعه كل ذلك عن القيام بالدعوة.
وقبل ذلك قال الكفار عنه صلى الله عليه وسلم ساحر كذاب، وتارة شاعر، وتارة مجنون .. وطردوه وسبوه وآذوه .. ومكروا به، وكادوه، وسخروا منه .. ثم عزموا على قتله .. ليموت الدين الذي جاء به كما قال سبحانه:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30].
والله عز وجل يثبته ويطمئنه ويؤيده، ويأمره بالصبر كما قال سبحانه:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60].
وتوالت عليه تلك المصائب وغيرها، ولكن همّ الدين، وإقامته ونشره وإبلاغه شغله عن تلك المصائب، فأظهر الله دينه، وكانت العاقبة له وللمؤمنين به، فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، الذين بعثهم الله رحمة للعالمين، فبلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا على كل ما أصابهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر دينه، أولئك رسل الله:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} [الأحزاب: 39].
وكل من قام بالدعوة إلى الله، وغشى الناس في بيوتهم وأسواقهم داعياً ومعلماً للناس فالله يستخدمه لدينه، ويجعله سبباً لهداية العالم، وبجهده يتغير العالم كما تغير بجهد الأنبياء.
فتحيا الفرائض والأوامر .. وتحيا السنن والآداب في حياة الناس .. ويحيا في الأمة الشعور بمسئولية الدين .. وتصلح عباداتهم ومعاملاتهم .. وتصلح معاشراتهم وأخلاقهم .. وتصلح بيوتهم وأسواقهم .. وتدخل السنن .. وتخرج البدع .. وتتهيأ القلوب للحق .. ويحصل فيها الاستعداد لجميع أعمال الدين .. ويرزق الله الداعي قوة اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته .. ويجعل أعمال
الدين كلها محبوبة لديه .. ويرى نصرة الله معه .. ويطوي بساط الباطل من حوله .. ويجعل له المحبة في قلوب الناس، ويكتب له مثل أجور كل من دعاه واهتدى بسببه إلى يوم القيامة وتحصل له الهداية، وتنزل بسببه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
فأي خير؟ .. وأي بركات؟ .. وأي منافع تحصل للدعاة والمدعوين بسبب الدعوة إلى الله؟: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
وكم الأرباح التي يحصل عليها الدعاة إلى الله؟.
وكم حجم الخسارة التي يخسرها من ترك وظيفة الدعوة إلى الله؟.
وكم ينجو من البشرية من النار ببركة الدعاة إلى الله؟.
وكم يقع في النار من البشر بسبب ترك الدعوة إلى الله؟.
إن الله عز وجل فطر عباده على التوحيد، ولكن الشياطين جاءتهم فاجتالتهم عن دينهم، وزينت لهم سوء أعمالهم، وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضلوا وأضلوا، فلا بدَّ من بذل كل جهد ليعود الناس إلى ربهم وفاطرهم.
إن الكافر والعاصي كالغريق لا بدَّ له من عمليتين:
الأولى: إخراجه من الماء .. والثانية: إخراج الماء منه.
وكذلك الكافر والعاصي نخرجه من البيئة الفاسدة إلى البيئة الصالحة التي فيها الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، فإذا دخل الإيمان في قلبه، وجاءت عنده محبة الإيمان والأعمال الصالحة عالجناه بإخراج الشهوات وحب الدنيا من قلبه، ثم نزكيه بالإيمان ولزوم البيئات الصالحة التي يسهل فيها فهم الدين، وحب الدين، والعمل بالدين.
والحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يؤثر في قلوب الناس إذا توفرت له ثلاث قوى:
قوة دافعة وهي الإيمان .. وقوة ضابطة وهي العلم .. وقوة جاذبة وهي العمل الصالح وحسن الخلق.
وينتشر الحق بين الناس بصنفين من الناس:
الأول: أناس مؤمنون يضحون بأموالهم وأنفسهم، ويتركون ديارهم وأعمالهم وأهلهم، وكل ما يملكون، ويخرجون لإعلاء كلمة الله.
الثاني: أناس مؤمنون يبذلون أموالهم وأوقاتهم وكل ما يملكون من أجل إعلاء كلمة الله.
أناس يتركون لله .. وأناس يبذلون لله .. فالأولون المهاجرون .. والآخرون الأنصار .. فالبذل والترك .. علامة الصدق .. وتاج التضحية، فأولئك وأولئك بالإيمان والبذل والترك من أجل إعلاء كلمة الله رضي الله عنهم كما قال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
وكمال شخصية الداعي إلى الله تتطلب التحلي بأحسن الأخلاق والصفات، ليكون سبباً في محبة الناس للدين، ومن ثم دخولهم فيه، فضلاً عن محبة الله لذلك.
وقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم متمماً لمكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (1).
ومن أهم تلك الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي إلى الله:
أولاً: اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فيتيقن أن الله معه يؤيده وينصره ويحفظه، واليقين التام بصلاحية دعوته، وأهمية نشرها بين الناس.
بل يرى أن عدم عرضها على الناس، وحملهم عليها جناية عليهم، وخيانة لهم.
واليقين على أنها السبيل الوحيد لسعادة الأمة، وحل مشاكل العالم، وبها تحيا السنن والأوامر الشرعية.
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (8952).
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (276)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (45).
وبذلك الشعور يصبح قادراً على التفاني في سبيل نشرها، والتضحية بكل ما يملك من أجلها كما قال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
ثانياً: حسن الأخلاق، والقدوة الحسنة في العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق كالرحمة والشفقة، والصدق والصبر، والعفو والحلم، والجود والإكرام، والرفق والحياء، والتواضع، والعدل والإحسان، ومقابلة السيئة بالحسنة كما قال سبحانه:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35].
ثالثاً: الاهتمام بالروح، وذلك بالتجافي عن الدنيا وحطامها وشهواتها، والإقبال على النفس وتطهيرها وتزكيتها بذكر الله، وفعل الطاعات محبة لله وتعظيماً له، وتضرعاً إليه، واجتناب المحرمات طاعة لأمره.
رابعاً: الشجاعة: وهي نوعان:
الأول: شجاعة القلب التي تحمله على أن لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يهاب أحداً سواه كما قال سبحانه:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].
الثاني: شجاعة العقل التي تحمله على أن يجاهر برأيه، ويصرح بعقيدته، ويصدع بالحق الذي يؤمن به ويدعو إليه، ويعيش من أجله، ويضحي بنفسه وماله وكل ما يملك من أجله كما قال سبحانه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}
…
[الحجر: 94].
والدعوة إلى الله كما هي وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم هي كذلك وظيفة الأمة، ولهم به قدوة في الدعوة كما لهم به قدوة في العبادة وقد بذل الرسول صلى الله عليه وسلم جهده في إبلاغ الدين، ونشر الرسالة، فلم يدع وسيلة للدعوة إلا استفاد منها، ولا سبيلاً
إلا سلكها، ولا فرصة سانحة إلا شق طريقه إليها، ولا مناسبة إلا كان له نصيب فيها.
فلم يذر قريباً إلا عرض عليه الإسلام .. ولا بعيداً إلا شد الرحال إليه .. يدنو البعيد بهمته .. وتذلل الصعاب لعزيمته .. يحدوه الأمل فيجد في العمل .. لا يكل ولا يمل.
لا يثنيه تجهم قريب .. ولا صدود بعيد .. ولا سخرية شامت .. ولا كيد حاسد .. ولا ظلم مستكبر .. ولا أذى باغ .. ولا طغيان جبار.
عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل .. واجتمع بوفودها في المواسم .. ودعا عامتهم وخاصتهم إلى الإسلام بالرحمة والشفقة، واللطف واللين .. ولم يأل جهداً ولم يدخر وسعاً .. حتى ظهر أمر الله .. وعز الإسلام وأهله .. وقامت دولته .. وقويت شوكته .. وكملت شرائعه .. ورفعت أعلامه.
وأقوى سلاح الدعوة وأبلغها أثراً وأعظمها نفعاً رحمة الناس، والرفق بهم واللين معهم، ليقبلوا الدين، ويعملوا بأحكامه، ففرعون أشد خلق الله طغياناً وكفراً .. وظلماً وكبراً .. وقال ما لم يقله إبليس، نازع الله في الربوبية فقال:{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24].
ونازع الله في الألوهية فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].
وادعى ما لا يملك وكفر بنعمة الله فقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف: 51، 52].
واستكبر ورد أمر الله كما قال الله عنه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)} [القصص: 39].
ومع هذا كله جاء أمر الله لموسى وهارون بدعوته إلى الله بالقول اللين كما قال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43، 44].
والدعوة إلى الله على منهج الأنبياء والمرسلين سبب لإقامة الدين في حياة الأمة وقبولها له، وتأثرها به.
أما إقامة الدين في حياة الأمة عن طريق الحكومة أو الأموال أو القوة لا عن طريق الدعوة، فهذا من أساليب الشياطين واليهود الذين يسعون في الأرض فساداً كما خرجوا على عثمان بن عفان رضي الله عنه بالسيف، ومنذ ذلك الوقت والسيف يعمل في المسلمين لا في أعداء المسلمين.
وحصل للمسلمين ولعلماء ودعاة المسلمين من الأذى والسجن والطرد والقتل بسبب هذا الفكر ما يندى له الجبين، وما زال يحصل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 66 - 70].
ولما كان الكفار يعلمون أن المسلمين إذا قاموا بالدعوة إلى الله انتشر الدين في العالم، وسلبوا ملكهم ومكانتهم، فقالوا أشغلوا جميع المسلمين في أنحاء الأرض بالأموال والشهوات حتى ينصرفوا عن الدعوة، وتبقى الدنيا في أيدينا نلعب فيها وبمن فيها كيف نشاء.
وأشغلوا بعضهم ببعض من أجلها، وأوقدوا نار الحرب بينهم من أجلها، وأخذوا أموالهم وأعطوهم أسلحة يهلك بها بعضهم بعضاً من أجل الدنيا.
ولذلك الكفار لا يعبأون بمساجد المسلمين ما دامت لا أعمال فيها، ولا يبالون بعلوم المسلمين ما داموا لا يعملون بها، ولا يهتمون بعبادة المسلمين ما دامت لا روح فيها.
إنما همهم كيف يحولون بين المسلمين وبين الدعوة إلى الله، وكسر مفتاح الدين الذي يفتح الله به القلوب والبلدان.
ولذلك اجتهد الأعداء في تكوين بيئة استثمار الأموال، وبيئة الشهوات، في كل مكان، وفي كل مدينة، وفي كل قرية، وفي كل شارع، وفي كل بيت، حتى يشغلوا الناس بالأموال والشهوات، ويستغنوا ويلهوا بها عن الإيمان والأعمال الصالحة.
وقد فعلوا ذلك، وصار واقعاً يشهده الطير والحيوان والإنسان، وتغير فكر كثير من المسلمين، ثم تغيرت عواطفهم، ثم تغيرت أعمالهم، ثم تغيرت طريقة حياتهم، وصار أئمتهم اليهود والنصارى لا الأنبياء والصالحين، يسيرون خلفهم ولو كان إلى جهنم.
وصار المسلم معرضاً للأخلاق السيئة في سمعه وبصره وشكله وسائر جوارحه، وقام سوق الباطل في صحن الإسلام وبساطه.
والحل: أن نقوم بالدعوة إلى الله في كل مكان، ونكوِّن البيئة الصالحة، بيئة الإيمان والإعمال الصالحة كما كوَّنوا البيئة الفاسدة، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإذا غيرنا ما في قلوبنا غير الله جوارحنا وحركها بطاعته والدعوة إلى دينه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
ومن اشتغل بوظيفة الكناسين لا يطمع براتب السلاطين، وهكذا المسلم يعطل الأوامر ويترك الدعوة إلى الله ويطمع بمرافقة الأنبياء في الجنة والعزة في الدنيا.
وقلب الداعي إلى الله يجب أن يكون مملوءاً رحمة وإيماناً وعلماً كما كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.
فحين آذاه أهل الطائف وسبوه وضربوه وطردوه لم ينتقم منهم، بل دعا لهم ودعا لقريش أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله ويعبده وهكذا الداعي إلى الله يصبر إذا شُتم وأوذي، ويتحمل إذا طُرد وسُلب ماله، ولا يتأثر إذا سجن وأهين، ولا تأتي في قلبه عاطفة الانتقام، بل تزداد في قلبه الشفقة والرحمة على العباد.
والداعي إلى الله كالشمس التي تأخذ النور من خزائن الله وتؤدي ثلاث وظائف:
فهي متحركة بهذا النور على الدوام من المشرق إلى المغرب .. وهي تقوم
بتوزيع جميع ما تأخذ من الله على جميع الخلق .. وهي تعطي النور ولا تأخذ أجراً مقابل النور.
فكذلك الداعي يأخذ العلم من الكتاب والسنة وذلك من خزائن الله، ويقوم بالدعوة ليلاً ونهاراً .. ويدعو جميع الناس إلى التوحيد والإيمان، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له .. ويدعو إلى الله ولا يأخذ من الناس أجراً لأن أجره على الله كما قال كل رسول لقومه:{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)} [الشعراء: 143 - 145].
والدعوة كالطعام نحتاجه كل يوم، فالطعام لحفظ البدن وزيادة نموه، والدعوة لحفظ الإيمان وزيادته، وأما الجهاد فهو كالدواء نحتاجه عند الضرورة لإزالة الضرر والظلم عنا وعن الناس، فإذا زال الضرر عدنا إلى الدعوة التي يزيد بها الإيمان، وتنزل بسببها الهداية على الخلق.
وجهاد اللسان حسن لذاته وهو الدعوة إلى الله، وتعليم الناس أمور دينهم، وجهاد السنان وهو القتال حسن لغيره، وذلك لما يفضي إليه من حفظ الدين وأهله، وقمع المعتدين، وتمحيص المؤمنين من المنافقين، ومعرفة الصادقين من الكاذبين، واتخاذ الشهداء، وإزالة الظلم عن الخلق، وإقامة الحق مكان الباطل كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193].
والله تبارك وتعالى خلق الجن والإنس لعبادته، وخلقهم للطاعة حتى تنتشر طاعة الله في العالم على طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتكون التصرفات في الأنفس والأموال صحيحة في العالم، ولا يتم هذا المقصود العظيم إلا بالدعوة إلى الله.
وهذا الدين والجهد من أجله أمانة أمرنا الله بأدائها، فنستقيم على الدين، وندعو الناس إليه بالرحمة والشفقة وحسن الخلق، ونجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله بأموالنا وأنفسنا.
وعندئذ ينزل الله البركات في أموالنا وأنفسنا، ثم تأتي التيسيرات في حياتنا، ثم تنزل الهدايات فيصير العدو بسبب الدعوة صديقاً كما قال سبحانه:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103].
وإذا تركنا الدعوة إلى الله جاءت العداوة والمصائب كما قال سبحانه: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14].
واشتغل الناس بالأموال والأشياء والدعوة إليها بدل العمل بالسنن والدعوة إليها كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].
والحق حتى تظهر حقائقه له طلبات، فإن لم توجد طلباته بقي الحق ولكن لا تظهر حقائقه.
فإذا بذلنا الأنفس والأموال حسب مقتضى الحق لإعلاء كلمة الله فالله ينزل الحقائق ويظهرها فوراً.
فيصير العدو صديقاً .. والكافر مؤمناً .. والمبغض محباً .. والعاصي مطيعاً .. والظالم عادلاً .. والداعي إلى الشر داع إلى الخير.
فالدين أمانة، والله أعطانا هذه الأمانة، وأمرنا بإيصالها إلى أهلها وحسن تعهدها.
فأولاً نجتهد على أنفسنا حتى يأتي الدين في حياتنا، ثم نتحرك للدين لنشر الهداية في العالم حتى ينتشر الخير في العالم.
فعلينا مسئولية أنفسنا، ومسئولية غيرنا، وبالقيام بهذه المسئوليات الله يصلح العالم كما أصلح الله أحوال الأمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث زال الفساد، وزالت
الجاهلية، وزال الشرك بسبب جهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وكل داعٍ لا تكون حياته مطابقة لدعوته فالله لا يستخدمه، ولا يجعله سبباً لهداية الناس وإن ارتفع صوته وعلا صيته.
والداعي إلى الله لا بدَّ أن يصبر على الأذى، ويرفق بمن خالفه ويدعو له، فالذين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وآذوه لما صبر عليهم، ودعا لهم، ورفق بهم، آمنوا ثم هاجروا ثم قاتلوا الكفار الذين فيهم آباؤهم وأبناؤهم، ثم كادوا أن يتقاتلوا على وضوئه صلى الله عليه وسلم لشدة محبتهم له وللدين الذي جاء به.
ومن أعطاه الله الدين وكلفه بنشره والمحافظة عليه فتلك مسئولية عظمى وأجرها عظيم، ولكنه سيحاسب عليها، ويسأل عن أدائها كما قال سبحانه:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6، 7].
وصاحب الدكان إذا أغلق دكانه حصل نقصان في البلد، والداعي إذا ترك الدعوة حصل نقصان في الدين، ومشى ألوف من الناس كل لحظة إلى نار جهنم، فكم حصل بترك الدعوة من الخسران له ولغيره؟.
وكم ذهب إلى النار من الخلق بسبب تأجيل البلاغ أو القعود عنه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
والعبادة لا تسمى عبادة ولا تكون مقبولة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة ولا تكون مقبولة إلا مع الطهارة.
فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا جاء في الصلاة أبطلها.
فمن دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع شر فقد أشرك في عبادة الله، وحبط عمله كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر: 65].
وكان الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
الأول: كفار أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد كعبدة الأوثان والمجوس.
الثاني: منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئون.
وقد ذكر الله عز وجل النوعين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة: 62].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} [الحج: 17].
فذكر سبحانه ست أمم:
اثنتان شقيتان، وهما المجوس والمشركون، وأربع منقسمة إلى شقي وسعيد، حيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر كما خصهم في الآية الأولى.
فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر، والسعيد والشقي، وهذه أمة قبل اليهود والنصارى، وهم نوعان:
صابئة حنفاء .. وصابئة مشركون.
وهذه الأديان الستة لا يقبل منها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحد، وهو الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لعموم البشرية إلى يوم القيامة:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
والداعي الحق هو من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان، وليس له همّ في الحياة إلا أن يستقيم على أوامر الله، وأن يدل البشرية إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة بدعوتهم إلى الله، والسير على منهج الأنبياء والمرسلين.
وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها العالي، ويمدوا أبصارهم من الحياة الفانية المحدودة إلى الحياة الباقية المطلقة.
فحياة المسلم حسب أمر مولاه لها لون خاص، ولها هدف خاص، ولها أجر خاص.
فهي إيمان وعمل، وجهاد وكفاح، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله، وتوجه إلى الله وحده في جميع الأحوال؛ لأنه الذي يملك كل شيء، وبيده خزائن كل شيء.
ثم يجيء الرضا من الله .. ثم يجيء النصر .. ثم يجيء النعيم، هكذا سنة الله التي قد خلت في عباده:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23].
والداعي إلى الله مبارك أينما كان، يبذل كل خير، ويتحمل كل أذى.
فهو كالأرض يُطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، وكالغيث أينما حل نفع، وكالشمس يهتدي الناس بنور علمه، وكالسراج يحرق نفسه ليضيء للناس.
والذي يدعو إلى الله وإلى سنة رسول الله مخلصاً يجعله الله سبباً لجمع الأمة كلها على الدين.
والذي يدعو إلى نفسه وإلى طريقته أو إلى جماعته يمزق الأمة كلها، ويجعلها فرقاً وأحزاباً متناطحة، يفني بعضها بعضاً كالمشركين الذين حذرنا الله منهم بقوله:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31، 32].
والدعوة إلى الله مركبة من عدة أعمال كالطعام الذي يقدم للناس مركب من عدة أشياء، وهكذا الدعوة إلى الله مركبة من عدة أشياء، ليست كلاماً فقط، فيها الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق .. وفيها التعليم .. وفيها الشورى .. وفيها الجولات والزيارات .. وفيها الدعاء والذكر.
فإذا وجدت هذه الأشياء فالدعوة تنبت ثم تثمر ثم تتسع، ثم يظهر الحق، ويزول الباطل، ويكون الدين كله لله.
والدعوة إلى الله تجمع الأمة على الهدى كالروح تجمع البدن والجوارح على الحياة، فإذا خرجت الروح أنتن الجسد وتمزق، وكذا الدعوة إذا خرجت من
حياة الأمة فسد المجتمع وتمزق.
والدعوة إلى الله وظيفة الأمة، ولذلك كانت من أول يوم، فلم يكن هناك فاصل زمني بين الإيمان والدعوة، بينما كان هناك فاصل زمني طويل بين الإيمان ونزول الأحكام والفرائض.
فأبو بكر دعا إلى الله من أول يوم فجاء بستة من العشرة المبشرين بالجنة مع أن أحكام الدين لم تنزل إلا بعد ثلاثة عشر عاماً في المدينة.
وخديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدت على النساء من أول يوم قبل نزول الأحكام.
فقد اجتهدت على فاطمة بنت الخطاب فأسلمت، وكان في صحيفتها عمر، واجتهدت على سعدى بنت كريز خالة عثمان فأسلمت، وكان في صحيفتها عثمان، وكلاهما من الخلفاء الراشدين.
واجتهدت على سمية أول شهيدة في الإسلام فأسلمت، واجتهد على أم الفضل فأسلمت، وغيرهن.
فجهد الرجال مع جهد النساء قام في وقت واحد.
وكما أن أبا بكر سبق الأمة في كل شيء، فكذلك خديجة سبقت نساء الأمة في كل شيء.
سبقتهن في الإيمان .. وسبقت في الدعوة .. وسبقت في الإنفاق في سبيل الله، وهي أول من سمع القرآن .. وهي أول من جاءها سلام مخصوص من الله عز وجل .. وأول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم .. وهي أول أزواجه وأم أولاده .. وهي من أكمل النساء .. وأول من بشر ببيت في الجنة.
والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة، والواجب إلزام الكفار بالإسلام إذا كانت لا تؤخذ منهم الجزية؛ لأن الإسلام فيه سعادتهم ونجاتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة وهم يجهلون ذلك.
فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل، وكما يلزم
الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو الضرب، فإلزام الكفار بتوحيد الله، والإيمان به، والدخول في الإسلام أولى وأوجب؛ لأنه حق الله على عباده فيجب على كل فرد أداؤه.
ولأن فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، إلا إذا كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى ونحوهم كالمجوس، فهؤلاء جاء الشرع بأنهم يخيرون على الترتيب:
إما الإسلام .. أو دفع الجزية .. أو القتال.
وأما غيرهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار في الجزيرة ولم يقبل منهم إلا الإسلام كما قال سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5].
وقد أمر الله عز وجل كل مسلم ومسلمة بإبلاغ الدين كما أمرهم بالعمل بالدين بقوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم ومسلمة بتبليغ البشرية عنه ولو آية كما قال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» أخرجه البخاري (1).
وتبليغ دينه وسننه إلى الناس أفضل من تبليغ السهام إلى نحور الأعداء؛ لأن الضرب بالسهام يجيده كثير من الناس، وأما تبليغ السنن والأحكام فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم.
وقد دعا صلى الله عليه وسلم لمن بلغ عنه ولو حديثاً بقوله: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» أخرجه أبو داود والترمذي (2).
(1) أخرجه البخاري برقم (3461).
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3660) صحيح سنن أبي داود رقم (3108).
وأخرجه الترمذي برقم (2657) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2140).
والمسلم يدعو إلى الحق، والشيطان يدعو إلى الباطل، والشيطان عدو للإنسان، فيجب أن يكون الإنسان عدواً للشيطان كما قال سبحانه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6].
وأعظم ما يدعو إليه الشيطان أن يحول بين بني الإنسان وبين الإسلام، فإن لم يستطع حال بينه وبين الدعوة والجهاد في سبيل الله بأربع خطوات وهي:
التردد .. ثم التربص .. ثم التثاقل .. ثم القعود.
فالتردد: بأن يجعله شاكاً محتاراً في دينه وفي عمله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 45].
ثم التربص: وهو التعلق بما سوى الله ودينه من محبوبات النفس كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24].
ثم التثاقل: وهو التكاسل والميل إلى الدعة والسكون كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: 38، 39].
ثم القعود عن الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهو نتيجة ما سبق كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: 46].
والأمة لما تركت الدعوة إلى الله والدعوة إلى الإيمان والأعمال الصالحة ابتليت بالدعوة إلى الدنيا وإلى الأموال وإلى الأشياء.
فصارت تعرف قيمة المال ولا تعرف قيمة الإيمان .. وتعرف قيمة الأشياء ولا تعرف قيمة الأعمال .. وتعرف قيمة الدنيا ولا تعرف قيمة الآخرة .. وتعرف قوة المخلوق ولا تعرف قوة الخالق .. وتعرف شهوات النفس ولا تعرف أوامر الرب.
فجاءت بسبب ذلك المصائب والعقوبات كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
والإيمان فضل من الله، وهو قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليس قضية غصب وإكراه وإجبار كما قال سبحانه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
وقد جاء الدين يخاطب الإدراك البشري كله بكل قواه وطاقاته في غير قهر حتى بالخوارق المادية التي قد تلجئ مشاهدها إلجاءً إلى الإذعان.
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد، أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه، وإن كان الواجب إلزامه بما ينفعه وما فيه نجاته وسعادته شفقة عليه ورحمة به.
والإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه، والكفر هو الغي الذي يجب على الإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به.
وحقاً فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان، وما توفره من السعادة في الدنيا والآخرة وما تمنحه للإدراك البشري من تصور واضح، وما تزجيه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس من رغبات في كسب الأجور، وما تحققه
في الأمة من نظام سليم.
ما يتدبر الإنسان هذه النعم الكبرى إلا ويجد فيها الرشد والفلاح الذي لا يرفضه إلا سفيه يترك الرشد إلى الغي.
فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، وحرية الدعوة إلى العقيدة الراشدة، إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً.
والإسلام أفضل الأديان وأكملها وأشملها، وهو أفضل منهج رضيه الله للمجتمع الإنساني ينادي بأن لا إكراه في الدين، ويبين لأصحابه قبل غيرهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين.
ولكن عليهم نشره وبيانه، وترغيب الناس فيه، وتحذيرهم من مخالفته:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256].
وكل مسلم مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين، شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء، وتؤيد الخير الذي يحمله للبشر.
ولكنه لا يمكن أن يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين.
صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعاً يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من نظم.
ويجعل من الدين قاعدة حياته ونظام مجتمعه، ويسعى لبقائه وتمكينه ونشره.
ويؤثر الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحكم بأمر الله في حياة البشرية، فذلك شهادة بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها، وهي أعز ما يحرص عليها الأحياء.
وعهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك كل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلا بدَّ لكل مسلم أن يؤدي هذه الشهادة العظيمة للدين مسموعة مرئية، حية ناطقة:{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53].
ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه، وكاتم لما أمره الله ببيانه:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة: 283].
فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام، أو قام بها في نفسه ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثاراً للعافية، وإيثاراً لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته، وأدى شهادة ضد هذا الدين.
شهادة تصد الآخرين عنه وتنفرهم منه، نسأل الله السلامة والعافية:{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} [يونس: 85].
وواجب الأنبياء وأتباعهم بيان الحق للناس، وترغيبهم فيه، ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجادلة المعارضين والمعاندين بالتي هي أحسن.
فإذا ظهر الحق جلياً وأبى المخالف إلا المكابرة والعناد دعي هؤلاء إلى المباهلة كما قال سبحانه: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [آل عمران: 61].
فيبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين.
وما كانت البينة هي دائماً التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين، إنما هي المصالح والمطامع والأهواء التي يصد الناس عن اتباع الحق الواضح الذي لا خفاء فيه، وتقديم الهوى على الهدى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].
فالكفار والمعاندون يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان، غير أنهم يكفرون لا لنقص في الدليل ولكن للهوى والمصلحة:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33].
وقال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 14].
والبشر كلهم إلى فناء، والدين إلى بقاء، ومنهج الله في الحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه للناس من الرسل والدعاة على مدار الزمن.
ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، جاء ليبلغ رسالة الله إلى خلقه، فإن مات أو قتل فالله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.
وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي أو الداعية الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144].
فالدعوة والدين أقدم من الداعية، وأكبر من الداعية، وأبقى من الداعية، فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على مدى الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بالذي أرسل بها الرسل، وهو سبحانه باق يتوجه إليه المؤمنون في كل حال.
ومن انقلب على عقبيه فإنما هو الخاسر، وانقلابه لن يضر الله شيئاً، فالله غني عن الناس وعن إيمانهم، وسيلقى جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله، وتفسد الحياة والأخلاق، وتعوج الأمور كلها، ويذوق الناس وبال مخالفتهم شرع الله في الدنيا قبل الآخرة:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].
أما الذين يعرفون مقدار نعمة الدين الذي منحهم الله إياه فيشكرون الله عليه
باتباعه، فيسعدهم به جزاء على شكرهم في الدنيا والآخرة.
وحين أشيع أن محمداً صلى الله عليه وسلم قتل في أحد أراد الله أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يصلهم بالله مباشرة، وأن يجعل ارتباط المسلمين بالله مباشرة.
فهم وإن مات محمد أو قتل فهم بايعوا الله على طاعة محمد صلى الله عليه وسلم، والثبات على دينه بعد موته، وإبلاغه للناس.
وكلما همت الأمة أن تتحرك وتوسع هذا الدين وتحاول تحقيق منهج الله في الأرض كلما تجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب.
أحياناً في أصول الدعوة .. وأحياناً في أهل الدعوة .. وأحياناً في أصول الدين وشرائعه .. وذلك لتمزيق أوصالها .. وتشويه أهدافها .. وبعثرة جهودها.
والله عز وجل يوجه المؤمنين لمعرفة أعداء الدين الراصدين له في الزمان والمكان، ويبث في القلوب الطمأنينة إلى وعد الله.
فتعرف حين تناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الأذى والابتلاء والفتنة، أنها سائرة على طريق الحق، ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى، والادعاء الباطل عليها، وإسماعها ما يكره وما يؤذي.
وتلزم الصبر والتقوى، ويصغر عندها الابتلاء والأذى كما قال سبحانه:
وقد يدخل بين المسلمين من يريد الكيد لهم، ويندس في صفوفهم منافقون، وعلى المسلم أن يعلم أن عين الله على هذه الطوائف التي تبيت وتكيد وتمكر بالمسلمين، والله لهم بالمرصاد:{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 79، 80].
وشعور المسلمين بذلك يثبت المؤمن، ويسكب في قلبه الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم، فليأخذهم بظواهرهم، وليعرض ويتغاضى عما يبدو منهم، والله كافيه منهم:{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} [النساء: 81].
ثم يرشد القرآن هؤلاء بتدبر القرآن ليروا ما فيه من تكريم الإنسان والعناية به كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].
والله عز وجل أمرنا بدعوة الناس إلى الله، وهيأ الفرصة لأهل الكتاب أن يدخلوا في الدين.
فأعطاهم الفرصة أن يعيشوا في المجتمع الإسلامي تحت راية الإسلام وهم على دينهم سوى جزيرة العرب، وجعل طعامهم حلاً للمسلمين، وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك، وذلك ليتم التزاور والتضايف، والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في جو من البر والسماحة.
وجعل العفيفات من نساء أهل الكتاب وهن المحصنات بمنزلة المحصنات من نساء المسلمين، يحل الزواج منهن كنساء المسلمين إذا أعطيت لهن أجورهن بالنكاح الشرعي.
وهذا وذاك يدل على سماحة الإسلام مع المخالفين له، وتهيئة الفرصة للدخول في الإسلام حين تتم الخلطة، فيروا أخلاق الدين وسننه عملياً، فيرغبوا فيما نفروا عنه، بعد أن يعرفوه ويروه والله حكيم عليم:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].
وقد أمر الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه كاملاً كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67].
هكذا يبلغ كل ما أنزل إليه، لا يستبقي منه شيئاً، ولا يؤخر منه شيئاً مراعاة للظروف، أو تجنباً للاصطدام بأهواء الناس، أو واقع المجتمع.
وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ، فليصدع بكلمة الحق والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصماً فماذا يملك له العباد المهازيل؟.
إن كلمة الحق، كلمة (لا إله إلا الله) يجب أن تبلغ كاملة فاصلة من أول يوم، وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء، وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل، لا بدَّ أن يصدع بها الداعي لتصل إلى القلوب في قوة ونفاذ كما قال سبحانه لرسوله:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 1، 2].
وكلمة الحق في العقيدة حين يصدع بها الداعي تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى، وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة.
والقوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة لا يعني الخشونة والفظاظة، بل أمر الله رسوله بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولا تعارض في ذلك فوسيلة التبليغ شيء، والمادة المبلغة شيء آخر، فقد وصف الرسول الكفار بصفتهم، وفاصلهم في الأمر، وبين أنهم على الباطل المحض، ودعاهم إلى الحق المحض.
وأمره ربه عز وجل أن يقول لأهل الكتاب أنهم ليسوا على شيء من الدين والإيمان، بل ليسوا على شيء أصلاً كما قال سبحانه:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68].
لأن الدين ليس كلاماً يقال باللسان .. ولا كتباً تقرأ وترتل .. وليس صفات تورث وتدعى.
إنما الدين منهج حياة، منهج يشمل العقيدة في القلب، والعبادة الممثلة في الشعائر، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج الإلهي.
ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه كُلِّف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين، وليسوا على شيء أصلاً من هذا القبيل، حتى يمتثلوا أوامر الله التي جاءت في كتبه المنزلة.
ومواجهة الكفار بهذه الحقيقة ستؤدي إلى أن تزيد كثيراً منهم طغياناً وكفراً، وعناداً ولجاجاً، ولكن هذا لم يمنع من مواجهتهم بها، وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان، والضلال والشرود، بسبب مواجهتهم بها.
وأن حكمته سبحانه تقتضي أن يصدع بكلمة الحق، وأن تترتب عليها آثارها في النفوس البشرية فيهتدي من يهتدي عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة:
والله عز وجل يبين للداعي بهذا منهج الدعوة، ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج، ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغياناً وكفراً، فهم يستحقون هذا المصير البائس؛ لأن قلوبهم لا تطيق
كلمة الحق، ولا خير في أعماقها ولا صدق.
فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ليظهر ما كمن فيها وما بطن، ولتجهر بالطغيان والكفر، ولتستحق جزاء الطغاة والكفار.
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس إلا إذا أبلغهم عن الله، ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة، ووصف لهم ما هم عليه من الباطل بلا مجاملة ولا مداهنة، فهو قد يغرهم ويخدعهم ويضرهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماماً غير ما هم عليه.
فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42].
والتلطف في دعوة الناس إلى الله ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها، فالحقيقة يجب أن تبلغ إليهم كاملة، أما الأسلوب فيكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
وإذا رأينا اليوم رأينا أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية، وأصحاب الكلمة المسموعة.
ورأينا كذلك أصحاب الوثنيات يعدون بمئات الملايين في الأرض.
ورأينا أصحاب المذاهب المادية لهم أعداد كثيرة، وقوى مدمرة.
وكلمة هؤلاء وهؤلاء وأولئك مسموعة نافذة.
وبالمقابل نرى المسلمين ليسوا على شيء؛ لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم، وليس لهم كلمة مسموعة فضلاً عن أن تكون نافذة.
فما أعظم الأمر وما أخطره إذا ساد الظلام مكان النور، والباطل مكان الحق، والرذيلة مكان الفضيلة.
إن واقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه، لا تضره كثرة الضلال، ولا ضخامة الباطل، وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة أنهم ليسوا على شيء كذلك ينبغي أن تستأنف بمثل ذلك، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وطريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله وفق علمه وحكمته، وهو غيب لا يعلم موعده أحد إلا الله.
والمشقة في هذا الطريق مركبة من أمرين:
الأول: التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر، إلى جانب الحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة في كل مكان.
الثاني: الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه وعرف طعمه وحلاوته، والحماس للحق والرغبة في استعلائه.
والداعية عليه أن يقوم بالدعوة ويصبر على الأذى، وليس عليه أن يبعث الموتى ويهديهم فذلك من شأن الله، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن نصر الله آت قريب لا ريب فيه، ولكنه يجري وفق سنة الله، وبقدر الله.
وكما أن سنة الله لا تستعجل، وكلماته لا تتبدل، من ناحية مجيء النصر في النهاية، فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم.
والله سبحانه لا يعجل النصر؛ لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة، ولو كانوا هم الرسل.
فإن استسلام صاحب الدعوة لربه، وتسليم نفسه لقدر الله بلا عجلة، وصبره على الأذى بلا ملل، ويقينه في العاقبة بلا شك، كل ذلك مطلوب من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم.
وعلى الداعي إبلاغ الدين للناس كافة، والصبر على المشاق.
أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته، والهدى
والضلال يتبعان سنة إلهية لا تتبدل.
وبيت الله عز وجل في مكة أول بيت وضع للناس، ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك، ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض، ولم تكن دعوة عامة من قبل، وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة والهداية:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96].
والداعي إلى الله لا ينبغي أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة المعاندين لها، فهؤلاء جزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ.
وإنما يجب على الداعي أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا وأقبلوا:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28].
فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله بالدين الذي دخلوا فيه، لتمتلئ قلوبهم بالإيمان، وتتحرك جوارحهم بالأعمال الصالحة، وتظهر فيهم أحسن الأخلاق، ولا تترك مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة.
وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والطبيعة التي خلق الله الناس بها أن كل من عمل عملاً فإنه يستحسنه ويدافع عنه.
فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها، وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها، هذه طبيعة في الإنسان.
فعلى الداعي أن يدرك ذلك، فلا يسب آلهة المشركين، فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى، ولا يزيدهم إلا عناداً وكفراً.
فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه، بل قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون
من سب ربهم الجليل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: 108].
وسنة الله جارية أن يقوم الرسول أو الداعي بالدعوة إلى الله، فيستجيب للدعوة أناس يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة في أرض الدعوة، فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيداً، ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق، وهؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستاراً لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقاً لوعده بنصر من ينصره والتمكين له في الأرض.
ليقيم مملكة الله في الأرض، وينفذ حكم الله في عباده على هذه الأرض، ويحقق مراد الله في عباده.
وليس على الرسل إلا البلاغ المبين، وليس عليهم هداية الناس، فالله وحده هو الذي يملك الهداية، وسواء حقق الله وعده لرسله من مصير القوم، أو أدركهم الأجل قبل تحقيق وعد الله، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته وهي البلاغ، وحسابهم بعد ذلك على الله كما قال سبحانه:{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40].
وبذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله .. فليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر .. وليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس .. ولا أن يستعجلوا وعيد الله للمكذبين .. ولا أن يستعجلوا وعد الله للمهتدين .. وليس لهم أن يقولوا دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل .. ولقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء.
إن عليهم إلا البلاغ، أما حساب الناس في الدنيا والآخرة فهذا ليس من شأن العبيد إنما هو من شأن الله وحده.
والبلاغ هو القاعدة الكبرى في نشر هذا الدين، وهو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل
الدعاة من بعده، وعمل الأمة قاطبة، وهذا البلاغ أول مراتب الجهاد وأعلى ذروته.
وإذا اتجه الناس إلى الإيمان وعبادة الله وحده فإن الجاهلية لا بدَّ أن تواجه الدعاة إلى الله المبلغين لدينه بالإعراض والتحدي، ثم بالإيذاء والمكافحة، ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في سبيل الله في حينها نتاجاً طبيعياً للتبليغ الصحيح لا محالة، فينصر الله أولياءه، ويخذل أعداءه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31].
والقرآن الكريم يبين جميع أصول الدعوة، ويقرر أنها دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله وأجره على الله.
يدعو بالحكمة والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يأمرهم بالتكاليف قبل استعداد النفوس لأدائها بالإيمان واليقين.
ويختار الطريقة التي يخاطبهم بها، وينوع في هذه الطريقة تارة ببيان عظمة الله وجلاله .. وتارة ببيان نعمه وآلائه .. وتارة بالترغيب بالجنة .. وتارة بالترهيب من النار .. وتارة بدعوة العقول إلى النظر في الآيات الكونية .. وتارة بالنظر في الآيات الشرعية .. وتارة بإثارة العاطفة لتعظم العظيم، وتحمد الكريم، وتستحي من العزيز الكريم فلا تعصي له أمراً .. ولا تقترف جرماً .. وهكذا.
والدعوة بالموعظة الحسنة التي تدخل القلوب برفق، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، وتشحن النفوس بالغضب والعناد.
فالرفق في الموعظة والتلطف بالناس كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
كما تكون الدعوة بالجدل بالتي هي أحسن إذا لزم الأمر، بلا تحامل على
المخالف، ولا ترذيل له، ولا تقبيح لعمله، حتى يطمئن المدعو إلى الداعي، ويشعر أنه ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق.
فالنفوس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، فهي تعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها.
والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذا الكبرياء، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، ورأيه محترم، وقيمته كريمة:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
ولكي يطامن الداعي من حماسته واندفاعه يشير القرآن إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله، وهو الأعلم بالمهتدين، فلا ضرورة للجاجة في الجدل، والتكلف في القول، إنما هو البلاغ والبيان، والأمر بعد ذلك لله:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام: 39].
هذا هو منهج الدعوة السليم ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والموعظة الحسنة، والجدل بالحجة والبرهان.
فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة وعلى دينهم فإن الأمر يتغير كما قال سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل: 126].
فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازاً لكرامة الحق، ودفعاً لغلبة الباطل، على أن لا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع فالإسلام دين العدل والرحمة.
والدفع عن الدعوة يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، والله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله خير الناس، وهم لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله.
ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم.
فكيف ينهضون بهذا كله وهم يهانون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون.
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل فالإسلام يدعو إلى العفو والصبر حتى يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، وحين يكون العفو فيها والصبر أعمق أثراً.
فأما إذا كان الصبر والعفو يهينان الدعوة ويرخصانها فالقاعدة الأولى هي الأولى والأجدر.
وعلى الداعي ألا يحزن إذا رأى الناس معرضين لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله وحده، يمضيه وفق سنته في فطرة النفوس واستعدادها.
وعليه ألا يضيق صدره بمكرهم وكيدهم وحيلهم فإنما هو داعية لله والله حافظه من كل مكر وكيد، فعليه بالصبر:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 127، 128].
وقد يقع الأذى على الداعي لامتحان صبره، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مضمونة ومعروفة:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128].
ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون له، ويمكرون به.
إن الذين يؤمنون بالله وبما جاء به الرسل لا يقفون عند حد الإيمان، بل يكونون دعاة له، ويحاولون أن يجذبوا غيرهم إلى الهداية، وأن يجادلوا الكفار بالحجة عسى أن يؤمنوا بالله.
فالمسلم يقوم بالدعوة إلى الله، فإذا اهتدى الكفار والعصاة كان له أجران:
أجر لبيان الطريق المستقيم، واستمرار البلاغ عن الله لعباده.
وأجر على من اهتدى من الكفار أو تاب من العصاة.
وموكب المؤمنين مستمر في نشر الهداية بعد الرسل كما قال سبحانه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 20، 21].
والناس يسبون صاحب الدنيا ويذمون بضاعته، لكنه صابر لم يغلق دكانه، يتحمل منهم كل شيء من أجل أن يكسب من ورائهم.
وكذلك الداعي إلى الله إذا لم يتحمل الناس فإنه لا يكون سبباً لهدايتهم، فالصبر والعفو، والإحسان والتواضع، والرفق والحلم، والرحمة والشفقة، كل هذه أبواب عظيمة يدخل منها الناس إلى الإسلام.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة، ورجع كثير من الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية، وقوانينها الأرضية.
ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد للدخول فيه، إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبودية، وتلقى منهج الحياة كله من الله وحده لا شريك له، ونبذ كل ما سواه بالدعوة إلى الله كما بينها الله ورسوله، أما الذين ينفقون أموالهم في البحوث النظرية، وفي الأحكام الفقهية التي لا مقابل لها من الواقع، فنحسب أنهم لو أنفقوا هذه الأوقات في إعادة إنشاء المجتمع المسلم الذي أن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لنشأ عن ذلك دخول فئات في هذا الدين من جديد كما دخل الناس فيه أول مرة.
وينشأ عن ذلك خلافة راشدة، ومجتمع مسلم، ثم يحتاج هذا المجتمع معرفة الأحكام التي تنظم علاقته بربه، كما يحتاج إلى معرفة الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه، وعلاقاته مع غيره.
إن الإسلام كما يأمر بالصبر والانتظار، فهو كذلك يأمر بإعداد القوة والحركة والجهاد لإعلاء كلمة الله.
فلا يمكن أن يقف كامناً منتظراً طول الأمد، عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم.
بل لا بد له مع ذلك أن يواصل الخطى لإنشاء مجتمع إسلامي متميز، يكون واقعاً مشهوداً في الحياة، وأن يزيل العوائق التي تمنعه من إقامة شرع الله في أرضه.
وما أكثر المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لكثير من المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه.
وأمام الهجوم الماكر على أصل الجهاد في الإسلام من أعدائه.
فهؤلاء يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهرباً من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد، وردهم جميعاً إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الطواغيت والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله، والتحاكم إلى غير شرعه.
فيقولون إن الله يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: 61].
ويقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190].
وأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد صلح الحديبية مع المشركين، وعقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها، ولا عليه أن يعبد بقية البشر ما يعبدون من دون الله، ما دام هو آمناً في سربه.
وهذا سقوط تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس، وأمام القوى المعادية للإسلام، والتي لا طاقة لهم بها، وذلك سوء ظن بالإسلام، وسوء ظن بالله سبحانه.
فهذه النصوص السابقة التي يلجأون إليها نصوص مرحلية، تواجه واقعاً معيناً، وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر مناسبتها.
ولكن ليس معنى هذا أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.
إنما على الأمة أن تسعى في تحسين ظروفها، وإزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في هذه القضية.
فالنصوص الأخيرة تقول: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)} [التوبة: 1، 2].
وتقول في شأن الكفار: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: 36].
وتقول في شأن أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون تحقيق هذه الأحكام، فهم الآن مؤقتاً غير مكلفين بتحقيقها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها، حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة فيما بعد حين يستطيعون تنفيذها، ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية.
والمؤمنون والدعاة إلى الله قد يجدون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت، وفسد أكثر الناس، وهنا يرشدهم الله إلى الحل:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)} [يونس: 87].
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها ما أمكن، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة على نفسها لتطهر وتزكو حتى يأتي وعد الله.
واعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد، تمتثل فيها
أوامر الله، وتحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح.
إن وجود القلة المؤمنة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى، شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية التي تعارضها وتؤذيها.
كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو، وترث الأرض، وتعمرها حسب أمر الله.
إن هذه العصبة المسلمة التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها، والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة، كما تعاني الأذى والمطاردة، والتعذيب والتنكيل، والسحق والقتل، إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة.
وما عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها، وأن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه، وأن تصبر حتى يأتي الله بأمره، وأن تثق أن وليها قدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه لا يمكن أن يترك أولياءه إلى أعدائه إلا فترة الإعداد والابتلاء، وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سينصرها ويمكن لها بلا ريب، فالله حكيم يربي بالبلاء الداعي والمدعو معاً.
لقد دعا نوح صلى الله عليه وسلم إلى ربه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا القليل، وعندما لجأ نوح إلى ربه، والقوم يطاردونه ويزجرونه، ويفترون عليه، ويسخرون منه، ويكذبونه كما قال سبحانه:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} [القمر: 9، 10].
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه مغلوب، ويدعو ربه أن ينتصر لعبده المغلوب، والله يسمعه ويراه، ويرى ما يفعل به، عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة، وأرسل جندياً من جنوده ليكون في خدمة ونصرة عبده المغلوب:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} [القمر: 11، 12].
إن هذه العصبة المؤمنة غالية عند الله، وقد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون، وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء، وأهلك كل حي، ومكن لها في الأرض.
وبينما كانت تلك القوى الكونية تزاول عملها في إهلاك القوم المكذبين كان الله مع رسوله وعباده المؤمنين المغلوبين: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر: 13، 14].
فهل يتعظ بذلك الطرفان المؤمن والكافر: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)} [القمر: 15].
لقد طوى الطوفان المكذبين من قوم نوح، واستبعدوا من الحياة ومن رحمة الله سواء، ولم يبق على الأرض من الكافرين دياراً.
والمؤمنون أنجاهم الله، واستخلفهم في الأرض، تحقيقاً لوعده سبحانه، وسنته التي لا تتبدل:{قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} [هود: 48].
وتلك سنة الله في كل من ترك الهدى واتبع الهوى وكذب الرسل: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)} [الفرقان: 37 - 39].
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى الله.
كما لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية، فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده المنتسب إليه، الذي يستنصر به، وهو يؤدي رسالته إلى خلقه.
وإن قوى الجاهلية والكفر تملك من قواها ما تخيف به الناس، ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله التي تملك الكون وما فيه، فالقوى ليست متكافئة ولا متقاربة.
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله كما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله، والله مع المؤمنين المتقين يكلؤهم وينصرهم كما قال سبحانه:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر: 51، 52].
والذين يسلكون السبيل إلى الله عليهم أن يؤدوا واجبهم كاملاً بكل ما في طاقتهم من جهد، ويستقيموا على أوامر الله، ثم يدعون الأمور لله في طمأنينة وثقة بالله.
وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين الذي بيده كل شيء، وأن يجأروا إليه بالدعاء كما جأر عبده الصالح نوح:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر: 10 - 14].
وكما جأر محمد صلى الله عليه وسلم بالدعاء يوم بدر، واستغاث بربه كما قال سبحانه:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10].
فالمسلم يبذل ما يملك من جهد وطاقة، ويستقيم على أوامر الله، ويتوكل على ربه، ويتوجه إليه وحده، ثم ينتظر فرج الله القريب:{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 76، 77].
وإبراهيم لما دعا قومه إلى الله فلم يستجيبوا وأرادوا إحراقه بالنار دعا ربه وتوجه إليه، فلما ألقوه في النار وجه الله أمره إلى النار:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 69، 70].
ويونس لما دعا ربه في ظلمات البحر لينجيه من الكرب استجاب الله له كما قال
والدعوة إلى الله هي استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والاستقامة والحرارة لنشر الهداية.
فمتى استشعر القلب حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في قلبه، فلم يطق عليها سكوتاً:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 20، 21].
فالداعي إلى الله لا يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله، ويرى الجحود والفجور، ويرى الظلم والطغيان والفساد.
فهذا الرجل سعى بالحق الذي استقر في قلبه، وتحرك في شعوره، وسعى به إلى قومه ناصحاً لهم، وهم يكذبون ويهددون.
جاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشك أن يصبوه على المرسلين.
والذي يظهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولكنها العقيدة الحية تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة ناصحاً لقومه:{قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 20، 21].
إن الذي يدعو هذه الدعوة وهو لا يطلب أجراً ولا يبتغي مغنماً إنه لصادق، وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله؟.
وما الذي يدفعه إلى حمل همّ الدعوة ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة، والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم، وهو لا يجني من ذلك كسباً، ولا يطلب منهم أجراً.
ثم يتحدث عن نفسه هو، وعن أسباب إيمانه فيقول:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 22].
ما الذي يحيد بي عن عبادة ربي؟.
فالفطرة مجذوبة إلى الذي فطرها تتجه إليه أول ما تتجه، فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها، وهو يحس كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية، كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل، فلم لا أعبد الذي فطرني، والذي إليه المرجع والمصير، فمن حقه أن يعبدوه ولا يعبدوا معه غيره.
ثم يقرر الداعي في وجه قومه المكذبين المهددين قائلاً لهم: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)} [يس: 25].
قال ذلك لأن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد، ومن كل تكذيب، فهذا الداعي جزاؤه الجنة:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} [يس: 26، 27].
فأما الطغيان الذي واجهه فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره فهو ضعيف، فما كانت إلا صيحة واحدة صرعت القوم، وأخمدت أنفاسهم:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} [يس: 28، 29].
فما أعظم جهل العباد بربهم، وما أشد تكذيبهم لرسله:{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} [يس: 30 - 32].
إن الدعوة إلى التوحيد التي بعث الله بها رسله كما أن لها أنصاراً، فلها كذلك أعداء يقلبون الحقائق، ويقاومون أهلها، ويوهمون الناس أن وراء هذه الدعوة خبيئاً غير ظاهرها، وأنهم هم الكبراء العالمون ببواطن الأمور، المدركون لما وراء هذه الدعوة من خبئ.
ولهذا يعجبون من دعوة التوحيد الخالصة؛ لأنها خطر عليهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5].
فلا يغتر الناس بهذه الدعوة، فليس ما جاءوا به هو الدين الحق، إنما هو شيء
آخر يراد من وراء هذه الدعوة، شيء ينبغي أن يدعه الناس لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت، فليطمئن الناس؛ لأن الكبراء ساهرون على مصالحهم:{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)} [ص: 6].
ثم يموهون على الناس بأنهم يعرفون الدين، وأنهم أحرص على مصالحهم، وأن ما جاء به هؤلاء ليس التوحيد الذي يعرفه الناس من قديم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 7].
هكذا قالت قريش، فعقيدة التثليث قد شاعت عند النصارى، وأسطورة العزير قد شاعت عند اليهود، وهما منحرفتان عن التوحيد الخالص:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30].
فكفار قريش كانوا يقولون ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله عند أهل الكتاب.
والله عز وجل بعث الأنبياء وأرسل الرسل بأمرين:
بالدعوة والعبادة .. بالهداية والاستقامة.
وكلهم سار في هذا الطريق، وكلهم عانى، وكلهم ابتلي، وكلهم صبر.
وكان الصبر هو زادهم جميعاً، وطابعهم جميعاً، كل حسب درجته في سلم الأنبياء والمرسلين.
لقد كانت حياتهم صلوات الله وسلامه عليهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات، مفعمة بالآلام، وحتى السراء كانت ابتلاء، وكانت محكاً للصبر على النعماء، بعد الصبر على الضراء، وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال.
وقد اختار الله لهم هذه الحياة وإنها لكذلك، فحياتهم صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات؟، وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض؟، وكيف تتجرد من الشهوات والمغريات من أجل الله؟، وكيف تخلص لله، وتنجح في امتحانه،
وتختاره على كل شيء سواه؟.
ثم لتقول للبشرية في النهاية قولاً عملياً صريحاً: هذا هو الطريق إلى الاستعلاء والعلو بالحق الذي يريده الله، هذا هو الطريق إلى الله دعوة واستقامة وصبر:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} [هود: 49].
وعلى المؤمنين بالرسل وأتباعهم مثل ذلك الصبر والتقوى كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200].
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله في مواجهة التواءات النفس البشرية وجهلها، واعتزازها بما ألفت، واستكبارها أن يقال إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها، وعلى مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق، ولكن شأنه عظيم:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].
إن كلمة الدعوة هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات، فتصبح الدعوة خالصة لله، ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ والبيان.
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض، أو بالإنكار أو بسوء الأدب، فهو إنما يتقدم بالحسنة، ويرجو من ربه الحسنى، فليس له أن يرد بالسيئة، فالصبر والتسامح وعدم مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين، ومن العداوة إلى المحبة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35].
وبذلك ينقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء، والاستكبار إلى تواضع، والشدة إلى سماحة.
غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، حتى لا يصدر الإحسان في نفس المسيء ضعفاً.
ودفع السيئة بالحسنة والسماحة والصبر درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 35].
والغضب قد ينزغ، وقد يلقي الشيطان في الروع قلة الصبر على الإساءة، وضيق الصدر عن السماحة، وحينئذ لا بدَّ من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم الذي يستغل الغضب فينفذ منه إلى قلب الإنسان:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36].
والداعي إلى الله لا يطلب من الناس أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى نعيم الجنة، وينأى بهم عن عذاب النار، إنما هي مودته وحبه لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجراً:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)} [الشورى: 23].
فما أعظم فضل الله على عباده، ليس هو مجرد تناول الأجر على الهداية، بل إنها الزيادة والفضل، ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر.
والله غفور شكور يشكر عباده، ويعظم لهم الأجور، وهو الذي وهبهم التوفيق على الإحسان، ثم هو يزيد لهم الحسنات، ويغفر لهم السيئات، ويشكر لهم بعد هذا وذاك.
فيا للجود والفيض، والمعروف والإحسان، الذي يعجز الإنسان عن معرفته ومتابعته فضلاً عن شكره.
والله تبارك وتعالى يوجه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله، مع المخالفين المحرومين كما قال سبحانه:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [الجاثية: 14].
هذا توجيه كريم من الكريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله، تسامح المغفرة والعفو، وتسامح الكبر والارتفاع، وتسامح القوة والاستعلاء.
فالذين لا يرجون أيام الله مساكين، يستحقون العطف أحياناً، لحرمانهم من ذلك النبع الصافي، نبع الإيمان بالله، والطمأنينة إليه، والاحتماء بركنه، وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية بالله، وبأسمائه وصفاته وأفعاله.
والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره، ويتمتعون برحمته وفيضه، أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات هذا من جانب.
ومن جانب آخر ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ويحسب لهم العفو والمغفرة عن الإساءة في سجل الحسنات.
وكل عائد إلى الله، وهناك الجزاء على العمل:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)} [الجاثية: 15].
وبذلك يتسع صدر المؤمن، ويرتفع شعوره، ويحتمل الإساءة الفردية المتكررة، والنزوات الحمقاء من الجاهلين والمطموسين في غير ضعف وفي غير ضيق، فهو أكبر وأفسح وأقوى.
وهو حامل مشعل الهدى للتائهين المحرومين من النور، وحامل بلسم الشفاء للمحرومين من النبع، وهو مجزي بعمله لا يصيبه من وزر المسيء شيء، والأمر لله في النهاية، وإليه المرجع والمآب والحساب والعقاب:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26].
والنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وقد أوصاه ربه بالصبر والثبات في جميع الأحوال كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا
يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60].
وقد سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير، وصاحب الرصيد الأخير، وصاحب الزاد الأخير، فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير.
عبء هداية البشرية جميعها .. وعبء هداية الأجيال كلها .. لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله، وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجدّ في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب.
إن مشقة الدعوة هي مشقة الصبر لحكم الله حتى يأتي موعده في الوقت الذي يريده بحكمته.
وفي طريق الدعوة مشقات كثيرة:
مشقات التكذيب والتعذيب .. ومشقات الالتواء والعناد .. ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه .. ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون .. ثم مشقات إمساك النفس عن هذا كله .. ولزومها الحق راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق .. لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق مهما كانت مشقات الطريق.
وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق، وبذلك أوصى الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل قبله بقوله:
ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن جعل مواكب الإيمان، ومواكب الدعوة، مستمرة دائماً تذكر الناس بربهم، وتعرفهم بمنهج الله، وتحثهم عليه، وترغبهم فيه، وتعلمهم إياه.
فأساس المنهج الإيماني، أن يواجه الداعي الناس بالدعوة إلى الله، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له كما في قصة أصحاب القرية:{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)} [يس: 14].
أما موكب الإيمان في سورة الكهف فإنهم لم يواجهوا قومهم، بل هربوا بدينهم وفروا بعيداً عن الكفار كما قال الله عنهم:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} [الكهف: 10].
هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، إنما هم يمثلون المنهج الإيماني واستمراره.
فهل في هذا تناقض؟.
يبقى الإنسان مرة يجادل .. ومرة يهرب ويفر بدينه؟.
والجواب: أن هذا عين الحكمة، فالحكمة في المثلين واحدة وإن اختلف الأسلوب.
فالله سبحانه يريد أن يبقي المنهج الإيماني مواجهاً للكفار، مجادلاً لهم حتى آخر لحظة، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد من المنهج الإيماني إذا واجه قوة ستقضي عليه أن يستسلم ويتركها تقضي عليه، إنما عليه أن يفر بدينه إلى مكان آخر، ثم يعود مرة أخرى بعد أن يكون قد قوي واستطاع المواجهة.
والله عز وجل لا يريد من الدعاة إلى الله أن يهربوا من المجتمع، أو أن يعتزلوا، بل لا بدَّ أن يبقوا وأن يقولوا كلمة الحق، وأن تظل الدعوة مستمرة كما في قصة صاحب يس:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} [يس: 20].
والله سبحانه في سورة الكهف قد حدد شرطين لا ثالث لهما ليفر الإنسان بدينه
إلى مكان آخر، ويبدأ بالدعوة من جديد بقوله:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} [الكهف: 20].
فالفتية المؤمنون إذا بقوا فإنهم سيواجهون أحد أمرين:
إما أن يرجموهم علناً أمام الناس، ويقتلوهم على رؤوس الأشهاد، وفي هذه الحالة ينتهي موكب الإيمان من هذه البلدة.
وإما أن يجبروهم علناً على أن يعودوا إلى عبادة الأصنام، وفي هذه الحالة فالمؤمنون الذين يكتمون إيمانهم سيقتدون بهم، ويرتدون عن الإيمان كما ارتدوا هم، وتلك فتنة، وبذلك يتوقف موكب الإيمان فترة.
فالأساس والأصل استمرار موكب الإيمان بالمواجهة، أو المحافظة عليه حتى يقوى ثم يعود:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} [الكهف: 13].
هؤلاء الفتية وجدوا أن بقاءهم في المجتمع الكافر سيعرضهم لأحد شيئين:
إما أن يقتلوا ويحرم المنهج ممن يدعو إليه، وفي هذه الحالة قتلهم لا يفيد المنهج؛ لأن المنهج محتاج لموكب إيماني يتحرك به.
وإما أن يكرهوا على الكفر فيصبحوا فتنة للذين آمنوا، ودعاة إلى الكفر والإلحاد، وفي هذه الحالة يحرم المنهج الإيماني من حاملين له، ومؤمنين به، ودعاة له.
وفي هذه الحالة لا بدَّ أن يفروا بدينهم إلى مكان آخر، ليعودوا مرة أخرى وهم أكثر قوة، فحين آذى الكفار النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله اختفى في الغار، ثم هاجر إلى المدينة، ثم عاد فاتحاً للبلد التي أخرجته، وأراد أهلها قتله.
وموكب الإيمان في الإسلام لا يهمل أمور الدنيا ويتركها، بل هو يأخذ بأسباب الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9].
ولما كان الاشتغال بالتجارة والمكاسب مظنة الغفلة عن ذكر الله أمر الله بالإكثار
من ذكره كما قال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10].
وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وبذلك يعلم المؤمن أن موكب الإيمان يسعى دائماً إلى مواجهة الكفر والإلحاد بالحجة والبرهان، وأن هذا الموكب الإيماني لا يتوقف أبداً، وأن الكفار لعجزهم عن الحجة والبرهان والإقناع يلجأون إلى القوة والعنف.
وهؤلاء الكفار ليسوا بمعجزين في الأرض، فالله إذا تركهم في غيهم فلأنه كتب على نفسه أن يترك الإنسان مختاراً أن يؤمن أو يكفر، وليس لقوتهم وعلو شأنهم، والله قادر على أن ينصر دينه دون معونة أحد من البشر، وأن يهدي الناس جميعاً بلا دعوة أحد، ولكن مواكب الإيمان رحمة من الله سبحانه لعباده المؤمنين ليثيبهم بها في الآخرة، ويرفع درجاتهم، ويدخلهم الجنة:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
والدعاة بين البشر صنفان:
دعاة إلى الحق .. ودعاة إلى الباطل.
فدعاة الحق هم الأنبياء والرسل وأتباعهم من المؤمنين الذين يدعون إلى الله، ودعاة الباطل هم إبليس وذريته وأتباعه من شياطين الإنس والجن.
وهؤلاء .. وهؤلاء .. كلهم قائمون بالدعوة إلى يوم القيامة.
هؤلاء يدعون إلى الجنة .. وهؤلاء يدعون إلى النار.
حتى إذا بلغ الأجل، واكتمل من شاء الله من عدد أهل الجنة، وعدد أهل النار، انقطع الميلاد والنسل.
وقد علم الله من يصلح للجنة والكرامة .. وعلم من يصلح للنار والإهانة، ولكن لإقامة الحجة أرسل الله رسلاً من الإنس والشياطين إلى هؤلاء وهؤلاء كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83].
واصطفى الله سبحانه من الناس من يدعو إليه من الأنبياء والرسل وأتباعهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 23، 24].
وجعل من أهل الشر من يدعو إلى النار كما قال سبحانه في آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)} [القصص: 41].
وقال سبحانه عن الكفار: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} [البقرة: 221].
فإبليس وذريته باقون دعاة إلى الباطل، إلى النار، إلى يوم القيامة.
أما الرسل والأنبياء فماتوا، وختمهم الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمات، ولكن الله جعل أمته خير أمة أخرجت للناس نائبة عنه، ومبلغة لدين الحق إلى يوم القيامة كما قال سبحانه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
فللحق دعاة .. وللباطل دعاة .. وللجنة دعاة .. وللنار دعاة .. وللدنيا دعاة .. وللآخرة دعاة .. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
فلينظر العبد من أي الدعاة هو؟ .. وعلى أي طريق يسير؟ .. وإلى أي دار يعمل ويدعو؟.
إن الواجب على الأمة أن تتعلم حياة النبي، وجهد النبي صلى الله عليه وسلم في آن واحد.
والدين خطوتان: خطوة للعبادة، وخطوة للدعوة، ولا بدَّ لكل مسلم أن
يخطوهما.
ونشر الدين يحتاج إلى خطوات المجتهدين .. وبكاء الخاشعين .. ومداد العلماء .. ودماء الشهداء .. وأخلاق الأتقياء.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضعف الإيمان، وصارت الأمة تخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش الله.
والمطلوب من المسلم استعمال جميع الصلاحيات والطاقات لنشر الهداية والدعوة إلى الله، ولكن الأعداء جعلوا الرجل والمرأة ماكينات للاستمتاع والشهوات، والله يريد منهما أن يكونا محلاً للإيمان والأعمال الصالحة، ونشر الهداية.
ومزاج المسلم الطاعة، وكل مشاكل العالم جميعها تعود إلى عدم الطاعة، والطاعة لا تأتي إلا بالإيمان، والإيمان لا يأتي إلا بالدعوة.
وكثير من الناس في العبادة كالصلاة يحرص على الصف الأول، وفي الدعوة لم يفكر أن يمشي خطوة فضلاً عن خطوات والتضحية بالأموال والأوقات، فمتى يظهر الحق ويزول الباطل، وتظهر الفضائل وتدبر الرذائل، وأحوال أكثر المسلمين هكذا؟.
ومتى تفتح أبواب الهداية وأكثر المسلمين قعود عن الدعوة إلى الله، مشغولون بالدعوة إلى الأموال والأشياء؟.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله حرمنا الحزن على الكفار، ثم حرمنا الحزن على العصاة، ثم انتقلت إلينا صفاتهم.
ولما كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله كان كل يوم يظهر الحق، ويزهق الباطل، ويدخل الناس في الدين، وبسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة دخل الناس في دين الله أفراداً، وبعد كمال التضحية دخلوا في دين الله أفواجا كما قال سبحانه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].
والصحابة رضي الله عنهم خرجوا من مكة إلى المدينة لنشر الهداية، وتعليم الدين، ونحن نخرج من بيوتنا وديارنا لطلب الدنيا وإكمال الشهوات، ولا نخرج لنشر الهداية، وإبلاغ الدين، وتعليم أحكامه، فكيف نكون رحمة للعالمين؟.
إن رحمة الله لنا مشروطة برحمة جميع خلق الله.
والمطلوب من المسلم أن يعيش حياته تحت أوامر الله، لا تحت هواه وشهواته، فللدين أوامر، ولجهد الدين أوامر، وكلاهما مطلوب من المسلم، فالصلاة من الدين ولها أوامر، والدعوة إلى الله من الدين ولها أوامر.
فعلى المسلم أن يقوم بالدعوة بكل قوة .. وبكل طاقة .. وفي كل وقت .. لكن مع هذا يدعو الله .. ويستغفر الله .. ويتوكل على الله.
وإذا قامت الدعوة على الأصول الشرعية جاء الإيمان والتقوى، وحسن الخلق، ونزلت الهداية والرحمة على الأمة.
والله عز وجل أعطانا الاستعداد الكامل للقيام بالدعوة والعبادة كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أكثر المسلمين ترك الدعوة إلى الله؛ لأنه صار قانعاً بالعمل الصالح.
ونشر الدين .. ونصرة الدين .. وإظهار الدين .. وحفظ الدين .. كل ذلك بيد الله وحده، لكن نحن مأمورون بالدعوة والجهد للدين.
فالعابد فقط ميدانه نفسه .. والداعي ميدانه كل الناس .. والبحر لا يقارن بالقطرة، والجبل لا يقارن بالذرة، والشمس لا تقارن بالشمعة.
ومن العجب أننا نقطع صلاة الفريضة لإنقاذ نفس من السقوط في حفرة أو بحر أو نار، وهذا واجب، لكننا تركنا ما هو أعظم منه، وهو ترك ملايين البشر يتردون في أودية الكفر والفسوق والعصيان في كل لحظة، ويذهبون إلى نار جهنم بعد موتهم.
والصحابة لما قدموا جهد الدين على جهد الدنيا جاءت المنافع والبركات
والفتوحات، ونزلت الهدايات، ونحن لما قدمنا جهد الدنيا على جهد الدين جاءت إلينا الذلة، وحلت بنا المصائب، وانتشرت فينا المعاصي.
ولحل مشاكل الأمة يجب علينا سؤال القرآن والحديث لنأخذ العلاج منهما، لكن المصيبة أن الذي بيده كل شيء أكثر الناس معرضون عنه، غير مستعدين للتعامل معه، وطاعة أوامره:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 20، 21].
إن الأمة إذا لم تسلك طريق الأنبياء والمرسلين لم يبق لها إلا حياة البهائم والطواغيت والشياطين.
إن الداعي إلى الله إذا قام بالدعوة حصل له لأجر والهداية وإن لم يستجب الناس، فإن استجابوا له فله مثل أجرهم:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
إن وظيفة الدعوة إلى الله كوظيفة الملك، وبقية الوظائف كوظيفة الخدم، والمصيبة أن أكثر الناس اشتغل بوظيفة الخدم عن وظيفة الأنبياء والمرسلين، ويطمع مع ذلك بمنازل الأنبياء والصديقين.
ومن المؤسف حقاً أن الإنسان يجتهد في معرفة استخدام كل آلة؛ لأنه يعرف قيمتها ومنافعها، ولا يعرف كيف يستخدم نفسه الاستخدام السليم الذي يرضي به مولاه، وذلك لجهله بخالقها وقيمتها ومنافعها وما أعده الله لها.
ومحبة الدنيا تخرج من القلب عظمة الله وعظمة الدين، وإذا قمنا بجهد الدعوة جاءت في قلوبنا عظمة الله وعظمة دينه، وسهل علينا امتثال أوامر الله عز وجل، ولا يستطيع الداعي إخراج عظمة غير الله من قلوب الناس حتى يخرج عظمة غير الله من قلبه.
وقد يضعف إيمان أهل الحق فيرون الباطل له صولات وجولات، ويعظم ذلك في نفوسهم، لما يرونه من بطش أهل الباطل، وشدة إعراضهم، وتتابع أذاهم للمؤمنين.
وهنا لا بدَّ للمؤمنين من الصبر والدعاء، ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكفار، وأمره أن يتعوض عن ذلك ويستعين عليه بالتسبيح بحمد ربه ليحصل له الرضا من ربه، ويطمئن قلبه، وتقر عينه بعبادة ربه، كما قال سبحانه:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} [طه: 130].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99].
والدعوة إلى الله أعظم وظائف المسلم، ولا بدَّ عند القيام بها من الحكمة، فيؤخذ الناس باللين والرفق لا بالشدة والعنف، فالنبي صلى الله عليه وسلم تلين في الدعوة، وبسبب لينه في صلح الحديبية صار الأمان والاختلاط بين المسلمين والمشركين.
فرأى المشركون في المسلمين صفات جذبتهم إلى الدين:
الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق.
فدخلوا في الإسلام طائعين راغبين.
ففي السنة السادسة من الهجرة كان صلح الحديبية، والمسلمون منذ تسع عشرة سنة كانوا لا يزيدون على ألف وخمسمائة إلا قليلاً، وبعد الصلح دخل الناس في دين الله أفواجاً.
فكان فتح مكة بعد سنتين في السنة الثامنة من الهجرة والمسلمون يزيدون على عشرة آلاف، ثم بعد سنتين في السنة العاشرة عام غزوة تبوك كان المسلمون أكثر من ثلاثين ألفاً.
ثم بعد سنة في السنة الحادية عشرة حج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أكثر من مائة وعشرين ألفاً من المسلمين.
ولما أكمل الله أصول الدين وأحكامه .. وأصول الدعوة وأحكامها .. حمَّل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة مسئولية الدين في حجة الوداع، وأمرهم بأن يبلغ الشاهد
منهم الغائب، ثم قبض الله رسوله بعد كمال الدين وتمام النعمة ودخول الناس في دين الله أفواجاً كما قال سبحانه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].
وبقيت على الأمة من بعده مسئوليات أربع:
تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. والدعوة إلى الدين.
والداعي إذا ذهب إلى الأمصار والقرى للدعوة إلى الله حصلت بسببه مصلحتان:
الأولى: مصلحة الداعية بوجود البيئة التي يزيد فيها إيمانه، وتحسن أعماله، وتعينه على امتثال أوامر الله.
الثانية: مصلحة الأمة بوجود بيئة الإيمان والعلم والأعمال، فيتأثرون بها، ويرون أحوالها ويستفيدون من مواعظها.
وجهد الدعوة يمشي ويعطي ثماره بستة أمور:
باليقين والتوكل .. والهدوء والتدرج .. والتيسير والتبشير .. والرفق واللين .. والإلفة والمحبة .. والتوقير والإكرام.
ولا بدَّ من الحكمة في دعوة البشر، والحكمة لا تأتي إلا بالطلب الصادق من العبد، وحزنه على معاصي البشر، والرغبة في زوالها، وهيجان القلب بمحبة نجاة الناس من عذاب جهنم، والاستعانة بالله والاستغاثة به، وامتلاء القلب برحمة الناس.
ولا بدَّ من استعمال كل الأوقات للدعوة إلى الله، فكل شيء له وقت محدد إلا الدعوة فهي كل وقت، فالصلاة لها وقت، والصوم له وقت، والحج له وقت، والجهاد له وقت، أما الدعوة والذكر فلهما كل وقت، ولكن لا نترك التجارة، ولا جهد التجارة، لكن نؤخر ذلك حتى يعود الناس إلى الله.
وللداعي حالتان:
الأولى: حالة إدبار الناس عنه وإيذائهم له وسخريتهم منه كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش وأهل الطائف.
وفي هذه الحالة يزداد توجهه إلى ربه فيدعوه فيستجيب له كما نزل ملك الجبال لنصرة الرسول ممن آذاه.
الثانية: حالة إقبال الناس عليه واستجابتهم له وفرحهم بقدومه كما حصل من أهل المدينة في استقبال الرسول والمهاجرين وفي هذه الحالة يجب عليه أمران:
أحدهما: شكر الله الذي هيأ له ذلك، وجمع الناس، وجعله سبباً لهدايتهم، واستغفاره من التقصير.
الثاني: تفقد نيته لئلا يغرَّه الشيطان ويحوله من الدعوة إلى الله إلى الدعوة إلى نفسه، ويعجبه بحسن أسلوبه وغزارة علمه، وينسى الذي علمه وأرسله وأعانه، فالدعوة من المخلوق ولها أجرها، والهداية شيء آخر من الله ولها أجرها.
فالعبادة عمل المسلم، والدعوة وظيفته إلى أن يلقى ربه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].