الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - تغيير الأخلاق
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
وقال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10].
التغيير سنة كونية جارية .. فيها آيات وعبر .. لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والله يغير في ملكه ما شاء متى شاء: ليلاً ونهاراً .. وصيفاً وشتاءً .. وحراًّ وبرداً .. وصحة ومرضاً .. وراحةً وتعباً .. وحركةً وسكوناً .. وأمناً وخوفاً.
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور: 44].
وقد حمل الله الإنسان أمانة تغيير أخلاقه من بين سائر المخلوقات، ومكنه من اختيار ما يريد من إيمان وكفر، وعدل وظلم، وحق وباطل:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29].
والإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، ويكتسب أخلاقه من خلالها، فإن كانت طيبة تذكر بالله واليوم الآخر طابت أخلاقه وأعماله، وإن كانت سيئة فيها الفواحش والفجور والشهوات ساءت أخلاقه، وفسدت أعماله.
ولذلك أمرنا الله عز وجل بلزوم البيئة الصالحة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119].
وحذرنا من البيئة الفاسدة كما قال سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68].
وأصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها،
فهي كالنهر المنحدر الذي إن ترك أغرق الأرض والعمران، فسكره وحبسه لا يجدي؛ لأنه سيمتلئ فيكون إفساده وتخريبه أعظم.
وقطعه من أصل الينبوع متعذر؛ لأنه كلما سدّ من موضع نبع من موضع آخر فلم يزل خطره.
لكن الأجدى والأنفع صرفه عن مجراه المنتهي إلى العمران إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه، ولا يتضررون به، فصرفه إلى أرض قابلة للنبات وسقيها به أجدى وأنفع وأسلم.
إذا تبين هذا فالله العليم الحكيم اقتضت حكمته أن ركب الإنسان والحيوان على طبيعة محمولة على قوتين:
قوة غضبية .. وقوة شهوانية.
وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان برحمة العزيز العليم.
فبقوة الشهوة يجذب الإنسان المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضار عن نفسه.
فإذا استعمل الإنسان الشهوة في طلب ما يحتاج تولد منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والغيرة.
فإذا عجز عن ذلك الضار أورثه قوة الحقد، وإن عجز عن وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبداً به أورثه الحسد.
فإن ظفر بما يحب ويحتاج أورثته شدة شهوته خلق البخل والشح، وإن اشتد حرصه على الشيء، واشتدت شهوته له، ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه، أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء.
فالنهر مثال هاتين القوتين: الغضبية والشهوانية، وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه، يخربها ويتلفها ولا بدَّ.
فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان، وهدم عمران الإسلام، وقلع أشجاره، وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة.
وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤول إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق:
فأصحاب المجاهدات والخلوات والتمرينات راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم حكمة الله، وما طبع الله عليه الجبلة البشرية، ولم تنقد له الطبيعة البشرية فاشتد القتال، وحمى الوطيس فانقطعوا ولم يصلوا.
وفرقة أعرضوا عنه، وشغلوا أنفسهم بالأعمال، ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات، مع تخليتهم إياها على مجراها، واشتغلوا بتحصين العمران، وأحكام بنائه وأساسه.
فهؤلاء صرفوا قوتهم وإرادتهم في العمارة والتحصين، وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفاً من هدم البناء.
والفرقة الثالثة: رأت أن هذه الصفات ما خلقت عبثاً ولا سدىً، وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك، وأن ما خاف منه أولئك هو سبب الفلاح والنجاة.
فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر، والبطر والظلم، والشر والعدوان .. ويسقي به علو الهمة .. والأنفة والحمية، والمراغمة لأعداء الله وقهرهم، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس.
فأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع، كالخيلاء فهي مبغوضة للرب، لكنها في الحرب أمام الأعداء، وعند الصدقة محبوبة للرب.
وكذلك خلق الحسد مذموم، لكن صرفه إلى الحسد المحمود الذي يوصل إلى المنافسة في الخير الذي يحبه الله أمر محمود.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي
الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه (1).
وكذلك خلق الحرص، فإنه من أنفع الأخلاق وأوصلها إلى كل خير، وشدة الطلب بحسب قوة الحرص، فلا نقطعها ولكن نوجهها إلى ما ينفع النفس في معادها، ويزكيها بالإيمان والعبادات والطاعات.
فقوة الحرص لا تذم، وإنما يذم صرفها إلى ما يضر الحرص عليه من الشهوات والمعاصي، أو لا ينفع وغيره أنفع للعبد منه.
وكذلك قوة الشهوة من أنفع القوى للعبد، وأوصلها إلى كماله وسعادته، فإنها تثمر المحبة، وبحسب شهوة العبد للكمال والاستقامة يكون طلبه.
وصدق الشهوة وقوتها وكمالها يحمل الإنسان على بيع مشتهى دنيء خسيس بمشتهى أعلى منه، وأجل، وأرفع من الطاعات والحسنات والجنات.
وكذلك خلق الشح والبخل لهما مصرفان:
مصرف محمود نافع للعبد، يحمله على بخله وشحه بزمانه ووقته وأنفاسه أن يضيعها ويسمح بها لمن لا يساوي.
ويشح غايه الشح بحظه ونصيبه من الله أن يبيعه أو يهبه لأحد من الخلق .. ويشح بماله ألا يكون في ميزانه .. وأن يتركه لغيره يتنعم به ويفوته هو أجره وثوابه.
فالشحيح بماله المحب له هو الذي يقدمه بين يديه زاداً لمعاده، أما المصرف المذموم فهو من يشح ويبخل بماله ووقته أن يصرفه فيما يحب الله ورسوله.
وهذه قاعدة مطردة في جميع الصفات والأخلاق.
فالرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بصرفها عن مجاريها المذمومة، وإلى مجاريها المحمودة.
فجاءوا بصرف قوة الشهوة إلى النكاح والتسري بدلاً من الزنا والسفاح، فصرفوا قوة الشهوة ومجرى الحرام إلى مجرى الحلال الذي يحبه الله عز وجل.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73)، ومسلم برقم (816). واللفظ له.
وجاءوا بصرف قوة الغضب من الظلم والبغي إلى جهاد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والغلظة عليهم، والانتقام منهم كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9].
وجاءوا بصرف قوة اللهو والركوب، إلى اللهو والرمي والمسابقة على الخيل وركوبها في سبيل الله واللهو في العرس والعيد.
وكذلك شهوة استماع الأصوات المطربة اللذيذة لا يذم بل يحمد، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه للقرآن، وأمر ابن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ عليه وسمع وتأثر بما سمع وبكى.
وهذا سماع خواص الأولياء، فلا بدَّ للروح من سماع طيب تتغذى به، ولذا قال سبحانه:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 4].
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ» ، قال فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قال:«إِنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» ، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41]. رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيل. متفق عليه (1).
والسماع المذموم سماع المكاء والتصدية، وألفاظ الخنا، وآلات المعازف.
فهذا غذاء .. وهذا غذاء .. ولكن لا يستوي من غذاؤه الحلوى، والطيبات، والعسل .. ومن غذاؤه الرجيع، والميتة، والدم، وما أُهلَّ به لغير الله.
وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ويترك الطبيب.
فالأنبياء والرسل هم أطباء القلوب والأبدان، وتزكية النفوس مسلَّم إليهم، فلا
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4582)، ومسلم برقم (800). واللفظ له.
سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم.
والله عز وجل إنما بعثهم لهذه التزكية، وولاهم إياها كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (1).
والنفس آية من آيات الله العظيمة، وهي موجودة في كل حيوان، وهي في غاية اللطف والخفة، موجودة في البدن ولكنها لا ترى، سريعة التنقل والحركة، سريعة التغير والتأثر والانفعالات النفسية من الهم والإرادة، والقصد والحب والبغض، ولولاها لكان البدن مجرد تمثال لا حركة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة كما قال سبحانه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7،8].
وللإنسان مع نفسه حالتان:
الأولى: إما أن يطهر نفسه من الذنوب، وينقيها من العيوب، ويرقيها بطاعة الله، ويعليها بالعلم النافع، ويرفعها بالعمل الصالح، فهذا قد زكى نفسه بما يحبه الله، فهو من المفلحين كما قال سبحانه:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 10].
والناس متفاوتون في الأعمال والأخلاق تفاوتاً كبيراً، وذلك بحسب تفاوت الإيمان والأعمال والأخلاق، ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هي خالصة لله فتقبل وتبقى وتنفع صاحبها؟
أم هي غير خالصة لله فترد وتبطل وتفني، وتضر صاحبها؟
فالناس مختلفون، وأعمالهم وأخلاقهم متفاوتة كما قال سبحانه:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} [الليل: 4].
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (8952).
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (276)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (45).
ولهذا بين الله عز وجل أن العاملين قسمان، ولكل قسم عمل وحكم وجزاء في الدنيا والآخرة:
فالقسم الأول: من قام بما أمره الله به من التوحيد والإيمان، وأدى ما أمر الله به من العبادات المالية كالزكوات والصدقات والنفقات والكفارات، والعبادات البدنية كالصلاة والصوم، والمركبة منهما كالعمرة والحج ونحوهما، واتقى ما نهى الله عنه من المحرمات والمعاصي، وصدق بلا إله إلا الله وما دلت عليه، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي.
فهذا يسهل الله عليه أمره، ويجعله ميسراً له كل خير، ميسراً له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك كما قال سبحانه:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7].
وأما القسم الثاني: فهو من بخل بما أمره الله به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، واستغنى عن الله، فترك عبادته وطاعته، ولم ير نفسه محتاجة إلى ربه الذي لا نجاة له إلا بعبادته وطاعته.
وكذب بما أوجب الله على العباد التصديق به من الإيمان، وما يترتب عليه من الأعمال والثواب والجزاء.
فهذا ييسره الله للحالات العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسراً للشر أينما كان، مقيضاً له فعل المعاصي؛ لأنه أتى بأسباب التعسير والهلاك، نسأل الله العافية كما قال سبحانه:{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 8 - 10].
وأخلاق البشر يمكن تغييرها وجرها إلى أن تكون حسنة أو قبيحة، حسب التذكير والوعظ، وحسب الإيمان والكفر، إلا أن بعض النفوس والطباع سريعة القبول والتأثر والتأثير، وبعضها صعب يحتاج إلى معالجة، وبعضها غير قابل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ،
وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (1).
ومن سنة الله عز وجل في عباده أن الناس إذا غيروا ما بأنفسهم فانتقلوا من الكفر إلى الإيمان، ومن معصية الله إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء والذلة والشدة، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، وكذلك الله عز وجل لا يغير ما بقوم من النعمة والإحسان ورغد العيش حتى يغيروا ما بأنفسهم، فينتقلوا من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعات إلى المعاصي، ومن شكر النعم إلى البطر بها، فيسلبهم الله عند ذلك إياها:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11].
والإسلام كله تغيير العواطف من الأدنى إلى الأعلى:
من المخلوق العاجز إلى الخالق القادر .. ومن الدنيا إلى الدين .. ومن الاشتغال بالأموال والأشياء إلى المسارعة للإيمان والأعمال الصالحة .. ومن العادات والتقاليد إلى السنن والآداب الإسلامية .. ومن الدعوة إلى الأشياء إلى الدعوة إلى الله.
وجزاء ذلك كله العزة في الدنيا والجنة في الآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 10 - 13].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79)، واللفظ له، ومسلم برقم (2282).