الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - فقه الأدب
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
الأدب: هو اجتماع خصال الخير في الإنسان.
وأكمل الخلق أدباً هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم من سار على هديهم من المؤمنين والصديقين.
والأدب ثلاثة أنواع:
أدب مع الله .. وأدب مع رسوله .. وأدب مع خلقه.
فالأدب مع الله يكون بصيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة، وصيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره، وصيانة إرادته أن تتعلق بما يمقته الله عليه.
فالعبد يصل بطاعة الله إلى الجنة .. ويصل بأدبه في طاعته إلى الله، وترك الأدب يوجب الطرد.
وأنفع الأدب: الفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك.
وحسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن.
والأدب مع الله حسن الصحبة معه، بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، كحال مجالس الملوك كما قال سبحانه عن الأنبياء:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90].
والناس في الأدب ثلاث طبقات:
فأهل الدنيا: أكبر آدابهم في الفصاحة والبلاغة، وحفظ العلوم.
وأهل الدين: أكثر آدابهم في مخالفة النفوس، وتأديب الجوارح، وحفظ الحدود، وترك الشهوات.
وأما أهل الخصوص: فأكبر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وحسن الأدب في مواقف الطلب ومقامات القرب.
والكمال لزوم الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
ومن تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.
وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل، ولهذا كان الأدب استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل، ومن الباطن إلى الظاهر.
والأدب هو الدين كله.
فإن ستر العورة من الأدب .. والوضوء والغسل من الأدب .. والتطهر من الخبث من الأدب .. حتى يقف العبد بين يدي الله طاهراً .. والتجمل والتزين بين يدي الله في الصلاة من الأدب .. وخفض العبد بصره في الصلاة من الأدب .. وعدم قراءة القرآن في حال الركوع والسجود من الأدب، فإن القرآن كلام الله، وكلامه أشرف الكلام، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله ألا يقرأ في هاتين الحالتين.
ومن الأدب مع الله ألا يستقبل بيته ولا يستدبره حال قضاء الحاجة.
ومن الأدب مع الله وضع اليد اليمنى على اليسرى عند الوقوف بين يديه في الصلاة.
فالأدب مع الله عز وجل هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً.
ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء:
معرفة الله بأسمائه وصفاته .. ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره .. ونفس مستعدة قابلة لينة .. متهيئة لقبول الحق علماً وعملاً وحالاً.
وأما الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به:
فرأس الأدب معه الإيمان به .. وكمال التسليم له .. والانقياد لأمره .. وتلقي خبره بالقبول والتصديق، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والقصد والخضوع والذل، والإنابة والتوكل.
فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما:
توحيد المرسل .. وتوحيد متابعة الرسول ..
فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال سبحانه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1].
والتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته.
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم ألا ترفع الأصوات فوق صوته، فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الرأي برفع الأراء على سنته وما جاء به كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2].
ومن الأدب معه ألا يجعل دعاءه كدعاء غيره، كما قال سبحانه:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63].
وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم.
فلكل مرتبة أدب خاص.
فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهما أدب هو أخص به، وللأم أدب هي أخص به.
وللعالم أدب آخر يليق به .. ومع السلطان أدب يليق به .. وله مع الأفراد أدب يليق بهم .. ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه .. ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.
ولكل حال من أحوال الإنسان آداب:
فللأكل آداب .. وللشراب آداب .. وللركوب آداب .. وللسفر آداب .. وللدخول والخروج آداب .. وللكلام آداب .. وللنوم آداب .. وللصحة آداب .. وللمرض آداب .. وللمجالس آداب .. وللنكاح آداب .. وهكذا.
وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره.
والأدب حفظ الحد بين الغلو والجفا، فالانحراف إلى أحد طرفي الغلو، والجفا هو قلة الأدب.
والأدب الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حداً له، فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين، والعدوان سوء الأدب.
فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لا يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها، وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها.
وفي حق الأنبياء:
لا يغلو فيهم كما غلت النصارى .. ولا يجفو عنهم كما جفت اليهود.
فالنصارى عبدوهم، واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط المسلمون آمنوا بهم، وعزروهم، ونصروهم واتبعوا ما جاءوا به، كما قال سبحانه عن النبي صلى الله عليه وسلم:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157].
وأما الأدب في حق الخلق، فلا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها
بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكليمها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، ولا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وحقيقة الأدب العدل، وكمال الأدب وحسنه من أعلى درجات العبودية.
والأدب على ثلاث درجات:
الأولى: منع الخوف ألا يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة.
فلا يدع العبد الخوف من الله يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله، فهذا خوف مذموم، فالخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه، والتي وسعت كل شيء كما قال سبحانه:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156].
وحد الخوف ما حجز الإنسان عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه.
ولا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون كما قال سبحانه:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99].
وحد الرجاء ما طيب لك العبادة، وحملك على السير.
وأما ضبط السرور فلا يقدر عليه إلا الأقوياء الذين لا تستفزهم السراء فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم.
الدرجة الثانية: الخروج عن الخوف إلى ميدان القبض، والصعود من الرجاء إلى ميدان البسط، ومن السرور إلى المشاهدة، فيقبض نفسه عن كل ما يسبب له العقوبة، ويطمئن إلى رحمة ربه، ويأنس به ويناجيه كأنه يراه بجلاله وجماله وكماله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
الدرجة الثالثة: معرفة الأدب، فإذا عرفه وصار له حالاً نسبه إلى ربه دون نفسه، ويغني عن نفسه وقيامها بالأدب بشهود الفضل لمن أقامها فيه، وشهود منته، وهو الله عز وجل كما قال سبحانه:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 53،54].
والانبساط: إرسال سجية النفس مع الغير، وإزالة الوحشة الواقعة بين العبد ومن يحب بالانبساط إليه.
والانبساط إلى الخلق يكون بألا يعتزلهم ضناً على نفسه، أو شحاً على حظه، بل تحمله السماحة والجود على ترك العزلة، ومجالسة إخوانه، وانتفاعهم بمجالسته، ويؤثرهم على نفسه، فينالون من فضله.
وليسعهم بخلقه باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة، ويوقرهم بلينه وتواضعه، ويخفض لهم جناحه، بحيث لا يترك لنفسه بينهم مرتبة يحترمونه من أجلها، مع حفظ حاله وقلبه مع الله.
والانبساط مع الحق سبحانه هو ألا يمنعك عن الانبساط إليه خوف، والبسط يأتي من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان، والتودد والرحمة.
والقبض يأتي من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام.
ولا يحجبك رجاء، فإن الراجي يحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه إليه، فينبسط إلى ربه انبساط فرح وسرور، ويأنس به، ويتملقه ويبتهج به.
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غيرضالين ولا مضلين.