المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالثفي نوابغ بلغاء الروم - نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة - جـ ١

[المحبي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌الباب الأولفي ذكر محاسن شعراء دمشق

- ‌الشام ونواحيها لا زالت طيبة العرار والبشام

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌دَوْر

- ‌دَوْر

- ‌دَوْر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌بسم الله الرحمن الرحيمبقية الباب الأول

- ‌في محاسن شعراء دمشق ونواحيهافصل ذكرت فيه مشاهير البيوت

- ‌السيد محمد بن السيد كمال الدين

- ‌أخوه السيد حسين

- ‌السيد عبد الرحمن

- ‌السيد عبد الكريم

- ‌السيد إبراهيم

- ‌شهاب الدين بن عبد الرحمن

- ‌أخوه إبراهيم

- ‌فضل الله بن شهاب الدين

- ‌ علي بن إبراهيم

- ‌ حفيده إسماعيل

- ‌ولده عبد الغني

- ‌أحمد بن ولي الدين

- ‌ولده عبد الوهاب

- ‌عمر بن محمد

- ‌حفيده محمد بن علي

- ‌حسين بن محمد

- ‌القاضي محب الدين

- ‌عبد اللطيف

- ‌ أخوه محب الله

- ‌محمد بن عبد اللطيف الشهير بالخلوتي

- ‌ السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله

- ‌فصل

- ‌محمد بن عمر الصوفي

- ‌على بن جار الله

- ‌حافظ الدين العجمي

- ‌مرعيّ بن يوسف الكرميّ

- ‌‌‌فصل في معاتبةٍ

- ‌فصل في معاتبةٍ

- ‌فصل في الحثّ على المواعيد

- ‌فصل في شكوى حال غريب

- ‌فصل في مخاطبة محدّث

- ‌فصل في مخاطبة منطقيّ

- ‌فصل في مخاطبة نحويّ

- ‌خير الدين بن أحمد الحنفي

- ‌نجم الدين بن خير الدين

- ‌أحمد الخالدي الصفدي

- ‌حسن الدّرزيّ العيلبونيّ

- ‌محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصّيداويّ

- ‌حسين بن عبد الصمد الحارثيّ

- ‌ولده بهاء الدين

- ‌حسن بن زين الدين الشهيد

- ‌سبطه زين الدين بن محمد

- ‌السيد نور الدين بن أبي الحسن الحسيني

- ‌ولده السيد جمال الدين

- ‌أخوه السيد علي

- ‌نجيب الدين بن محمد بن مكي

- ‌محمد بن حسن بن عليبن محمد، المعروف بالحر

- ‌محمد بن علي بن محمود الحشريّ

- ‌حسين بن شههاب الدينبن حسين بن محمد بن يحيى ابن جاندار البقاعي الكركي

- ‌عبد اللطيف البهائي البعلي

- ‌حسن بن درويش الكاتب الطرابلسي

- ‌عبد الجليل بن محمد الطرابلسي

- ‌رجب بن حجازي المعروف بالحريري الحمصي

- ‌فصل في وصف عمامة

- ‌المعروف بابن الأعوج

- ‌الباب الثاني في نوادر الأدباءبحلب الشهباء

- ‌مصطفى بن عثمان البابي

- ‌السيد موسى الرَّامحمدانيّ

- ‌أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني

- ‌السيد محمد بن عمر العرضي

- ‌فتح الله بن النحاس

- ‌السيد أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب

- ‌ولده السيد باكير

- ‌ السيد عبد القادر بن قضيب البان

- ‌ولده السيد محمد حجازي

- ‌السيد عبد الله بن محمد حجازي

- ‌ السيد يحيى الصادقي

- ‌السيد عطاء الله الصادقيّ

- ‌السيد محمد التقوى

- ‌السيد أسعد بن البتروني

- ‌السيد حسين النبهاني

- ‌القاضي ناصر الدين الحلفاوي

- ‌محمد بن تاج الدين الكوراني

- ‌ولده أبو السعود

- ‌محمد بن أحمد الشيباني

- ‌حسين بن مهنا

- ‌محمد بن عبد الرحمن

- ‌محمد بن الشاه بندر

- ‌صالح بن قمر

- ‌صالح بن نصر الله المعروف بابن سلوم

- ‌مصطفى الزيباري

- ‌مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي

- ‌محمد بن محمد البخشي

- ‌إبراهيم بن أبي اليمن البتروني

- ‌أحمد بن محمد المعروف بابن المنلا

- ‌محمد بن حسن الكواكبي

- ‌الباب الثالثفي نوابغ بلغاء الروم

- ‌الباب الرابعفي ظرائف ظرفاء العراق

- ‌والبحرين والعجم

- ‌شعراء البحرين

- ‌فصل جعلته للمعرباتقديماً وحديثاً

- ‌الباب الخامسفي لطائف لطفاء اليمن

- ‌ذكر بني القاسم الأئمة

- ‌ذكر آل الإمام شمس الدينبن شرف الدين بن شمس الدين

- ‌فائدة

الفصل: ‌الباب الثالثفي نوابغ بلغاء الروم

وَرْقاءُ من عهد الحبيب تُتَرْجمُ

لِيَهْنِك إلفٌ بالغُوَيرِ مَخيِّمُ

لئِن تندُ بي إلْفاً وما شَطَّ حيُّه

فإني على شَطِّ المَزارِ مُتيَّمُ

وهَبْ سَجْعك اللموزون باللحن معرِبٌ

فدمعِيَ أوْفَى صامتٍ يتكلمُ

لكِ مثلٌ في العَنْدَلِيب وسَجْعِه

ولي بالفَراشِ الشِّبْه والفَرْقُ يُعْلَمُ

وله:

يا أيها البدرُ المُنيرُ إذا بدَا

وإذا رَنَا يا أيُّهذا الرِّيمُ

ومعلِّم الغصنِ الرَّطِيب تمايُلاً

رق النسيمُ لها فصار يَهيمُ

كم ذا تُمَوِّه عن صَبابةِ عاشقٍ

صَبٍّ على طولِ الصدودِ مقيمُ

فارْحَمْ ضَنا جسدِي وحسَن تَصَبُّرِي

وارْعَ الجميلَ فما الجمالُ يدومُ

وله في ألكن:

فلا تعجبوا من لُكْنةٍ في لسانِه

فمن حُلْوِ فِيه لا يفارقُه الشُّهدُ

وهذا المعنى أصله بالتركية، وكنت عربته قبل أن رأيت تعريبه.

وبيتي هو:

ما لُكنةٌ فيه تِشينُ وإنما

تأبَى الحروفُ فِراق شُهْدِ لسانِهِ

ثم رأيت في ديوان الشهاب ما زاد عليه، وهو قوله:

بالله حدِّث عن تلَجْلُجِ نُطْقِه

سُكْراً وأتْحِفْني بعذْبِ بَيانِهِ

الضِيقِ فِيه ليس يخرُج لفظُه

أم لا يُريد فِراق عَذْبِ لسانِهِ

ومما يستعذب هنا قول ابن تميم:

عابُوا التَّلَجْلُجَ في لسانِ مُعذِّبي

فأجبْتُهم للصَّبِّ فيه بَيانُ

إن الذي يُنْشِي الحديثَ لسانُه

ولسانُه من ريقِه سَكْرانُ

ولهذا الأصل الطيب المغرس، فرعٌ لم يزل ولا يزال تتعرف فيه المعالي وتتفرس.

وهو أحمد القائم مقام أبيه في رتبته، والمفرع لأفانين البلاغة من سامي هضبته.

زاده الله تعالى فضلاً ونبلاً، وضاعف له الثناء بعداً كما ضاعفه قبلاً.

وذلك إن كان بقي مزيدٌ بعد التمام، على أنه لم يبق إلا الاستدامة كما قال أبو تمام:

نعمةُ اللهِ فيه لا أسألُ اللّ

هَ إليه نُعْمَى سوى أن تدوما

ولو أنِّي سألتُ كنتُ كمن

يسألُه وهْو قائمٌ أن يقُومَا

الجزء الثالث

‌الباب الثالث

في نوابغ بلغاء الروم

وهذا الباب فيه الغرض المروم؛ فإن دار خلافتها وإن تباين فيها اللسان، ففي أهلها حذق لا يعيقه مزية وجدت في نوع الإنسان.

فسبحان من جعل جبالها السبع بمنزلة الأفلاك، مطالع الأضوا ومغارب الأحلاك، ومغرد طيور جملة الأملاك، وسبب انتظام هذه الأسلاك.

فسما بها الفرع الباسق، والأصل الثابت، وطاب لعمري فيها المنبت والنابت.

كيف وهي حاضرة الدنيا، وواحدة المفردة والثنيا.

ومجمع أهل الفضل تنظمهم في سلك، وتنزههم فيما أنالها الله من ملك وملك.

وقد أمنت بحمد الله من الصائل، وحمدت فيها البكر والأصائل.

ولها الحظوة التامة، والمحاسن الخاصة إلى الخيرات العامة.

مع اللطافة المشربة بالغضارة، والطلاقة الممكنة من مفاصل النضارة.

فهي قيعة الظل الأبرد، وكناس الغيد الخرد.

ومهوى هوى الغيث الهاتن، ومأوى اللفظ الساحر واللحظ الفاتن.

وبها المباني الشم الأنوف، والقصور الجمة الحلي والشنوف.

رياضها وريقه أريضة، وأهويتها صحيحة مريضة.

ومرابعها مراتع النواظر، ومطالع المسرات النواضر.

تصبو النسمات إلى مسارحها الرحاب، وتبكي شوقاً إليها جفون السحاب.

ولعهدي بها إذا أخذت بدائع زخارفها، ونشرت طرائف مطارفها.

وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق خمر السحائب.

فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حبابٌ كاللؤلؤ المنحل.

هناك رأيت كل شعب يحدث عن شعب بوان، وكل منظر يتجلى عن أشكال من الزهر وألوان.

بُسِطت فَوقه بُرودُ ربيعٍ

عندما زاره وفودُ الشمائلْ

خُطَّ فيه كتابُ توحيد ربِّي

نَقْطُه النَّورُ والمياهُ الجداولْ

فتلتْه طيورُه دارساتٍ

وأعادتْه مُفْصِحات العنادِلْ

أغْنَتِ السمعَ عن مِراءِ جدالٍ

رامياتٍ لنقْل حمْل الدلائلْ

ص: 332

وأنا إذا بسطت فيها القول، وهدرت هدر الشول.

فغاية ما أقول: هي العروس المتبرجة، والروضة المتأرجة.

فصان الله جمالها وجلالها، ووقى من حر الهجير ببرد النعيم ظلالها.

ولا زالت قوافل العوائد الإلهية واصلةً إليها، ودامت دار إيمانٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومع ما أعطاها الله من تحفٍ تحف بها وكرامة، فقد اجتنت أهلها أثمار الرحلة في ظل الإقامة.

فكلهم عصابة بارعة، وآراؤهم إلى الغوامض مسارعة.

بأنفس كريمة الشمائل والغرائب، وقرائح تقذف بحارها بدرر الغرائب.

وحرص على لقاء كل ذي علم، وتخلق بأخلاق كل ذي مروءة وحلم.

وقد خرج جماعةٌ من أعيانهم، زانوا الأدب وزينوه بحسن بيانهم.

أشعارهم بالألسنة الثلاثة حجة أهل اللسن، وفاضحة المذهبات الثلاث الماء والخضرة والوجه الحسن.

لو كنت أوفيهم حقهم الراتب، وأخلص من تبكيت المزدري والمعاتب.

لجعلت الطرس من صحيفة الخد، والقلم من ألف القد.

ثم كتبت وصفهم بالتبر، فضلاً عن الحبر.

ووهبت للناسخ، نفس ودي الراسخ.

وقلت فليكن الناقل، ممن لا يقذف صفحته إلا إلى الصاقل.

وقد ابتدأت الباب باثنين منهم، رويت حديث الثنا في محلهم عنهم.

وعقبتهم باثنين آخرين، رأيتهما بدمشق وقد بزغا كالقمرين.

ثم أذكر بعدهم من له شعرٌ عربي اطلعت عليه، ثم من له شعر تركي انتخبت من شعره مفردات عربتها ونسبتها إليه: شيخ محمد بن لطف الله بن زكريا بن بيرام أستاذي وملاذي، وعتادي وعياذي.

عين المعالي وإنسانها، وقلب المعارف ولسانها.

صحيفة مجده لم يجد نقط شكلها حسود، وأقلام مدحه ليس همها إلا ركوع وسجود.

أنديته مصب مزن الفضل، فهي ذات سقيط وندىً مخضل.

تبذل الأعمار في لقائه نقدها، وتنتطق الجوزاء في خدمته عقدها.

ومن حق هيبته عند ذوي الآداب، أن يعقدوا إذا لمحوه الحواجب بالأهداب.

أراد البحر أن يحاكي نداه، فقصر عنه ولم يدرك أدنى مداه.

فهو لذلك في اضطراب وأمواجه في التطام، وطفل النبت يغتذي بندى كفه فلا يخشى عليه منها إلا الفطام.

فلو استجارت أوراق الخريف، بظل حمى نداه الوريف.

لما سلبت برداً زهى للعيون وراق، وظلت شاكرةً فضل الربيع بلسان الأوراق.

إليه انتهت الرغائب، وحضر نداه الخضر وهو غائب.

وهو الذي دخلت الروم لأجله، وحصلت من لقاه على أعظم الأمل وأجله.

وهو إذ ذاك عن رتبة البدر متقاعد، ومع الشمس في الظهور رابعة النهار متواعد.

فشاهدت ملكاً في صورة إنسان، يملأ العين بالحسن والكف بالإحسان.

وله السعادة مهيأة، وبه الدنيا وأهاليها مهنأة.

فوردت بحراً من جوده نميرا، وارتقيت حيث أعد النجم سميرا.

وكم مجلسٍ بين يديه، قرأت فيه سورة الأدب لديه.

تنطقني فضائله بما أنظم فيه من الغرر، فأغدو كمن قلد البحر من فرائده بعقود الدرر.

ثم أفيض عنه فيض النهر، وأنصرف انصراف الصبا عن الزهر.

وقد آليت لا توقعت خيراً سوى خيره، ولا أملت الرغبة عن شق القلم لمدحه غيره.

وصفوي محميٌّ به عن الشوائب، وجسدي محرم على أنياب النوائب.

وكانت لي وراء رأيه مواعيد، كنت منها على نيلٍ قريب غير بعيد.

فعاق عنه موته الذي بدل السرور بالترح، وترك الحزن شامتاً بالفرح.

فدفن به كنزٌ كان في الزمان لقية، وتم به السرور لكل حي وكانت عندنا منه بقية.

فنعته الهمم، وماتت بموته أمم.

وما فُجِعت به الدنيا ولكن

غدتْ بِفراقه الدنيا يتيمهْ

فعلى قبره من الرحمة الحافة، عدد أنفاس الخلائق كافة.

وقد أوردت له من آثاره التي جلت، وأسفرت عن شمس البلاغة حين تجلت.

ماهو في مقلة الأدب حور، وفي قلب الحسود خور.

فمن ذلك قوله:

يرمِي فيُوقع فتنةَ النَّظَرِ

وتراه يسألني عن الخبرِ

نَزْهٌ خيالُ الفكر يُغضِبه

فيكاد يمنعني من الفِكَرِ

ما شاهدتْ عيْنايَ طلعتَه

إلا وأغْناها عن القمرِ

يُرْجَى من الفِتَن الخلاصُ إذا

سلمتْ لواحظُه من الحَوَرِ

وقوله:

أترى الزمانَ يُعيد لي أُنْسِي

ويردُّ بدرِي حاملاً شمسِي

فإذا تكرَّم رحتُ أشكرُه

وتركتُ يومي عاتباً أمسِي

وقوله:

صافيْتُكم من عهدِ أن

كنتمْ فما هذا الجفَا

ص: 333

وبيْننا مودةٌ

تعلِّم الآسَ الوفَا

وقوله:

يسْبِي العقولَ بلَحْظه فكأنما

سُقِيتْ سيوفُ لِحاظِه بسُلافِ

سَيْفُّيهُ صاد القلوبَ بنَظْرةٍ

من بين مثل قوادم الخَطَّافِ

السيفي: طائر من الجوارح يشبه الصقر.

ومن رباعياته قوله:

ناديتُ أحبَّتِي لأجل السَّلْوَى

والدهرُ رسومَ رَبْعهم قد سَوَّى

بالنَّوْحة جُدْتُ في المغاني حتى

قد ساعدني على بكائِي رَضْوَى

ولي فيه مدائح كثيرة، من جملتها قصيدة قلتها في ابتداء ورودي عليه.

ومستهلها:

دَنا الرَّكْب من حَيٍ تقادَم عهدُه

وهَيَّج فيه القلبَ وجداً يُجِدُّه

دعتْه إلى الشكوَى معالمُ أُنْسِه

ولكن أسرارَ الغرام تصُدُّهُ

بنفسِيَ مِن آرامِه كلّ شادِنٍ

تملَّك مني حبَّةَ القلبِ وُدُّهُ

من الغِيد يرْنُو عن حُسامِ لَواحظٍ

يقُدُّ قلوبَ الدَّارِعين فِرِنْدُهُ

أرُدُّ عيوني عنه خِيفةَ كاشحٍ

وهل يمنع الصَّادِي عن الماء وِرْدُهُ

سقاني وقد حيَّى مُداماً تروَّقتْ

إذا لم تكُن من كَرْمِه فهْيَ خَدُّهُ

سُلافاً تُعير الصبحَ في كَشْفِه لنا

قِناعَ الدجى منها سَناً يسْتمدُّهُ

من مديحها:

يرِفُّ به غصنٌ من الحمدِ يانِعٌ

ويعبَق من نَشر الثَّنا فيه نَدُّهُ

ولا تعثُر اللَّحظاتُ في باب مجدِه

بغير مَنالٍ يقْدَح العزَّ زَنْدُهُ

أدَرَّ على الأيام سَيْباً ففجَّرتْ

ينابِيعَ حتى الصخرُ أعْشَب صَلْدُهُ

ومنها هذه القصيدة، قلتها وقد ألبسني فروةً من فراه، وهي بعض ما نالني من قراه:

شأنُ المُوَلَّه أن يعيش مُتيَّما

والحبُّ ما منع القَرارَ المُغرَمَا

هو ما علمتَ غرامُ صَبٍ دمعُه

ما زال يُظهِر سِرَّه المتكتِّمَا

لو شاء من أضناه هجيره

رد الحياة لجسمه منكرما

وإذا الصبابةُ خامَرتْ قلبَ امرىءٍ

وجد الشِّفاءَ من الحبيب تنعُّمَا

ولَرُبَّ مُغْبَرِّ الأديمِ قطعتُه

من فوق مُبْيَضِّ القوائمِ أدْهَمَا

لا تستطيع الشمسُ ترسم ظلَّه

مهما مشَى سبَق القضاءَ المُبرَمَا

والليلُ بحر قد تدافَع مَوْجُه

وترى الكواكبَ فيه تسْرِي عُوَّمَا

وكأن وجهَ الأُفْقِ تُنقَدُ فضةً

والبدرَ تحسَبه عليه دِرْهَمَا

وكأنما المَرِّيخُ شعلة قابسٍ

أو رأسُ نَصْلٍ خضَّبْته يدٌ دَمَا

أسْرِي وشخصُك لا يزال مُسامِري

وأرى التصبُّر عنك مُرّاً عَلْقَمَا

يا آفةَ الأرواحِ ما ألْهاك عن

دَنِفٍ لذكْرِ هواك يهوَى اللُّوَّمَا

من مديحها:

مولىً إذا ظلمَ الزمانُ فما يُرَى

إلَاّ إلى عزَماته مُتظلِّمَا

جارَى الملوك إلى مقاماتِ العلى

فتأخَّرُوا عنه وكان مُقدَّمَا

لو مَدَّ راحتَه لثَغْرِ مُقَبِّلٍ

أنِف الثُّريَّا أن تكون له فَمَا

أو تنطق الدنيا بِمِدحةِ ماجدٍ

نطَق الزمانُ بمدْحِه وتكلَّمَا

دعَواتُه تجلو الكروبَ وعَزمُه

لو يلْتقيه الموتُ مات توهُّمَا

ولو اسْتجار به النهارُ من الدجى

لم تبصرِ الأحداقُ شَيّاً مظلِمَا

منها:

ألْبَسْتني نِعَماً رأيتُ بها الدجى

صبحاً وكنتُ أرى صباحِي مظلِمَا

ما عُذْرُ من شرَّفتَه بفضيلةٍ

أن لا ينالَ بها السُّهَا والمِرْزَمَا

وإليْكها زهراءَ ذاتَ بلاغةٍ

لو رامَها قُسٌّ لأصبح أبْكَمَا

من كل بيتٍ لو تجسَّم لفظُه

لرأيتَه وَشْياً عليك مُنَمْنَمَا

ص: 334

واسلَمْ لنَشْر فضيلةٍ معلومةٍ

لوْلاك طال على المَلا أن تُعلَمَا

إن العُلَى بدأتْ بذكرِك مثْلَما

آلتْ بغيرِك في الورى لن تُخْتَمَا

ومنها هذه الرائية، مدحته بها في أول فصل الربيع، وأولها:

باكِر الحانةَ والكأسُ تُدارُ

فشبابُ العمر ثوبٌ مستَعارُ

هذه الأرضُ اكْتستْ أزهارَها

ما على من يغْنَمِ اللذاتِ عارُ

وكأنَّ الروضَ وَشْيٌ فاخرٌ

نَقْشُه آسٌ ووردٌ وبَهارُ

إن سَرتْ فيه نُسَيمات الصَّبا

فضَح العنبرَ رَنْدٌ وعَرارُ

وكأنَّ المُزْنَ تِبْرٌ كنزُه

دُرَّةٌ بيضاءُ والماءُ نُضارُ

فتَقتْ كفُّ الغوادِي جَيْبَها

فالذي منها على الروضِ نِثارُ

يا رَفِيقَيَّ دعانِي والهوى

إنما الصَّبْوةُ للصَّبِّ شِعارُ

كنتُ أُخفِي محنةً في خَلَدي

لو يكنْ للقلب في العشقِ اختيارُ

من بيِتْ وَلْهانَ في حبِّ الظِّبا

خانَه القلبُ وعزَّ الاصْطبارُ

يعذُب الهجرُ لمن يعرفُه

وبمَطْل الغِيد يحلُو الانتظارُ

إنما نَشْوانُ أحْداقِ المَها

صَحْوُه من سَكْرةِ العشق خُمارُ

يا سَقى موطِنَ لَهْوِي بالحمى

أدْمُعِي إن شحَّتِ السحبُ الغِزارُ

كم ليالٍ فيه قد قضَّيْتُها

ومن الأيامِ حلوٌ ومِرارُ

فانْقَضتْ أسرعَ من سهم القضا

يا ابنَ وُدِّي ليس للعيشِ قَرارُ

وحبِيبٍ بات زَنْدِي طوقَه

والمُنى ثالثُنا والأنسُ جارُ

قد نأَى لكنْ عن العينِ وكم

نازحِ الدار له القلبُ ديارُ

أيُّ نفعٍ في اقترابِ الجسم إن

بعُد القلبُ وما يُغنِي الجِوارُ

هكذا تفعل أحكامُ الهوى

في بَنِي العشقِ وللدهرِ الخِيارُ

ينْقضي العمرُ ومالي مُسْعِفٌ

ومن الضَّيْم مُصِيخٌ لا يُجارُ

هذه حالي وإن طال المدى

واعْتبارُ الحالِ للمرءِ اختبارُ

غيرَ أن الحرصَ غَلَاّبُ النُّهىَ

والمُنى منها اختيارٌ واضطرارُ

لا أذُمُّ الدهرَ حاشَى وله

أنْعُمُ المولَى عن الذنبِ اعْتذارُ

كعبةِ الآمالِ والركنِ الذي

للمنى فيه اسْتلامٌ واعْتمارُ

قد جَلا خَطْبَ الليالي عَزْمُه

مثْلما يجلُو دُجَى الليلِ النهارُ

لو يكُنْ للبحر أدْنَى بِرِّه

لم يلُحْ للعينِ بَرٌّ وقِفارُ

وحِماهُ مُلْتقَى عِيسِ المُنى

لا سِواه للنَّدى مَأوىً وجارُ

روضُ فضلٍِ نجتَني إحسانَه

وكذا تُجنَى من الروضِ الثِّمارُ

أيها الأستاذُ والمولى الذي

غَرِقتْ في سَيْب كفَّيْه البحارُ

لك أُنْهِي نُوَباً من بعضِها

يذْهَل اللبُّ وذو العقلِ يَحارُ

حَلَّ بي الشيْبُ فأفنَى رَوْنقِي

وكذاك البدرُ يمْحوه السِّرارُ

فأغِثْني من كروبٍ في الحَشا

حُرَقٌ منها وفي الطَّرْفِ انكسارُ

وتمتَّع بقوافٍ كَرُبىً

ضاحَكَ النَّوْرِ عليها الجُلَّنارُ

بِدَعٌ قد أُشْرِبتْ ألفاظُها

رِيقةَ المبْسَم والخمرَ العُقارُ

كخُدودِ الغِيد تحمْرُّ حَياً

وإذا شئْتَ كما اخْضَرَّ العِذارُ

أنا حسَّان القوافي فإذا

فُهْتُ طاب الشعرُ وارْتاح الفَخارُ

وإذا غنَّتك أطْيارُ الثنا

فأنا من بينها وحدِي الهَزارُ

ليس لي مالٌ ولكن كَلِمِي

عَسْجَدٌ تِبْرٌ وإلاّ فنُضارُ

ص: 335

لم أقُلْ طالتْ وإطْنابُ الورَى

في مَعاليك مدَى الدهرِ اخْتصارُ

فابْقَ أعْلَى الناسِ جاهاً ونَدىً

وإلى مَجدِك بالعِزِّ يُشارُ

لك أهْنَى عِيشةٍ تخْتارها

ولأَعْداك البلايَا والدَّمارُ

وقد اكتفيت بما أثبته عن الباقي، ورددت بعد هذه الخمرية القدح إلى الساقي.

عبد الباقي بن محمد الشهير بعارف بحرٌ وأنواع المعارف ماؤه، وبدر وأوج السعادة سماؤه.

لم ير نظيره في المحاسن النواضر، لأن محاسنه ملأت القلوب والنواظر.

له السبق الأشهر، ونطقه الياقوت والجوهر.

استولى على العلوم، وألحق المجهول منها بالمعلوم.

وأما الأدب وفنونه، فهو الذي تشير إليه عيونه.

فالنسب، إلى حفظه انتسب.

والأيام والدول، عنده منها خبر الأواخر والأول.

وأما الأخبار فهو ينسي التاريخ ومن ورخ، وله استقصاءٌ يعلم به الذي باض وفرخ.

وقد وفر الله له غاية الحظ في محاسن الخط، فخطه نتيجة ما أودع الباري من مقدمتي البرى والقط.

كلما دور القلم نور المقل، وحلى العقول وحل العقل.

وقد اعتنق الأشعار وألفها، كما اعتنقت لام الكتابة ألفها.

وجاء منها بفرائد تحسدها سبح الدر من الثنايا المنظمة في العقيق، وتغض من حيائها حدق النور وتحمر خدود الشقيق.

وكنت وأنا بالروم اجتمعت به مرات، وشاهدت طلعةً هي موسم أفراح ومسرات.

فلما ورد دمشق كانت رؤيتي له ثانية، وفيها تدلت على ثمرات إقباله متداينة.

وشديت للقاهرة في خدمته الرحل، وكنت معه بها في زمنٍ كزمن الفطحل.

في أوقاتٍ كلها برؤيته نعيم وطلاوة، أتلو بها أوصافه على القلم فيسجد لها سجدة تلاوة.

وأنا أعلق من نفسائه كل ذخيرة، وينسيني الليلة الأولى منه بالأخيرة.

وتسهر عيْني فيه والحَظُّ نائمٌ

كأنِّيَ من خوفِ المَكارِه أحرسُهْ

ولقد أشتهى أن أحل كل جسم، ليكون لي من رؤية وجهه كل قسم.

وإذا رغب إلى الله راغبٌ، في تسهيل ما له من مطالب ورغائب.

فإني أرغب في التوسل بطول عمره، وارتقاء أمره.

إلى أن يعمل الاسم في الحرف، ويمتنع زيد من الصرف.

وحتى يشغل الجسم حيزين، ويحل في مكانين.

وقد أخذت من أشعاره التي جاوز الشعرى تراقيها، وكأنما نظم المحاسن عقد في تراقيها.

ما لو ضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز.

قصائدُ إن تكنْ تُتْلَى على مَلأٍ

صدورُها علمتْ منها قوافيهَا

ينْسى لها الراكبُ العَجْلانُ حاجتَه

ويصبحُ الحاسدُ الغضْبانُ يرْوِيهَا

فمنها قصيدة نبوية، أولها:

متى هتفتْ بالجُنْحِ وُرْقُ الحمائمِ

أنارتْ جوَى قلبٍ من الوجدِ هائمِ

سقَى اللهُ ساحاتِ العُذَيْبِ وبارِقٍ

بكل هَمُولِ الوَدْقِ أوْطفَ ساجمِ

إذا بارِقٌ شِمْناه من نحو بارِقٍ

تأجَّج نارٌ في الحشَا والحيَازِمِ

فها أنا مَطْوِيُّ الضلوعِ على الجوى

إلى لَثْمِ هاتيك الرُّبَى والمَعالمِ

ألا أيها الحادِي ترفَّقْ بمُهْجتِي

وباليَعْمَلات الدَّامِياتِ المَناسِمِ

أحِنُّ ادِّكاراً نحوَ مُنْعَرَج اللِّوَى

وأصْبُو إلى سفْحِ النَّقَا فالأناعمِ

فيَسِّرْ إلهي أن أعفِّر جبهتي

بساحاتِ هاتِيكَ الرُّبَى والمَعالمِ

ألم يَأْنِ يا مُعطِي المُنَى أن تحصَّلتْ

مآرِبُ أصحابِ النفوسِ الأكارمِ

وهاج غرامِي نحوَ مكَّة حيثما

تُشَّدُّ حِزامُ المُرسَلات الرَّواسمِ

وذلك أزْكى مَرْبعٍ صار مَنْشَأً

لفخرِ البرايا خيرِ أولادِ آدمِ

ترى طَيْبةً قد صار مأوَى شفيعِنا

حليفِ النَّدى فخرِ الجدودِ الأكارمِ

محمدٍ المبعوثِ بالبِرِّ والتقى

وبَذْلِ نوالٍ واقْتناءِ مكارمِ

طرازِ رُواءِ الفضلِ من نَسْل يَعْرُبٍ

وإنسانِ عين المجد من آل هاشمِ

شفيعِ ذوِي الآثامِ نِيطَتْ بحبِّه

إزاحةُ آثامٍ وصفحُ جرائمِ

ص: 336

ملائكةُ الرحمنِ أمستْ وأصبحتْ

تطُوف ذُراها كالطيورِ الحوائمِ

وليس يُسامِي النجمُ سُدَّةَ بابِه

فمن يعْتلي سقفَ السَّما بالسَّلالمِ

فمن يكُ يأوِيها فقد صار لائِذاً

إلى مَعْقِلٍ للمستجيرِين عاصمِ

ولن تبلُغَ الأملاكُ في القُرْبِ شَأْوه

وكيف الخوافِي تسْتَوِي بالقوادمِ

وفي ليلةِ الإسراءِ صار مُشرِّفاً

بأخْمَصِه فوق السُّها والنَّعائمِ

وبعثتُه أضحتْ لكلِّ مُلِمَّةٍ

كأيام ذي قارٍ لجار الأراقِمِ

ولولاه لم يُوجَد من الخلقِ واحدٌ

هو السببُ الأقْصَى لخلقِ العوالمِ

بمِيلادِه غارتْ بُحَيرة سَاوةٍ

وغِيضَت أوَاذِي سَيْحِها المتراكمِ

غَدا حِصْنُ من لم يتَّبِعْ لك دَارِساً

ولم يتَّفق بَانٍ له غيرُ هادمِ

مَشاربُهم سَمٌّ ذُعافٌ ومالَهم

مطاعمُ أشْهَى غير عَضِّ الأباهمِ

ألا يا رسولَ اللهِ جُدْ بشفاعةٍ

عسى اللهُ أن يَمْتاح عفوَ جرائِمي

شفَيْتَ نفوساً حيث داويْتَ سُقْمها

وسلَّلتَ منها مُرْدِيات السَّخائمِ

وسَيْبُك يا ذا الجودِ غيرُ مُمنَّعٍ

لمُسْترفِدِ الجَدْوَى ببابِك قادِمِ

تركتَ ذوِي اللسَن المصاقعَ مُفْحِماً

وإنَّك قد انْطقْتَ عُجْمَ البهائمِ

وكم مُفْلِقٍ أعجزتَه مُتحدِّياً

بمُعجِز قرآنٍ إلى الحشر قائمِ

وهبْتَ جَرِيداً في الوغَى لعُكاشةٍ

تحوَّل نَصْلاً من مَواضِي الصَّوارمِ

ووجهُ ابن مِلْحان غدَا إذْ مَسَحْتَه

مُضيئاً كبَرْقٍ في خلال غمائمِ

وشَاءٌ لعبد القيْس في أُذْن سَخْلِها

إلى اليوم قد أبْقيتَ بادي المياسِمِ

لعمري قد أصبحتُ مُغْرىً ببابِكَ الرَّ

فيع مُعَنّىً مُذْ أُمِيطتْ عمائِمي

عليك سلامُ اللهِ ما سطع الضُّحَى

وأوْمَض برقٌ في خلال غمائمِ

كذلك للصحب الكرام وآله

ذوي عِزَّة قَعْساءَ جَمِّ المكارمِ

لهم في النَّوادِي فضلُ حِلْمٍ ومُكْنَةٍ

وفي حَوْمةِ الهيْجاء عَدْوُ الضَّراغمِ

نجومُ هُدىً من يقْتديهم يفُزْ بما

يرومُ اهْتداءً في ليالٍ فواحِمِ

وأنشدني من لفظه هذه القصيدة، مدح بها مفتي السلطنة:

أحْيَى رُبوعَ الأجْرَعَيْنِ لِزامَا

مُزْنٌ سَقاها وابلاً ورِهامَا

ومتى يُرى البرقُ اللَّمُوعُ بذي الغَضا

طار الفؤادُ لها شجىً وغَرامَا

وثَوى الربيعُ على ذُراها مُلْقِياً

برَحِيب ساحتِها العصا فأقامَا

والريحُ إذْ هبَّتْ برَيَّا تُرْبِها

أذْكَتْ من الوجدِ الصريحِ ضِرامَا

زَرَّتْ هَتُون السحبِ في حافاتِها الْ

أزْرارَ ناشرةً بها أعْلامَا

لو ضَلَّه السَّارِي هدَاه نَحْوَ سا

حتِها شَذَا أنْفاسِ نَشْرِ خُزَامَى

عهْدي بأيامٍ مَضَيْنَ برَبْعِها

يا رِيحُ عنِّي بلِّغِيه سلامَا

أوقاتُ أُنْسٍ مثل إبْهام القَطا

قد صِرْنَ من قِصَرِ المدى أحْلامَا

وبِمُنْحنَى وادِي الأراكِ حبيبةٌ

قلبي بشَجْوِ غرامها قد هامَا

وبسُرَّةِ البَطْحاء مُرْتَبَعٌ غدا

أضْنَى فؤادي صَبْوةً وهُيامَا

وبما ارْتدتْ بِرداءِ جَوْنِ سُفُورِها

صارتْ على بشر المَوامِي شَامَا

شَغَفِي وتَهْيامِي تجدَّد كلّما

شدُّوا على العِيسِ الأَمُونِ حِزَامَا

للنَّاسِ صيَّرها الإلهُ مَثابةً

إذ حيثُ عَيَّن قبلةً إعْظامَا

ص: 337

قُصَّادُها تَرْقَى على رُتَبِ العلى

مهما تجُوب مَهامِهاً وأَكامَا

أصْبُو إلى تقْبيل هاتيك الثرى

لأفُوز أن اسْتافَ ذاك رَغامَا

وإذا الحجيجُ توجَّهتْ نحو العُلَى

أهْفُو إلى تلك الربوعِ غَرامَا

إن رُمْتَه نَيْلَ المُنَى مُسترفِداً

خُذْ ما ترُوم فقد ظفِرتَ مَرامَا

فاطلُبْه ممَّن بالفضائل واللُّهَى

لذَوِي الحِجَى والفضلِ صار إمامَا

مُفْتِي الورى ومُبِين أعلام الهدى

أفْتَى الأنامَ وأوضحَ الأحْكامَا

ذو المجد إن أمْعَنْتَه ألْفَيْتَه

وجدودَه الغُرَّ العظامَ كِرامَا

وبرأْيه المورُوثِ أعطَى راعياً

للدولةِ العُظْمى به اسْتحْكامَا

أعْطَى بصائب فكرِه وبجُودِه

لشَتِيت آمالِ العُفاةِ نِظامَا

وأزاح دَيْجورَ الحواديثِ بعد ما

قد عَمَّ ساحاتِ الديارِ ظلامَا

وأراح مُذْ ساس الورَى فلأجْلِ ذا

أضحت عيونُ الحادثاتِ نِيامَا

مَن فاز بِشْراً من أسِرَّة وجهِه

بَرْقَ البشائرِ والتهَانِي شَامَا

ومَنِ اسْتضاءَ بنورِ غُرَّته اجْتلَى

وجهَ السرورِ وقد أُمِيطَ لِثامَا

ولأجْل أن أغْلَى المعالِي قيمةً

سوقُ المعالِي والمعارف قامَا

مَن كان مُنتمياً إلى أعْتابه

أمسَى وأصبح للأنام إمامَا

أنت الذِي أعطيتَ جَدّاً ناعِشاً

من يستغيثُك نال ما قد رامَا

آنافُ كلِّ مُخالفٍ أجْدَعْتها

بشَبَا البراعةِ إذ سَللْتَ حُسامَا

وجوادُ فكرك فاق سَبَّاقَ النُّهَى

خاض الطِّرادَ وما أثار قَتامَا

وسلكتَ في سُبُلِ المكارم مَسْلَكاً

أعْيَى الوُلاةَ وأتعبَ الحُكَّامَا

من يتَّخِذْ مَثْوَى جنابِك قِبْلةً

للناس أصبح أُسْوةً وإمامَا

سَبقتْ لِبابِك لي تَلِيدُ عُبودةٍ

أنت الأحقُّ بأن تصون ذِمامَا

اللهَ أسألُ أن يُحلِّي دَائباً

بوجودِك الأيامَ والأعوامَا

دُمْ في ذُرَا طَوْدِ السعادة والعلى

تتسَنَّم الهضَباتِ والأعْلامَا

وأنشدني رائية خبية الفكر، والخريدة التي صانها الله صيانة البكر، وهي في مدح الوزير مصطفى، أخي الوزير الفاضل.

ومطلعهاك

دِراكُ المعالي بالمُهنَّدةِ البُتْرِ

وَنيْلُ الأماني بالمُثقَّفة السُّمْرِ

ومَن يهتْصرْ لَدْنَ القنا باعْتقالِها

جنَى يانعاً من دَوْحةِ النُّجْحِ والنصرِ

وهل بعد أن الحتْفَ ضربةُ لازبٍ

لمن ينْثنِي ذُعْراً عن الزحفِ من عُذْرِ

ولو لم يكن بالْهالِع النَّدْلِ سُبَّةٌ

كفى فيه خُسْراً سوءُ مُنْقلَبِ الكَرِّ

وما لم تُرِقْ لم يُورِق النُّجْحَ ناضراً

نَجِيعُ الأعادي كالمُلِثِّ من القطْرِ

ومن يعْتنِقْ هِيفَ القَنا يسْلُ مُعرضاً

عن الخَفِراتِ البِيض ناحِلةِ الخَصْرِ

ويسْتنتج الحَوْماتِ والبأْسِ من يكُن

أبا عُذْر ما قد خاض من فتْنةٍ بِكْرِ

ومَن لم يخُضْ لُجَّ المَعارِك لم يكَدْ

يفُوز بِعقْد النَّحْرِ من لُؤلؤٍ نَثْرِ

فها هو ذا الصدرُ الكريم الذي غدا

عديمَ المُدانِي غيرَ مُشتَرك النّجْرِ

سَمِيُّ النبيِّ المصطفى الناشرُ اللُّهَى

غزيرُ الندى شمسُ العلي الواسعُ البِرِّ

مُعزُّ أساسِ الدين مُحيِي رسُومهِ

مُذِلُّ رقابِ المعتدين ذوِي الكفرِ

وناظمُ شمْل الدين للمال ناشرٌ

يفوق الورَى في ذلك النظم والنثرِ

ص: 338

تطاوَل للأحْرارِ حيث اسْترقَّهمْ

بِفَكِّ عُناةٍ منهم عن يَدِ الأسْرِ

وصار له خَوْضُ الحروبِ سجِيَّةً

ولم يكُ يسْطو في المعارِك بالبُتْرِ

رحيبٌ ذَاره أصبحت مُنْتدَى اللُّهَى

وحَضْرتُه العَلْيا غدَتْ منتهى الفخرِ

حَرِي للورى أن يُفْرِشوه خُدودَهم

يعُدُّونه زَهْواً من الشِّيَم الغُرِّ

له شاغلٌ بالبِيض عن أبْيَض الدُّمَى

وبالسُّمْر يسْتغني عن الشُّدُنِ العُفْرِ

زَكَا خُلْقُه الَّزاهِي ورتبتُه اعْتلَتْ

على أنْجُمِ الزَّهْرا بل الأنْجُمِ الزُّهْرِ

أزاح بمَاضِي الشَّفْرتيْن صفوفَهم

كما حَكَّ سْطراً بعد ما حاك من سَطْرِ

وما قد أتى من صَيِّب النُّجْح عاجلاً

مَخِيلةُ أن يزْداد من دِيَمٍ غُرِّ

وأنت الوزيرُ ابنُ الوزير أخو الندى

وصدرُ الصدور الماجِدين ذوي القَدْرِ

أحاطتْ أياديك الكرامُ بحيثما

يَضيقُ بما خَوَّلْتَ منطقةُ الشكرِ

رُواقُ المعالي في ذَراكَ مُطنِّبٌ

بحيث غدَتْ أوتادُه مَرْقَبَ النَّسْرِ

بغزْوِك آضَ الشرعُ مُسْتوثِق العُرَى

وأصبح حبلُ الدِّين مُستحْصِد الشَّزْرِ

ومن عَضْبِك البَتَّارِ ما برح العدى

إذا أوْمَض البرقُ المُلِيحُ على ذُكْرِ

تركْتهمُ تحت السَّنابكِ في الوغى

لَقَى بعد ما كانوا اعْتلَوا صَهْوة الكِبْرِ

ولَاذُوا حُصوناً قد ظفِرْتَ بفتْحها

كما فزِع الطيرُ المَرُوعُ إلى الوَكْرِ

ومن يكُ يأوِي من جَنابِك مَلْجأً

جَلا أوْجُهَ الآمال مُبتسِمَ البِشْرِ

أقلْنِي يُثبْك اللهُ ما قد تروُمُه

وزادَك ما قد حُزْتَ من شرف القدرِ

أفاض لك النُّعْمَى وزادك بَسْطةً

بما مَنَّ من نُجْحٍ عظيمٍ ومن نصرِ

وجازَى بما أعليْتَ من كلِماتِه

فكنتَ مُقيلَ الدِّين والشرعِ من عَثْرِ

وإنِّي وأيْمُ اللهِ لم آلُ دَعوةً

مُدِيمُ الثناءِ المَحْضِ في السرِّ والجهرِ

غدوتُ أخا عُرْىً وضُرٍ وفاقةٍ

طَلِيحاً بأعْباءِ الخَصاصةِ والفقْرِ

وأضحى عدوِّي راثياً لي لأنني

قويُّ الأسَى واهِي التجلُّد والصبرِ

وإني لِمَا بي من أسىً مُتجلِّدٌ

ولكنَّ أحْزاني تنِمُّ عن سِرِّي

وإنِّي جديرٌ أن أُرَوَّي برَشْحةٍ

أفَضْتَ بها من فيْضِ نائِلك الغَمْرِ

مُنايَ وسُؤْلِي أن أفوز بحِجَّةٍ

وأسْرَحَ طَرْفِي بالحَجُونِ إلى الحِجْرِ

وفي في سماءِ الصدقِ صادقُ دعوةٍ

عَلا في الدياجِي مثل مُنْبَلِج الفجرِ

أنِلْ وابْق واسلَمْ مُستماحاً ومَفْزَعاً

لمُسْتنْجِدي الجَدْوَى ومُسترفِدي البِرِّ

ودُمْ ساحباً ذيلَ المكارم ساكباً

سحابَ نوالٍ مُخْجِلٍ نائلَ البحرِ

سقى اللهُ مِن دَانِي الهيَادِبِ صَيِّبٍ

حِماك الذي صارت مُناخاً لذي الفقرِ

وكتب إليه إبراهيم السؤالاتي، ملغزاً في ربيع، قوله، وقد أنشدنيه وجوابه من لفظه:

نكتةَ الدهرِ لَوْذَعِيَّ الزمانِ

عارفَ الوقتِ ألْمَعِي الأوانِ

بدرَ أُفْقِ الكمال شمسَ المعالي

رُوحَ جسمِ الجمال والعرفانِ

والمُجَلِّي طِرْفَ الفضائل والبَذْ

لِ سَبُوقاً في حَلْبة الميْدانِ

والمحلى جيد الفصاحة بالفك

ر عقوداً من لؤلؤ وجمان

ص: 339

بيَراعٍ منه تُراعُ المَنايا

ويُراعَى فيه ربيعُ الأمانِ

ما اسمُ شيءٍ طَلْقِ المُحيَّا نضيرٍ

بشَذاه يُرِيحُ لُبَّ الجَنانِ

رُبعه خمسُ ربعه وتراه

إسمَ شخصٍ وقطعةً من زمانِ

شَطْرُه مالكٌ ومقلوبُ باقِي

هِ يُصيب الإنسانَ في الأحْيانِ

واقلبِ الاسمَ بعد طَرْحِك للصد

رِ تراه عيْباً بدا للعَيانِ

وإذا ما قلبْتَ حاشيتيْه

فعبيرٌ ينِمُّ عن رَيْحانِ

وإذا ما حذفتَ ثانيَ هذا

فهْو رَكْبٌ يسيرُ في القِيعانِ

وانْتشِقْ من تصْحيِفه نَشْرَ شيءٍ

هو طِيبُ الأرْواحِ والأبدانِ

نصفُه إن ردَدْتَه فهْو شخصٌ

طائعٌ والديْه في كلِّ آنِ

وفَلاةٌ عريضةٌ وتعالى الل

هـ ربِّي مُدبِّرُ الإنسانِ

وإذا ماحذفتَ ذا فهْو قوتٌ

وغذاءٌ للجائعِ اللَّهْفانِ

وإذا ما صحَّفْتَه فوِعاءٌ

لِغذاء الرضيعِ يا ذا البَيانِ

هاك مولايَ من عُبَيْدك لُغْزاً

وابْقَ تسْمُو قدراً على كِيوانِ

ما سرَتْ نَسْمةُ الرياضِ صَباحاً

في رُباها بلَيِلَة الأرْدانِ

وتغنَّتْ بسَجْعِ حَمْدك وُرْقٌ

بفَصِيحِ التِّبْيانِ والألْحانِ

وهذا جوابه:

وردةٌ ذي أم مَبْسَمُ الأُقْحُوانِ

جاد وَسْمِيّ عارضٍ هَتَّانِ

أم ثغورُ المِلاح ألْعَسُ أحْوَى

أم خدودُ المِلاح حُمْرُ قَوانِي

أم جُمانٌ مُنضَّدٌ لوشاحِ الْ

غِيدِ يُزْهِي مَعاقِدَ التِّيجانِ

أم سُلافُ الرُّضابِ عذْباً بَرُوداً

بِتُّ منها كالْوالِهِ النَّشْوانِ

أم كؤوسٌ أدارها أهْيفُ القَدِّ

هَضِيمُ الحشا خضيبُ البَنانِ

زهرةٌ زانَها السحابُ سُحَيْراً

بدموعٍ غزيرةِ الهمَلانِ

تلك روضةٌ غَنَّاءُ فيها من الوُرْ

قِ بكلِّ الأرْجاءِ سَجْعُ قِيانِ

نَفْثةُ السِّحْر أم رُقىً لِمُعنّىً

فاترِ القلبِ ساهرِ الأجفانِ

كنتُ خِلْواً من الغرام فهزَّتْ

نِي صَباباتُ هذه الألحانِ

حيث جاءتْ ألَذَّ من غَفَواتِ الْ

فجرِ طِيباً لِجَفْنيَ السهرانِ

يا كريماً بعثتَ سِلْكَ عقودٍ

فاضِحاتٍ قلائدَ العِقْيانِ

مُلْغِزٌ في اسمِ ما به الرَّبعُ زَاهٍ

وهْو للدهرِ موسمُ العُنْفُوانِ

جئتَ للهِ يا ربيعَ المعالي

بِمُوشّىً مُحيِّرِ الأذْهانِ

يا سَمِيّاً لمن به صِرْنَ بَرْداً

وسَلاماً لَواعِجُ النِّيرانِ

فُقْتَ كلَّ الورى وصار مُقِرّاً

لك بالفضل كلُّ قاصٍ ودَانِ

ما تعنَّتْ حمائمٌ ساجعاتٌ

بهديلٍ أعالِيَ العِيدانِ

أجبت أطال الله بقاك، وأقول كما قال شيخ المعرة، حيث أنشد:

واقْتنِعْ بالرَّوِيِّ والوزنِ منِّي

فهُمومي ثقيلةُ الأوزانِ

ومن بدائعه قوله:

ترى السَّرْوَ إذْ وافَى السحابُ بثَلْجِه

وقلبي المُعنَّى بالهوى جِدُّ مَسْجُورِ

يشمِّر أذْيالاً كبِلْقِيس حيثما

تبدَّتْ لها بُسْطُ الرُّبَى كالقواريرِ

قلت لو كان للسرو رجل أخرى إلى رجله، لكان تشميره الذيل حتى يسارع بتقبيل الأرض لأجله.

ومنه قول ابن زهر الحفيد، في زهر الكتان:

أهلاً بزَهر الَّلازَوَرْدِ ومرحبَا

في روضةِ الكَتَّان تعطِفه الصَّبَا

لو كنتُ ذا جهلٍ لخِلْتُك لُجَّةً

وكشفتُ عن ساقٍ كما فعلتْ سَبَا

وأنشدني من لفظه لنفسه:

تَوَقَّ الشُّحَّ عن نَشْر الأيادِي

وأيْدِي الجود فابْسُطْها سَماحَا

ص: 340

أيبْقَى العنكبوتُ بلا جناحٍ

أعَدَّ الله للرزقِ الجناحَا

ولي أنا فيه من المدائح قصائد محررة، وبرودٌ خِطتْها من جَيِّد الثناء وهي بالقوافي مزررة.

فمنها قصيدة أهديتها له عند دخولنا القاهرة، مستهلها:

على رَسْمِها بالمُدَّعِي من مَآلفِ

أقامتْ هَزِيماتُ الحيا المتضاعفِ

ونسختها اختص بها وحده، فلهذا لم أذكرها.

وكان له ولد طاهر النشأة وقورها، مبذول المكارم موفورها.

انتقل بمصر إلى عفو الله ورضوانه، وخلى القلوب تعالج لواعج أحزانه.

فكتبت إليه أسليه:

هو الرَّدَى للمرء بالمرصادِ

والكونُ كلُّه إلى النَّفادِ

وهذه الدنيا التي نعرفُها

ما هي إلا مَنْشأُ الأنْكادِ

أنكرتُها وأنكرتنْي وأنا

إذْ ذاك ما وُضعتُ في المِهادِ

فلو أكُنْ أملكُ روحي في يدي

أطلقْتُها من ساعة الميلادِ

مالي وإيَّاها وكلِّي ألْسُنٌ

على فَواتِ عُمُرِي تُنادِي

ومن يمتْ أحْسَب يلْقَى راحةً

ولا أقَلّ من أذَى الأضْدادِ

ويكتفي مع الورى في خَلطٍ

مشَّقةً متاعبَ الجهادِ

وقد فقدتُ مَن مضَوا ومعهمْ

راحلتِي من المُنَى وزادِي

وفيهمُ مَن لو يُفدَّى مَيْتُهُ

فدَيْتُه بحَبَّةِ الفؤادِ

ومن إذا ذكرتُ عهدَ قُرْبِه

ودَّعتُ عند ذكرِه رَشادِي

ومَن هواه لم يزلْ في خَلَدِي

مُنَزَّلاً منزلةَ اعْتقادِي

ريحانةُ المجدِ التي بِعَرْفها

تعطَّرتْ مَعاطِسُ الأمجادِ

قد نقَد الفضلَ صفاتُه التي

حَلتْه نَقْد الحُسْنِ للجيادِ

وكان في عيْن الزمانِ نُورَها

قد حلَّ منها داخلَ السَّوادِ

ومَن رآه في بُروجِ سَعْدِه

فقد رأى أهِلَّةَ الأعيادِ

مضَى سعيداً والرِّضا زميلُه

مُصاحبُ الإسْعافِ والإسعادِ

فكلُّ بُقْعةٍ به عاطرةٌ

تنْفح نَشْرَها بكلِّ وادِ

فما على من شَمَّ مِسْكاً أذْفَراً

من تُربِه مُضَمَّخَا بِجَادِي

لا زال في جنانِ عَدْنٍ ثاوياً

يحْبُوه لطفُ المنْعم الجَوادِ

وباكرتْ مَضْجَعه من الرِّضا

غُرٌّ يحثُّها الصَّبا غَوادِ

والله يقْضي لمُصابِ فَقْدِه

بالصبرِ والجزاءِ في المَعادِ

ولا يزال عمرُه عُمْرَ الورى

لا ينْقضي لأبَدِ الآبادِ

فهو الذي تُرشِدنا علومُه

ورأيُه للخير خيرُ هادِ

وقلت وأنا برشيد في خدمته أودعه، وكان المرض أقعدني عن رفقته، لمشيئة الله وحكمته:

أفارقُ من أوَدُّ به التلاقِي

وأخْتار الحِمامَ على الفِراقِ

وأذكر عهدَ لَيْلاتي المَواضِي

فأنْدُبها بتَذْكارِ البَواقِي

ولو كانتْ دمشقُ ثَنَى عِنانِي

ولا ألْقاك عِفْتُ بها اعْتلاقِي

فأنت إذا بعُدتَ فألْفُ بُعْدٍ

لآمالي ولا بَرِح اشْتياقِ

ولولا الضَّعفُ ما اخترتُ التَّواني

ولا سلَّمتُ للبلْوَى وَثاقِي

فعُذْراً إنني والحظُّ قِدْماً

تعاهدْنا على عدَم الوِفاقِ

إذا ما رُمْتُ أمْراً فيه نُجْحِي

يُعاكِسه ويجْهَد في شِقاقِي

فيا صبْري فديْتُك مِن مُطِيقٍ

ويا بُؤْسي عدِمتُك من مُطاقِ

وأنت أيا مُنَى قصْدِي خبيرٌ

بما ألْقَى وما أنا بعدُ لَاقِ

فلا تُهْمِل لعبْدك رَعْىَ وُدٍ

ودُمْ طولَ الزمان وأنت باقِي

السيد عبد الله، المعروف بابن سعدى روضٌ متهدل الغصون، من شجرة السرو المصون.

لم يرق أفصح منه براعة بيان، ولم يشق أنقش منه يراعة بنان.

ص: 341

فكفه توشي الأرض الزخارف، وتجر على وجه الرياض خضر الطارف.

وكان شديد العارضة في المعارضات، موفى العهد في المقارضات.

إلا أنه على جودة طبعه، وشفوفه في مادة نبعه.

زحلي الانتقال، والعثرة عنده لا تقال.

ينحرف من حيث يستقيم، ويعتل وشكل مادته عقيم.

ولهذا ابتلى في قضاه، بحكمٍ جرى على خلاف رضاه.

فجوزي باخترامه، في احترامه.

وقوبل باعتباطه، من اغتباطه.

فصعب عليه أمر العزلة وأشكل، إلى أن عقل أمانيه المطلقة وتوكل.

ثم حصل له إمدادٌ بالرجعة، فأحله فيما شاء من النجعة.

وأطلعت صفحته الصحو، ونشر بعد ذلك المحو.

ولما استقضى بمكة رأيته بالشام وهو يزدهي بالنسب الأوضح، ويتباهى بنبعةٍ فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطح.

وكان بينه وبين أبي حقوق، ما رميت قط بوصمة عقوق.

فاحتفل به احتفال الناس بالربيع إذا جَا، وهلال شوال إذا فاجا.

ثم جرى بينهما مخاطبات، وطرف مكاتبات.

ألذ من إغفاء الفجر، وأشهى من الوصل بعد الهجر.

ثم دخل الحجاز، فكان لوعد ارتحاله بها الإنجاز، وهكذا من كان في دار النقلة والمجاز.

فرحم الله انقطاعه إلى كرمه، والتجاه إلى رمه.

فمما دار بينه وبين أبي، ما كتبه إليه أبي:

يا ساكناً بشِغافِي

وعن عيونِيَ خافِي

طوَّلتَ مدةَ هجرِي

وبعضُه كان كافِي

كدَّرتَ بالبُعدِ عيِشي

من بعد ما كان صافِي

لهفِي لطِيب ليالٍ

مرَّتْ لنا بالتصافِي

حيث الشبابُ قَشِيبٌ

والدهرُ فيه مُوافِي

وسالفٌ من زمانٍ

تُدار فيه سُلافِي

من كفِّ رِيمٍ كغُصْنٍ

يميلُ بالأعْطافِ

يزْهُو بورْديِّ خدٍ

يُزْرِي بوَرْد القِطافِ

زمانُ لَهْوِي تقضَّى

برَوضةٍ مِئْنافِ

تُسْقَى من السُّحبِ وَبْلاً

بعارضٍ وَكَّافِ

يا دهرُ رِفْقاً بصَبٍ

حتى متى ذا التجافِي

وعدْتني بالأماني

فكُن بوعدِك وافِي

واسمحْ برؤيةِ مَوْلىً

سليلِ عبدِ منافِ

منها:

مولايَ يا بحرَ فضلٍ

طَامٍ من الجود طافِي

وفائزاً بقوافٍ

أعيتْ لَعَمْرِي ابنَ قافِ

أنت الغنِيُّ بمَدْحي

عن كثرةِ الأوصافِ

فلا تظنَّ بأنِّي

لِسابقِ الوُدِّ جافِي

لو كنتُ أعلم أمرِي

لكنَّ أمْرِيَ خافِي

لَكان سَعْيِي إليكمْ

وفي حِماكم طَوافِي

فرَبْعُ غيرِك عندي

مولايَ كألأعْرافِ

إن رُمْتَ تفْصيلَ حالِي

من الزَّمانِ المُجافِي

ما إن تمنَّيتُ شيئاً

إلا أتى بالخلافِ

من جَوْره ضاق صدري

فسِحْتُ في الأريافِ

حتى حَللْتُ بمصرٍ

من بَعْد قطْع الفيافِي

فلم أجِدْ ليَ فيها

غيرَ الثلاثِ الأثافِي

فلا صديقٌ صَدُوقٌ

ولا حبيبٌ يُوافِي

هذا زمانٌ عجيبٌ

ما فيه خِلٌّ مُصافِي

والفضلُ قد صار ذَنْباً

وللرَّواجِ مُنافِي

منها:

واعذُرْ بفضلِك فكرِي

ضاقتْ عليه القوافِي

ودُمْ بسَعْدك تسْمُو

عُلاً على الأسْلافِ

فأجابه بقصيدة طويلة، مستهلها:

يا خيرَ خِلٍ مُصافِي

لازال وِرْدُك وافِي

أين الزمانُ الذي قد

كُنَّا به في التَّصافِي

ما بيْننا غيرُ وُدٍ

ما بيْننا من خِلافِ

طَوْراً نُرَى من رياض الْ

علومِ في الاقتطافِ

وتارةً من بحار الْ

قَرِيض في الاغْترافِ

كنَّا كمثلِ الثُّرِيَّا

بصُحبةٍ وائْتلافِ

فصيَّرَتْنا بناتِ النَّ

عْشِ الليالِي الجَوافِي

ص: 342

بيننا نَرُود برَوْضٍ

يوماً مع الأحْلافِ

وطيرُه في وِفاقٍ

ولَحْنُها في اخْتلافِ

إذْ صاح منها غُدافٌ

تَعْساً لذاك الغُدافِ

قد بَان كلٌّ عن الإلْ

فِ وهْي ذاتُ الإَفِ

منها:

عسَى ليالٍ تقضَّتْ

يعُدْنَ بالإسْعافِ

آهٍ عليها فآهٍ

قد أسرعتْ في التَّجافِي

مضَتْ سريعاً وولَّتْ

كمثلِ دُهْمٍ خِفافِ

مرَّتْ كخاطفِ بَرْقٍ

وطِرْنَ كالخُطَّافِ

قد كُنَّ شَامَ زَمانِي

كالشَّامِ في الأرْيافِ

دمشقُ أعْنِي ودامتْ

مُخْضرَّةَ الأكْنافِ

شوقي لها كلَّ حينٍ

يزْداد بالأضْعافِ

أصْبُو إلى بَرَداها

بلَوْعةٍ والْتِهافِ

نسيمُها وهْو ذُو عِلَّ

ةٍ لدائِيَ شافِي

أنهارُها لجيوشِ الْ

همومِ كالأسْيافِ

بها حدائقُ فاقتْ

في أحسنِ الأوْصافِ

تلك الحدائقُ تحكي

صفاتِ خِدْنِي المُصافِي

منها:

يا مَن له كابْنِ بُرْدٍ

بُرْدٌ من الفضلِ ضافِي

يا ظافراً بقوافٍ

أعْيَتْ عُوَيْفَ القَوافِي

عويف القوافي، هو: عويف بن معاوية بن عقبة الفزاري.

من شعراء الدولة الأموية.

وإنما قيل له عويف القوافي لبيت قاله، وهو:

سأُكذِبُ مَن قد كان يزْعُم أنني

إذا قلتُ قولاً لا أُجِيد القوافيَا

أتْحَفتنا بقرِيضٍ

أحْسِنْ بذا الإتْحافِ

فَائِيَّة ما رأيْنا

مِثْلاً لها في القوافِي

ما من سِنادٍ خَلِيلِي

بها ومِن إصْرافِ

السناد: اسم لكل عيب يحدث للحروف والحركات قبل الروي.

والإصراف: اختلاف المجرى، وهو الحركة في الروي، بالفتحة والضمة.

وإذا كان بالضمة والكسرة فهو الإقواء.

وأما الإكفاء، فهو تقارب حرفي الروي في المخرج، كالنون مع الميم.

والإجازة هو بعدهما في المخرج، كالباء واللام.

زفَفتَ بِكْراً عَرُوباً

إليَّ خيرَ زَفافِ

بِخَتْمِها بلَغتْني

مَصونةً في السِّجافِ

عتبْتَ في تَرْكِ كُتْبِي

إليكَ والعَتْبُ شافِي

لا تَعْذُلَنِّي فهذا

حَوْبُ الزمانِ المُجافِي

وإن يكنْ ذاك ذَنْبِي

فاصْفَحْ ومثلُك عافِي

ما أجملَ الصفحَ عن ذنْ

بِ مجرمٍ ذي اعْترافِ

واللهِ ربِّي الذي لا

تخْفَى عليه الخَوافِي

حُبِّيكَ في كلِّ حينٍ

يكون في استحْصافِ

رأسٌ كقافٍ وإن كا

ن بيْننا بُعْدُ قَافِ

لا زلْتَ ترْفُل عِزّاً

وثوبُ قدْرِك ضَافِي

عبد اللطيف، المعروف بأنسي أعجوبة الأقطار والأمصار، وشرك العقول وقيد الأبصار.

وحسنة هذا النوع الإنسي، وعذر الزمن عن ذنب به أنسي.

اشتعلت بأسماره فحمة الليل، وجرى في روض أخباره نهر الصبح مثل السيل.

بحسن بيان يسحب ذيله على سحبان، ولطف تعبير يجر مطرفة على جرير وحسان.

وأحاديث هي مراوح النفوس من كد الفكر، ومصفاة القلوب إذا أبقت فيها الحوادث أثر العسكر.

ومناسبات هي نزهة مسارح الأخبار، وحظ جارحة السمع من منح الاعتبار.

أشهى من لذة النشوان، وقطع الرياض، جرى فيها ماء البيان، وسقتها مياه الحياض.

وله في الفنون يدٌ تتناول الشمس، وتشبر البسيطة بالبنان الخمس.

فلو أدركه الرازي لقيل له دونك إمامك، أو ابن أرفع رأس، لقيل له ارفع رأساً وانظر من أمامك.

أو لحقه ابن وحشية لقرب له المتنافر البعيد، أو خالدٌ الغيور لكفاه هم التقطير والتصعيد.

فلو وضعت صنجات النجوم من نيران السماء في كفه، لم توازن مناقبه الغر ونسبت إلى طيشٍ وخفة.

ص: 343

له تدبير محتنكٍ مجرب، ورأى ممارس مشرق ومغرب.

ونظمه ونثره باللسانين، هذا يقصر عنه من السحاب دره، وذا يصغر عنه من السخاب دره.

فذا أصفى قطراً وديمة، وذا أوفى قدراً وقيمة.

وكان في آخر أمره تنبه حظه من نومته، وسيم من الإقبال التام بسومته.

فولي قضاء الشام، ونال رتبةً يتباهى بها العز والاحتشام.

وقد رأيته يوم دخوله، وزحمة الأعين تحول بين التملي ووجهه، فرأيت شيخاً إذا سار البدر في موكب نجومه، قيل قد غنينا عنه بتلهبه.

وقد أخلق العمر عمائم ثلاثاً في راسه، وأشعل للرحيل بهذه النعشة ذبالة نبراسه.

ولم يبق من كأس عمره إلا جرعة، وبريد المنية سائرٌ إليه في عجلة وسرعة.

فما حط أثقاله بهذا الفنا، حتى نزل دار البقا وترك دار الفنا.

فالله ينور له الحفيرة والتربة، وهو المسؤول أن يؤنس له الوحشة والغربة.

وهذا جانبٌ من نثره الفائق، ونظمه الرائق.

أتيت منه بالقليل من الكثير، فإن محاسنه تزيد على نجوم الفلك الأثير.

فمن ذلك ما كتبه إلى مفتي الدولة:

دروعٌ لِشاكِي الطعنِ هذي الرسائلُ

يرُدُّ بها عن نفسه ويشاغِلُ

هي الزَّرََدُ الضَّافِي عليه ولفظُها

عليكَ ثناءٌ سابغٌ وفضائلُ

أتاك يكادُ الرأسُ يجحَد عُنْقَه

وتنْقَدُّ تحت الذُّعْر منه المَفاصلُ

كيف لا، وأيد الله مولانا، وهو مظهر الجلال والقهر، ومصدر الحماسة والسيادة في أبناء الدهر.

ذو الهمة التي همت بالدهر إذ تصرف في الاحرار بصروفه، والعزمة التي عزمت على تسكين دور دوائر حتوفه.

الذي تصهر باستبعاده الأحرار من عزمهم غصناً وريقا، وتسنم من سبح الجلالة والجبروت مكاناً وثيقا.

متى استنجد تنمر تنمر الليث، أو استغيث تشمر تشمر البطل عند الغيث.

يكاد سنا برق سطوته يذهب بالأبصار، وتكاد صواعق دولته تخرب المدائن والأمصار.

وإن شيم برق حلمه في خلال جون معارضات عوارضه، فالمستغر بوميضه كمن اغتر في الأحقاف بعارضه.

كم أوجف أقدام قربه بالجبان، إلى مساقط الحرب العوان.

وكم روى سويد بن البنان، من دماء الغطارفة الشجعان.

يتكسَّب القصَبُ الضعيفُ بخطِّه

شَرفاً على صُمِّ الرماحِ ومَفْخَرَا

لقد أطال إلى سمك السماكين باعا، ومد إلى جر مجرة الفرقدين ذراعا.

فتغنى بمديحه غير الغريد، وملأت مهابته قلب كل قريب وبعيد.

بعث الرعبَ في قلوبِ الأعادِي

فكأنَّ القتالَ قبلَ التَّلاقِي

وتكاد الظُّبَا إذا جاشَ غَيْظاً

تَنْتضِي نفسَها إلى الأعناقِ

كرمٌ خَشَّنَ الجوانبَ منه

فهْو كالماءِ في الشِّفارِ الرِّقَاقِ

ومَعالٍ إذا ادَّعاها سِواهُ

لزِمتْه جِنايةُ السُّرَّاقِ

هو لعمري المقدم الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذار جواد سؤدده بعذار.

لقد تقلد بفخره حساماً لا تنبو مضاربه، وتخوذ من عرضه بيضةً يعجز عن قرعها مضاربه.

فمن رام وطء حرمه بنقصٍ ملته البقيا، ومن اصطلى بناره أتيح له منها شوبٌ لا يموت فيها ولا يحيى.

أعزُّ مُغالبٍ كفّاً وسيْفاً

ومقدرةً ومَحْمِيةً وآلَا

وأشرفُ فاخرٍ نفساً وقوماً

وأكرمُ مُنْتمٍ عَمّاً وخالَا

كلا والله، لست صادقاً في قالي، ولا مصيباً تلك الرمية بنبال مقالي.

لأني لا أرتضي له من جميل المدح مدحَا، ولا أستطيع لمتن حسن ثنائه شرحَا.

إذ المدح وسيلةٌ لأن يعتقد في الناقص الكمال، والثناء ذريعةٌ إلى تخيل الجميل في غير ذي الجمال.

فأكون كالأعشى إذا مدح محلقا فغدا بعد خموله إلى شأو العلى محلقا.

وهو فقد ملك السيادة مقاداً ذليلا، وأضح له صعب الفخار ذلولا.

وجل عن مذهب المديح فقد كاد يكون المديح فيه هجاء، فأكبر بشأنه، وأعظم بمكانه.

هو الذي بذ فلا يدرك، وشذ في عصره فلا يشرك.

وأي مقال ينبي عن مغنى فضله، وأي إرقالٍ ينتهي إلى مداه وخصله.

لو أرخى عنان جواد الثنا، في ميدان المدح والثنا، لوجب من غلو الوصف المندوح، تكفير المادح والممدوح.

لكن قد زحم جماح غلوه، واستنزه جلمود علوه.

واستقصر مدى جريته، دون التمادي في مريته.

ص: 344

على سرد بعض منتقى أوصافه الفاخرة، ووصف فيض ملتقى بحر علومه الزاخرة.

عَلامةُ العلماءِ والبحرُ الذي

لا ينتهي ولكل لُجٍ ساحلُ

يدْرِي بما بِكَ قبلَ تُظهِرُهُ له

من ذهنِه ويُجيب قبلَ تُسائلُ

وتراه معترضاً لنا ومُولِّياً

أحْداقُنا وتحارُ حين يُقابلُ

كلماتُه قُضُب وهنَّ فواصلٌ

كلُّ الضَّرائبِ تحتهنَّ مَفاصلُ

مقطعاته كالسحر الحلال، والسلسبيل السلسال.

والمثل السائر، والنادر المنجد والغائر.

لا يمكن الاحتذاء على مثالها، ولا تطول أعناق الهمم إلى مثالها.

إن شبه فالمعتزيات واجمة، أو أغرب فالمغربات راغمة.

ذو الأخلاق الأريحية، والأحكام الشريحية.

والشجاعة العنترية، والنصائح البحترية.

من هو في الزهد كأويس، وفي الحلم كالأحنف بن قيس.

إياس الزكن، عريٌّ عن اللحن واللكن.

كان قدما أبوه في العلم والزهد يساوي سميه زكريا، فاقتفى أثره وأربى عليه وله صار وارثاً ووليا.

أنهي إليك أيها المولى الباذخ فخاره، الشامخ على النجم مناره.

أن هذا بعض ما أدركه أسير امتهانك، وهدف سهام امتحانك.

من بعض أوصاف حميد شيمك، التي حويتها بعلي هممك.

التي أفحمت كل معارض يجارى، وأوجمت كل معاندٍ يمارى.

ورجمت مناويك بشواظٍ من نار، وألجمت كل ذي لسنٍ يقاويك بلجام العي والبوار.

فكيف أقوى بعد جرمي بها، وتحقق وهمي فيها، على سل مرهف المقال، والتجاسر في حضرتك على إطلاق عنان المقال.

مع علمي بصلود قدحي، ومعرفتي وسم قدحي.

وإني إن جعلت نفسي لسهام سطوتك هدفا، أوردتها من وخيم مناهل بطشك تلفا.

ثم لا أجد لي من الانتساب إلى معرفة جنابك شافعا، ولا من الانتماء إلى خدمة أعتابك عن أليم عقابك دافعا.

وما عسى أن أقول، وعلى أي قرنٍ أصول.

وأنت سحبان وائل، وأنا أعيى من باقل.

ولقد عُرِفتَ وما عُرِفت حقيقةً

ولقد جُهِلتَ وما جُهِلت خُمولَا

ما كلُّ من طَلب المعالي نافِذاً

فيها وما كلُّ الرجال فُحولَا

والرسالة التي تقوم بعدة رسائل، هو ما قال القائل:

تأخَّرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجدْ

لنفسِي حياةً مثل أن أتقدَّمَا

فلستُ بمُبْتاعِ الحياة بذلَّةٍ

ولا مُرْتَقٍ من خشْية الموت سُلَّمَا

وكنت برهةً طالما اقتدحت زناد فكري، في وصف معاليك فما قدح، واستصدحت عندليب شعري، في وصف مساعيك فما صدح.

فأصبحت من زخارف آمالي، وزيف نقود أعمالي، على ركية جفت مذانبها، وروضةٍ اغبرت جوانبها.

وصرت الآن كقطاةٍ لم يعلق لها جناح، علق بها من جأشك لا من الأيام جناح.

ونصبت لها في حرمك الأشراك، وأعوزها البشام والأراك.

والذي حول حمالي، وهيج بلابل بلبالي.

هو ما أنا شارحه، وبين يديك الكريمتين طارحه.

سمعتُ حديثاً ما سمعتُ بمثلِه

فأكثرتُ فيه فِكرتي وتعجُّبِي

وها أنا أُلْقيه إليك مُفصَّلاً

فدونك فاسْمعْ ما يسرُّك واطْرَبِ

وذلك أنا صادفنا خلسةً من خلس الاتفاق، في مجلس بعض الموالي الرفاق.

الذين حضور مجالسهم شرف دهر، واستئناف عمر، ورفعة قدر.

والذين هم عيون أعيان أصدقائك، وأجل جلة محبيك وأخلائك.

نتنافث فيه رقى الأشعار، ونتساجل من فقرها ما يفعل في العقول فعل الأسحار.

ونتفاوض منها في المحكم والمتشابه، والشرط الذي لا يحسن القريض إلا به.

مع سادةٍ هم لعمري نجوم الفضل والأدب، وبدور الحسب والنسب.

فبينما نحن نجول في تلك الحلبة، ونرتشف من مخض تلك الحلبة.

إذ سقط علينا من السما، وفاجأنا من العما، من أسكرته حميا قربك، وأقعس منكبيه كونه من حزبك.

فهو لا يرتضي غير حاله حالا، ولا يعد غير قاله قالا.

فجعل ينص لنا من مخدرات أبكار أفكاره، ويجلو علينا من قاصرات نظامه ونثاره.

ما زعم أنهن كاللؤلؤ والمرجان، لم يطمثهن إنسٌ قبله ولا جان.

ولنا القولُ وهو أدْرَى بفحْوا

هُ وأهدى فيه إلى الإعجازِ

ومن الناسِ من يمُرُّ عليه

شعراءٌ كأنها الخَازِبَازِ

فاعتقدنا ما اعتقدنا، ونقدنا ما نقدنا.

وأقمنا لبضاعة قريضه سوقا، ونهجنا للأخذ والعطاء فيه طريقا.

ص: 345

فرأينا النقاوة فانتقيناها، واريناه النفاوة التي انتفيناها.

فأوتر لذلك قوس غضبه بوتر المثالب، ورمى المملوك من تعنته بكل سهم صائب.

وتكشف عن خلق ليس بينه وبين الجميل نسب، ولا له إلى التثبت طريقٌ ولا مذهب.

وهو بسيف تعسفه صائل، ولم يعلم قول القائل:

إن بِعضاً من القَرِيض هُراءٌ

ليس شيئاً وبعضُه إحكامُ

منه ما تجلِبُ البراعةُ والفضْ

لُ ومنه ما يجلبُ البِرْسَامُ

فلما رأى أني لست ممن تغتاله غوائله، ويصطاد في حبائله.

وأني وإن طلبت للشعر عيباً ألفيته، وإن كافحني قرنٌ لقيته.

وأنه إنما تخضع الرقاب لمن وجدت فيه فضلا، وتنقل الأقدام إلى من كان للزيارة أهلا.

فأضرب عن المجادلة صفحا، وسحب ذيل تناسيه على رسم المساجلة مرحا.

ثم لما ودعنا، وغاب شخصه عنا.

حملناه على أحسن محمل، ونسبناه إلى ما هو من الجميل أجمل.

ولم نعلم أنه ركض علينا في ميدان حضرتك، ووضع قدم قوله حيث شاء من الملام في سدتك.

وما لكلام الناس فيما يَرِيبُنِي

أصولٌ ولا للقائلين أصولُ

أُعادَى على ما يُوجِب الحبَّ للفتى

وأهدأُ والأفكارُ فِيَّ تجُولُ

فلم أشعر إلا منذراً إيعاد مولاي علاه لدى الباب، يذكر ما حصل لجنابه من التحمل والاضطراب.

فيا لله العجب كيف أصغي للنميمة، وبالغ كل المبالغة في الشتيمة.

ولم يلهم أن الروايات تمر وتعذب، والحكايات قد تصدق وتكذب.

ولم أرَ في عيوبِ الناسِ عيباً

كنقْصِ القادرين على التَّمامِ

وربما صدق مولانا ما نقل إليه، وما عرض من الافتراء عليه.

من أني استهجنت شعره الرائق، واستوجمت نثره الفائق.

أو من تقدمه من متقدمي هذه الصناعة، وجالبي هذه البضاعة.

من كل من إذا رام اقتناص نوادر بديعية ابتدعها، أو غاص في بحار المعاني على جواهر اختراعية اخترعها.

أو قال أبياتا أبرزها غررا، أو نظم فقراً جعلها دررا.

وأنا أعيذ سيدي أن ينظر الذنب الخفي، أو يتغافل عن العذر الجلي.

تطيعُ الحاسدينَ وأنت امرؤٌ

جُعِلتُ فِداؤُه وهُم فدائِي

أأنطِق فيك هُجْراً بعد عِلْمي

بأنك خيرُ مَن تحت السماءِ

وهَبْني قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ

أيَعْمَى العالَمونُ عن الضِّياءِ

وإنما طريق العلم نهجً تستوي فيه الأقدام، ومورد الفضل مشرعٌ تتشارك فيه الأفهام.

ولكني أقول:

أرى المُتشاعِرين غَرُوا بذَمِّي

ومَن ذا يحمَد الداءَ العُضالَا

ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍ مريضٍ

يجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالَا

فوالذي حرم وطء حرم الأعراض، وعظم أجر غرض أسهم الأغراض.

ما يليق بشأنك، ولا يحسن بعلو مكانك.

أن تكون خفيف ركاب الغضب والرضا، أو تكون رخيص مهر الحب والقلى.

وأن تسارع إلى شنيع العتب، أو تسلف العقوبة قبل ارتكاب الذنب.

ولقد عجبت كل العجب حيث لم تدرك الصواب، في تعيين بشاعة الجزاء. وشناعة العقاب.

وأنت المشهور بالصواب في أحكامك، والمعروف بإصابة اليقين بسهام أوهامك.

وفي حل عقد المشاكل، كما قال القائل:

قاضٍ إذا الْتَبس الأمْرانِ عَنَّ له

رأيٌ يُخلِّص بين الماءِ واللبنِ

الفاصلُ الحكمَ عَيَّ الأوَّلون به

والمُظهِر الحقَّ للسَّاهِي على الذَّهِنِ

فلو عرفت وجه سخطك، وتبينت موجب شططك.

لتحملت دونك الوزر في ظلمي، ولكنت مقدمتك إلى سبي وذمي.

ولأزمعت أن أضع نفسي في الكفة التي وضعتني فيها، وأن أنزلها في المنزلة التي أهلتني لها.

لعلمي أن حكومتك لا تنقض، وحجتك لا تدحض.

لكن يتواضع الليث لصيد الأنب، وافتراس الثعلب.

وإن كان يصطاد الفيل، ويفترس العندبيل.

حسبُك اللهُ ما تضلُّ عن الحقِّ

ولا يَهْتدي إليك أَثامُ

لم لَمْ تحْذَرِ العواقبَ في غَيْ

رِ الدَّنايا وما عليك حَرامُ

والعقاب الذي حكم به مولانا على عبده مرضي، وقضاؤه على مملوك رقه مقضي.

لكن حيث كان الخوض في شعر الناقل محصورا، والنقد على زيوف محصول ديوانه مقصورا.

لو قصرتم السبب على ذلك المسبب، لكان أظهر للإعلال وأنسب.

ص: 346

بشأن الحب أن ذلك العنوان، ليس إلا في شأن ذلك الديوان.

وليعلم الخاص والعام، ويتحدث في المحافل عاماً بعد عام.

بأن مولانا لم يخط في حكمه ثغرة السداد، ولم يزغ برسمه عن شريعة الرشاد.

فلعمري لقد جاءني الداء، من مظنة الدواء.

وكنت أعددت مولاي لكل مطلوب جناحا، ولظلمات الخطوب مصباحا.

قد كنتَ عُدَّتِيَ التي أرْمي بها

ويدي إذا اشْتَدَّ الزمانُ وساعِدِي

فرُمِيتُ منك بضدِّ ما أمَّلْتُه

والمرءُ يشْرَق بالزُّلالِ الباردِ

أقول ذلك إجلالاً واحتراما، لا اختباراً واستفهاما.

فإن الأمور بيد الله، والأرزاق في خزانة الله.

قد لَعَمْرِي أقْصرتُ عنك وللوَفْ

دِ ازْدِحامٌ وللْعطاءِ ازْدحامُ

ومن الرُّشدِ لم أزُرْك على القُر

بِ على البُعدِ يُعرَف الإلْمامُ

لي والله يا سيدي قلبٌ لا تقلبه السراء ولا الضراء، وعرضٌ غير ملوم لا يدنسه المراء.

طالما نطقت بلسانٍ تشبه خلقته خلقة إنسان، ونمقت بكلمٍ كأن لسانه لسان السنان.

لا يعثر جوادهما في مضمار الكلام، وصلت بحسام همة لا ينبو شباه عن ضرب أعناق المرام.

لم أوجد بحمد الله تعالى كاسد الشعر، رخيص السعر.

نزر الكلام، كسلان الأقلام.

غافلاً عما هو من الحقوق متعدٍ أو لازم، جاهلاً بما هو للأنفة محرك أو جازم.

وما الحداثةُ من ِحلْمٍ بمانعةٍ

قد يُوجَد الحلمُ في الشُّبَّانِ والشِّيبِ

فليتك يا سيدي ومولاي تقول:

إنِّي امرؤٌ لا يعْترِي خُلُقِي

دَنَسٌ يُكدِّرهُ ولا أفَنُ

وكل هذا لا يساوي هذا الملق، ولا يستغرق السجع الملفق.

وإن تيقنت أبقاك الله جميع ما نقل عني، أو زعمت أنه صدر مني.

فطالما كانت الهفوة عند الكريم سبباً لجميل الرجعي، والنبوة سلماً عند الحليم إلى كريم العتبى.

والصلة بعد القطيعة أبقى، والود بعد النفرة أخلص وأصفى.

ولطالما انكسرت المودة فانجبرت، وانقلبت الأحوال بعد ما أدبرت.

فليس لما صدر تربةٌ تحتمل غراسا، ولا قرارةٌ تسع أساسا.

والكذب عائدٌ على من حكاه، والغلط مردود على من رواه.

فإنه صيرفي دراهم، لا صيرفي مكارم.

وإنما هو تاجر قيل وقال، لا تاجر مقال وأفعال.

دعونِيَ والواشِي فها أنا حاضرٌ

وصوتِيَ مرفوعٌ ووجهيَ بارِزُ

والمرء أقصر ما تكون بنانه، إذا طال لسانه.

وإنما يتلمظ بحلاوة العرس، من احتمل مهر العرس.

أنَفُ الكريمِ من الدَّنِيَّةِ تاركٌ

في عينِه العددَ الكثيرَ قليلَا

والعارُ مَضَّاضٌ وليس بخائفٍ

من حَتْفِه مَن خاف مهما قيلَا

ولئن عاد إلى التعريض، والادعاء في إجادة القريض.

لم أدع في لساني فضلةً إلا أحضرتها، ولا في قلبي سجعةً إلا نثرتها.

ليعلم أن الكريم من أكرم الأحرار، واللئيم من ازدرى بالأخيار.

وأن الرياسة، حيث النفاسة.

وأني ممن إذا رمى صاد، وإذا قال أجاد.

وأن الحر إذا جرح أسا، وإذا خرق رفا.

ومن بسط عذر الأيام، فقد بسط عذر الأنام.

ومن جهل المتاع، فلينظر المبتاع.

جعل الله أوقات مولانا صافيةً من الكدر، خالصةً من الغير.

ومساعيه محمودة الأثر، وعلومه زاكية الثمر.

إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

أيا عاتباً لا أحمِلُ الدهرَ عَتْبَه

عليَّ ولا عندي لأنْعُمِه جَحْدُ

سأسكتُ إجلالاً لعلمِك إنني

إذا لم تكن خَصْمِي لِيَ اللُّجَجُ اللُّدُّ

ومن شعره النقي، ما كتبه لبعض أحبابه في صدر رسالة:

أيها السيدُ الذي أنا عبدُهْ

والذي أنطَق المدائحَ مجدُهْ

لي إلى وجهِك الجميلِ غرامٌ

في يديْه عَفْوُ اشْتياقي وكَدُّهْ

أنا إن زرتَ أو تخلَّفتَ عبدٌ

بل ولُبِّي صفَا وحقِّك وُدُّهْ

يستوي في الوفاءِ قُربي وبعدِي

وسواءٌ قُربُ الوليِّ وبُعدُهْ

سوف أُثْنِي على مودةِ مولىً

ضاق عنها شكرُ الكلام وحَمدُهْ

وقوله في بعض الصدور:

حدَّثتُ باليَاسِ منك النفسَ فانصرفتْ

واليأسُ أحْمدُ مَرجُوعاً من الطمعِ

ص: 347

فكُن على ثقةٍ أنِّي على ثقةٍ

أن لا أُعلِّل نفسِي اليومَ بالخُدَعِ

فما يَضرُّك عندي اليومَ هجرُك لِي

ولستُ إن سُمْتنِي وصلاً بمُنْتَفِعِ

هجرتُ ذِكْرَك عن قلبي وعن أُذُنِي

وعن لسانِي فقُل ما شئتَ أو فَدَعِ

إذا تبَاعدت قلبي عنك مُنصرِفٌ

فليس يُدْنِيكَ منِّي أن تكون مَعِي

ومن ظرفه قوله:

أمُعِيرُ قَوْلي أنت سمعَك مَرَّةً

كَرَماً فأذكرُ إن رأيتُ فُضولَا

والنصحُ قُرْطٌ ربما يُجْدِي الفتى

في السمعِ محمولُ النَّهِيِّ ثقيلَا

وسواك يفهم إن عنيت بمقولي

فعلى اسْتماعِك أجعلُ التَّعْويلَا

وإذا نظرتَ وأنت عارفُ عِلّةٍ

لم تَعْيَ عن أن تعرف المَعْلولَا

وكتب لبعض أخلائه:

أكلِّفُ نَسْماتِ البُكورِ تكلُّفاً

بحَمْل سلامي أو ببَثِّ غرامِي

فتدْنَف مما قد تضمَّن من جَوىً

وتضعُف عن أعْباءِ شرح أُوامِي

وتعثُر في الأذْيال من ثِقْلِ حملِها

ويُزعجِهُا فيه لهيبُ ضِرامِي

فرّقتُها من رحمةٍ لي وطِيبُها

شَذَى مِدْحتي فيكمْ ونَشْرُ سلامِي

وكتب إليه مفتي الشام عبد الرحمن العمادي، وهو قاضٍ بطرابلس:

مولايَ أُنْسِي الذي طابتْ طَرابُلُسٌ

به وأصبح فيها الوحشُ في أُنسِ

ومن غَدا فضلُه في العصرِ مُشتهرَاً

كالشمِس في شَفَقٍ والصبح في غَلَسِ

أنتَ الذي فَخَر العَصرُ العصورَ بهِ

وقصَّرتْ كلُّ مصرٍ عن طَرابُلُسِ

قد كان لي حَرُّ أشوقٍ فضاعَفَه

قُربُ الديارِ كشَبِّ النارِ بالقَبَسِ

لكن رجَوْنَا لقاءً منك يُطفئِه

يا رَبِّ فاجعلْ رجانا غيرَ مُنْعكِسِ

فاجابه بقوله:

هذا كتابُك أم ذِي نفْحةُ القُدُسِ

يا طيَّبَ اللهُ زاكِي عَرْفِ ذَا النفَسِ

فقد حَلا كُلَّما كدَّرْتُه بفَمِي

كأنه أشْنَبٌ قد جادَ باللَّعَسِ

كأنَّما كلُّ سَطْرٍ مُفْعَمٍ أدَباً

غُصنٌ تُوقِّره الأثمارُ لم يَمِسِ

كأنَّهنَّ المَهارِي وِقْرُها دُرَرٌ

وفي سوى القلبِ والأسْماعِ لم تَطُسِ

نظمٌ بديع جِناسُ الإلتفات حَلا

منه فباللهِ هذا ظَبْيةُ الأنسِ

مخائلُ السحر تبدو من دقائِقه

كاللَّحْظِ أجفانُه مالتْ إلى النَّعَسِ

لنا به كلَّ وقتٍ عن سواه غِنىً

في طلعةِ الشمسِ ما يُغنِي عن القَبَسِ

تكسو المَسامعَ أشْنافاً صناعتُه

وتكْتسِي صُنْعَ صَنْعاءٍ وأنْدلُسِ

فبينما نحن نَجْنِي من أزاهرِها

إذ أشْرقتْ وهْي مثلُ الزُّهْرِ في الغَلَسِ

وبينما هي تُجْلَى في طَرَابُلُسٍ

والشام طَلَّتْ على مصرٍ ونابُلُسِ

أذْكَرْتني منه ما لم أنْسَه أبداً

ولم يزَلْ مُؤنسِي في مجلسِ الأُنُسِ

يا مَن تنزَّه عن إحْصا فضائلِه

هل في حسابِك أُنْسِي للعهدِ نَسِي

وإنَّني لَحفِيظٌ للوِدادِ ولو

أعْياك رسمُ ودادٍ غيرُ مُنْدرِسِ

لا زلتَ عُمْدةَ أهلِ الفضلِ في صَعَدٍ

إلى العُلَى يا عِمادِي غَيرَ مُنْتَكِسِ

ما لِي سوى نسماتِ الشِّعرِ أبْعثُها

تحيةً لدمشق من طَرابُلُسِ

شيخ الإسلام زكريا بن بيرام مفتي الديار الرومية، والممالك العثمانية، وأجل من كل من انفتحت عن مآثره الشقائق النعمانية.

هو من جوهر الفضل مكون، وكتاب الدهر بمحاسنه معنون.

ما طلعت نجوم فتاويه إلا وأشرقت آفاق الدنيا رونقاً وابتهاجا، ولا امتطى صهوات أبحاثه إلا كان له نور الفهم على دهم الإشكال سراجاً وهاجا.

ص: 348

دانت له الليالي فجلى بها ظلمات الحنادس، وتدانت له سماء المعالي فاستقر بها وهو للنيرات الخمس سادس.

حتى أصبح الدهر راوياً لخبر إفادته، وناطقاً بلسان إجادته.

وقد جمع الفضائل كلها، وحوى المحاسن دقها وجلها.

ومع ذلك فهو مطلق الهمة لإسداء الهبات، مفيضٌ للمكارم على الفور والثبات.

إذا هطلت سحب إحسانه سقى الجود منه رياض المنى، طلائع إحسانه بشره كما سبق النور غض الجنى.

لم يأت من المراتب شيئاً فريا، وكفل الفضائل والفواضل كفالة زكريا.

وكان مع تبحره في المنقول والمأثور، جامعاً بين حسن المنظوم ورونق المنثور.

وله فيهما ما تقف الفصاحة عنده، وتقفو البلاغة حده.

فمن ذلك ما قرظ به طبقات التقي التميمي.

هذا كتابٌ فاق في أقْرانِه

يسْبِي العقولَ بكَشْفِه وبَيانِهِ

سِفْرٌ جليلٌ عَبْقَرِيُّ فاخِرٌ

سحرٌ حلالٌ جاءَ من سَحْبانِهِ

أوراقُه أشْجارُ روضٍ زاهرٍ

قد تُجْتَنى الثَّمراتُ من أفْنانِهِ

لله دَرُّ مُؤلِّفٍ فاق الورى

بفرائدٍ فغدَا فريدَ زمانِهِ

فجَزاه ربُّ العالَمين بلُطْفِه

طبقاتِ عِزٍ في فسيحِ جِنانِه

لما تعمقت في لجج هذا البحر الزاخر، صادفت أصداف أصناف الدرر الكامنة النوادر.

وألفيته روضةً غناء زاهرةً أزهارها، وروضةً زهراء ناضرةً أنوارها.

وجناتٍ شقائقها محمرة، وجنات حدائقها مخضرة.

تذكرةً لعارفٍ تقي، وتبصرةً لمستبصرٍ عن الرذائل نقي.

جاوز الشعرى بشعره الفائق، وفاق النثرة بنثره الرائق.

قد استضاء بجواهره المضية تاج تراجم الأعيان، فصار كأنه مرآةٌ انعكس فيها صور سير الأسلاف وأشراف أفاضل الزمان.

اللهم اجمع بيننا وبينهم في غرف عدنٍ وطبقات الجنان.

ومما يروى له من الشعر قوله:

إذا ما كنتَ مَرْضِيَّ السَّجايَا

وعاش الناسُ منك على أمانِ

فعِشْ في الدهرِ ذا أمْنٍ ويُمْنِ

ويُوصِلُك الإله إلى الأمانِ

وقوله في الغزل:

قد قتل العشاقَ من لَحْظهِ

دماؤُهم سالَتْ على الأوْدِيَهْ

يا عجباً من قاتلٍ إنه

ليس عليه قَوَدٌ أو دِيَهْ

ولده شيخ الإسلام يحيى المولى الأعظم، والملاذ الأعصم، والعروة الوثقى التي لا تفصم.

واحد الزمان، وثاني النعمان.

طلع شمساً في فلك الفتيا فلما قابل أرضه البدر انخسف، ودار كل شهر على لقاه فلما آيس انتحل بل امتحق من الأسف.

فشعشعت الآفاق منه غرةٌ في جبين المجد مشرقة، واستقر به في ذلك المركز شخصٌ لم يدخل العلوم من بابٍ واحدٍ، بل دخلها من أبوابٍ متفرقة.

فأطاعته الدولة إطاعة المملوك لمالكه، ونفذت كلمته نفاذ كلمة المليك في ممالكه.

في رياسةٍ مطارح ظلالها حرم، وكل فعالها جودٌ وكرم.

فلم يدع لفضل الفضل ذكراً، وترك معروف يحيى بن خالد نكراً.

بل لم يبق لكعبٍ، من علو كعب.

وأنسى دعوة حاتم، بأي مادحٍ وخاتم.

تتنفس الأسحار عن آثاره، وتتبسم الأماني عن جوده وإيثاره.

والدنيا مشرقةٌ بلألاء وجهه المضي، والأيام تغضب إذا غضب وترضى إذا رضي.

وقد ضمنت مساعيه أن يشكر، وأن لا تعذب الأفواه حتى يذكر.

وله القدر الذي استخدم الأنام، واستعبد الليالي واسترق الأيام.

إذا أقبل في كوكبه وجلاله، تسجد الأجفان لتعظيمه وإجلاله.

فرأيه سراج الملوك، وذلك من نظمه الذي هو نظم السلوك.

وهو في الأدب أوحد من لان له الكلام، فإذا أمسك القرطاس اختصمت أفواه الدوي في تقبيل أقدام الأقلام.

يستوقفُ العَلْيا جَلالاً كُلَّما

سجَد اليَراعُ بكفِّه تبْجيلا

لا تسْتنيرُ به المعالي غُرَّةً

حتى يسيل به النَّدَى تَحْجِيلَا

وكل من كان في عصرهِ، فهو هاصر غصن الأدب من محل هصره.

وأكثرهم عليه تخرج، وفي بستانه تأرج، ومن طبعه اكتسب وإلى طريقه انتسب.

فرياض أفكاره باسمة الثغور عن شنب المعالي والألفاظ، وغياض أشعاره متفتحة عن ورد الخدود ونرجس الألحاظ.

تهز أعطافها ارتياحاً به القوافي، وتحث لها الندمان أكؤسها على الغدران الصوافي.

مستظْهِرٌ بعباراتٍ وألْسِنةٍ

تفَتَّتْ كالرياضِ الغُرِّ ألْوانَا

ص: 349

أهْدَى إلى لُغَةِ الأعْرابِ تُبَّعَهَا

ورقَّ بالمنطقِ التُّركِيِّ خاقَانَا

وقد أوردت له ما يحلي الأدب كما يحلي السوار الزند، ويفوح عرفه كما يفوح عرف العنبر الند.

فمنه قوله في الغزل:

ورَد النسيمُ بأطْيبِ الأخبارِ

طاب الوُرودُ وسائرُ الأزْهارِ

سكِروا بخمْرِ الشوقِ حتى أظهرُوا

ما في ضمائِرهم من الأسرارِ

في جَمْعِهم لم تَلْقَ إلا ماسِكاً

قدَحاً من الإبْرِيزِ والبَلَاّرِ

والحوضُ فيه مجالسٌ مَلكِيَّةٌ

والوَرْد كالسُّلطانِ في الأطْوارِ

لِعب الشَّمال بهم فحرَّكهم كما

لعِب الشَّمُول بزُمْرةِ الشُّطَّارِ

وقوله:

كأنْ بوَرْدِ خدَّيْه عُقارُ

شرِبْتُها حتى بَدا البَلَاّرُ

البلار: لغة في البلور، رأيته في استعمال المولدين، منهم المعتمد بن عباد، على ما ذكره في قلائد العقيان:

جاءتْكَ ليلاً في ثيابِ نهارِ

من نُورِها وغُلالةِ البلارِ

والشرب كناية عن التقبيل، أزيلت به الحمرة وبدا البياض.

ومن لطيف تخيلاته قوله:

بِحُلَّةٍ حمراءَ جاءتْ وقد

تفُوح بالعنْبَر أذْيالُهَا

حِلْيتُها لَعْلٌ وياقوتةٌ

صِيَغ من العَسْجدِ خَلْخالُهَا

وله تخميس على بردة الأبوصيري بقوله:

لمَّا رأيتُك تُذْرِي الدمعَ كالعَنَمِ

غرِقتُ في لُجَجِ الأحْزانِ والتُّهَمِ

قُلْ لي وسِرِّ الهوى لا تخْشَ من نَدَمٍ

أمِن تذكُّر جِيرانٍ بذِي سَلمِ

مَزجْتَ دمعاً جرَى من مُقْلةٍ بدَمِ

تُمسِي بعَيْنٍ بوَبْلِ الدمعِ ساجِمةٍ

ونارِ وَجْدٍ بجَوْنِ القلبِ ضَارِمةٍ

فهل بَرِيدٌ أتَى من حَيِّ فاطمةٍ

أم هبَّتِ الرِّيحُ من تِلْقاءِ كاظِمةٍ

وأوْمَض البرقُ في الظَّلْماءِ من إضَمِ

متى السُّلُوُّ لأهلِ العشقِ عنه متى

وحَبُّ حُبِّ سُلَيْمَى بالحشَا نَبَتَا

إن تُنْكرِ الوجدَ عندي بعد ما ثبتَا

فما لعيْنَيْك إن قلتَ اكْفُفَا هَمَتَا

وما لقلبِك إن قلتَ اسْتفِقْ يَهِمِ

تُريد تُخْفي الهوى والدمعُ مُنْسجِمٌ

وفي حَشاك لَظَى الأشواقِ مُضْطرِمٌ

هيْهات كاتمُ سِرِّ العشقِ مُنْعدِمٌ

أيحسَب الصَّبُّ أن الحبَّ مُنكتِمٌ

ما بين مُنْسجِمٍ منه ومُضْطرِمِ

ومن إنشائه، ما كتبه على كتاب في الطب، اسمه مغني الشفا: يا له من روضةٍ شحاريرها أقلام المادحين من النحارير، وألحان سواجعها ما سمع لدى التحرير من الصرير.

غصونها أورقت ولكنها بصحائف كأنها مملوءةٌ باللطائف أطباق، وأثمرت والعجب أن منابت أثمارها بطون الأوراق.

من وقف عليها وتوقف فيما قلته من الوصف العاري عن المرا، فلا شك أنه مبتلىً بداء النوك وليس له دوا.

ولما أجلت نظري في ربوة حسنها وبهجتها، ونشقت شذا رياحينها وشممت عرف نفحتها.

وعاينت مجالس أنسها وقضيت منها العجب، وحرك مني أوتار سطور طروسٍ بها ما لا يحدثه القانون من الطرب.

توجهت بمجامع قلبي إليها، وقلت مؤثراً موجز القول في الثناء عليها:

يا روضةً في رُباهَا

دَوْحٌ غدَا سَجْعُ طَيْرِهْ

مَغْنَى الشِّفاءِ ومُغْنٍ

عنِ الشِّفاءِ وغيرِهْ

ومن نوادره، أنه دخل عليه رجلٌ، فوقف وسوى قامته، ثم انحنى، ثم قبض على لحيته، وجعل كأنه ينفض عنها شيئاً من آخرها ثلاث مرات، ثم قال له يعمى: باسم الفقير؟ فقال له: اجلس يا إدريس.

ومن هذا القبيل ما يحكى عن الصاحب، أنه سأل رجلاً عن اسمه، فأنشده:

وقد تستوي الأسماءُ والناسُ والكُنَى

كثيراً ولكن ما تساوَى الخلائقُ

فقال له الصاحب: اجلس يا أبا القاسم.

علي المعروف برضائي سبط المفتي زكريا عليٌّ الرضا في نباهته، وإن شئت فقل في نزاهته.

ذو البنان الرطب، والبشر الذي يفرق منه الخطب.

فسيح مدى الإغضاء وفضاه، منتقبٌ وجه غضبه برضاه.

ص: 350

انتسخت شمائله من الصبا في المنازه الرحاب، وارتضعت خلاله مع طفل النور أخلاف السحاب.

فيكاد من رقته يذوب ذوبان علي بن الجهم، وتتقطر مياه البراعة من أعطافه إذا أخذته حرارة الفهم.

وله قوة إلهامية، على افتراع بنات الأفكار، وسليقةٌ غريزية، في اختراع المعاني الأبكار.

ومن آثاره الفريدة، مختصر الخريدة.

سماه عود الشباب، كله لب اللباب.

وكان ممن ولي قضاء القاهرة، فافترت مباسمها عن فضائله الزاهرة.

وقد سلك في قضائه بها أجل مسلكٍ جلي، وصدق الحديث المروي:" أقضاكم عليٌّ ".

وبها عطل منه جيد القضا، على مقتضى الحكم الذي لا يقابل إلا بالرضا.

فعلى أخلاقه الرضية، رضوان الله ورحمته الراضية المرضية.

فمن توشيات قلمه، قوله في الاعتذار عن اختصار الخريدة: ولما وجدت بعض نقده أزيف من رائج زماننا، شرعت في تمييز الجياد واكتفيت باقتطاف الجياد من ثمار أغصانها، بل قنعت بالعرف الضائع من بانها.

وإني وإن فاتني بعض جواهره فالغائص يعذر بما في يديه، ويشكر الصبا مقبلاً من الحبيب بعض عرف صدغيه.

فجاء بحمد الله تعالى غادةً تسحر القلوب بألفاظها القسية، وألحاظها البابلية.

تصيد القلوب بألحاظها التي زينها الجمال بالفتور، فمن نظر فيه يشتعل قلبه بالنار وتكتحل عينه بالنور.

وإني غير آملٍ من أبناء الزمان تحسينهم، وبقلادة حسن القبول توشيحهم وتزيينهم.

فإن من جرب الناس في أمرهم، يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم.

بل ما نؤمله من كرمهم الفسيح، أن لا يوردوا وجهه بالتصريح بأنه قبيح.

إنَّا لفي زمنٍ تَرْكُ القبيحِ به

من أكْثرِ الناسِ إحسانٌ وإجْمالُ

ثم ختم الديباجة بذكر خاله شيخ الإسلام يحيى وجعل المختصر معنوناً باسمه، وأورد هذه الأبيات وأظنها من نظمه، وهي:

يا مُصدِرَ الآمالِ بُدْناً بعد ما

سُقْنَا إليك مع الرَّجَا أنْقاضَها

عِشْ في ذَرَى كافي الكُفاةِ مُصاحباً

نِعَماً بياضُ الصبح هاب بياضَها

وخُذِ الجواهرَ من قلائد مِقْوَلِي

إذْ كان غيري مُهْدِياً أعْراضَها

قوله: يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم يشير به إلى قول أبي الفرج العلاء الرئيس الواسطي:

الناسُ مُشتقُّون من دهرِهمْ

طَبعاً فمن مَيَّز أو قاسَا

يمتحن الدهرَ وأحْوالَه

مَن شاء أن يمتحنَ الناسَا

واتفق لي أن بعض الإخوان وعدني بإرسال هذا المختصر وسوف، وشوق العين لاجتلاء روضه النضر وشوف.

فكتب إليه متمثلا:

نَوالُك دون حَجْبُ الحجابِ

ومَن ناداك مفقودُ الجوابِ

إذا أمَّلتُ يوماً منك وَعْداً

كأني أرْتجِي عَوْدَ الشَّبابِ

ومن شعر رضائي، قوله مضمناً في الدخان، وقد أبدع:

غَلْيونُنا حين همَّت كلُّ نائيةٍ

به وسامَرنا هَمٌّ وأفْكارُ

قد اهتديْنا إلى شُرْب الدُّخانِ به

كأنه علَمٌ في رأسِه نارُ

الغليون: أطلق على سفينة معهودة بين العوام، وعلى هذه الآلة التي يوضع فيها ورق التبغ ويشرب، وكلاهما عير لغوي، وهو في اللغة اسم للقدر.

والمصراع للخنساء، من قصيدتها التي رثت بها أخاها صخراً.

وأول البيت الذي هو ثانيه:

وإن صَخْراً لتأْتَمُّ الهُداةُ بهِ

وقد كثر تضمين الشعراء له في مقاصد لهم وأجود ما رأيته من تضامينه قول العز الموصلي، في سامري، اسمه نجم:

وسامَرِيٍ أعارَ البدرَ فضلَ سَناً

سَمَّوه نجْماً وذاك النْجمُ غَرَّارُ

تهْتزُّ قامتهُ من تحت عِمَّتِه

كأنه علَمٌ في رأسهِ نارُ

ومما عربته من شعره:

جرَّد لي من ناظِريْه مُرْهفاً

ومثلُه من حاجبَيْهِ عاطِبي

حَيَّرني فَدَيْته أأغتدِي

قُرْبانَ عَيْنيْه أم الحواجبِ

محمد بن بستان المفتي خدن الفضل وتربه، ومن أمن من المكروه سربه.

يتفتق من المعارف مكنة، لكنه يرتضخ لكنة.

فالكلام مشغوف بحلاوة لسانه، والقول وقف على حسنه وإحسانه.

وهو من حين أقمر هلاله، راقت ولا ورق البستان المزهر خلاله.

ص: 351

وانهل صيب جوده وقد أربى على انهلال السحاب انهلاله فشتان بينه وبين البستان، أو الصيب الهتان.

وهيهات أن يكون من فيضه خاصٌّ كمن فيضه عام، أو من يؤتي أكله كل حينٍ كمن يؤتي أكله كل عام.

وقد أطلعه الله منظوراً بعين العناية المتواصلة المدد، ومحفوفاً بنهاية الرعاية على توالي الآنات والمدد.

حتى سمت رتبة الفتيا بعالي مقامه، وطرزت حللها الباهية بوشي أرقامه.

ثم فارقته ولم تصبر على نواه، فراجعها بعد ما استحلت بسواه.

فعاد روض الفضل إلى نمائه، وكوكب السعد إلى سمائه.

ولم يزل يكحل الطروس بميل يراعته، ويشفف الآذان بلآلىء براعته.

إلى أن ذبل بسموم المرض غض نباته، وقطفت بيد الحين زهرة حياته.

فمما يعد من زهرات بستانه، ورشحات أقلام بنانه، قوله في رثاء سليمان زمانه.

ألا أيها النَّاعِي كأنَّك لا تَدْرِي

بما قلتَ من سوءِ المَقالةِ والنَّشرِ

سَلَلْتَ سيوفَ الموتِ في الدهرِ بَغْتةً

وقد بلغَ السيلُ الزُّبَى من جَوى الصدرِ

وشَقَّتْ قلوبَ المسلمين جراحةٌ

بصارمِ سيْفٍ قد مضَى ماضِيَ الأمرِ

سهامُ المَنايا من قِسيِّ صُروفِها

أصابتْ بسهمٍ في ابْتسامٍ من الفجرِ

نسيمُ الصَّبا رقَّتْ بأشْجانِ فُرقةٍ

حمامة ذات السِّدرِ حنَّتْ من الذُّعرِ

همامٌ على هامِ المَمالِك تاجُه

أمينٌ رشيدٌ في الخلافةِ ذو قَدْرِ

أأعْنِي جواداً في جوادٍ بذكْرِه

لقد سارتِ الرُّكبان في البرِّ والبحرِ

عزيمتُه في البحر كانت عظيمةً

وهِمَّتُه فاقتْ على الأنْجُمِ الزُّهْرِ

وأيامُه كالشمسِ كانت مضيئةً

وأعوامُه في الحسنِ أبْهَى من البدرِ

وما قيل إجْمالٌ لبعضِ صفاتهِ

ولا يُمكِن التفصيلُ بالنظمِ والنثرِ

فهاتيك أوصافٌ لَعَمْري جليلةٌ

فدُونَكها أبْهَى من الزَّهْرِ والزُّهْرِ

على عكس ما طاف البلادَ بجُنْدِه

كشمسٍ غَرِيباً غاب في مَغْرِب القبرِ

صحائفُ أكْوانٍ تدبَّرتُ حَلَّها

فصادفْتُها شرحاً لفنٍ من الهجرِ

على صفحةِ الخدَّيْن أمليْتُ مَا جَرى

بأقلامِ أهْدابٍ من البُؤْس والضُّرِّ

شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين مناط الملك وملاكه، وقطب السعد الذي دارت عليه أفلاكه.

الشمس والقمر السعد، والمقتنص لشوارد المعالي بلا تحمل منةٍ لوغد.

تحلى بالرياسة في ميعة شبابه، وألقت السعادة أعنتها في بابه.

مرتقياً في رتبها طوراً فطورا، ترقى النبات ورقاً ونورا.

يزيد قدره ويوفي، وقد خلص من داء الغرض وعوفي.

فما قصرت له في أمرٍ يدان، وعنده انطفا قنديل سعدان.

فبوجهه مرآة النهار تصقل، ولديه تربط الأماني وتعقل.

وله في الصدارة تثبت الجبال، والاستقلال الذي ينسي الماضي منه الاستقبال.

فلولا مهابته إذا أقبل، لانتظمت على أذياله القبل.

وكان دخل الشام حاجاً فابتهجت بأضواء سعادته، وقارنت السعد الأكبر في بدء أمره وإعادته.

وفي رجعته إليها قابله البريد بمنصب الفتيا، ودعاه الدهر إلى هذا المقام الذي وقفت عنده العليا.

فنادته المعالي لبيك وسعديك، واليمن والنجح كما تشاء في يديك.

ولم يزل في هذا المركز حائزاً رتب الكمال، وعلى مشرع مجده تحوم طيور الآمال.

إلى أن وقعت فتنةٌ بين العسكر، اغبر لها أفق الكون وتعكر.

ثم انتهت إلى قتل السلطان عثمان، فانحرف عنه وعن آل بيته الزمان.

ولم يطل به العمر حتى طلحة وأنضاه، وأعمده في قراب القبر الذي انتضاه.

فلا زالت رحمة الله وبركاته، تحييه ما دامت تقل الفلك حركاته.

وقد أوردت من شعره قطعةً خضع لها البيان وسلم، وهي قوله في التوسل بصاحب الشفاعة صلى الله عليه وسلم:

يا رسولَ الله أنت المَقصِدُ

أنت للرَّاجين نعم المسنِدُ

كلُّ مَن ناداك فيما نَابَه

فاز بالإسْعادِ فيما يقصدُ

ص: 352

قد أتى مستغفِراً مُستشْفِعاً

عبدُك المسكينُ هذا أسعدُ

مستغيثاً شاكياً من نفسهِ

باكياً مما جَنتْ منه اليَدُ

منك فَتْحَ الباب أرجُو ضارعاً

قارعاً أبوابَ فضلٍ تُرْصَدُ

منك يا غيثَ النَّدَى أرجو الهُدَى

إن في الأحشاءِ ناراً تُوقَدُ

مَسَّنِي ضُرٌّ وكربٌ مُزعِجٌ

في الليالِي بالتَّوالي أسهَدُ

طال أيامُ التنَائِي والأسَى

يا طبيبَ القلب أنت المُنْجِدُ

يا حبيبَ القلب باللهِ الذي

غيرُه سبحانَه لا يُعبَدُ

بالذي أعطاك قدراً عالياً

ما لمخلوقٍ إليه مَصْعَدُ

بالذي أعطاك ما لم يعطه

أحداص من خلقه يا سيد

بالذي أعطاك ما لم يُعْطِه

أحداً من خَلْقِه يا سيِّدُ

عِدْ بلُطْف منك كُنْ لي شافعاً

إن تُلاحِظْنِي فإني أسْعَدُ

لا تُخيِّبْني فإني سائلٌ

سائلُ الدمعِ الذي لا يُطْرَدُ

سَلْ مِن الرحمن تَعْجِيلَ الشِّفا

وانْشِراحَ الصدرِ لي يا أمْجَدُ

كلُّ مَن يرجو النَّدَى من بابِكمْ

فهْو من نَيْلِ الأماني يسعَدُ

صَلِّ يا ربِّ على خير الورَى

بصلاةٍ سَرْمَدٍ لا تنفَدُ

وارْضَ عن آلٍ وأصحابٍ همُ الْ

عابدون الرَّاكعون السُّجَّدُ

ابنه أبو سعيد محمد المفتي بعد أبيه وجده، والمولى الذي خضع كل مجدٍ لمجده.

ورث المجد خلفاً عن سلف، وزها به مركز السيادة على زهوٍ وصلف.

بشيمٍ للنيرات بها تعلق، تستمد منها فضل توقدٍ وتألق.

وبلاغةٍ في مرتبة الإعجاز، كأنما استفيد منها الاختصار والإيجاز.

فهو قليل القول صادق العمل، مقصور الهمة على إنالة ما يهم من الأمل.

له صدر النادي، والصيت الذائع بشرف المنادي.

وأيدي الغبطة به عالية، وحال تلك الدولة به حالية.

حتى جربه الدهر بخطب من أخطاه سهمه، لكنه ازداد به عقلاً عقله وفهمه.

في وقعةٍ تخرب فيها قبيلٌ وعشير، وهلك فيها وزير ومشير.

فرقت بين روحٍ وجسد، وخلت بين تشفٍ وحسد.

فأصيب في ذخائر كان عبأ خباياه منها، وسلمت ولله الحمد نفسه التي لا عوض عنها.

وإذا بقيت النفس فلا التفات إلى الفان، وهي الأيام ليست إلا إغفاة أجفان.

فبقي بعدها منزويا، وفي خير الخير كما كان منطويا.

ولم يغفل لسانه عن شكر، ولا شاب فيها حالته المعروفة بنكر.

حتى طوى الحمام محاسنة الفاخرة، فالله يعوضه عن لذات الدنيا بنعيم الآخرة.

وقد ذكرت من آثار قلمه ما يروى لشرف الناظم، والمنسوب يصير عظيماً بالنسبة إلى الأعاظم.

فمن ذلك ما كتبه على طومار يشتمل على كرامات أبي الغيث القشاش التونسي:

أرى أسْطُراً في ضِمْن تلك الرسالة

جداولَ من بحر الحقيقةِ سالَتِ

ومن مَنْبَعَيْ علمِ اليقينِ وعيْنِه

أسالتْ مَعِينَ الحقِّ أيَّ إسالةِ

وفيها جَلتْ حالات حبٍ كأنها

طَواوِيسُ جَنَّاتٍ تجلَّتْ وجالَتِ

وفي ضِمْنها تنْشِيطُ أهلِ محبَّةٍ

وتنْبيهُ تعبيرٍ لأهل البِطالةِ

أبو الغيثِ نعم الغَوْثُ خيرُ وسيلةٍ

إلى من به قد كان خَتْمُ الرسالةِ

قلت: أبو الغيث هذا آية الله الكبرى في الفنون، والنائل من مقامات القرب والتخصيص ما لا تتخيله الأوهام والظنون.

ومن أراد استقصاء أحواله، فعليه بتاريخي فهو موشىً بذكر أفعاله وأقواله.

وكتب على فرائض العلاء الطرابلسي، الإمام بجامع دمشق:

كتابٌ نفيسٌ للفوائد جامعُ

مفيدٌ لطلَاّب المسائل نافعُ

على حُسْنِ ترتيبٍ تحلَّى مُجمَّلاً

فقرَّتْ عيونٌ للورى ومَجامعُ

بَدا مُعْجِباً إذْ لم تَرَ العينُ مثلَه

به نورُ آثارِ الفضائل لامعُ

لجامِعهِ فخرِ الأئمَّة سُؤْدُدٌ

لرايات أنوارِ المكارم رافعُ

ص: 353

أفاض عليه الربُّ من سُحْبِ جُودِه

فبحرُ عَطاهُ الجَمُّ للخَلْقِ واسعُ

فسدد من جمعه وأحسن، وأمعن فيما جمع وأتقن.

حيث أتى بمختص حسن، في تلخيص مطولات هذا الفن.

ولما أجلت نظري في ربوة حسنه وبهجته، وشممت من جانب واديه عرف شميمه ونفحته.

وجدته حديقةً أنيقة، مزينةً بأزهار المعاني الدقيقة.

وألفيته جامعاً من المسائل ما لا يوجد في المنقول، ومحتوياً من الأبحاث ما تعجز عن فهمه العقول.

أبر الله عمله، وحرسه من صوارف الدهر ويسر أمله.

محمد بن عبد العزيز بن سعد الدين المعروف ببهائي هو بين أسرة هذا النجر، ليلة القدر إلى مطلع الفجر.

شاهده تلق نجح الأمل، وانظر بناديه الشمس في الحمل.

أشرق في فلك البها، وحلي ببردة الازدها.

فبشره يعيد بشاشة النبت الجديب، ولطفه يمسح به الروض عطفي أديب.

مشمول الشمائل طيبها، منهمر المواهب صيبها.

أعْدَى الوجودَ بجُودِه

فأباد سائرَ بُخْلِهِ

لا بُخْلَ فيه يُرَى سوى

أن لا يجُود بمثْلِهِ

فعطاؤه يزيد الأعمار في نمائها، ويبقي وجوه الراغبين بمائها.

وإذا كانت أنعمه عند أوليائه، يغتبط بها أكثر ما تكون في أفيائه.

سرى ذكره في الآفاق، مسير الصبا جاذب ذيلها النسيم الخفاق.

فإذا تلقت الأرواح منها نفحات الثنا، تعطفت بها الأعطاف وتثنت الأثنا.

وقد جمع الله شتات الأدب باعتنائه، وأعاد فيه رونق الحياة بعد دثوره وفنائه.

في زمنٍ لم يبق فيه من إذا شدا مداحه هزته الأريحية، إلا قضب الربيع إذا شدت الأطيار تثنت من أصواتها الشجية.

فانكشفت ظلماؤه عن يقق، وازدهت رياضه من الوشي في أفخر شفق.

وانثالت إليه الوجوه من أهله، سالكين في صعب المديح وسهله.

فما خاب أحدٌ منهم في سراه، ولا صلد له زندٌ وراه.

وهو في الشعر التركي مجيد ملء فمه، وأما الشعر العربي فلا أحسبه جرى على قلمه.

وقد وقفت له على قطعةٍ بالتركية التقطت منها اللؤلؤ الفرد، ونقلته إلى العربية فها هو كماء الورد يدل على الورد:

وقد كُشِف الحجابُ فبَان عنه

مُحيّاً أكْسَب الشمعَ اضْطِرابَا

وأخْجَلها بوجهٍ فاق نُوراً

فصيَّرت الفِراشَ لها نِقابَا

وقد رأيت من منشآته هذه القطعة، كتبها على نسب أدهمي: حمداً لمن جعل الانتساب، إلى بعض الأنساب، من أوكد الأسباب، الناجعة في إنشاء ذخائر الحمد والثنا.

وأباح لأقدام المتشبثين بأذيالها، مواطىء العز ومدارج العلى.

ونصب لهم سلماً يعرجون فيه، إلى سماء السمو وفلك الارتقا.

مَرابِعُ قُدْسٍ نالَها كلُّ أقْدسٍ

سَمَا مَن سَما مِن نائليها إلى السَّمَا

وصلاةً وسلاماً على من به بدئت نسخة الوجود والعطا، كما به ختمت رسائل النبوة والاصطفا.

وعلى آله وأصحابه الكرماء النجبا.

وبعد، فهذه شجرةٌ طيبةٌ أصلها ثابت وفرعها في السما، تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها.

وتفوح من كل زهرة منها روائح كأنها نوافح النوافج حسناً وطيباً، ويبدو من محاسنها ما يخاله الإنسان غصناً رطيبا.

كأنها اتصلت بأفواه عروقها عين الحياة، إذ انسحبت عليها أذيال نفحات الجنان بتلك الحسنات.

يا لها من شجرةٍ زكية تسد عين الشمس بأوراقها، وتعطر أعماق الثرى بطيب أعراقها.

ثابتةٍ في تربةٍ طالما ربت غصوناً طاميات، ودوحاً ناميات.

من أسفل سافلين، إلى أعلى عليين.

وجنة عالية، قطوفها دانية، وثمارها يانعةٌ غير فانية.

تورد أخدود خدودها حياءً وخجل، حيث تشرفت بلثم أنامل السيد الأجل.

ملك أقاليم الإطلاق على الإطلاق، وارث أسرة مقامات الكمل بالاستحقاق.

الذي أتحف الضرتين بطلاق، وقام في مقام الحمد على ساق.

فطوبى لمن له نصيبٌ في تلك الشجرة الرفيعة الشان، السامية المكان، المورقة الأغصان.

المشرقة الأنوار، المزهرة الأزهار، اليانعة الأثمار.

طوبى له ثم طوبى له كالشيخ الأجل، والصاحب الأمجد الأكمل، فلان؛ فإن فيه مما يشهد له ألسنة الأقلام، من أجلة العلماء الأعلام.

بصحة هذا النسب الباذخ، والحسب العاطس من أنف شامخ.

دلائل تدل على تلألؤ نور السيادة من غرته، وانبلاج صبح السعادة عن مفرق طرته.

ص: 354

قاله المتيقن بصحة هذا النسب الأخطر، حاكماً بها على ما يوجبه الشرع المطهر.

حسين بن محمد بن أخي المفتي صدر الصدور، والبدر الذي تستضيء بأنواره البدور.

تألق وظلام الخطوب قد امتد، وأسفر وسواد القطوب قد اشتد.

فأشرقت به الدولة في ليلها المعتكر، وزهت به برجل أندى من الوسمي المبتكر.

ثم استوى رئيس هذه الطائفة، فأضحى ووفود الآمال حول حماه طائفة.

وكان كبراء عصره لنبالته يحسدونه، ويودون لو عدوا في دفتر المعتدين ولا يعدونه.

فانبعث سوء القول، وفتح باب العول.

وكان في قلوب الجند أغراضٌ خالجة، ومفاسد منذ زمانٍ والجة.

فوجد في جانب الخيار، وانبرم في الأمر معه في الحركة على الاختيار.

فدقوا عطر منشم، وسعوا سعى متذبذبٍ متحشم.

في فتنة يتأجج أجيجها، ويبلغ عنان الأفق ضجيجها.

فعدم اتفاقا، وحرم مناصرةً وارتفاقا.

واستشهد في كربٍ وبلا، مثل سميه بكربلا.

فتجرع أعداؤه غصص الحين، ورأوا بمقتله يوم الحسين.

وقد أوردت له مقطوعاً يدل على لطف مزاجه، وحسن طبعه الذي يحكي عطارد في قوة امتزاجه.

وهو قوله:

أيها المُبتلَى عليك بخمرٍ

إنها للعليل خيرُ علاج

ثم لا تشْرَبَنَّ إلَاّ بمَزْجٍ

أوَّلُ الواجبات أمر المِزاجِ

وكتب على إجازة الشيخ مسلم الصمادي، لولده الشيخ إبراهيم: الحمد لله الولي القادر، العالم بما في الضمائر.

والصلاة والسلام على رسوله محمد، المبعوث من أكرم القبائل وأشرف العشائر.

وعلى آله وأصحابه الجالسين على سرر اليقين، الوارثين معالم الدين كابراً عن كابر.

وبعد، فقد وقفت على ما في هذا الرق الفاخر من الإجازة، وعرفت حقيقته ومجازه.

فوجدته كالروض الفائق، وآثار الأجلة النعمانية فيه كالشقائق.

فيا له من سيدٍ سلم ارتقاؤه على سلم الوصول فبالحري أن يدعى بمسلم، وكان شهرة لواء إرشاده كنارٍ على علم.

لقن ولده الذكر وأجازه في التلقين، وجعل كلمةً باقيةً في عقبه يوم الدين.

ولله در النجل النبيل، سمي نبي الله الخليل.

حيث بسط للسالكين سماط الصمادي، فأضاف كل رائح وغادي.

بأنفاسه الأنسية، ونفحاته القدسية.

فهو في فنه وحيدٌ فريد، وسمع طبل اشتهاره من بعيد.

ولا غرو أن سلك المسلك الأسد، فإن هذا الشبل من ذلك الأسد.

جعلنا الله من المقتبسين من أنوارهم، والفائزين بمعالم آثارهم.

عبد الرحمن بن الحسام المفتي العلم المختلف إليه، والعلامة المتفق عليه.

ازدانت به الأيام ازديان الخد بالعذار، وقامت مواهبه العامة عما جنته الليالي مقام الاعتذار.

يحفه لطفٌ من الله تعالى مدارك، فيسمو إلى المعالي سمو المستبد لها من غير مشارك.

حتى ترامت الحظوة لديه، كعبيده الواقفين بين يديه.

إلى حيث لا يدركه أمل، ولا يبلغه إلا ذو علم وعمل.

تبذل النفوس أرواحها في رضائه، فلو غفل قلبٌ عن تمريضها عافته كل أعضائه.

وله سداد رأيٍ يعضده القضا، وحسام طبعٍ لا يخونه المضا.

فهو ينثر الدر إذا أخذ القلم، ومن يشابه أبه فما ظلم.

فحظه جارٍ بلا مثالٍ سابق، ولم يوجد قبله حظٌّ لحظه مطابق.

فقد أخذ من الجد بعنانه، وتصرف بالقلم كيفما شاء فكأن آية السحر في بنانه.

وقد طال إلى ديار العرب تردده، وبارت بها السحب الهواطل يده.

فما زالت تشكر آلاؤه حيث حلت ركائبه من البلاد، وتقيه الأعيان من النوائب، بالأنفس النفيسة لا بمنفوس التلاد.

وطالما تسابقت إلى مدحه القرائح، ودلت عليه الأقاويل بالكنايات والصرائح.

ثم استقر آخراً بمصر مخضر الأكناف، متوفر الأنواع من أسباب العيش والأصناف.

ولم يخل أيام إقامته فيها من مجالس يصرف إليها أعنة الاعتنا، وفي صحبة أودائه حزبٌ كأنهم ما خلقوا إلا للمدح والثنا.

ينتشون بغده إذا كروا ما مر لهم في أمسه، ويطالعون آثار الربيع فلا يرونها كآثار خمسه.

إلى أن أغمده منتضيه، فالله يعطيه من الكرامة ما يرضيه.

فمن شعره قوله، يمدح النجم الحلفاوي، خطيب حلب وعالمها:

عليك بنجْمِ الدين فالْزَمْه إنه

سيَهْدِي إلى جِنْسِ العلوم بلا فَضْلِ

بنُورِ اسمِه السَّامي هدَى كلَّ عارفٍ

إلى أنه شمسُ الهدايةِ والفضلِ

قال البديعي: ولما أنشدهما قلت بديهةً مخاطباً النجم بقولي:

ص: 355

كفاك افْتخاراً أيها النجمُ أنَّ ذا الْ

مآثرِ بدرَ المجدِ شمسَ ضُحَى العدلِ

حليفَ العُلَى نَجْلَ الحُسامِ المهذَّبَ الَّ

ذِي عَزمُه ما زال أمْضَى من النَّصْلِ

ومن أشرقتْ شَهْباؤُنا بعلومِه

وزُحْزِح عنها ظلمةُ الظلم والجهلِ

حباك ببَيْتَيْ سُؤددٍ بل بدُرَّتَيْ

فَخَارٍ على أهلِ المآثرِ والفضلِ

فيض الله بن أحمد القاف، قاضي العسكر صدرٌ طاب في ورد وصدر، وصاحب قدر جاء للرياسة على قدر.

وروضة فضلٍ تندت أوراقها، وسحابة جود أرعادها صادت وأبراقها.

عنده مجمل الأدب ومفصله، ولديه حاصل الكلام ومحصله.

بلسانٍ يورد موارد الخيال، فيستخرج اللطائف من نبعه السيال.

وهو وإن كان من الروم خرج، فطبعه بالعربية البحتة امتزج.

ترنو البلاغة عن أحداقه، وتطغى الفصاحة بين أشداقه.

فإذا حاضر فما الدر إذا ارتصف، وإن شعر فما ابن الرومي إذا نعت أو وصف.

وله شعر من ندي القول ومخضله، ولا أعده إلا من فيض الله وفضله.

فمنه قوله، من قصيدته التي مدح بها السلطان مراد بن سليم، يذكر فيها فتح مدينة تبريز، على يد جيش أرسله السلطان المذكور.

ومستهلها:

للهِ دَرُّ جيوشِ الروم إذْ ظهروا

على الرَّوافضِ إذْ صارت بهم عِبَرُ

كم أبْدَعوا بِدَعاً سَبّاً ومَظْلمةً

لهم قلوبٌ يُحاكِي لِينَها الحجرُ

فالناسُ تجْأر للرحمنِ من يدِهمْ

واللهُ يسمع منهم كلماجَأرُوا

وعندما اقْترب الجيشُ العَرَمْرَمُ مِن

تَبْرِيز ثم بدا في ذاتهمْ خَوَرُ

فشجَّعوا أنفُساً منهم قد امْتلأتْ

جُبْناً وقد طاشتِ الأحلامُ والفِكَرُ

ظنُّوا بأن الليالي نحوَهم نظرتْ

فأخْطأَ الظنُّ لمَّا أخطأ النظرُ

وأمَّلوا سَحَراً من ليلِ كَرْبهمُ

فلم يكُن لدُجَى أوْصابِهم سَحَرُ

لمَّا رأى بَأْسَنا حُمْرُ الرُّءُوسِ إذا

فَرُّوا كما فرَّ من أُسْدِ الشَّرَى الحُمُرُ

قلوبُهم خشِيَتْ أبصارُهم عَمِيَتْ

شاهَتْ وجوهُهمُ خوفاً وقد خسِرُوا

سَطَوْا بهم فتراهم ذَا يَفِرُّ وذَا

عانٍ أسيرٌ وذا في التُّرْبِ مُنْعفِرُ

والنَّقعُ ليلٌ بَهِيمٌ لا نجومَ به

تلُوح للعين إلَاّ البِيضُ والسُّمرُ

هذا من قول مسلم بن الوليد:

في عَسْكرٍ تُشرِق الأرضُ الفضاءُ به

كالليلِ أنْجُمه القُضْبانُ والأسَلُ

وللعباسي، صاحب المعاهد ما هو أحسن منه:

يعقِد النَّقْعُ فوقها سُحُباً كالل

يلِ فيه السيوفُ أضْحتْ نجُومَا

فمتى ما رأتْ سوادَ شياطي

ن بُغاةِ الحروبِ عادتْ رُجومَا

وللمتنبي:

فكأنما كُسِيَ النهارُ بها دُجَى

ليلٍ وأطْلعتِ الرماحُ كواكبَا

وقد نقله إلى مثال آخر، فقال:

نَزُور الأعادِي في سماءِ عَجاجةٍ

أسنَّتُها في جانبيْها الكواكبُ

ولبعضهم:

نسَجتْ حوافرُها سماءً فوقها

جعلت أسَّنتها نجومَ سمائِهَا

ولابن المعتز، فيما يضارعه:

وعمَّ السماءَ النَّقْعُ حتى كأنه

دخانٌ وأطرافُ الرماحِ شرارُ

عوداً على بدء:

فالبِيضُ في يدهم صارتْ صَوالِجةً

والأرْؤُس الْحُمْرُ فيما بينهم أُكَرُ

هذا البيت قد أخذ بأطراف اللطف والانسجام، إذ فيه المقابلة مع ذكر الحمر في تمثيل حال الأعاجم، وهو أحسن عندي من قول الصالحي:

كأنما الخيلُ في المَيْدان أرْجلُها

صَوالِحٌ ورءُوس القومِ كالأُكَرِ

مع أنه توارد فيه مع ابن عبد الظاهر، في قوله في بعض رسائله: أصبح الأعداء كأنما جزر أجسادهم جزائر، أحاط بها من الدماء السيل، ورءوسهم أكرٌ تلعب بها صوالجة الأيدي والرجل من الخيل.

ومما يناسب ذكره في هذا المحل، وهو الغاية في بابه، قول الشهاب في السلطان مراد بن أحمد، حين غزا العجم:

غزا الفُرْسَ في جيشٍ أطلَّ عليهمُ

بما لم يُشاهَدْ في القرونِ الأوائلِ

ص: 356

فحال عِداهم صاغَةً وصَيارِفاً

لصَرْفٍ دهاهم بالسيوفِ الشَّواغلِ

فأرْؤُسُهم أبدتْ بَواتِقَ في لَظىً

من الحربِ شُبَّتْ من رِقاقِ العواملِ

فصَبَّ عليهم فضَّةً من سيُوفِه

فرُدَّتْ نُضاراً من نجيعِ القواتلِ

كأنما السمعُ مِغْناطيسُ أنفسِهم

فحيث مالتْ ترى الأرواحَ تُنْتَثرُ

ذوَتْ رياضُ أياديهم فلا ثمَرٌ

يلُوحُ فيها ولا في دَوْحِها ثَمَرُ

وللفِرارِ إلى الأقطارِ قد نفَرُوا

وما لهم معشرٌ فيها ولا نَفَرُ

فأصبحوا لا تُرَى إلا مساكنُهم

وقد خلَتْ ما بها عَيْنٌ ولا أثَرُ

وتخْتُ تَبْرِيزَ نادى وهْو مبتهِجٌ

هذا الزمانُ الذي قد كنتُ أنتظرُ

فيا مَلِيكاً له كلُّ الملوك غدتْ

تدِين طوعاً وتأتي وهْي تعتذرُ

سِرْ وامْلك الأرضَ والدنيا فأنت إذاً

إسْكَنْدرُ العصرِ قد وافَى به الخَضِرُ

فيا لَها نعمةٌ آثارُ مَفْخَرِها

كانتْ لدولتِه الغرَّاءِ تُدَّخَرُ

ظِلُّ الإلهِ مُرادُ الله قد شرُفتْ

به المنابرُ والتِّيجانُ والسُّرُرُ

أجَلُّ من وَطِىءَ الغَبْراءَ من ملِكٍ

بأمْرِه سائرُ الأملاكِ تأْتمرُ

بعَزْمِه ظهرَ الفتحُ الذي عجزتْ

عنه السلاطينُ قد أفْنَتْهمُ العُصُرُ

لو فاخرتْه ملوكُ الأرضِ قاطبةً

ما نالَهم من معانِي فخرِه العُشُرُ

هل يسْتوي الشمسُ والمصباحُ جُنْحَ دُجىً

ويسْتوي الجاريان البحرُ والنَّهَرُ

بَدا له في سماء المجد نُورُ هُدىً

من دونهِ النَّيِّرانِ الشمسُ والقمرُ

وأصبح المُلك محروسَ الجَنَابِ وقد

وافَى به المُسْعدانِ القَدْرُ والقَدَرُ

استعمال المثنى على هذا الأسلوب كثير، وأجود ما وقع إلي منه قول الشنتريني، من بلدة غرب الأندلس:

يا مَن يُصِيخُ إلى دَاعي السِّفَاهِ وقد

نادَى به النَّاعِيان الشَّيْبُ والكِبَرُ

إن كنتَ لا تسمعُ الذِّكْرَى ففي مَ ثَوَى

في رأسِك الواعِيان السمعُ والبصرُ

ليس الأصَمُّ ولا الأعمى سوى رجلٍ

لم يهْدِه الهادِيان العَيْنُ والأثَرُ

لا الدهرُ يبْقَى ولا الدنيا ولا الفَلكُ الْ

أعْلَى ولا النَّيِّران الشمسُ والقمرُ

ليَرْحلَنَّ عن الدنيا وإن كرِها

فِراقَها الثَّاويان البدوُ والحضَرُ

تتمة القصيدة:

عَطفاً على عبدِك المَدَّاح ناظمِها

فقلبُه من صُروفِ الدهرِ منكسِرُ

لا زال مُلكك دَوْرِيَّ السَّعُودِ فما

يُرَى له آخِرٌ في الدهرِ يُنتظَرُ

بدولةٍ تُخلِق الأيامَ جِدَّتُها

ما أزْهرتْ في الدياجي الأنجُمُ الزُّهُرُ

ولهذا الصدر ولد، أجل من دار حبه في خلد.

اسمه: عبد الحي، ويعرف بفائضي فائض الطبع متدفقه، متأرج روض الأدب متفتقه.

سلك الوعور من المعارف والسهول، وفاق على حداثة سنه الشيوخ والكهول.

إلا أنه اخترم في اقتبال، وأصيب للأجل بنبال.

وشبابه يقطر ما ويرف نما، ويغازل عيون الكواكب فضلا عن الكواعب إشارةً وإيما.

فكان ممن ثكلته النجابة، وتخلفت في الدعاء بطول عمره الإجابة.

فلبست عليه الغواني الحداد في الأحداق، وبكت عليه عيون السحب بالصيب المغداق.

ولم أقل له على شعر عربي، غير أني عربت له بعض مفردات.

فمنها قوله:

غَبْغَبُ مَن أهواه في جِيدِه

تفَّاحةُ التفْريحِ للقلْبِ

وقوله:

والسَّرْوُ بالثَّلْجِ غدا مُجلَّلاً

كأنه المغَارة البيضاءُ

وقوله:

يا صَبا الروضِ أخْبرِي

أنتِ للأُنْسِ مَحْرَمُ

هل بنادٍ رأيتِ من

عِقْد وُدٍ يُنَظَّمُ

ص: 357

كمال الدين بن أحمد طاشكبرى، قاضي العسكر الكمال وصفه الذي يعزى إليه، وعين الله عليه وحواليه.

فهو لم يشب بنقص، ولم يدخل بيت مجده خبن ولا وقص.

فغدا الفلك الدوار مطية آماله، واليمن مقروناً بيمينه وانتظام الشمل معقوداً بشماله.

وقد بلغ ماؤه عشراً في عشر، وتناسب بينه وبين الفضل لفٌّ ونشر.

وهو ممن إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، وإذا أنشا أنسى سحبان وائل.

وله تشبث بالفنون الأدبية، ونظم ونثر بالتركية والعربية.

فمن شعره العربي قوله، من أبيات كتبها لبعض الصدور:

عاصفُ الحادثات أفْنانِي

صَرْصَرُ الدهر بَذَّ أفْنانِي

كَمَدِي آدَنِي وأعْياني

ارحموا سادتي وأعْيانِي

وله من رسالة يعتذر فيها عن عرض أسند إليه.

إن كنته،

وما أنا في حِفْظِ الوفا متضنِّعاً

ولا أنا للزُّورِ القبيحِ مُنمِّقُ

وأنتَ فتدري ما اقْتضتْه جِبلَّتِي

فما أدَّعي إلَاّ وأنت تصدِّقُ

ولكنَّ دهراً قد بُلِينَا بأهله

أباحوا به ثوبَ النِّفاق ونفَّقُوا

والذي يعلم سري وعلانيتي في جميع حالي، لم يصدر عني ذلك الأمر ولا خطر ببالي.

وهل يليق بي أن أدنس العرض بمثل ذلك العرض، وأحشر في زمرة الكاذبين يوم العرض.

ووُدِّي أنتَ تعلمُه يقيناً

صحيحاً لا يكدَّر بالجفاءِ

فلا تسمعْ لما نقلَ الأعادِي

وما قد نمَّقوه من افْتراءِ

محمد بن عبد الغني، قاضي العسكر نادرة الزمن، ومبدي الخفي من الدقائق والمكتمن.

تباهت أولو المعارف من الانتماء إليه، ورفرفت أرباب الشعر بأجنحة الاستفادة عليه.

فهو رأس من برع في فنه، وشعشع راح الأدب في دنه وله نزعات تقف الآراء دون تحقيق مناطها، وتعنى الألباب فلم يهتد بيانها لاستنباطها.

تتوقد نار فكره، وتبتهج بين شرب المدام وسكره.

مع لطف الشيم، الهامية الديم.

وحسن الخصال، التي عمرت بها البكر والآصال.

وقد تميز بالرياسة ناهضاً بأعبائها، وحظي من السلطنة بتقريبها واجتبائها.

ولم يعطل من راحه راحه، ولم يسكن إلا إلى دعة وراحة.

وكان يؤثر الأفراح والقصف، ويكثر من النعت للراح والوصف.

وله غزليات بالتركية، يستشفى بها الخمار، وتتعاطى عليها الأسمار.

وأما شعره العربي فلم أر له إلا هذين البيتين:

قيل إن الياقوتَ أصلٌ أصيلٌ

لجميعِ الجواهرِ الشَّفَّافَهْ

فلهذا المُكيِّفات جميعاً

هي فرعٌ والأصلُ فيه السُّلافَهْ

يشير إلى ما قاله التيفاشي في زهر الأفكار، في جواهر الأحجار، ناقلاً عن بلينوس: الياقوت حجر ذهبي، وجميع الأحجار غير الأجساد الذائبة، إنما انعقدت وابتدت لتكون كلها ياقوتا، كما ابتدأت الأجساد الذائبة لتكون كلها ذهبا، فأقعدتها عن الذهبية العوارض.

وكذلك الأحجار إنما ابتدأت في خلقتها لتكون ياقوتا، فأقعدتها عن الياقوتية كثرة الرطوبة وقلتها، وقلة اليبس وكثرته، فلم تكن ياقوتا، فصارت حجارة حمراء، وبيضاء، وخضراء، وصفراء، وغير ذلك من الألوان. انتهى.

مصطفى بن عزمي، قاضي العسكر الهمام البذ الفرد، الذي اقتنص المعارف اقتناص الأسد الورد.

نفث في عقد النهى بلطفه المصقول، وملك بحسن تصرفه لب المعقول والمنقول.

مع لطائف تستنطق الجماد، وبدائع لو سمعها رضوى لماد.

إلا أن نهضه كان بشأوٍ قصيرٍ بين أقرانه، وذلك دليل مواربة الدهر معه وحرانه.

وربما انعطف عليه فرغم معطسه، فيرمى على غرةٍ قلب الصواب فيقرطسه.

وهو كما شاءت العلى، يزداد تواضعا كلما علا.

وتآليفه ساجل بها صوب الغمامة، وطوق الدهر بها طوق الحمامة.

وأنا بآثاره ونظامه ونثاره أضن بأمثالها، من الدهر بمثالها.

وإني لأتشوق إلى سماع مزاياه، تشوق الصمة إلى رياه، وأبى الخطاب إلى ثرياه.

ولم أقف له من الشعر إلا على قوله:

يا نفسُ عُوذِي بالكريمِ وجُودِه

فهو الذي يُسْدِي إلينا نِعْمتَهْ

ويُنزِّل الغيثَ الذي يروِ الرُّبَى

من بعد ما قَنَطُوا وينْشُر رَحمتَهْ

وقوله:

للهِ من رشأٍ كتائبُ لَحْظِهِ

أهْلَ الصَّبابة غادرتْ مَأسُورَا

ص: 358

ولقطْعِه صُلْبَ القلوبِ كرَوْضِها

قد صار صارمُ لَحْظِه مكسورَا

السيد محمد بن محمود النقيب العلامة عقد الخلافة النبوية، وتاج الأسرة المستمدة النور من الأسرة العلوية.

وابن أفضل الأنام، والمستنزل بوجهه در الغمام، وخلاصة نور الوحي الملتقى ما بين فاطمة الزهراء وعليٍ الهمام.

وإذا لم يكن علويٌّ كالعلامة، في الشرف الذي كفاه على وضع العلامة.

فهو للشرف كالغاصب، وربما كان حجةً للنواصب.

فأما كرم الطبع فكما تقتضيه الأريحية، وأما لطف الخلق فكأنه منتسخٌ من أخلاق جده عليه السلام والتحية.

إلى ما حواه من البيان الفصيح واللفظ الخلوب، وحسن الأداء الذي يستدعي حب القلوب.

تتجارى فصاحته وبلاغته كفرسي رهان، فالاستدلال بهما على فضله يغني عن حجةٍ وبرهان.

وله من الآثار المتلوة، ما يلوح عليه سيماء النبوة.

فمن زهراته الطرية، وفقراته الدربة.

قوله في ديباجة رسالة وسمها باسم السلطان مراد، في تفسير آية:" الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً ".

اللهم اهدني بسيارة الفكر في سموات الذكر إلى منهج اليقين، واسلب غشاوة الغباوة عن عيني حتى تبصر مدرج المتقين.

فيما بليت بدرايته، وسئلت عن روايته.

صبيحة يومٍ مجموعٍ له الناس في جامع وجوه الصالحين، به تغنى عن النبراس يستفتحون بعرمرم المسلمين.

المحاصرين حصن بغداد، محاصرة الثواقب لبروج السبع الشداد.

والجامع جامعٌ لمحاسن العرش المجيد، بجواهر التزيين وزواهر التنجيد.

ومراد الله فوقه شمسٌ طالعٌ على خط الاستوا، والأعيان الثابتة على الطبقات ثوابت السما.

والمذكر قد خرج على قومه من المحراب على سنة سيدنا زكريا، فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.

إذ تمثل لي روح الملأ الأعلى بشراً سويا، فقام يسألني عن أشياء خفيةٍ حفيا.

على سلطانٍ مسارح سبوح، فكره ملكوت السبوح.

ومدار صبوح، ذكره مجالس الملائكة والروح.

ملكٌ ملك الآفاق لطفاً وقهرا، وسلك مسلك الاتفاق سراً وجهرا.

وخضعت لجلالته وجلادته الدهور، ونسمت بنسيم سعادته غرر الشهور كالزهور.

عمت بالأيادي يداه قبائل الشاكرين فضلاً وجودا، وهمت بنوادي نداه قوافل الذاكرين قياماً وقعوداً وسجودا.

الذي استرق رقاب السلاطين مراداً ومريدا، واستعبد ملوك الماء والطين ولم يذر مريدا.

نشر راية السلطنة الطنانة نشر عبير، وفسر حدسه آية الدولة الديانة أحسن تفسير.

لم يزل صدره مصدر الكليات، وضميره لوح الماهيات.

وما برحت راحته راحة العباد، وساحته قبلة الحاضرين والباد.

وما انفكت زجاجة قريحته الوقادة، توقد من شجرة التحقيقات العقيقية؛ وبديهته النقادة، ترتاح إلى التدقيقات المجازية والحقيقية.

وما فتىء قبول قبوله روحا يروح نخل الفضائل بروح وريحان، وما خلا بنان رسوله يقطف قطوف الفنون من الأفنان.

ينظر إلى ثمره إذا أثمر وينعه، ويشكر فضل أثره ويأمر بجمعه.

وكتب إلى إمام السلطان يوسف بن أبي الفتح الشامي، وهو بدمشق:

يا مَن علَا بجمالِه

وكمالهِ أعْلَى العُلَى

مِنِّي إليك تحيَّةً

حِرْز البقا لذَوِي العُلَى

ثم ينهي على رسم أولي النهى، إلى المحل الذي خصه الحسن والبها.

أنا كنا مجهزين إليه قبل تاريخه كتاباً مكتوبا بأمداد الصدق والخلة، وخطاباً فيه شفاءٌ عن العلة والغلة.

ثم قعدنا ناظرين بم يرجع المرسل، فلم يظهر ممن رحل وقفل، وطلع وأفل، نوع أثرٍ من عين، ونغمة خبرٍ من رباب وعين.

فلعل المجهز ضاع في البين، وما ضاع نشره بين اثنتين.

وإلا فالحبيب لا محالة وثيق الوفا، سحيقٌ على شفا جرف الجفا.

فلو وصل لوصل، وما قطع عروة ما حصل.

ودمت يوسف الحقائق، موفياً كيل الدقائق.

بين متهم ومنجد، ومشئمٍ ومعرق.

وكتب على رقعة رفعت إليه من بعض الفضلاء، على يد واسطة بعض خواص الأفاضل، متضمنة لعتب حصل منه: تحضرون البيت، وتحكون الحكاية كيت وكيت.

قضية الهجر فرية الواهمة، والقطيعة من الهجران لا من أهل كاظمة.

عند الملاقاة تظهر الأمور، ولدى المصافاة يحصل شفاء الصدور.

وكتب على إجازة لبعض الحلبيين: لما تشرفت بمطالعة هذا الطامور، الفائق على هياكل النور وقلائد الحور.

ص: 359

بميامن ما احتواه من ذكر الصالحين الذين تنزل الرحمة عنده وتحصل به الأجور، اللائق كتبه بالمسك والكافور على النحور.

بل بسواد أحداق الحور، على صحائف قدود ربات الحجال والقصور.

ذكرتهم بالدعاء الصالح، والثناء العطر الفائح.

وأثنيت على صاحبه الفائز الفالح، بالمدح العبق الروائح.

مستمداً من روحانيتهم العالية، متيمناً بحسن الانتظام في زمرتهم السامية، ومستطراً سحب همته الهامية النامية.

فقلت فيه مقرظا:

حقَّقتُ أن جمالَ الدين من زُمَرٍ

حَلُّوا محلَّ سوادِ القلب والبصرِ

من أهلِ خِلقة تَجْريدٍ بها ادَّرَعُوا

والتاجُ بَيْضتُهم تحمِي عن الضَّرَرِ

من مَحْتِدٍ عَبْقرِيٍ بَيْضُهم حَدَدٌ

المُرْتوِي صدرهُم من رَملةِ الصَّدَرِ

المنتمِين إلى البازِ المُحقِّق في

جَوِّ العُلَى الأشهبِ العالي عن النّظرِ

طُوبَى لمن إذْ جَلَى مِرآةَ خاطِره

بخِرْقةٍ منهم تخلُو عن الكَدرِ

جمالُ ذي العصرِ في مَحْياه دام وإذْ

حلَّت شَعُوب جمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ

بين الأُلَى فرأوْا عين النظيرِ به

عين الفريدةِ في عِقْدٍ من الدُّرَرِ

فإن له ينبح الحُسَّادُ عن حسَدٍ

فلا يضُرُّ عُواءُ الكلبِ للقمرِ

وله القصيدة الثلجية، وهي مشهورة بالقدس، نظمها لما كان قاضياً بها، وعين لها وقفاً وقراء يقرأونها كل ليلة في المسجد الأقصى.

ومستهلها:

ما الثلجُ ثَجَّ على ذا الطُّورِ والْحَرَمِ

نُورٌ تجلَّى به الرحمنُ ذو الكرمِ

من عهدِ مُوسى تجلَّى لا نظيرَ له

لكنَّه شاملٌ للعُرْبِ والعجَمِ

من جملتها:

من جانبِ الرومِ ضيفٌ قد ألَمَّ بنا

أنْجَى الخلائقَ من جَدْبٍ ومن ألَمَِ

مُنَوَّرُ الوجهِ شيخٌ من محاسنِه ال

بيْضَا يفيضُ بوجهِ الْبانِ والعَلَمِ

تأتي سليمانَ من سُحْبٍ أريكتُه

فالرِّيح تحملها بالخيْلِ والحَشَمِ

تواضُعاً وجهُه في الأرضِ محتَشِمٌ

فمن تخطَّاه قُلْ يا زَلَّةَ القدمِ

محمد بن فضل الله المعروف بعصمتي بحرٌ في البلاغة زاخر، ومولى كله مناقب ومفاخر.

يتسامى به دهره ويتعالى، ويتنافس به مادحه ويتغالى.

فموضعه من كرم الخيم وفضل العلى، موضع الإكليل من الرأس والعقد من الطلى.

وطبعه الروض إذا باح، بسر نوره نفس الصباح.

أصلف من ملح في ما، وأشف من زجاجة عن صهبا.

وله بنان تحل أقلامه ما عقدته الأوهام بالأسنان، فإذا دعا بيان المقال لباه سحر البيان.

فيأتي بورد خدٍ تحت ريحان طرة، وصبح فرق يسفر عن نهار غرة.

ولطفه مع المعاشرين، لطف ابن العشرين.

تفتر عن ثنائه الثنايا، وتحتوي على حبه الضلوع والحنايا.

وأنا لا أحسب أن في طبعه وصمة، وأن لا تجد منه العصمة.

وكان الدهر أغري بوهي بنائه، لتلونه تلون الماء في إنائه.

فلما رآه كالياقوت لا يتغير إذا ألقي في النار، عطف عليه ورفع له في الحظوة المنار.

فاستأنف لذاته وجددها، وأثبت مقاماته وحددها.

وتأزر بأثواب العلى وتردى، ولم تجد عنه السعادة محيداً ولا مردا.

إلى أن فاجأه الموت، وفات في أجله الفوت.

فلا زالت الديمة الوطفا، تحيي قبراً ضم منه كرماً ولطفاً.

وهذه شذرات من عقده، جئت بها خالصةً من زيف الشعر الداعي لنقده.

فمنها قوله:

أهلاً بمن فاق السِّماك مُخَجِّلاً

شمسَ الضحى في رفعةٍ وسَناءِ

فكأنَّ لي فوق الثُّرَيَّا منزلاً

علِقتْ بسُدَّتِه حِبالُ رَجائِي

وكتب إلى أستاذي عزتي:

يومكمُ نصفهُ تقَضَّى بنوُر الْ

عِزِّ والنصفُ منه للقُرَناءِ

طالعِ الدرسَ بعد كل عِشاءٍ

فالليالي تُعَدُّ للإحْياءِ

وكتب إلى المفتي أبي سعيد:

لا زلتَ في فَلك السعادةِ ساطعاً

أنت الكفِيُّ بحاجتِي وحَسِيبي

أمَّلتُ حُظوةَ نظرةٍ من أجلِها

أشْغلتُ ساحتَكم ببَسْط كُروبي

وكتب لبعض الصدور:

ص: 360

يا سراجَ التقى وبدرَ المعالي

دُمْ منيراً وهادياً للعبادِ

كنتُ من قبلُ ألثَم اليدَ بالإجْ

لالِ والآن نالَ ذاك مِدادِي

وله من قصيدة ربيعية:

زمنُ الوردِ بالرَّحِيق الصَّفُوقِ

طاب حيثُ الصَّبوحُ مثلُ الغَبُوقِ

أنتَ بالغَنْجِ والدلالِ أنيسٌ

وليَ الخمرُ كالصديقِ الصَّدوقِ

وسمع قول ابن عبد ربه:

نعَق الغرابُ فقلتُ أكذبُ طائرٍ

إن لم يصدِّقْه رُغاءُ بعيرِ

فقال:

ورد النسيمُ فقلت أصدقُ قاصِدٍ

خجلتْ له عينُ النباتِ الأخْضرِ

ومما عربه المنجكي من كلامه:

لو فوَّق الحظُّ سهماً من كِنانتِه

وكان من خَلْفِ قَافٍ لم يفُتْ غَرَضُ

وعربت أنا من كلامه:

وأُريد أن أُبْدِي شكايةَ هجرِه

فيسُدُّ منه بكأسِ موعدِه فَمِي

ومنه:

مُقبِّلتي سدَّ السبيلَ شِكايتِي

على السِّرِّ من خَاتمِ خاتمِ الفمِ

ومنه:

وأنفقْتُ عمرِي في تعشُّق فَرْعِه

فلم أتنَشَّق شَمَّةً من عَبِيرِهِ

حسين بن رستم المعروف بباشا زاده، نزيل مصر صنديد بطل، ومنطيقٌ غير ذي خطأٍ وخطل.

نهجه مستقيم، والدهر بمثله عقيم.

بشيم اقتضاها مجده، وأورثه إياها أبوه وجده.

ومفخرة يتوشح بردائها، ومأثرة يترشح لابتدائها.

إلى أخلاقٍ ألطف من نعمة الوصال، وأرق من نسمة الشمال تهديها البكور والآصال.

أقام بالقاهرة زماناً طويلا، وأوسع بها الآمال إنعاماً وتنويلا.

بين قوم حروف السؤال لديهم زوائد، فما لأحد في عزهم مرتجى ولا له في مصائبهم فوائد.

فازدهت به المواطن والمرابع، وأشار إليه حتى النيل بالأصابع.

وله أخبارٌ نشرت أعلام إفادتها في كل نادي، وأشعارٌ لفصاحتها عند قس الإيادي أيادي.

فمنها قوله من قصيدة، كتب إلى المفتي سعد الدين، يمدحه بها.

ومطلعها:

أراك ترُوم المجدَ ثم تُساهِلُ

وزامِلةُ العمرِ اليسيرِ تُناقِلُ

ونفسُك زادت زَمعَها لا تَرُوعها

وتفضُل عما خلَّفتْك الأوائلُ

وقد طفَلتْ شمسُ الحياةِ وبعد ما اخْ

تفتْ لا تراها تخْتفي فتُقابِلُ

وسُلَّتْ سيوفُ الشَّيْب من غِمْدها وقدْ

تَبرَّتْ لأن تَنْساخ منها الكلاكلُ

سنابلُ أيامِ الهوى اصْفَرَّ لونُها

وأوشك أن حلَّتْ عليها المَناجِلُ

وشتَّت نَبْلَ الحادثاتِ قِسيُّها

وتُخْطىء إلَاّ أن تُصِيب المَقاتلُ

فماذا التَّوانِي والتكاسُل غافلاً

تنامُ وشُدَّت في الحَوالِي حبائلُ

وما أنت في دُنياك إلاّ معذَّبٌ

بِرُوحٍ يعاني غَمّه ويُماثلُ

وجسمٍ يُهادَى بين موتٍ وسُقْمِه

ولا ينْثني عنه الأسَى والنَّوازلُ

فأيُّ صفاءٍ لم يشُبْهُ مكدِّرٌ

وأيُّ وصالٍ لم يعُبه فاصلُ

إذا ما عَراك الهمُّ بالعُدْمِ فاعْتبرْ

بأصدقِ قولٍ لا ترى من يُجادِلُ

تباعَدْ عن الدنيا وزايِلْ نعيمَها

فكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ

يُنادي جميل الخلق حيّاً وميِّتاً

ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطلُ

تطول رِشاءٌ في الأمانِي وإنَّه

تُحوِّل فيما لم يكن فيه طائلُ

فواللهِ خَلَاّقِ البَرايا وربِّهم

تُسَنُّ سِنُوها والشهورُ مَناصِلُ

وترْنُو لآمالٍ بعُمْرٍ نهارُه

قصيرٌ وقِيعانُ الأماني أَطاوِلُ

رأيت ذوي التِّيجانِ ثُلَّثْ عروشُهم

وتنظُر في الأركانِ يوماً عَنادِلُ

وتغترُّ بالدهرِ الدَّنِّي وجاهِه

فمَن رام بالجاهِ المُجاهاةَ جاهلُ

ولو لم تكن تجلُو السَّرِيرةَ بالتُّقى

صباحَك لَهْواءٌ ويومَك هازِلُ

ص: 361

فلا تعتمدْ دهراً بُلِيتَ به فما

ترى الخلق إلَاّ وهْو جاءٍ وراحِلُ

ومن حام فيه ساعةً مستمرَّةً

على ما ارْتضاه فهْو ساهٍ وغافلُ

ولا تحتْظِي فيها البرايا فإنَّها الدَّ

قيقُ وأنَّاتُ الدَّواهِي المَناخلُ

منها:

أيا نفسُ ما هذا التَّنافسُ في المُنَى

أما تنظُرين الدهرَ ماذا يُحاوِلُ

يُروِّيك من ماءٍ أُجاجٍ مكرَّرٍ

وأرْيُك منه سَلْسَلٌ وهَلاهِلُ

ترُومينَ عيشاً رائغاً ومَعالِياً

وذلك سَفْسافٌ حوَتْه الحسائلُ

وأمْلَتْ لكِ الأيام في العصرِ بُرْهةً

تمُرُّ بك الموتى وتجرْى المَحاملُ

وليلُ سبيلِ البَيْن أسودُ حالكٌ

وتُصْطاد أنمارٌ به ورآئلُ

أتَسْري بدخْياءِ الليالي وأُطْفئتْ

بتسْريحِ أرْواح الذنوبِ المَشاعلُ

بَنيْتَ دياراً قد نَبَتْ بك نَبْوةً

وتُلْهيك رَوْضاتٌ بها ومَجادِلُ

ستثْوِي بقَاعٍ صَفْصفٍ وتحُلُّه

أَو إلى خيول جُلْنَ فيه المغاسلُ

عَمُوا أيها الشَّافون منها جُيودهم

ودوموا وقُوموا واستقيموا وحاملُوا

صَباحةُ فجر الوصلِ أبدتْ طَلاقةً

ألا أيها الإخوانُ قوموا فناوِلُوا

كؤوسَ رحيقٍ فاح كالمسكِ نَشْرُها

بنَشْوتها تُنْسى الرَّدى وتُجاملُ

تُسِيحُ صَمِيمَ القلب ظَمْياءُ كُرْبةً

إذا أبْطأتْ في الدَّوْرِ تلك الذَّبائلُ

تجودُ بأفنانِ الذنوبِ جوارحِي

وطَرْفي بأقْطارِ النَّداية باخلُ

أتاكِ إلهي صاغراً متأسِّفاً

على ما جَناها وهْو جَدْواك سائلُ

مُقِرٌّ بما يكْبُو ويهْفُو وذاكرٌ

كثيرُ خطِيئاتٍ أقَلَّ وعائلُ

أحمد بن زين الدين، المعروف بمنطقي هو وإن كان بدمشق مولده ومرباه، وبمائها وهوائها سقي فترنح غصن رباه.

فله من الفارسية أوفر قسم، ومن التركية ما يتخيل أنه وإياه روح وجسم.

ولحق بالروم فصار منهم، وإن لم يكن يفوق على أبلغ بلغائهم فلم يقصر عنهم.

فرمت له عن قوسها الروم، واتفقت على تفضيله الأعلام والقروم.

وعهدي بمن يفرق الرث من السمين، ويعرف فضل الورد على الياسمين.

يقول: إنه فطنٌ يتلهب شرار عفاره ومرخه، ومحسن إذا نطق بشعره، استوقف الطير في منقاره وزق فرخه.

وأشعاره متنفس خواطر الشعراء، ومن أراد محاكاتها في حسن التأدية نبذ بالعراء.

وقد أوردت من شعره العربي قطعةً تشهد له بالإحسان، شهادة الروض الأريض بفضل ماء نيسان.

وهي قوله:

سقتِ الرياضَ دموعُ عينِي الجاريَهْ

فبدتْ تراجُعها عيونٌ باكيَهْ

وسَرْت لأغصانِ الوُرودِ فأصبحتْ

أكْمامُها منها قلوباً داميَهْ

دمعِي تبدَّل بالشَّرارِ وكيف لا

وجحيمُ قلبي فيه نارٌ حاميَهْ

ماذا عليَّ من الجحيمِ ولم تزلْ

نارُ المحبَّةِ في وجودِي باقيهْ

يا سادةً لمَّا بدا سلطانُهم

ملَك القلوبَ من الأنام كما هيَهْ

تلْوِي غصونُ قُدودهم أيدي الصَّبا

وقلوبُهم مثلُ الحجارةِ قاسيَهْ

لم يبْقَ لي ثمنٌ يُقاوم وَصْلَكُم

إلا المحبةَ والمحبةُ غاليَهْ

الجسمُ ذاب من الجفا والقلبُ رَهْ

نٌ عندكم والرُّوحُ منِّي عاريَهْ

مُنُّوا عليَّ بنظْرةِ فوَحقِّها

قسَماً بمَن أبْرَى النفوسَ الفانيَهْ

لو مَرَّ بي مَيْتاً نسيمُ ديارِكمْ

سَرَتِ الحياةُ إلى عظامِي الباليَهْ

عطاء الله بن نوعي، المعروف بعطائي ضافي ذيل النباهة، صافي ماء البداهة.

ما أعافه طبعٌ، ولا جف له نبع.

وأنا أتحققه كلما أطاب، ولم يخرج من خزينة رؤيته إلا جواهر شفافةٌ ولآلٍ رطاب.

ص: 362

بمحاورات يحمر لها خدود الشقائق من الخجل، ومحاضرات تكاد تخلص الحياة من يد الأجل.

وله كتاب الذيل على الشقائق النعمانية، في علماء الدولة العثمانية.

أجاد فيه سجحاً وتقفية، ووفى الحسن أكمل توفية.

وكلامه في المقفى والموزون، سلوة المغموم وفرحة المحزون.

ولم يبلغني من شعره العربي إلا قوله:

ولمَّا توالتْ للزمانِ مصائبٌ

لكلِّ رَذِيلٍ بالرَّذالةِ مُعْلَمِ

ترامتْ بهم أيدي المَنايا عن المُنَى

إلى حيث ألْقت رَحْلها أم قَشْعَمِ

وعربت له بيتاً ذكره في ترجمة شيخ الإسلام زكريا، وقد ولي الإفتاء في سنة إحدى وألف، وهو:

في رأسِ كل مائةٍ يجِيءُ مَن

يُجدِّدُ الدينَ بديعَ الوصفِ

ومثلُ ذا مُجدِّدٌ للدِّينِ لا

يجِيءُ إلا واحداً في الألفِ

ولده محمد ابن أبيه، فالأصل نبيهٌ والفرع شبيه.

مشى على أثره، وضرب على محكمه في نظمه ونثره.

إلا أنه قدح، وأبوه مدح.

وتجاوز في الأمد، وشفى الحقد والكمد.

وهو وإن أتى بما عليه رونق وحلاوة، إلا أنه من هذا الأمر فالج ابن خلاوة.

فالله يعفو عنه وعني، وعن كل من يتكلم بما لا يعني.

فمن شعره قوله:

يأوِي إلى الحمَّامِ في أوطارِهم

أهلُ المعالي عند إعْوازِ الخدَمْ

حتى إذا ما حمّلوا فوق الرِّضا

حكمَ القضا في بيْته يُؤتَى الحَكَمْ

هذا المثل مما زعمت العرب وضعه على ألسنة البهائم، قالوا: إن الأرنب التقط ثمرةً فاختلسها الثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب.

فقالت الأرنب: يا أبا الحسل.

فقال: سميعاً دعوت.

قالت: أتيناك لنختصم إليك.

قال: عادلاً حكمتما.

قالت: فاخرج إلينا.

قال: في بيته يؤتى الحكم.

هذا محل المقصود منه، وله تتمة طويلة.

ومما يناسب منزعه في التضمين قول بعضهم:

لنا عالم يُؤْتَى فيأتِي بحُجَّةٍ

على ذاك من أخبار علمٍ وآياتِ

وقلنا له الإسلام يعلُو ولم يكن

ليُعْلَى فقال العلم يُؤْتَى ولا يأتِي

محمد بن داود المعروف برياضي شاعر بارع، متسنم لرتب البراعة فارع.

تؤثره أدباؤهم على غيره، ومن أراد منهم نهج البلاغة سار على سيره.

اشتهر ذكره، واستطار شرراً فكره.

ونهض فنهضت بنهضته همم، وتكا فأسمعت كلماته من به صمم.

وله أدب شعشع به البدائع وروقها، وقلدها بمحاسنه النوادر وطوقها.

فرياض أدبه لا تعرف أزهارها الذبول، إذا ما هبت نسماتها استخلفت الصبا والقبول.

فمما عربته من مفرداته:

إذا تذكَّرتُ منه رِيقاً

ترحَّل الصبرُ والقَرارُ

إن عَزَّوِجْدانُه بمصرٍ

لله في الأرض قُنْدُهارُ

ومنها هذه الرباعية:

أهْوَى قمراً فاق على الأقْمارِ

قد قيَّد بالحسن خُطَى الأبْصارِ

لا أرغبُ في الحياة إلَاّ طمعاً

في رُؤيته فهْي مُنَى الأعْمارِ

أويس، الشهير بويسى شاعر منشٍ، وناسج موشٍ.

لا يسدي إلا ألحم، ولا يناظر إلا أفحم.

اشتهر بالإحسان اشتهار الزهر بأويس، ولم يقابل مجاريه ومباريه إلا بويح وويس.

أعرب بفنونه، واعترى القلب بفتونه.

وآثاره مما تنفع الكبراء على أسمارها، وترقم ببدائعه هالات أقمارها.

أوتي في اللسان بسطة، كما منح في اليراع نشطة.

فكأن المعاني حاضرةٌ على طرف فمه، والألفاظ مترقبةٌ لأن يجريها على بنانه وقلمه.

وقد ترجم السيرة النبوية فأحسن كل الإحسان، وأطاعته فيها الفقرات إطاعة القوافي الحسان.

فشكر صنيعه من اتسم بكمال النهى، وأحله هذا الأثر من مراقي العز فوق فرق السها.

وله غيره من الآثار في الفنون، بما يحقق تمكنه من الاطلاع للظنون.

ومن جيد معانيه المنقولة قوله:

شجَرُ الخِلافِ يقول للنَّهرِ

أنا مُرْتَوٍ بنَوالِكَ الغَمْرِ

والنهرُ أيضاً قائلٌ وأنا

في ظلِّ فَضْلِك دائماً أجْرِي

وحللت من أبياته: الباطل باطلٌ لا شبهة تنافيه، لكن ربما ظهر في صورة الحق فشك المفكر فيه.

عمر المعروف بنفعي ابن الرومي بعينه في الهجا، فكأن ذاك ما راح وهذا ما جا.

ص: 363

لو قرع إبليس بهجوه لتاب، أو رمي مارد بجذوةٍ منه لذاب.

وكله إذا فتشت فيه، وساوس أغراضٍ يمليها فكره على فيه.

فمكواته لا تفارق النار، وإذا جهل فعلى أعلى المنار.

بفكرٍ يرد السيف مثلماً، والرمح مقلما.

ويصير القمر للعمر هادما، ولا يدع الواصف للعسل بقيء الزنانير نادما.

ولقد رأيت أهاجيه مرارا، فأعرضت عنها تقطباً وازورارا.

لأن نحسها أدى إلى رداه، ومكن من وريده حسام عداه.

فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وترك من لا يرد سهام ملامه وتقريعه من خلفه.

وهو على بذاءة لسانه، يجيد في التغزل بحسن القول وإحسانه.

وكل معنىً مبتكر، لا تحوم حول حماه الفكر.

فمنه على ما عربته:

أسَرْتَني بلَحْظِ طَرفٍ ساحرِ

أوْقعتنِي فيه بقَيْدِ الناظرِ

باللهِ صُنْ صائلَ الفَرْعِ ولا

تُخلِّني في هَمِّ قيدٍ آخَرِ

عبد الباقي، المعروف بوجدي السيف القاطع، والكاتب المتناسب المقاطع.

أي وقارٍ في تلطف، وأنسٍ مع حسن تعطف.

إلى خلق كما هبت صبا نجد، وطبعٍ يمتلي به المشغوف وجداً على وجد.

وهو في الأدب ممن بعد شأوه، وله شعر يعلم منه مقداره وبأوه.

منه ما عربته:

ما تراءَى لي ذلك الوجهُ إلَاّ

قام فيه لَوْنُ الحَيَاءِ نِقابَا

عجباً من سَواد مِرْآةِ حَظِّي

قابلتْ نُورَه فصار حِجابَا

نائلي رب فصاحةٍ وبراعة، وفارس دواةٍ ويراعة.

نبغ وتفوق، وتصفى كأس أدبه وتروق.

وراح في الحلبة واغتدى، واكتسى بأحسن الحلة وارتدى.

وما زالت تعله الرياسة وتنهله، والدهر ييسر أمله الأقصى ويسهله.

حتى استقامت أسبابه، وتمتعت حيناً برونق أيامه أحبابه.

على توفر حظوظٍ شارقة، وإخفاق سحب أمانٍ بارقة.

وهو في الأدب ممن استحسن منزعه، واستعذب من مثله مشرعه.

وطبعه في الشعر العارض إذا هتن، وما أرى إلا أنه أراد أن يشعر ففتن.

فمما عربته من بدائعه قوله:

أيها الطالبُ شمسَ الأُفْقِ منْ

مسكنٍ عزَّتْ به وامْتنعتْ

ارْجُ قُرْبَ الوصل إن الشمسَ في

شَرَكٍ من عارضيْه وقعتْ

فهيم شابٌّ شب في حجور الآداب، وتعلق من الشعر الغض بتلك الأهداب.

فجاء منه بما تستعير لطفه الشمائل، وبرق به النسيم إذا سرى بين الخمائل.

وقد تغرب في عنفوان شبابه، وغاص في بحبوحة التفنن وعبابه.

فأرضعته الحنكة بلبانها، وأدبته الدربة في إبانها.

فكان أبرع من أورد اليراع في محبرة، وهز غصنها في روضة طرسٍ محبرة.

إلا أنه كان لا يقتصر على سمت، ولا يخلو من انحرافٍ وأمت.

وقد نزع إلى سلوكٍ ورياضة، واستحسن عن الزخرف بالخشن تبدله واعتياضه.

وله ديوان شعر موجود بأيدي الناس، وأكثره غزليات من أدق رقى الوسواس الخناس.

فمما عربته منها:

عجبتُ من لَحْظِ ظَلومٍ في السَّطَا

يُعلِّم التظلُّمَ المظْلومَا

سليمان، المعروف بمذاقي ظرف الظرف، وقوة الطرف.

وزاملة النتف، وأطروفة الطرف.

كنه الأخبار حديثاً وقديما، فلهذا اتخذه الكبراء جليساً ونديما.

فهو على القدح ريحانة، وفي الكأس سلافة حانة.

وكان مولعاً بالصناعة، ولديه منها توسع في البضاعة.

فهو قمريٌّ التصوير، شمسي التأثير، ومحله ما بين فلك عطارد والفلك الأثير.

وله شعر عذب المساغ حلو المذاق، ورتبته في الأدب رتبة المهرة الحذاق.

فمما عربته من كلامه:

ما أخْجلَ الحِبَّ عَتْبُ صَدِّ

جَنَى به الطَّرْفُ وردَ خَدِّ

بل أشعلَ الحسنُ فيه جمراً

قطَّر للرِّيق ماءَ وردِ

قلت: هذا معنى لطيف.

ولأبي الطيب صالح النقري من شعراء المركز، ما هو منه من أبيات:

أنْضجْتُ وردةَ خدِّه بتَنَفُّسِي

وظلَلتُ أشربُ ماءَها مِن فِيهِ

وحليت من شعره: كثيراً ما يغم العاشق فكرٌ يتصور في خياله، والمعشوق في شغلٍ عنه يمنعه أن يمر بباله.

وقس على هذا الحال المعارف يتوقع منهم المكروه، وأما الأجانب فالمرء آمنٌ مكائدهم من كل الوجوه.

نابي هو الآن في الأحيا، يوازن بمكارمه الصيب إذا حبا وأحيى.

آخذٌ بأسباب المحاسن جملةً وتفصيلا، ومستوعبٌ أدوات الفضائل غريزةً وتحصيلا.

ص: 364