المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مناجاته كلُّها سكَّرٌ وأرْي، وفكاهاته ملؤها شبع ورِيّ. وقد عبثت به - نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة - جـ ١

[المحبي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌الباب الأولفي ذكر محاسن شعراء دمشق

- ‌الشام ونواحيها لا زالت طيبة العرار والبشام

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌دَوْر

- ‌دَوْر

- ‌دَوْر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌بسم الله الرحمن الرحيمبقية الباب الأول

- ‌في محاسن شعراء دمشق ونواحيهافصل ذكرت فيه مشاهير البيوت

- ‌السيد محمد بن السيد كمال الدين

- ‌أخوه السيد حسين

- ‌السيد عبد الرحمن

- ‌السيد عبد الكريم

- ‌السيد إبراهيم

- ‌شهاب الدين بن عبد الرحمن

- ‌أخوه إبراهيم

- ‌فضل الله بن شهاب الدين

- ‌ علي بن إبراهيم

- ‌ حفيده إسماعيل

- ‌ولده عبد الغني

- ‌أحمد بن ولي الدين

- ‌ولده عبد الوهاب

- ‌عمر بن محمد

- ‌حفيده محمد بن علي

- ‌حسين بن محمد

- ‌القاضي محب الدين

- ‌عبد اللطيف

- ‌ أخوه محب الله

- ‌محمد بن عبد اللطيف الشهير بالخلوتي

- ‌ السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله

- ‌فصل

- ‌محمد بن عمر الصوفي

- ‌على بن جار الله

- ‌حافظ الدين العجمي

- ‌مرعيّ بن يوسف الكرميّ

- ‌‌‌فصل في معاتبةٍ

- ‌فصل في معاتبةٍ

- ‌فصل في الحثّ على المواعيد

- ‌فصل في شكوى حال غريب

- ‌فصل في مخاطبة محدّث

- ‌فصل في مخاطبة منطقيّ

- ‌فصل في مخاطبة نحويّ

- ‌خير الدين بن أحمد الحنفي

- ‌نجم الدين بن خير الدين

- ‌أحمد الخالدي الصفدي

- ‌حسن الدّرزيّ العيلبونيّ

- ‌محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصّيداويّ

- ‌حسين بن عبد الصمد الحارثيّ

- ‌ولده بهاء الدين

- ‌حسن بن زين الدين الشهيد

- ‌سبطه زين الدين بن محمد

- ‌السيد نور الدين بن أبي الحسن الحسيني

- ‌ولده السيد جمال الدين

- ‌أخوه السيد علي

- ‌نجيب الدين بن محمد بن مكي

- ‌محمد بن حسن بن عليبن محمد، المعروف بالحر

- ‌محمد بن علي بن محمود الحشريّ

- ‌حسين بن شههاب الدينبن حسين بن محمد بن يحيى ابن جاندار البقاعي الكركي

- ‌عبد اللطيف البهائي البعلي

- ‌حسن بن درويش الكاتب الطرابلسي

- ‌عبد الجليل بن محمد الطرابلسي

- ‌رجب بن حجازي المعروف بالحريري الحمصي

- ‌فصل في وصف عمامة

- ‌المعروف بابن الأعوج

- ‌الباب الثاني في نوادر الأدباءبحلب الشهباء

- ‌مصطفى بن عثمان البابي

- ‌السيد موسى الرَّامحمدانيّ

- ‌أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني

- ‌السيد محمد بن عمر العرضي

- ‌فتح الله بن النحاس

- ‌السيد أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب

- ‌ولده السيد باكير

- ‌ السيد عبد القادر بن قضيب البان

- ‌ولده السيد محمد حجازي

- ‌السيد عبد الله بن محمد حجازي

- ‌ السيد يحيى الصادقي

- ‌السيد عطاء الله الصادقيّ

- ‌السيد محمد التقوى

- ‌السيد أسعد بن البتروني

- ‌السيد حسين النبهاني

- ‌القاضي ناصر الدين الحلفاوي

- ‌محمد بن تاج الدين الكوراني

- ‌ولده أبو السعود

- ‌محمد بن أحمد الشيباني

- ‌حسين بن مهنا

- ‌محمد بن عبد الرحمن

- ‌محمد بن الشاه بندر

- ‌صالح بن قمر

- ‌صالح بن نصر الله المعروف بابن سلوم

- ‌مصطفى الزيباري

- ‌مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي

- ‌محمد بن محمد البخشي

- ‌إبراهيم بن أبي اليمن البتروني

- ‌أحمد بن محمد المعروف بابن المنلا

- ‌محمد بن حسن الكواكبي

- ‌الباب الثالثفي نوابغ بلغاء الروم

- ‌الباب الرابعفي ظرائف ظرفاء العراق

- ‌والبحرين والعجم

- ‌شعراء البحرين

- ‌فصل جعلته للمعرباتقديماً وحديثاً

- ‌الباب الخامسفي لطائف لطفاء اليمن

- ‌ذكر بني القاسم الأئمة

- ‌ذكر آل الإمام شمس الدينبن شرف الدين بن شمس الدين

- ‌فائدة

الفصل: مناجاته كلُّها سكَّرٌ وأرْي، وفكاهاته ملؤها شبع ورِيّ. وقد عبثت به

مناجاته كلُّها سكَّرٌ وأرْي، وفكاهاته ملؤها شبع ورِيّ.

وقد عبثت به يد اللأْواء، فصيَّرته طوع مقتضيات الأهواء.

فحاله أضيق من فم الحبيب، وأشدُّ غصَّةً من يأس الطبيب.

إلا أنه وإن أرهقه الدهر بصرفه، ونبَا به كأنه سهادٌ في طَرفه.

فصفحته يُغشي العيون ائتلاقُها، وشيمته ما غير المكارم اعتلاقها.

وله شعر جاش به خاطره، فجاء كزهر الرياض فاح عاطره.

فمنه قوله:

ثنيْتُ عِنانيَ من فتيةٍ

يرونَ من العارِ علْمي وكُتْبي

وكانُوا صِحابِي على زَعْمهمْ

وكلُّهم قد تهيَّا لحرْبِي

فأعرضتُ عنهم لهم قالِيا

ولم آلُ جُهداً بشتمٍ وسَبِّ

وإذْ ذاكَ لو هتفوا بي هَلُمَّ

لما كنتُ يا صاحِ ممَّن يُلَبِّي

وقوله:

لأقول لأهيفٍ أضْحى بقلبي

مُقيماً باختيارٍ وانْقيادِ

أيَا حُلوَ اللَّمى واصِل مُحِبًّا

ولا تقصِد مُحِبَّك بالبعادِ

وبرِّدْ غُلَّتي بالوصلِ إني

أخاف عليك من حَرِّ الفؤادِ

وقوله:

سقياً لموقفِنا العشيَّةَ بالحِمَى

نشكو الغرام ولفظُنا الألحاظُ

وعواذلي لما تشابَه أمرُنا

هجَعوا أسًى لكنهم أيْقاظُ

فكأنَّنا المعنى المُرادُ لطافةً

وكأنَّهم في ضِمْنِها ألفاظُ

وله من قصيدة، مطلعها:

لك لا لغيرِك في البريَّة أعشقُ

يا مَن به ثوبُ الحشَا يتمزَّقُ

يا مخجلَ القمرِ المنيرِ وفاضح الظَّ

بي الغريرِ لك الجمالُ المشرقُ

إني أضعتُ جميعَ عمري رغبةً

في أن يرى لي من ودادك مَوثقُ

يا من به أضحى فؤادي راتعاً

في روضةٍ بجمالهِ تتنمَّقُ

وغدا لساني ناطقاً في حبِّه

بمدائحٍ تعلو ومدحٌ يشرقُ

يا عاذلي في غير حبِّك مطمعٌ

كلَاّ ولا قلب يميلُ فيعشقُ

أُمسي وأصبحُ في هواك بمقلةٍ

تندى وقلبٍ من جلالك يخفقُ

بالله يا فردَ الورى في حسنه

ارحم فريدَ هواك فهو الأليقُ

وتلافَ قبل تلافهِ فلقد غدا

في نزعِ ثوبِ الإصطبارِ يفتِّقُ

واسألْ مضاجعةَ الضَّنى ورفيقه

أعنى النحول ترى الهوى وتصدِّقُ

ومن مقاطيعه قوله:

وقالوا الذي تهواه أصبح هاجراً

وقد كان قدماً واهباً لنوالهِ

فقلتُ لهم ماذا يضرُّ لأنني

شغلتُ به عن هجرِه ووصالهِ

قوله: شغلت مضمَّن من قول بعضهم:

وقائلةٍ أنفقتَ عمرَك مسرفاً

على مسرفٍ في تيهه ودلالهِ

فقلتُ لها كفِّي عن اللوم إنني

شُغلتُ به عن هجره ووصالهِ

‌فصل

ذكرت فيه طائفةً تتلو تلك، من الشعراء الذين كل منهم لزينة الحياة درَّة سلك.

قد جمعني وإياهم الزمان والمكان، وأراهم خلفوا من دخل في خبر كان، على أبدع ما في الإمكان.

وهب الله لهم أعماراً بقدر ما يرضيهم، ولا أعدمني التمتُّع بآدابهم على تنائي أراضيهم.

وكفانا ما نرجع إليه من تجازي النِّيَّات، إنه العالم بالخفيات، والمطَّلع على ما تتكافى به الطويَّات.

عبد الرحمن بن إبراهيم الموصلِي هو في الميدان سابقٌ طلقٌ عنانه، وكأنما حُشِر الصَّواب بين بيانه وبنانه.

من ملأٍ رتعوا بأنضر خميلة، وبذلوا ما شاء السَّماح من عارفةٍ جميلة.

مكانه في السُّراة ذروة التَّمام، وليديه في الجود آثار الغمام.

لا يتبوأ إلا ظلَّ الكرامة الأندَى، ولا يبيتُ إلا حيث المحلَّق والنَّدى.

وقد متَّعني الدَّهر برهةً بحضرته، فتقلَّبت معه في بهجة العيش ونضرته.

وسمعتُ لفظاً غذاء الرُّوح، وشاهدتُ خلقا فيض الملائكة والروح.

إلى تثبُّتٍ يستخِفُّ الجبال الرَّواسي، وانعطافٍ يلين القلوب القواسي.

وأنا من ذلك العهد لا أفتر عن تذكُّره بخاطري، وأتمثَّل شخصه في ضميري حتى كأنَّه حاضري.

وله أشعارٌ كلَّها نكت للمتملِّي، وملح للذيق المسْتحلي.

وفيه نخبٌ للفتَّاك، وسُبحٌ للنُّساك.

ص: 112

يقول ما يشاء فتستحسنه، وتريد الطير تحكيه فلا تحسنه.

وقد أثبتُّ له ما يسترقص الجمادات طربا، ويترك في كلِّ قلبٍ مضطرَبا.

فمنه قوله:

عجزَ الرُّفاةُ عن الحجى ورِقائِه

وكذا الأُساةُ عن الهوَى ودوائِهِ

ثكلتْهم الأعشابُ ويحَ كِبادِهم

لم يعلموا ما حلَّ في سودائِهِ

حلوا المراكِب والغرائِم واتركوا

كلاًّ يروحُ مزمَّلاً ببلائِهِ

أبَنِي الصَّبابة والهوَى من بعدِنا

إنِّي لكم هيهات من زرقائِهِ

ليس الهوَى بسفاهةٍ من كالحٍ

فدعُوا الغرامَ ومنتدَى عدوائِهِ

إنَّ الصِّيانةَ واللَّطافةَ والحيَا

علمٌ عليه يدلُّ من أسمائِهِ

فهي الأمانةُ أنبأتْ عن فضلِ من

فتقَ العبيرَ وخصَّه بردائِهِ

وقوله من أبيات:

لئِن كنتُ أسعَى كلَّ حينٍ إليكُمُ

وتعكسُني الآمالُ عن حبكُم غصبَا

فلِي أسوةٌ بالنجمِ للشرقِ سِيرُه

مدَى الدهرِ والأفلاكُ تنجو به الغربَا

هذا من قول الأرَّجاني.

أنحوكُمُ ويردُّ وجهِي القهقَرِي

عنكُم فسيْري مثل سير الكوكبِ

فالقصدُ نحو المقصدِ الأقصَى لكُم

والسيرُ رأى العينِ نحو المغرِبِ

وقوله:

سلبُوا الغصونَ معاطِفاً وقُدودا

وتقاسموا وردَ الرياضِ خُدودا

طعنُوا القلوبَ بما تلاشى دونه

طُعْنُ الرماحِ وسدَّدُوا تسديدا

فتنُوا الورى بلواحِظٍ وتجاوزوا

بالفتكِ من نهبِ العقولِ حدودا

وتقاسموا أن لا يُراعوا ذِمةً

لمتيَّمٍ أو يحفظون عهودا

تركوا الحُلِيَّ شهامةً واسْتبدلوا

حُللَ المحاسنِ والبهاءِ ورودَا

فغدَوا بها مستعبدين أُلِي النُّهى

مما يشيقَك طارِفاً وتليدَا

نظمُوا الثَّنايا في المباسِمِ لؤلؤاً

تحت الزُّمرُّدِ والعقيقِ عقودَا

تَخِذوا البنفسج في الشَّقيق عوارضاً

والياسَمين معاصِماً وزُنودَا

بدَلوا الخُصورَ من الخناصِر رِقَّةً

واسْتبدلوا حُقَقَ اللُّجين نُهودَا

فهُم الملُوك الصائلون على الورَى

وهُم الظِّباءُ القائدون أسودَا

نظروا إلى الجوْزاءِ دون محَلِّهمْ

فعدَوا على هامِ السِّماكِ قُعودَا

من كلِّ من جعل الدجى فرعاً له

والبدرَ وجهاً والصباحَ الجِيدَا

رَيَّان من ماء النعيمِ إذا بدَا

خرَّتْ له زُهرُ النجومِ سجودَا

كالماء جسما غيرَ أن فؤادَه

أضحى على أهلِ الهوَى جُلمودَا

تزدادُ من فرطِ الحياءِ خدودُه

عند اسْتماع تأوُّهي توْريدَا

لو أبصرَ النُّصاحُ فائقَ وجهِه

عذَلُوا العَذولَ وحاربوا النَّفنِيدَا

أو لو رآه راهبٌ من بيعةٍ

ألقى الصليبَ ولازم التَّوحيدَا

كم ذا تُذكِّرني العقيقَ خدودُه

والطَّرف حاجِرَ والعِذارُ زَرُودَا

وإذا بدَا مُتلفِّتاً من عُجبِه

بالجِيد أذكرني طُلاه الغِيدَا

ما الظَّبيُ أحسنَ لفتَةً من جِيدِه

عند النِّفارِ وإن أقامَ شهودَا

يحْمِي اللَّمى والخدُّ عقربُ صُدغِه

عن واردٍ أو من يروم وُرودَا

قد رقَّ منه الخصْر حتى خِلتُه

عند اهْتِزاز قوامِه مفْقودَا

ما خُلْقُه إلا النَّسيمُ إذا سرَى

بين الرياضِ وإن طالَ صُدودَا

قلت: لولا أن قصدي استجلاب الثناء لهذا الأديب، لضننت بهذه الأبيات خوفاً من أن لا يراعى حقها عند أهل التأديب.

ولَوَدَدْتُ لو علِّقت في جبهة الأسد الكاسر، أو ضُمَّت للنيِّرات في الفلك العاشر.

ص: 113

وقد عارض بها الأبيات المشهورة، المنسوبة إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه:

غصَبُوا الصباحَ فقسَّموه خُدودا

وتناهبُوا قُضُبَ الأراكِ قدودَا

وتظافروا بظفائرٍ أبْدتْ لنا

ضوءَ النهارِ بليلها معقودَا

صاغوا الثغورَ من الأقاحِ وبينها

ماءُ الحياةِ قد اغْتدى مورودَا

ورأَوْا حصى الياقوتِ دون نحورِهم

فتقلَّدوا شُهْبَ النجوم عُقودَا

واسْتودعوا حدَقَ المها أجفانهمْ

فَسموْا بهنَّ ضَراغِماً وأسودَا

لم يكفِهم حدُّ الأسِنَّة والقنَا

حتى اسْتعاروا أعيُناً ونُهودَا

رُوِي مسنداً إلى أبي عمر بن شامل المالقي قال: لقيت يوماً الشيخ الخطير أبا محمد بن علي المالقي، وكان رجلاً مجاب الدعوة فقال لي: أنشدني.

فأنشدته الأبيات المنسوبات إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه المذكورة.

قال: فلما أتممتُها صاح الشيخ، وأُغمَى عليه، وتصبَّب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة، وقال: يا بني، اعذرني، فشيئان يقهراني، ولا أتملَّك عندهما نفسي: النظر إلى الوجه الحسن، والشعر المطبوع.

وبيت النهود مما يكثر السؤال عنه، وقد رأيت في شعر ابن عمار الأندلسي بما هو مثله. وهو:

كُفَّ هذا النَّهدَ عنِّي

فبقلبي منه جُرْحُ

وهو في صدرِك نهدٌ

وهو في صدري رُمْحُ

وأنا لم أدرك وجهه، ثم رأيت في شعر ابن خلوف ما بيَّنه بعض البيان، في قوله:

وقُدودٍ كأنَّهنَّ رِماحٌ

قد علَتْها أسِنَّةٌ من نهودِ

وأنشدني الموصلي لنفسه قوله:

هم يحسَبون دموعَ العينِ مذ عطَفوا

هي الدموعُ التي يوم النَّدى تَرِدُ

وإنما هي نصلٌ حلَّ في كبِدي

من نَبْل جَفنٍ ولم يشعُر به أحَدُ

فانْحلَّ ماءً أمْسَى يُقَطِّره

من اللهيبِ دموعاً ذلك الكبِدُ

ومن غزلياته الرقيقة، التي هي السحرُ في الحقيقة، قوله:

أما وبياضِ الدرِّ من ذلك الثغرِ

وما فيه من خمرٍ وناهِيكَ من خمرِ

أماناً وما بالطرفِ من كلِّ صارمٍ

يجول بأجفانٍ مُلِئن من السحرِ

يصول به في الناسِ ألطفُ شادِنٍ

بقلبٍ على العشَّاقِ أقسَى من الصَّخرِ

أسال عِذاراً فوق خدٍّ كأنه

سلاسلُ مسكٍ في صِحافٍ من التِّبرِ

وإلا فنملٌ دبَّ فوق شقائقٍ

مبلَّلُ أطرافِ الأناملِ بالحِبرِ

بعيدُ مناطِ القرطِ أشهَى لمُعسرٍ

إذا ماسَ تِيهاً بالدلالِ من اليُسرِ

وأحلَى من الماءِ الزُّلالِ على الظَّما

وأوقعُ معنًى في النفوسِ من النصرِ

يكادُ من القمصانِ لولا وِشاحه

إذا فكَّتِ الأزارارُ من لطفِه يجرِي

فكم ثمَّ دون الجِيدِ منه مآرِبٌ

من الخَصرِ تدعو العاشقين إلى النَّحرِ

فمذ خبَّروني أن كوكبَ خدِّه

يُقارنه المرِّيخُ أحسستُ بالشَّرِّ

ركبتُ هواه بُكرَةَ العمرِ راكِباً

مطايا شبابي وارتياحي مع الفجرِ

فأشفقتُ منه في الظَّهيرة راجِلاً

يُرِيني نجومَ الأُفقِ في ظُلمةِ الهجرِ

متى قلتُ هذا الصُّدغُ أبدَى عقارِباً

وإن رمتُ أجنِي الوردَ أحماه بالجمرِ

أحماه مثل حماه، إلا أنه يقال فيما امتنع وتُنودِر، كما هنا.

وإن مِلتُ نحو الثغرِ قالتْ عيونُه

يَزيدكَ هذا الخمرُ سكراً على سُكرِ

قريبُ مرام النَّفس لطفاً وإنه

لأعلَى منالاً في الأنامِ من البدرِ

ترقَّى به شعرِي فعزَّ منالُه

وأمسَى كعقدِ الدُّرِّ يزهو على الصَّدرِ

لئِن جادتِ الأيامُ يوماً بوصلِه

يميناً فإني قد صفحتُ عن الدهرِ

قوله: وإلا فنملٌ إلخ، من قول الوزير المغربي:

أوحَى لوجنتِه العِذارُ فما

أبقَى على ورَعي ولا نُسكِي

ص: 114

وكأن نملاً قد دببنَ بها

غُمِستْ أكارِعهنَّ في مِسكِ

ثم رأيت ما هو عين المأخذ في قول العز البغدادي:

كأن عِذارَيهْ اللَّذين تراسَلا

هلالان من مسكٍ وبينهما بدرُ

مُنمْنمَةٌ فوق الخدودِ كأنها

مشَى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبْرُ

وقد ضمَّن هذا المصراع بعينه، في أبياته المشهورة، حيث قال:

أنَبتُ عِذارٍ أم شائقُ روضةٍ

مشى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبرُ

أم العنبرُ المفْتوتُ من فوق وجنةٍ

أسالتْه نار الخدِّ فانْبهمَ الأمرُ

فحيَّى عِذاراً أذهل الصبُّ مذ بَدَا

وإن ضلَّ فيه العقلُ واختلطَ الفكرُ

يتيهُ به لدْنُ القَوامِ مهفْهَفٌ

له في اختلاسِ العقلِ من حُسنِه عُذْرُ

هِلالٌ إذا ما قلت أمسى جَبينه

صدقْتَ ولكن دون طلعتِه البدرُ

تعلَّم منه الظبيُ لفتةَ جِيدِه

ومن طرفِه الوسْنانِ يُسْتنبَط السحرُ

متى صافحتْ سمْعي رقائقُ لفظِه

ترى كلَّ عضوٍ داخلَهُ السكرُ

يُمازج ألفاظَ البلاغة صوتُه

فيبدو لنا دُرًّا وفي ضِمنه خمرُ

وتشكو ارتجاجَ القُرطِ صفحةُ جِيدِه

كما بات يشكو من غدائرِه الخصرُ

يخبِّر عن كأسِ المَنونِ بصَدِّه

ويقْتلني منه إذا هجَر الهجرُ

به غزَلي أضحى وفيه مدائِحي

ومنِّي لمعنى حسنِه النظمُ والنثرُ

وقوله: يكاد من القمصان لولا وشاحه، من قول بعضهم:

أخْشى الْتماسَ يديْه من ترَفٍ به

وأظنُّه لولا الغلائِلَ سالا

خالد الكاتب:

قد صاد قلبِي وصار يملكهُ

فكيف أسلُو وكيف أترُكُهُ

رطيبُ جسمٍ كالماءِ تحسَبه

يسلُك في القلبِ منه مسْلَكُهُ

يكاد يجري من القميصِ من النِّ

عمةِ لولا القميصُ يُمسِكُهُ

وقوله: فأشفقت منه إلخ، العرب تصف اليوم الشديد بظهور النجم فيه.

قال أبو صخر الهُذليّ:

إنِّي أرَى والطرف في سَيْرِي

وَضَحَ النهارِ وعالِيَ النَّجمِ

وقد تصرف فيه المتأخِّرون وتظرَّفوا، كابن لؤلؤ في قوله:

أمولايَ أشكو إليك الخُمارْ

وما فعلتْ بي كؤوسُ العُقارْ

وجوْرَ السُّقاةِ التي لم تزلْ

يُريني الكواكب وسْطَ النهارْ

ولمجير الدين بن تميم:

بأبي أهيَفَ تبدَّى وحَيَّى

بابتسامٍ عدِمتُ منه اصطبارِي

فأراني بوجْهه ومُحيَّا

هُ نجوماً أُطْلعْنَ وَسْط النهارِ

ولقد أبدع وأغرب الشهاب الخفاجي، في قوله من قصيدة نبويَّة:

أتى يومَ بدرٍ وهو بدرٌ تَحُفُّه

نجومُ سماءٍ أطْلعتْها كتائبُهْ

فمذ برزوا في النَّقعِ شاهدَتِ العدى

بهم يومَ بُؤْسٍ لا تغيبُ كواكبُهْ

وللمترجم معارضاً أبيات الشاب الظَّريف، في قوله:

يا أحكمَ الناسِ أسيافاً وأسْبقهُمْ

في مهجةِ الصبِّ فتكا دونه الأجَلُ

وأنورَ الوجهِ في الدَّيْجورِ من قمرٍ

تحت الأكاليلِ مسبولٌ ومُنْسدِلُ

ما السحرُ ألْعبَ في الألبابِ من حَدَقٍ

دار الشُّمول به من طُرفِك الكَحِلُ

كلا ولا البرقُ للأبصار أخطفُ من

شقائقِ الخدِّ إن وافَى بك الخجلُ

من نظمِ ثغْرك وهو الدرُّ مبتسِمٌ

خمرٌ يزيدك فيه الشُّهدُ والعسلُ

في فترة الحسنِ من لَحْظَيْك هل فتكتْ

بواترُ الطرفِ أم من قدِّك الأسَلُ

ومذْ تمادتْ بنا الآجالُ واختلفتْ

عقائدُ القوم مَن للحبِّ قد جهلُوا

لو يدرِ ما الصحُو مذ بانتْ ركائبكُمْ

صريعُ جَفنٍ لأرباب الهوى ثَمِلُ

أستودعُ الله قلباً سار مرتحِلاً

بالخُرَّدِ الغيدِ ماذا السهلُ والجبلُ

وأبيات الظَّريف هي هذه:

ص: 115

يا أقتلَ الناسِ ألحاظاً وأعذبَهُمْ

رِيقاً متى كان فيك الصَّابُ والعسَلُ

في صحنِ خدِّك وهي الشمس طالعةً

وردٌ يَزيدك فيه الرَّاحُ والخجلُ

إيمانُ حبِّك في قلبي تُجدِّده

من خدِّك الكُتْبُ أو من لحظِك الرُّسُلُ

لو اطَّلعتَ على قلبي وجدْتَ به

من فعلِ عينيك جرحاً ليس ينْدمِلُ

وله:

أُسامِر عِشقاً من خلائِقه القتلُ

وحيداً ولا عهدٌ هناك ولا مطلُ

وأُصبِحُ ظمآناً وقد عقَر الظَّما

فؤادِي ولا وَبْلٌ هناك ولا طَلُّ

وكم أخصبتْ سُحبَ الأماني مطامعي

مَجازاً ويرميها من الوابلِ المَحْلُ

ورُبَّ عذولٍ فيه أشقَى مسامعِي

بعذْلٍ فيالله ما صنَع العذْلُ

أقول له والطرفُ يقذف مهجتِي

دموعاً لها من كل ناحيةٍ هَطْلُ

وبي من غرامٍ لو تجسَّم بعضُه

ومرَّ بأهل الأرضِ لافْتتَن الكُلُّ

ترقَّى إلى قلبي بكلِّ دقيقةٍ

جميعُ هوَى العشَّاق وانْقطع الحبلُ

السيد محمد الحصري نسيبٌ تناسب فيه المدح والنسيب، وحسيبٌ ما مثله في كرم الطباع حسيب.

له همَّةٌ سابغة المطارف، وسيادةٌ موصولةُ التَّالد بالطَّارف.

مُروَّق الأخلاق صافيها، مشمول الشمائل ضافيها.

تكاد ترى وجهك في خصاله، ولا تُغبن إذا اشتريت بنوم العيون يوم وصاله.

وله أدبٌ يطَّرد اطِّراد الغدير حفَّت به خضر الوشائع، وحديثٌ كأنه جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع.

وبيني وبينه وِدٌّ صميم، طيِّب العرف والشَّميم.

أستدعي الأمل لِلُقياه ولو في الأحلام، وأما اجتماعاتي معه فأكثرها تحية الرؤية والسلام.

وقد وقفت له على شعرٍ قليل، فأثبتُّ منه ما هو لرأسِ المجد إكليل.

فمنه قوله من قصيدة عارض بها قصيدة أبي الحسن علي الحصري، التي مطلعها:

يا ليلُ الصبُّ متى غَدَهُ

أقيامُ الساعةِ موعدُهُ

ومطلع قصيدته:

صبٌّ بالهجرِ تُهدِّدُه

قد ذاب جوًى من يُنجِدهُ

والسُّقم بَراهُ وأنحلَه

فلِذا ملَّتْهُ عُوَّدُهُ

سهرانُ الطرفِ له رقّتْ

في الليل نجومٌ تُسهدُهُ

وغدا يشكو من فرطِ جوًى

يا ليلُ الصبُّ متى غَدُهُ

حتى مَ بزَورٍ تُوعده

أقيامُ الساعةِ موعدُهُ

يهواهُ الصَّبُ فيشغلُه

أسَفٌ للبيْن يردِّدُهُ

قمرٌ في القلبِ منازلُه

فعجيبٌ منه تباعدُهُ

ريحانُ العارضِ فيه حوَى

خطًّا ياقوتُ مجوِّدُهُ

في الحسنِ فريدٌ بل ملكٌ

فتعالَى الخالقُ موجِدُهُ

طِفلٌ لحديث السحرِ غدَا

عن بابل طرفٍ يُسنِدُهُ

رَشأٌ اللَّيثُ بمُقلتِه

يسطو للغاب يُقيِّدُهُ

يرنو للحظِ فيحسبه

للقتل دعاهُ مهنَّدُهُ

بالله أُعيذُك يا أملِي

من قتلِ شجٍ تتعمَّدُهُ

وارْفُقْ بالقلبِ فإنَّ به

جمراً قد زاد توقُّدُهُ

واسمحْ بالغمضِ لعل بأنْ

في النومِ خيالُك يُسعِدُهُ

في قيْدِك قد أمسَى دَنِفاً

هلَاّ في ذاك تُخلِّدُهُ

وله من قصيدة مطلعها:

خفقتْ على قلبي بنودُه

رَشأ يعذِّبني صُدودُهْ

ساجِي اللَّواحظِ أغْيَدٌ

كالبدرِ يسْبي الظَّبيَ جِيدُهْ

غصنُ النَّقا لما رآ

هُ هوَى فكان لذا سجودُهْ

إن ماس في حُلَل البهَا

تزهو لطلعتِه برودُهْ

لا غَرْوَ أن فاقَ الملا

حَ فإنَّها طُرًّا جنودُهْ

فاللَّحظُ يُطمع بالوعو

دِ ولفظُه يبدو وعيدُهْ

نصبت حبائِلُ أدمعي

شركاً له فعسى يُصيدُهْ

فاصْطاد روحِي بعد ما

قد أوثقت قلبِي قيودُهْ

ص: 116

كيف النَّجاةُ وسهمُ نا

ظرِه بأحشائِي نَفودُهْ

يا فاتِكاً بعيونِهِ

في مُهجتي وأنا شَهيدُهْ

رِفقاً بحالِ متيَّمٍ

للنجمِ ناظرُه رَصودُهْ

واسْمح له في غَمْضةٍ

فلعلَّ لو طيفٌ يُعودُهْ

ما ضرَّ لو ناديتَ مَن

في الحبِّ لا تُنسى عهودُهْ

فاللومُ ليس منقِّصاً

وجداً تحكَّم بل يَزيدُهْ

وله من أخرى، مستهلُّها:

فؤادٌ من الهِجران فيك مروَّعُ

وقلبٌ من الأشواقِ والصدِّ موجَعُ

ومقلةُ عينٍ كُحِّلت بنجِيعِها

وفاضت على الخدَّين منهن أدمُعُ

فمن لي بِكتمان المحبَّةَ بعدما

أذاعتْ دموعي سرَّ ما كنتُ أُودِعُ

أبيتُ وفي قلبي من الشَّوقِ لاعِجٌ

وأغْدو وقَدْحُ الشوقِ في الصدرِ يلمَعُ

فلا الوجدُ إن بانَ الأحبَّةُ مُقلِعٌ

ولا الصبرُ إن دام التفرُّقُ ينفَعُ

ففتِّشْ خليلي عن فؤادِي أوَّلاً

أهلْ فيه للوجدِ المبرِّحِ موضِعُ

لك اللهُ هل يُرْجَى شفائِي من الهوَى

وهل بعد هذا للتواصُلِ مَطْمَعُ

ومن أخرى مستهلُّها:

يا أخا لبدرِ طلعةً وجبينَا

ونظيرَ الغصون قدًّا ولِينَا

مَن لنَا أن تَمُنَّ بالوصلِ يا مَن

قد جعلتَ الصدودَ في الحبِّ دِينَا

قد ضلَلْنا بليلِ فرعِك حتى

ضاء صبحُ الجبين منه هُدِينَا

نحن من مؤمنيِك في الحبِّ صِرنَا

فأغمِد السيفَ عن قتالِك فِينَا

ليس نخشَى حَدَّ الظُّبا من أُسودٍ

بل ونخشَى من الظِّباء العيونَا

وكفانا يا مُنيَةَ القلبِ أنَّا

من سَقامٍ ومن نحولٍ خَفِينَا

لو لقيتُ الحِمامَ ما كان يُدعَى

بعظيمٍ ممَّا به قد لقِينَا

فالأمانَ الأمانَ من طولِ إعرا

ضِك عمَّن في الحبِّ أمسَى رهينَا

والمحالُ المحالُ أنِّي أسْلو

ك وأُذْني تُصغِي إلى العاذلينَا

كيف أسْلو والوجدُ عندي عظيمٌ

والهوى في الضُّلوعِ أمسَى دَفِينَا

عبد الرحمن التاجي الخطيب البعلي أديبٌ سامي القدْر، متوقد كالقمر ليلة البدر.

حسن المحاضرة بالأشْيا، وارف الظِّلال والأفْيا.

يجري على طرف لسانه، ما ينطق الدهر باستحسانه.

وهو أخٌ لك فيه الغرض، جوهر أخلاقه لا يشوبه عرض.

وفيه لوْذَعِيّة تُحبِّبه، وبشاشة تزلِفه وتقرِّبه.

وبيني وبينه صحبة ألحمتْها الآداب وسدَّتها، ومودَّة ربطتْها موافقة القلبين وشدَّتها.

وهو اليوم طلق الشِّعر ثلاثا، ونقض غزله أنْكاثا.

وتخلَّص لعلمٍ ينفعه في الحال والمآل، ويجدِّد له في الله كلَّ آنٍ ما تعوَّده من أماني وآمال.

وقد أثبتُّ له من أوائل شعره كلَّ بديع الوصف، زارٍ على الجوهر في الشفافية والرَّصف. فمن ذلك قوله من قصيدة، مطلعها:

تذكَّرتُ أيام الصبابةِ والصِّبا

وعيشاً مضَى ما كان أحْلَى وأطْيبَا

زماناً به كانت يدُ الدهرِ برهةً

تُقمِّصني ثوبَ السعادةِ مُذْهَبَا

سقى الله ذاك الشَّعبَ غيثَ مَدامِعي

إذا الغيثُ يوماً عن مَغانيه قطَّبَا

مغانٍ بها كان ائْتلافُ مسرَّتي

وإقبالُ عيشي بالمسرةِ أخْصَبَا

منازلُ فيها للبدورِ مطالعٌ

على أن فيها للسحائِبِ مَسْحَبَا

أقمتُ بها بين البشاشةِ والقِرَى

وإن شئتَ قُل بين الأحبَّة والحِبَا

وكم سيق من نُعْمَى إليَّ ونعمةٍ

وكم قيل لي أهلاً وسهلاً ومرحبَا

أبيتُ أجُرُّ الذيلَ تِيهاً ورفعةً

ولا أرْتضي غير السِّماكيْن مضرِبَا

منها:

وليلةِ سعدٍ ما سعِدتُ بمثلها

مدى الدهرِى في تلك المعاطرِ والرُّبَى

ص: 117

أعانِقُ للآمالِ قدًّا مهفْهَفاً

وألثِمُ ثغراً للأمانيِّ أشنَبَا

فذاك زمانٌ كلُّ عيشٍ به رِضًى

وكلُّ نسيمٍ هبَّ من صَبْوتي صَبَا

وكنتُ أرى أن الزمانَ مُساعدي

فشِمتُ به برقَ الأمانيِّ خُلَّبَا

فبَيْنا تراني باسمَ الثغرِ ضاحكا

إذا بي أعَضُّ الرَّاحتين تلهُّبَا

وأنشدني لنفسه قوله من قصيدة، أولها:

بأبي أهيفٌ كظبيٍ غريرِ

صال فينا بسيفِ لحظٍ شهيرِ

ألف الصَّدَّ والنِّفارَ ولالا

ما عهدناه بالألوفِ النَّفورِ

أسرتني لحاظُه النُّجلُ عمداً

يا لَثارَ المتيَّمِ المهجورِ

أي ذنبٍ جنيتُ في الحبِّ حتى

صرتُ في العاشقين دون نصيرِ

عاذلي تركُك الملامةَ أحرى

لو تحرَّيتَ كنت فيه عذيري

لو تراه وقد أدار عذاراً

مثل وشيِ الطِّراز فوق الحريرِ

لعلمتَ الغرام إن كنت خِلْواً

وعذرتَ العميد عُذرَ بصيرِ

أو رشفتَ الزُّلال من ريقِ فيهِ

رُحتَ منه بسكرةِ المخمورِ

زار في غفلةِ الرَّقيب فأحيَى

ميتَ هجرٍ بسعيه المشكورِ

أوضح الفرقَ واستكنَّ بفرعٍ

فأرانا الصَّباح في الدَّيجورِ

بات سُكري منه بكأسِ حديثٍ

طيبُ أنفاسه لها كالعبيرِ

ريقُه العذبُ لي مدامٌ ونقلي

لثمُ خدٍّ بوجهه المستنيرِ

ثم وسَّدتُه اليمين وبتنا

في نعيميْ مسرَّةٍ وحُبورِ

ليلةٌ بالعفاف سرَّ بها الده

رُ فكانت كغرَّةٍ في الدُّهورِ

بدرُها رام أن ينِمَّ فأرجع

ناه منَّا بنفثةِ المصدورِ

هذه نفثة مصدور، تصدَّت لتصدية مرايا البدور.

ونجومُ السماءِ منظومةُ السِّم

طِ كنظم الجُمان فوق النحورِ

وسهيلٌ يلوح طوراً فطوراً

يتحامى كخائفٍ مذعورِ

والثريَّا قد آذنت بانقضاءِ ال

ليل تُومي لنا بكفِّ مشيرِ

شاهين بن فتح الله إنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، وفارع هضبة البيان وراقي مراقيه.

زرَّت على الفضل أطواقه، وما اهتاجت إلا للكمال أشواقه.

وهو من لطف الطبع أرقُّ من الصهباء في روق الصِّبا، ومن سلامة الناحية أطوع من قدود القُضب لراحة الصَّبا.

وإلى ما حواه من فكاهة يتسلى بها المهموم، ومحادثةٍ يجعلها النديم عوض المشروب والمشموم.

وشعرٍ كحلْي الخَود حواشيه تأتلف، ونثر كوَشيِ الروض رقومه تختلف.

ولما حللت القاهرة، أتحفتني الأيام بطلعته الزاهرة.

فنعتَني بِرَّه عفواً، وسقاني كأس وداده صفواً.

فقرَّت برؤيته عيناي، وأغناني بودِّه عن أهلي ومغناي.

فأنا وإياه بصدق العشرة نتَّسم، وبقدر الحب وحقِّ هواه نقتسم.

وقد أهدى إلي قصيدة أتحفني بها، وهي قوله:

خليليَّ ما أحلى الوصالَ بلا هجرِ

وما منه أشهى للمحبين بالحصرِ

نعمتُ به دهراً برَيعان نشأتي

وذلك من أحظى الحِبَى ليد الدهرِ

وبي أغيدٌ حلوُ الشمائلِ وجهُه

يري البدرَ حسناً وهو في صورة البدرِ

أحاديثُه كالشُّهدِ تحلو فكاهةً

إذا ما احتساها السمعُ أغنتْ عن الخمرِ

يُشعشِع فحواها ليَ الكأسُ لذَّةً

بنكهةٍ أزكى ما يكون من العطرِ

كأن نسيمَ الروض بات يعلُّه

فأهدى لنا من طيبِه طيِّبَ النشرِ

فكرِّر بذكر الكأسِ لي دَرّ دَرُّه

تعلَّة قلبٍ من جوى الحب في جمرِ

وإن يحكِ ريحَ الحب لطفاً فعاطني

وإن لم يسوِّغه الغناءُ على السكرِ

فيا بأبِي منه الدلالُ معشَّقاً

ويا حسنَ ذاك المعطفِ اللَّيِّن الهصرِ

ص: 118

رنا بقوامٍ كالقضيبِ ومُقلةٍ

يجول بهُدبيها غرارٌ من السحرِ

وماس وقد حار الوشاحُ بخصره

رَشاً لم يُطق حملَ الوشاحِ على الخصرِ

إليه تَوالاني هواه فمذْ رأى

ولوعِي به غطَّى التَّعارفَ بالنُّكرِ

وأغفى وقد ولَّى الغرامَ مقاتِلي

وولَّى ولم يعبأ بلومٍ ولا عذرِ

فقلتُ وقد ضاقتْ عليَّ وسائلي

أراجِعُه الطُّولَى بفكِّ عَنا أسري

حنانيك لا تسمع مقالا لكاشحٍ

بتنميقِه يُغوِي لمن بالجفا يُغري

على أنني رُحماك لا أحملُ الجفا

وقد نفِدت مني الذخائرُ من صبري

وجسميَ منهوكٌ ولبِّيَ ذاهلٌ

وقلبي أسيرٌ آهِ في قبضة الهجرِ

وعنِّي نأى زهوُ الشباب وليتَه

يعود ويثني لي الأعنَّة بالبشرِ

وهبْ أنني أثني إلى الودِّ عَزمةً

فأين زمانُ اليسرِ من زمن العسرِ

فيا سائلي أين الزمانُ وطيبُه

ألا فاسألِ الأيامَ تنبيك بالخُبرِ

لقد عوَّضتني الشِّيبَ عنه وإنه

يقال وقارٌ لو يقال بلا وقرِ

فمن بعده لم يصفُ عيشي ولم أمِلْ

إلى لذةٍ هيهات تهتِف في الفكرِ

وجانبتُ أنحاء القريضِ وسوحَه

بحيث أرى في سوقِه النَّضَّ كالغَرِّ

وحتى استماعي للقريضِ سئمتُه

كأن سيمَ سعرُ الشعرِ في الوزن بالشَّعرِ

وأوحشت الآداب عني فخلتُها

كمعنًى لمغنًى لاح كالآلِ في قفرِ

فحرَّك طبعي بعد ما كان جامداً

على ما امتطاه من كلالٍ ومن فترِ

وآنس من طورِ المعالي مُخاطباً

تجلَّى بأنواع المعاني على فكري

مشيراً إلى مولًى سجايا كماله

تهلُّ سحاباً بالفضلِ والبرِّ

ويُدعى بحقٍّ بالأمين وإسمُه

محمدُ من نسلِ الكرام بلا نُكرِ

ألا وهو مولانا المحبِّيّ إنه

رقيق حواشي الطبع ضخم ذُرى الفخرِ

ومن فتيةٍ سادوا وشادوا إلى العلى

دعائمَ مجدٍ نوَّرت عملَ الفجرِ

وهم في سماء السُّؤدد الشامخ الذُّرى

سراةٌ سرَوْا حدًّا له النجمُ لا يسرِي

وإنك يا مولايَ جاوزتَ حدَّهم

إلى مفخرٍ فوق السَّماكين والنَّسرِ

وحزتَ مجالا في المعارفِ واسعاً

وعلماً غزيراً جلَّ مع سعةِ الصدرِ

وتهذيبَ أخلاقٍ وحسبُك نسبةً

إلى الشرفِ المُدلي إلى المصطفى الطُّهرِ

فاًن تبدو شمسُ الأُفق قلتُ بأنَّها

مُحيَّاك لا أغْلو وأنت بها تُزرِي

وشِعرُك أحلى في النفوسِ من المُنَى

وأفْعَلُ بالألبابِ من قرقَفٍ بِكْرِ

وقد نِلتُ يا مولايَ أسْنَى مآثِرٍ

تجِلُّ عن التَّعداد في الفضل بالحَصرِ

فمنها التآليفُ الحِسان التي غدتْ

بما قد حوتْ كالدُّررِّ في لبَّةِ الدهرِ

وناهِيك بالتاريخ فضْلاً فإنه

حَرِيٌّ بكتبِ التِّبرِ فضلاً عن الحِبرِ

لما قد حوَى أبحاثَ علمٍ أنيقةً

تُميطُ شحوب الشكِّ كاليُسرِ للعسرِ

وتقريرَ أفهامٍ بديعٌ بيانُها

معانِيه أسرارَ البلاغة تسْتقْرِي

وتحريرَ منقولٍ وضبطَ وقائِعٍ

يحقِّق منها ما اسْتُريبَ من الأمرِ

كتابٌ لأهل الفضلِ زُخْرُفُ روضةٍ

يُسيمون منها في معانٍ كما الزَّهرِ

ص: 119

نَهجْتَ به في الفضلِ أبهجَ منهجٍ

تدوم به حيًّا إلى الحشرِ والنشرِ

به ذِكرُ من يسْتوجبُ الذِّكرَ في الورَى

وإحياءُ موْتى للفضائلِ بالذِكرِ

به يُهتدَى للغابرين ومَن مضَى

كما يعتدِي السَّارون بالأنجُمِ الزُّهرِ

كأنَّ مزايا ذكْرِهم في طُروسِه

متى تُتْلَ جناتٌ جداولُها تجرِي

لك الفضلُ فيما صُغْتَ من دُرِّ لفظِه

نسيقَ معانٍ خِلْنَ ضرباً من السحرِ

فجازاك ربُّ العالَمينِ بفضْلِه

جزاءً يُنيل الأجرَ مع رِفعةِ القَدْرِ

وأنت وأيمُ اللهِ مُفردُ عصرِنا

وحامِي حِمَى الآداب في النظمِ والنثرِ

تتيه بك الأيَّامُ قلَّدتَ عُطْلَها

وقلَّدت منها الجِيدَ من فضلِك الوَفْرِ

ومنك جَلاها من سَنا البرقِ شارقٌ

وصَاكَ بها من عرفِك العنبرُ الشِّحرِي

وهاك أيا مولاي منِّي مدائِحاً

سهِرتُ بها والنجمُ يسبِرُ من فكرِي

وما هي إلَاّ الروضُ حيَّاك عَرْفُه

وقد باكرَتْه نَوْءُ فضلِك بالقَطرِ

ومع ذاك لم أقدُرك حقَّك مِدحةً

ولكنه جُهدُ الأناشيدِ من شعرِي

وإن يكُ قد حازَ انْطِباعاً فإنه

لمكتسِبَنْه من خلائِقك الغُرِّ

أُقِرُّ بعجْزِي ليس شعرِي مُكافِياً

فَصاحَتَك العظمى ولو صِيغ من تِبْرِ

على أنه ما اسطعْتُه وأعوذ من

مَلامةِ تَقصيرِي بعفوِك عن وِزْرِي

فكتبت إليه عنها جواباً، لا يزال سمعي يرشف من راح أدبه أكوابا:

ألا ليت شعرِي والمُنى لَذَّةُ العمرِ

متى يرجع الطيرُ القديم إلى الوِكرِ

نعم في مِطال الدهرِ لي وعدُ أوْبةٍ

فمن لي بقلبٍ فيه يقْوى على الصبرِ

أهُمُّ بأمرِ الحزمِ لو أستطيعه

وحكمُ القضا فيما يناقِضه يجْرِي

وما حيلةُ الظمآنِ والماءُ دونه

حِجابٌ من البِيضِ الصَّوارمِ والسُّمْرِ

وفي ذِمَّة الأيامِ ما صنَع النَّوى

بجسمِي وما تُبدِي المدامعُ من أمرِي

وعيشٍ كأخلاقِ الكِرام قطعْتُه

وصَحبِي بسفحِ الصَّالحيَّة والجسرِ

يشِفُّ ضُحاه عن طُلاً من مُجرَّدٍ

نقيٍّ وتفتُّر العشيَّةُ عن ثغرِ

وللطَّير تَهْدارٌ بأيكة روضةٍ

إذا سكَت الشُّحرور جاوَبه القُمرِي

به من لُجَين الماءِ ينْساب جدولٌ

ترقرَقَ في آصالِه ذائبُ التِّبْرِ

يهيِّمُنا في جنةِ الخلدِ وصفُه

ويُملي علينا ما جهلنَا من السِّرِّ

ودارتْ بكاساتِ المُدام سُقاتُنا

كما دارتِ الأفلاكُ بالأنْجُم الزُّهْرِ

وما أسْكرتْنا بعد صحوٍ وإنما

أعادتْ لنا في الحب سكراً على سُكْرِ

وأغْيَدَ إمَّا قابلَ البدرَ وجهُه

أرتْك به مرآتُه صورةَ البدرِ

إذا قراُوا والليلِ في وصفِ فرعِهِ

قرأتُ لهم في معرِض الفرقِ والفجرِ

تجمَّع حسنُ الخَلق فيه بأسرِه

ففرَّقَ ما للعاشقين من الصبرِ

بمُنْعطفٍ لولا العيونُ تحُوطه

لضلَّ به الهمْيانُ عن دَورةِ الخصرِ

يكاد وِشاحاه يطيران خِفَّةً

ولولاهما من رِقَّةٍ كاد أن يجرِي

وحُقِّ عقيقٍ من فمٍ شِبْهِ خاتَمٍ

به ختم اللهُ الشِّفاه على دُرِّ

يصولُ بلحظٍ للمنايا مجرَّدٍ

رهيبِ الشَّبَا يخْتال في طلبِ الشَّرِّ

ص: 120

ترى مَن غدا في السِّحرِ أستاذَ طرفِهِ

فهاروتُ لم يقدِر على ذلك السِّحرِ

يضيقُ وعاءُ الدهرِ عنه جلالةً

ومن عجبٍ يحويه مع ضِيقِه صدرِي

وما احترتُ حتى اخترتُ حبِّيهِ مذهبي

ومدحُ ابن فتحِ الله فردِ الورَى ذُخرِي

فتًى قد حمدتُ العيشَ مذ صحِبته

وسافهتُ حظِّي من خلائقِهِ الغُرِّ

أحيِّي إذا حيَّيتُه الروضُ ناضِرا

وأشتمُّ عرفَ النشقِ من زهرةِ النهرِ

رطيبُ مهزِّ الجودِ مورِقُ عوده

وأبلجُ وجهِ العرفِ مستوضَحَ البشرِ

إذا ما سقَى غصنَ اليراعةِ نِقسُه

جنينَا ثِمارَ الفضلِ في الورقِ النَّضرِ

له الشِّيمُ الشُّمُّ التي لا ينالُها

فتًى علَّق الأذيالَ بالأنجُمِ الزهرِ

تُبارينَ أحداثَ الزمانِ فتنْبرِي

كما انْتفضَ العصفورُ من صولة الصقرِ

فتًى يتسامَى بالتَّواضعِ جاهداً

ويعجبُ من أهلِ المخيلةِ والكبرِ

عليه من المجدِ المؤثَّلِ حُلَّةٌ

تجرُّ ذيولَ الأريحيَّةِ والفخرِ

وفيه خِصالٌ قَّصر الحمدُ دونها

وأبلغُ شكرٍ يُستفادُ لها شكرِي

وإن أيادِيه ثنتْ وجهَ همَّتي

إلى الخُلقِ الفضفاضِ والنَّائلِ الغمرِ

ولي فيه من صدقِ العناية لحظةٌ

ترينِي ابْتسامَ الحظِّ عن شنَبِ الثَّغرِ

فشكراً لدهرٍ جادَ لي بلقائِهِ

فنوَّه لي من حيث أدرِي ولا أدرِي

وسقياً لأرضٍ ألَّفتْنا وحضرةٍ

بها ضمَّنا كالعقدِ أستاذُنا البكرِي

علوْنا على النِّسرين تحت جناحِه

فنحنُ إلى ما فوقَ أفقيهُما نسرِي

وما زالَ يكسُونا شمائِل غضَّةً

يقعْنَ مقامَ النُّورِ في المنبتِ النضرِ

نفدِّيه بالخمسِ الحواسِ وإنَّنا

لنعقِد أن عدَّتْ عُلاه على العشرِ

فحيَّى على رغم الكواكِبِ غرَّةً

يرينا سناها كيفَ شعشعةُ البدرِ

عليها من النُّورِ الإلهي مِسحةٌ

بها تنْجلي الجُّلى ويُمحى دُجَى الإصرِ

أمولاي يا شاهينُ لا زلْت دائماً

مجدًّا إلى قنصِ المفاخر بالبرِّ

فكم لك من صيْداتِ فضلٍ وسؤددٍ

يُرَى دونها وقعُ المهنَّدةِ البُترِ

عرفْتُكَ من بين الأنامِ فلم أكنْ

لغيرك أطْوِي الصدرَ إلا على نُكرِ

بعثْتَ إليَّ الرَّوحَ في لذَّةِ المُنى

وطيبَ التَّهاني في بُلهْنِيَةِ العمرِ

فرائِد آدابٍ نظمْتَ عقودَها

مُفضَّلة تمتاز في الطِّرس كالشَّذرِ

قوافٍ كأنفاسِ الخُزامَى صَقيلةٌ

بريح النُّعامى تمترِي عَنْبر الشِّحرِ

فلا زلت تُهدِي مثلَها من قصائدٍ

بها الشعرُ يبقى دهرَه نافِق السِّعرِ

ودُونكها عذراءَ لا عذرَ عندها

لمن ليس يصْبو والهوى عنده عُذري

تمازَج معناها ورائِقُ لفظِها

كما مزجوا ماءَ الغمامة والخمرِ

فإلَاّ تكُنْه أو يكُنْها فإنه

وإيَّاها سِيَّانِ في سُرعة السكرِ

وسامحْ فخطبُ الدهر منِّي لم يدعْ

مُعيناً على خطبٍ لقيتُ ولا فكرِي

ومثليَ إذ أهداك نظماً يُجيده

كمُهدي الضِّيا للبدرِ والدُّرِّ للبحرِ

فأنا إذا صُغتُ القوافي أريْت من

يُجاريك فيها صنعةً أنجُمَ الظُهرِ

بقِيت على الأيَّامِ خيرَ مؤمَّلٍ

برأْيك أسْتعدي على نُوَبِ الدهرِ

ولي فيك مدحٌ ليس يهرَم نظمُهُ

ولو صارت الأهرامُ كالعِهْنِ في مصرِ

وأنشدني من لفظه لنفسه، من قصيدة، مطلعها:

ص: 121

أما والْتفاتِ الجِيد من مُشبِهِ الدُّمَى

وثغرٍ حوَى دراً بدِيعا منظَّمَا

وأوْطفِ أجفانٍ من السحرِ كُحِّلتْ

تغادر من قد غازَلْته متيَّمَا

تسوق المعَنَّى للصبابةِ والهوَى

وكم من وَلوعٍ فات فيهنَّ مُغرَمَا

حليفَ جوًى طِّوْعَ الغرامِ تقودُه

دواعي التَّصابي ناحلَ الجسمِ مُسقَمَا

مُبلبَل بالٍ في محبةِ أغيدٍ

بديعِ جمالٍ كلَّ جورٍ تعلَّمَا

يطلُّ دمَ العشاق جَوْراً لأجل أن

يضرِّج منه أبيض الخدِّ بالدمَا

رنا كالطُّلا والغصنِ قَدًّا وناظِراً

يسدِّد سهماً والرُّديْنيِّ قُوِّمَا

وحاوَلَ أن يرمِي فؤادِي وما درَى

بأنَّ فؤادِي لا يُبالي بما رَمَى

لأنَّيَ عن طُرْق الهوَى مِلتُ جانِبا

وجانَبْتُ لهواً للتَّصابي ميمَّمَا

وهل بعد ما لاحَ الصباحُ بلمَّتي

وفي ليلِ غيِّي فجرُ رشدِي تبسَّمَا

يروق بأنِّي يزدهِيني تعَشُّقٌ

ومِلتُ لحبٍ والشبابُ تصرَّمَا

فآهاً لأيام الشَّبابِ ولم أزلْ

على فقدِهِ ذا حُرقةٍ متألِّمَا

تبدَّلتُ عن طيب اغتنامِي لصحَّتي

وعن لذَّتي فيها من السُّقمِ مَغْرمَا

وقاسيتُ ممَّا بي ألمَّ من الضَّنى

ومن فادِحِ الخطبِ الذي جلَّ صِلْدِمَا

وأحمَدُ ربِّي حيث أبرأنِي الضَّنى

وبي من أليمِ الكربِ نجيَّ وسلَّمَا

فما ظبيةٌ قد عاقها عن شُويْدنٍ

لها شرَكٌ من صائدٍ فوقها ارْتمَى

وأقبل مسروراً إليها ورام أن

يشُدَّ وثاقَيْها فأبصَر أرقمَا

يحاوله كاللَّيثِ من كلِّ وجهةٍ

يصاوِله أيَّانَ سار ويَمَّمَا

فأُذعِر منه حيث أُرعِد خيفَةً

وأفْلتها من خَشيةِ الصِّلِّ مُرغَمَا

فراحتْ كريحٍ في الفلا نحو سِربِها

تُزيلُ غبارَ الموتِ عنها وعَنْدمَا

أتتْ خِشفَها أحْنتْ عليه بكلِّها

وقد أرضعتْهُ بعد أن شفًّه الظَّمَا

بأفرحَ منِّي يوم بُرْئِي من الضَّنا

وجئتُ إلى مولاي فيه مسلِّمَا

ومُتِّعتُ بعد اليأسِ منه بنظرةٍ

له ظلْتُ فيها بالسرور منَعَّمَا

ولي معه مجالس نمتحن فيها الأفكار، ونزُفُّ عرائس الأدب الأبكار.

من محاضرات توصِّل الأنس إلى سواد القلب وصميمه، ومحاورات تُميط الهمَّ عن النفس وقد ألحَّ في تصميمه.

وأغلبها تجري في مجلس الأستاذ زين العابدين، منتدى روائع الطرائف، ومنتَمى بدائع الظرائف.

ومقصِد الأماني والأطماع، وصيقل النَّواظر والأسماع.

حيث شمل الفضل في انتظام، والحسن كلُّه مجتمعٌ جمع نظام.

وهو - أبقى الله مهجته، وحرس على الأيام بهجته - يقيد خطى الأبصار بالاقتصار عليه، ويأخذ بأزِمَّة القلوب بالانحياز إليه.

ونحن نرى لقاءه فائدةً نكتسبها، ومحبته قربةً عند الله نحتسبها.

فنفيض بإقباله فيض الأنهار، ويفوح ثناؤنا في ناديه فوحة الأزهار.

فما دار بيننا ذكر التَّصحيف فتعرَّفنا مزاياه، ثم انتهت بنا النَّوبة إلى نوعٍ قريب منه يعرف بالمُعاياة.

فقال المترجم شاهين: المتنبي.

فقلت له: تريد تبنا هنياً لمن يتب.

ثم قلت له: أتينا نتباهى بكلامك.

وأردت: أنت يا شاهين كلُّ أمل.

فقال الأستاذ وقد أحضر عنب: العنب ثقيلٌ أكلُه.

يريد: العشق بلاء كلُّه.

فقلت له: العين تقتل إن عَدَت.

وأردت: العشق بلاء يعذب.

وخاطبته بقولي: أبداً أبث ثناي نديّ أغلا نثر ينفث.

وأردت: يبقى زين العابدين أستاذنا.

وفيه مع التصحيف القلب، وهذا أصعب من الأول.

وذكروا منه: خيل مهلل أدهشتنا.

وتصحيفه مع قلبه، يؤدي إلى قولنا: أنت شهِد اللهُ مليح.

ص: 122

والتصحيف كما ذكروا أن تصحِّف كلَّ حرفٍ بما يماثله، والثلاث السِّنات التي في السين والشين تُصحَّف بثلاث حروف مماثلتها، كالباء والتاء والثاء والنون والياء، وتصحَّف الكاف باللام. والأحرف التي لا تصحَّف أربعة، الألف، والميم، والهاء، والواو. وأول من صحَّف علي رضي الله عنه، في قوله:

كلُّ عِنَبٍ الكَرْمُ يُعطي

هِ إلَاّ عنب الذِّئبِ

كل عيبٍ الكَرَمُ يُغطِّي

هِ إلَاّ عيب الذنبِ

ذكره ابن هشام في موقد الأذهان، وموقظ الوسنان.

ومن التصاحيف الحسنة: نصَحت فخنتني: تصحيف حسن.

السمسم سرَقه عليٌّ وحياتِك: الشمس مشرقةٌ على وجَناتك.

المحتسب طرح سبايِك: المحب ينتظر حسناتك.

ومما وقع منه بديهة، أن المعتمد بن عبَّاد سايرَ ابن عمار وزيره، في بعض أرجاء إشبيليَّة، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت عن وجهها وتكلَّمت بكلام لا يقتضيه الحياء، وكان ذلك بموضع الجبَّاسين الذين يصنعون الجبس، والجيَّارين الذين يصنعون الجير.

فالتفت المعتمد إلى موضع الجيَّارين، وقال: يا ابن عمار، الجيَّارين.

ففهم مراده، وقال في الحال: يا مولانا، والجبَّاسين.

فلم يفهم الحاضرون المراد، وتحيَّروا.

فقال له المعتمد: لا تبعها منهم إلا غالية.

وتفسيرها أن ابن عبَّاد صحَّف الحيا زَيْن بقوله: الجيَّارين، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء، لازدانت.

فقال له: والجبَّاسين. وتصحيفه: والخَنَا شَيْن. أي: وهي وإن كانت جميلة بديعة الحسن، لكن الخَنَا شَيْن. وهذا شاذ لا يُلحق.

وذكر في اليتيمة أن قَسْورة بن محمد كان من أولع الناس بالتَّصحيفات، فقال له أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب: إن أخرجت مُصحَّفاً أسألك عنه، وصلتك بمائة دينار.

فقال له: أرجو أن لا أقصر عن إخراجه.

فقال أبو أحمد: في تنور هينم حمد. فوقف حمار قسورة، وتبلد طبعه.

فقال له: إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل.

فقال أمهلتك سنة. فحال الحول ولم يخرجه.

فقال له أبو أحمد: هو اسمك، قسورة بن محمد. فازداد خجله وأسفه. انتهى.

فانظر تبلد طبعه العراقي مع توقد ذلك الطبع الأندلسي، فمثل هذا مما يقضي لأهل الأندلس بكمال الفِطنة والتيقُّظ.

والمعجز الباهر لهم، ما حكاه بعضهم، أن ملكاً من ملوك طلب من وزيره أن يملِّكه ابنته، وكانت جميلة، فأبى، فحبسه ثم أطلقه بعد مدة، واستدناه إليه، وساءله عن حاله.

فقال: أندلسي.

يعني: أن ذُلِّيَ بيِّن.

فقال له: أندلسي.

يعني: أبذل شيء.

فقال: أندلسي.

يعني: ابذُل بيتي.

فقال له الملك: أندلسي.

يعني: أنذَلُ شيء.

فقال له: أندلسي.

يعني: أبذُل بنتي.

فقال الملك: أندلسي.

يعني: أُبدِل نيَّتي.

فقال: أندلسي.

يعني: ايدك ينبى.

ومثله في سرعة البديهة قول بلنْسي من أهل الأندلس، وقد سئل عن بلده، فقال: أربعة أشهر. يريد: ثلث سنة، وهو تصحيف بَلَنْسِية. انتهى.

وأما المعاياة، فقد ذكرت منها قولي: حسبك حسنك عزًّا غَزَّا قلوبنا فلوَيْنا الأعنَّة إلَاّ عَنْه.

وقد ذكروا منها ما وقَّع بعض الخلفاء إلى صاحب له، شكا الرعية من ظلمه: غرَّك عزُّك فصار قُصار ذلك ذلَّك فاخش فاحش فعلك فعلَّك تهدا بهذا.

ومنه: وقد وفد وصيف وصنَّف رجاله رجَّالة يريد يزيد الحائن الخائن الجائر الحائر فالتَقوا فالتَفُّوا فيالَ قِتالِ قَوْم قَوَّم حربهم حزبهم.

ومنه: يا بنيَّ نابني أمرٌ مجدود محذور، عليه علَّته تقرع تُفزع قلبي فلُبِّي والِهٌ وإله أحمدَ أحمدُ.

أخوه مصطفى طلع بدره تماما، وانسجم لفظه غَماما.

فأضاءت معاليه وأشرقت وأُغِصَّت حاسديه وأُشرقت.

ولقد لقيته بمكة جوار الرُّكن والحطيم، وهو مفحم قسٍّ وقيس بن الخطيم.

وأنفاسه ثمَّة طيبة النفح، وذكره المعنى من العقيق والسفح.

يراح إليه ويُغدى، وهو يتوسَّع ترفها وعيشا رغدا.

فكنت له مالكاً، وكان هو لي عقيلاً، أرتاد له معرسا فيهيئ لي مقيلا.

وكانت عشرتي معه فرشها المحامد، وخدمها الشاكر والحاسد.

شكراً يملأ سامعتي الغوْر والنَّجد، وحمداً يهزُّ عطفي السُّؤدد والمجد.

وذكر لي من حديث فراقه لمحلِّه، وتنكبه لشدِّ مطيَّته ورحله.

أنه كان في حجر خاله وهو دون التَّمييز، وقدَّر الله له المهاجرة فأصحبه في كنفه الحريز.

ص: 123

ثم رحل في شبابه واغترب، ونقَّب في الحجاز واليمن للتَّحصيل واضطرب.

حتى استقرَّ بالحرم المكِّي فامتزج بقطانه، واشتغل بذخائر فضائلهم عن أهله وأوطانه.

وله عندهم منزلة به تليق، ومرتبة هو بها خليق.

وقد جمع تاريخاً سال فيه من طبعه معينه، وطلعت في قصور طروسِه أبكاره وعينه.

وكنت سمعت به ولم أظفر منه بالعيان، فلمَّا رأيته اتَّضح لي في حينه صدق البيان.

ورأيت جمعاً يجمع من دبَّ ودرج، حتى يقول من رآه: حدِّث عن البحر ولا حرج.

ما شِيت من ترتيب غريب، وتطريب من بنان أريب.

إلى جزالة مشربة بحلاوة، وسهولة متدفِّقة بطلاوة.

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، ونفسه فيه طويل إلا أنه لا يخلو من طائل.

وهو بسبب سعة اطِّلاعه، وشدة قيامه بالطريقة واضطلاعه.

لا يقتصر على ما ينبغي، ولا يمنع من الذكر المبتغي.

وبالجملة، فشكر الله عليه سعيه، وتولَّى بعض عناية حراسته ورعيه.

وكان أوقفني على مجاميع بخطِّه، فاقتطفت منها ما حلا وطاب، وملأت من بدائع ذخائرها النَّفسية الوِطاب.

فمما تناولته من شعره، قوله:

حدِّثا عن صبابَتي واصْطِبارِي

وارْوِيا لوعَتي العذارِ

وخذا عنِّي الهوى فحديثي

صحَّ فيه وسُلْسِلتْ أخباري

يا رفيقيَّ من زمان التَّصابي

والتَّصابي مَظِنَّةُ الادِّكارِ

علِّلاني بالخَنْدريس لَعَلِّي

أرشُق القلبَ بارْتشاف العُقارِ

واسْقِياني وروِّحاني برَوْحٍ

كالعقيق المُذابِ وَسْط النُّضارِ

من يَدَيْ شادنٍ بنفسي أفْدي

هِ مليحاً خلعتُ فيه عِذارِي

مائِسِ القدِّ أحمرِ الخدِّ أحْوى

كاملِ الحسنِ أهيَفٍ مِعطارِ

إن تبدَّى في ظلمةِ الليل أبْدَى

من سَناه لنا ضياءَ النَّهارِ

وإذا مارَنا بطرفٍ خفِيٍّ

سلبتْ مُقلتاه منِّي قَرارِي

وإذا زارَني على غيرِ وعدٍ

عبقتْ ريحُه إلى كلِّ دارِ

كم أُدارِي العَذولَ والوجدُ قاضٍ

بافْتِضاحِي في حُبِّه واشْتِهارِي

ساحِرِي باللِّحاظِ ماذا عليه

لو يُوافِي مُضْناه في الأسْحارِ

وكتبت إليه وقد توجَّه إلى الطائف، وتخلفت أنا بمكة:

ليس عندِي ما أرْتَجِي من زَمانِي

غيرَ لُقياك يا أجلَّ الأمانِي

فعلى كل حالةٍ أنت قصدِي

ومُنايَ وأنت نورُ عَيانِي

ى أرى العمرَ بعد بُعدِك إلا

حَسَراتٍ قد أرْدفتْ أحزانِي

غيرَ أنِّي أعلِّل القلبَ والفكْ

رَ بذكْرِي ثَناك في كلِّ آنِ

لا لأنِّي أنْساك أُكثِر ذكْرا

كَ ولكن بذاك يجرِي لِسانِي

ثم دعاني الشوق إلى ذلك الوادي البهيج، والمتنزَّه الذي يأخذ على البصر بمنظره الرَّهيج.

فشمَّرت لقصده عن ساق الهمَّة، وجعلت رؤيته عندي من الأمور المهمَّة.

فخرجت من مكة وطرفي من الدمع بالقذى ملآن، إلا أني أذكر مياه ذلك الوادي فلا أبيتُ إلا بغُلَّة ظمآن.

وكان عرض لي في الطريق نفرةٌ من لصٍّ طائف، فكدت أن أصير أتْيَهَ من فقيد ثقيف بالطائف.

ثم سلَّم الله فحللت بطنَ وَجّ، ونزلت بوادٍ تزوره السَّرَّاء من كل فَجّ.

وكان مُناخي بالسَّلامة أجمل مواضعه وأبهاها، وأحبِّها إلى النفوس وأشهاها.

لإحلاله محلَّ النور من الإنسان، وإشرافه على فضاء يبعد فيه النَّظر إذا وقف للاستحسان.

ما بين غصون مُلتفَّة، ومياهٍ بجدرانه مُحتفَّة.

ونادٍ يفوح أرجُه، ووادٍ يلوح منعرجُه.

أتيتُه من بعد ما كاد الرَّدى

يوردني مواردَ النَّدامهْ

فالحمدُ لله على رؤيتهِ

والحمدُ لله على السلامهْ

ولقيت به المترجم وقد وطَّأ فيه للرفاهية مضجعاً، ومهَّد للعيش النَّضر مهجعاً.

وثمَّة جماعة من الأودَّاء أكسبهم الله محبة كل فؤاد، وزرع لهم المودة في ملأٍ به ألف واد.

فانحزت في غمارهم، وتمتعت حيناً بتحف أسمارهم.

ص: 124

وأذكر يوماً مرَّ لي معهم في روض اخضرَّت أشجاره، وتنفَّست عن المسك أسماره.

مهزَّة نبته ريَّانة، وصبوات سحبه حنَّانة.

ماؤه يبوح صفاؤه بأسراره، وتلوح حصباه في قراره.

ونحن ننفض أعطافنا أريحيَّةٍ، ونتهادى رياحينه تحيَّة.

وبيننا حديث مستعذب، يهزُّ العطف اهتزاز العذب.

فقلت أصفه:

لله يومُ الطائفِ البهجِ الذي

نِلنا به أسنى منًى وأماني

مع فتيةٍ غُرِّ الوجوه حديثُهم

مسترقصٌ لمعاطف الأغصانِ

رأتِ انتظامَ كلامهم أزهارُه

فتناثرتْ في ساحة البستانِ

وكذا الدَّراري لم يرُقها نظمها

فرمتْ بأنفسها إلى الغُدرانِ

ولما فارقتهم وجئت إلى مكة على طريق كرى، وهو الذي يقول فيه شاعرهم:

عُجْ عن كرى فهو مزيجُ الكرى

والنفسُ منه نفساً تخرجُ

وفي الهَدى ضد الهُدى مساكنٌ

يوشك من يسلُكه يخرجُ

كتبت إلى المترجم: حالي بعد فراق أخي حالُ من فقد الروح، وأضحى منازع الجسم المطروح.

وشوقي شوق الظمآن، لماء الغُدران.

والساري في الظلام، لتبلُّج البدر التَّمام.

وأما حديث سفرتي التي أنكت، وأذكت حرَّ هجيرها فأبكت.

فمن حين ودَّعت، أودعت القلب ما أودعت.

لم تغلط بي راحةٌ إلا إلى الهَدى، ومنها بان عني الرشد وأخوه الهُدى.

فعلوت ذروةً أرتني نجوم السماء مظهرة، وهبطت نجوةً كشفت لي تخوم الأرض مظهرة.

فترجَّلت هيبة وذعرا، وسلكت مسلك ما رأيت مثله وعرا.

والرُّفقة كلٌّ منهم في واد، وبرؤيتهم قرناء احتاجوا إلى قوَّاد.

لكنَّ منهم من تاه وضلَّ، وأدركه الإعياء فسئم الحياة وملَّ.

ومنهم من أخذته الحيرة، واستولت عليه من أحلامه في كراه الظَّهيرة.

ومنهم، وهم الكثير، مؤتمون موجوعون، زمرتهم:" إن لله وإنا إليه راجعون ".

وأما أنا، فلو رأيتني وعصايَ لقوس قدِّي وتر، وقد جئت من كل نهزة للتَّهلكة على قدر.

وأيست من السَّلامة، وعدت على نفسي بالملامة.

رأيت شيخاً وقف على ثنيَّة الوداع، وسلَّم نفسه للحتف إمَّا بالطمأنينة أو بالخداع.

ولم يبق منِّي إلا نفسٌ خافت، وجسم من النصب هافت.

فما تخطَّت في التَّخطِّي لي قدم، إلا وأخطأت خطأ كلُّه ندم، وعثرت عثرةً غصَّانةً بدم.

حتى لطف الله تعالى بلطفه، وأولاني فريد رأفته وعطفه.

فرأيت المحطَّة وأحسبني بها حالما، وما تحقَّقت البقاء، علم الله، حتى وصلتها سالما.

فقعدت أنفض غبار الموت، وأتفقد قواي فأرى قد فات فيها الفوت.

سوى بقيةٍ لم أعدم بها فضل الأقوات، وأحسب لأجلها من أحياء الأموات.

فلم يستقر قرارنا حتى شدُّوا من ذلك المكان، فانْحلَّ من عقد عزمي ما كان في حيِّز الإمكان.

ثم رحَّلنا العِيس، على ذلك الرأي التَّعيس.

وسرنا إلى أن وصلنا إلى شداد، ونحن نطلب من الله تعالى أن يمدَّنا منه بأمداد.

فما نزلْنا حتَّى ركِبنا

والحالُ باقٍ وفيه شدَّهْ

فوقفت ممتثلاً، وأنشدت قولي متمثِّلا:

شدُّوا فحلُّوا فؤادِي

وكثرةُ الشَّدِّ تُرخِي

فنزلنا بعد ربع الليل عرفة، ورأى كلٌّ منا صاحبه وعرفه.

فوقفنا، وما توقَّفنا.

إلى أن هيَّأوا لنا مراحا، وما تقيَّدوا به إلا وهم يبغون سراحا.

فجلسنا بعضنا شاكٍ فقد أحبابه، والبعض الآخر شاكٍ من الحجارة وما أصابه.

وأنا بينهم ساكتٌ ألفا، وناطقٌ خلفا.

كيف وقد خلَّفت ما يورث الهذيان، وتأبى مواقعه أن يحوم حوله النِّسيان.

ثمَّ انْكفأنا انْكفاء الحَيا، ولسان الحال يقول: لا سقياً ليومنا ولا رعيا.

فما راعنا إلا المُكاري وحزبه ينادون: هيَّا فاركبوا، طلع الفجر.

فأبعدوا المدَى، وأزعجوا الصَّدى.

فنهضت من مرقدي نهضةً جفلة، وما أحسبني تنبَّهت من غفلة.

وركبت الليل البهيم، والشَّوق إلى الرقاد شوق الهيم.

وما برحنا في برحٍ وعنا، حتَّى وصلنا مع الشروق إلى مِنى.

فقلت لرفيقٍ لي انتخبته، ولمثل هذا الأمر انتجبته: هلمَّ فلنسترح ونرح، ونقيل في هذا المكان المنشرح.

فقلت وقال، وأقلت عثرة الدهر وأقال.

واطمأنَّ بنا الجلوس حصَّة، وأرحنا بها مضَّة وأزحنا غُصَّة.

وأخذنا جانباً من النوم، إلى أن نصَّفنا ذلك اليوم.

ص: 125

ثم ركبنا الطريق، وفي القلب إلى الخريق أشدُّ الحريق.

فلم تكن إلا هنيئة وصلنا فيها الحرم الآمن، وبثثنا ما في الضَّمائر من الشوق الكامن.

وفارقت رفيقي وأنا على عهده الأمين، وذهب ذات الشِّمال وذهبت ذات اليمين.

وآليت لا تحرَّيت كرى ثانيا، ولا ألويت عنان عزمي لثنيته ثانيا.

ولو جعلت الجبال دكًّا، وأعطيت أرض الحجاز ملكاً.

وأنشدت:

إن كرى خصمُ حياتِي فلا

رأيتهُ أخرَى ولو في كرَى

فراحتِي من يومِهِ أصبحتْ

كواصِلٍ لِما رأتْني كرَى

وإن من أقطعِ روعاتِهِ

لجُّ المكارِي في كِراما كرَى

وكتبت إليه من دمشق: أهدي من طيِّب التَّحايا، عدد فضائل سيِّدي السَّامية، ومن التَّحيَّات المقرونة بنشر المزايا، قدر أيادِيه الفائضة النَّامية.

وأما تشوُّقي للقائه، وتشوُّفي لتلقِّي الأخبار من تلقائه. فكما قلت:

شوقي لتلك اللُّقيا

شوقُ الرُّبى للسُّقيَا

وحقِّ من ميَّزه

بين الورَى للعليَا

مااعْتضتُ عنه بديلاً

بكلِّ من في الدُّنيَا

وقلب سيدي شاهدٌ بودٍّ منِّي مرسل متَّصل، وحديث دعاءٌ مرفوع إلى القبول غير مقطوع ولا منفصل.

وغاية المسْئول، ونهاية المأمول، أن ييسِّر الله تعالى حالةً يعود بها الأنس إلى أحسن نضرته، ويعيد لنا تلك الأوقات السعيدة المسعودة بحضرته.

إبراهيم بن محمد السَّفرجلانِي أحسن المحاسن العصريَّة، وآدابه أذكى الرياحين الطَّريَّة.

نبغ نبغة الغصن النَّضير، فجاء بحمدِ الله عديم النَّظير.

فطلاقته لو خلِعت على الدهر ما ريعَ به فؤاد، وغُرَّتُه لو سالت بليل السَّليم ما بقيَ بها سواد.

صقل نوره قبل انشقاق الكمائم، وتطوَّق العلياء قبل أن يتطوَّق التَّمائم.

ومع ذلك فلا تُلفَى الدَّنِيَّة لديه، ولا تألف الفحشاءُ بُرْدَيه.

وهو يهتزُّ لكلِّ لُبانة، كأنه عِطف بانَهَ.

ويترنَّح غصناً رطيبا، ويهُبُّ عرفاً عطِراً وطِيبا.

وهو حليفي الذي ارتبطت معه على وُدٍّ مُؤثَّل، وأليفي الذي شخصه نأى أو دنا في عيني ممثَّل.

ما زلت في حبِّه متَّصل العلائق، وكلانا على المودَّة مُصفَّى الخلائق.

وأنا أوصَف لبدائعه، من الزُّجاج لودائعه.

وأكْلف ببنات فكرِه، من سَمَر الكرام بذكْرِه.

ولي في بقائه أملٌ أرجو من الله أن لا يفيته، وهذا دعاءٌ بظهر الغيب لو سكَتُّ كُفيتُه.

وقد تناولت من أشعاره ما يطيب استعذابه، وأثبتُّ منه ما يستدعي القلبَ إليه نِزاعه وانْجذابُه.

فمن ذلك قوله:

جُؤذُرٌ عن من ظِبا تيْماءِ

ذو جفونٍ تصيدُ بالإيماءِ

ليِّنُ العِطْف كالقضيب ولكن

قلبه مثل صخرةٍ صمَّاءِ

عرَبِيُّ النِّجار إن نسبوه

نسبوه إلى ابنِ ماءِ السَّماءِ

مولعٌ بالجيادِ يختار منها

ما يُجارِي سِربَ القطا للماءِ

عَمُّموه بشملةٍ فاجْتلينا

منه بدراً يضيء في الظَّلماءِ

سَلَّ صمْصامَ لحظِه وتصدَّى

في طريق الهوى لسفكِ الدماءِ

وقوله مضمِّناً:

لما غدتْ وجناتُه مرقومةً

بعِذارِه وازْداد وَجْدُ مُحبِّهِ

نادى الشَّقيقُ بها زَبرْجَدَ صُدغِهِ

يا صاحبي هذا العقيقُ فقِفْ بهِ

وكتب إلي، ويخرج منه اسم محمد بطريق التعمية:

مولاي هل تحظَى بقربِك مهجةٌ

أطَلْتَ بنيرانِ البِعاد عذابَها

وهل لأُوامِ القلب يوجَد مخْمِدٌ

فحبَّتَه حَرُّ الفؤاد أذابهَا

فأنشدته قولي، ويخرج منه اسم إبراهيم:

إذا أعوَز الرِّيُّ المُجِدُّ بهمَّةٍ

ونازلَه كربٌ مُلِحٌّ وتبْريحُ

فذكرُك ماءٌ للسبيلِ ارْتوَى به

صَداهُ وفيه الرَّاحُ للقلبِ والروحُ

وعمله كله فارسيّ، وإليه الإشارة بالرَّيّ البلدة المشهورة في العجم، والماء: آب، والسبيل: راه، وره، كما يقولون للقمر: ماه، ومه. وفيه صنعة باعتبار أن إبراهيم يُكتب بألف وبدونها، فلك الخيار فيه. والراح: مي، وقلبها: يم.

وسمع قولي، من أبيات:

ص: 126

إذا فوَّقت سهمَ المنون جفونُه

لقلبٍ سوى قلبي تمنَّيتُه قلبي

فجاءني يوماً وقد نظم هذا المعنى، وتصرف فيه تصرُّفات شتَّى.

فمنها ما أنشدنيه، وهو قوله:

وراشقٍ لم يطِشْ سهمٌ لمُقلته

ولم أكنْ عن هواه قطُّ منصرفا

فكلما فوَّقت نَبلاً عرضتُ له

كيلا يكونَ سوى قلبي له هدفا

ومنها قوله:

ريمٌ تصدَّى للرمايةِ لحظُه

يُصمي القلوبَ ولا جُناحَ عليهِ

فإذا رمتْ سهما إليّ جفونُه

جاراه قلبي في المسيرِ إليهِ

ومنها ما قاله مضمناً:

ومُثبِّتٍ سهمَ نجلاوَيهْ في كبدي

كأنه الرِّيمُ يعطو نحو مرتِعهِ

يقول قلبي لسهمٍ قد رماه به

أهلاً لما لم أكن أهلاً لموقعهِ

وأنشدني من لفظه لنفسه:

يا لؤلؤاً أصدافهُ الياقوتُ

قلبي عليك صبابةً مفتوتُ

لقد ابتسمتَ فلاح منك لناظري

سِمطٌ بكل ملاحةٍ منعوتُ

أحببْ به سمطاً تناسق درُّه

فأتى بديعَ النظمِ وهو شتيتُ

يستوقفُ الأبصارَ باهرُ حسنهِ

فالطَّرفُ في لألائه مبهوتُ

عجباً له درًّا على ما فيه من

صِغرٍ له بين الجواهرِ صيتُ

عزَّ الوصولُ إليه يا قلبي فمُتْ

كمداً فحارسُ كنزِه هاروتُ

قلت: هذا شعرٌ هاروتُ تلميذ إفادته، وشاعره فتحُ خزائن الجواهر في كفِّ إرادته. وأنشدني قوله:

خلِّ الذنوبَ ولا تهمَّ بفعلِها

فأخو الذنوبِ طويلةٌ حسراتُهُ

واجْنح إلى التقوى فطُوبى لامرئٍ

غلبتْ على آحادِهِ عشراتُهُ

وقوله:

حاذِر إذا وافيتَ جرعاءَ الحِمى

ريماً هناك من الصِّبا في شرخِهِ

لا يخدعنَّك تحت عطفةِ صُدغِه

خالٌ فذاك الخالُ حبَّةُ فخِّهِ

تصيَّده من قول بعضهم:

لا غرْوَ أن صادَ الفُؤاد بنظرةٍ

ريمُ المهَا فله بذاكَ أشايِرُ

في خدِّهِ فخٌّ لعطْفةِ صُدغهِ

الخالُ حبَّتُه وقلبي الطائِرُ

وأنشدني من لفظه لنفسه، ما هو منه في صيَّاد:

أفْديهِ صياَّداً تعوَّد في الهوَى

أخذ القلوب بمكرِه وبكيدِه

كم صادَ قلباً طارَ نحو جمالِه

والخالُ تحت الصدغِ آلةُ صيدِهِ

وأنشدني قوله:

أرسلَ فوق الجبينِ طرَّتهُ

وفوَّق اللَّحظ سهمُه النَّافِذْ

فيا جريح الفؤادِ زِدْ سهراً

فليلُه من نهارِه آخِذْ

وأنشدني قوله، معمِّياً في اسم حيدر:

رأى زيدٌ وعمرٌو وجه من قدْ

أقام عِذاره في الحبِّ عذرِي

فنكَّس رأسهُ زيدٌ حياءاً

وولَّى وهو يسحب ذيل عمرِو

أراد بتنكيس رأس زيد عدده الهندي، وذيل عمرو، هو الراء هنا؛ لأن القافية هنا دالَّة على الفرق بينه وبين عمر، وهم ذكروا أن الواو لا تثبت إلا للفرق.

وأنشدني قوله أيضاً:

ذكرتُ له يوماً بمجلِس أُنسِه

أبا الدُّر ياقوتاً وأطنبتُ في الذِّكْرِ

فقالَ فذا وصفٌ يقومُ بمبسمِي

فمبسميَ الياقوتُ وهو أبو الدُّرِّ

وقوله منه أيضاً:

يقولُ لي جِيدُه الفضِّيُّ حين زهَا

بمسكِ خالٍ على ذاك البياضِ نقَطْ

كَنَوا أبا المسكِ كافوراً لقد غلِطُوا

أنا أبو المسكِ كافورٌ بغير غلَطْ

وأنشدني قوله، وهو معنى أبرزه ولم يسبق إليه، فاستحقَّ به التبريز، وجاء به أنفس من الإبريز:

كفُّوا الملام ولا تعيبُوا زهرةً

في وجْنتيهِ تلوحُ كالتَّطْريزِ

فالحسنُ لمَّا خطَّ سطر عِذارِه

ألقَى عليهِ قُراضةَ الإبريزِ

وأنشدني هذه السِّينية السَّنية التي هي أشهى من الأمنيَّة، تفلَّتت من المنيَّة:

خلِّ طيَّ الفَلا لحادِي العيسِ

وانْفِ همِّي بالقهوة الخندريسِ

طُفْ بها كي ترَى النواظِرُ فيها

عسجداً ذاب في لُجيْنِ الكؤوسِ

ص: 127

ولِتُرنِّحْ عِطفي برقَّة لفظٌ

منه عوِّدتُ لقطَ درٍّ نفيسِ

في رياضٍ كأنَّما لبستْ من

حوْكِ صنعاء أفخرَ الملبوسِ

قد تحلَّتْ من طلِّها بعقودٍ

وتجلَّتْ في حلَّة الطَّاووسِ

وزكَا عرفُ طيبِها فحسِبْنا

نفحةً قد سرتْ من الفردوسِ

وتغنَّى مُبهْرمُ الكفِّ فيها

بغِناءٍ يشوق شجْوَ النفوسِ

قد أتيْنا مسلِّمين فردَّتْ

هِيفُ باناتِها بِخفضِ الرُّؤوسِ

قمْ نجدِّد عهودنَا يا ابنَ أُنسِ

في رُباها فأنت خيرُ أنيسِ

فأنا في هواك محزون قلبٍ

بين شوق مقلَّبٍ ورَسيسِ

وامْنح العينَ أن ترَى منك يوماً

حسْن وجهٍ يُخفي ضياء الشموسِ

سطوراً كالمِسكِ فوق طروسٍ

من شقيقٍ أحببْ بها من طروسِ

وأمِطْ لي عن سِين تلك الثَّنايا

فعساهَا تكون للتَّنفيسِ

وأنشدني قوله:

حتَّى مَ يا ظبيَ الكِناسِ

أحنو عليك وأنت قاسِ

أغريتَ بي سُقم الجفو

نِ فملَّ منِّي كلُّ آسِ

ونسيتَ عهداً لم أكنْ

أبداً له وأبيك ناسِ

مولايَ لا تمتدَّ في

هجرِي فقد عزَّ المُواسِي

مرْني فأمرك بالَّذي

تهوَى على عيني وراسِي

هذي الرِّياض قد انْجلتْ

في حلَّتي وردٍ وآسِ

فاجْلُ المُدام أبا الحسي

نِ وحيِّني منها بكاسِ

واسْتنطق الوترَ الرَّخي

مَ عن الفُؤادِ وما يُقاسِي

وأنشدني قوله:

يا صاحِبي عجْ بالمطيِّ على الحِمى

فعسَى تلوح لناظِريَّ شموسُهُ

فهناك يسْتملِي ابن مقلةَ قصَّةً

منِّي فيكتُب والخدودُ طُروسُهُ

وأريك شوقاً لا يقاسُ بغيرِه

بتوقُّد الجمراتِ كنت تقيسُهُ

بان الخليطُ فلا تسلْ عن حالتِي

ما حال من قد بان عنه أنيسُهُ

ودَّعتُه ورجعتُ عنه كأنَّني

ذو نشوةٍ كارتْ عليه كؤوسُهُ

لم أنسَ إذْ غنَّى له الحادِي ضحًى

وتراقصتْ تحت الهوادِجِ عِيسُهُ

ورمَى ابن عمِّ الظَبي لي بإشارةٍ

أخذ الفؤاد بها فهاجَ رسيسُهُ

لا غرْوَ أن جذب الفؤاد بنظرةٍ

فرنُوُّ نجلاويهِ مِغناطيسُهُ

وأنشدني لنفسه قوله:

رشق الفؤاد بأسهمٍ لم تُخطِه

ريمٌ يشوق الريمَ مهوَى قرطِهِ

من ذا عذيرِي في هوَى متلاعبٍ

قد راحَ يمزُج لي رِضاهُ بسخطِهِ

أعطيتُه قلبي وقلتُ يصونهُ

فأضاعهُ يا ليتني لم أعطِهِ

وثناهُ عن محْضِ المودَّة رهطُه

فعناءُ قلبي في الهوَى من رهطِهِ

وقد اشْترطْنا أن ندوم على الوفا

ما كنتُ أحسبُه يخلُّ بشرطِهِ

كيف الخلاصُ ركبتُ بحراً من هوًى

شوقاً إليه فشطَّ بي عن شطِّهِ

علِّقْتُه ريَّان من ماء الصِّبا

كالروضِ أخضلهُ الغمامُ بنقطِهِ

غضَّ الشَّبابِ وهذه وجَناتُهُ

قد كاد يقطُر ماؤها من فرطِهِ

يجلُو عليك صحائِفاً وردِيَّةً

رقَم الجمالُ بها بدائِع خطِّهِ

وتُريك هاتيك المعاطِف بانةً

تهتزُّ ليناً في مُنمنَمِ مرطِهِ

وتُخامِر الألباب منه فكاهةً

تُلهِي حليفَ الكأسِ عن إسفنْطِهِ

لو بتَّ تسْتملِي لطائِفه التي

ضاهتْ بروْنقِها جواهِر سمطِهِ

لدَهِشتُ إعجاباً بلؤلؤ لفظِه

ومددتُ كفَّك طامِعاً في لقطِهِ

قلت: هذا الشعر من الأشعار الباسقة، ما مدَّت الأيدي لالتقاط مثل درره المتناسقة. وأنشدني قوله:

ص: 128

يا زوْرَةً سمحَ الخيا

لُ بها وبات مُعانِقِي

خاضَ الدُّجنَّةَ طارِقاً

أكرِم به من طارِقِ

وأْتَمَّ ساحة عاشِقٍ

في جُنحِ ليلٍ غاسِقِ

وأتَى يجدِّد بالصَّبا

بةِ عهد صبٍّ وامِقِ

فجرتْ لطائِفُ بين مع

شوقٍ هناك وعاشِقِ

وخِلالها قبلٌ تلذُّ

ورشفُ ريقٍ رائِقِ

وسألتُ ذاك الرِّيمَ عن

سببِ الصُّدود السَّابقِ

فانْهلَّ منه ما يُري

كَ الطَّلَّ فوق شقائِقِ

وافْترَّ لي ياقوتُهُ

عن لؤلؤٍ متناسِقِ

وصفَا هنالك موردٌ

بين العُذيْبِ وبارِقِ

وأنشدني قوله:

أقول لقلبي وهو عند اضْطِرابِهِ

وقاتِلهُ لم يمضِ لم تحسِن العِشقَا

فقال اضْطِرابي خشيةً من فراقِهِ

وفيَّ حياةٌ ليس يحسُن أن تبقَى

وقوله معمِّياً باسم دلاور:

قد أبرزَها من باطِن الإبريقِ

صهبَا تُحاكِي وجنةَ المعشوقِ

ما ضرَّ شُويْدِناً جَلا أكؤسَها

لو دار بها ممزوجةً بالرِّيقِ

وقوله:

إن غَضَّ عن تلك العوارِض عاذِلي

طرْفاً فقد أصبحتُ من عُشَّاقِهَا

وتجنُّب الأفعى الزُّمرُّدَ إنَّما

هو غَيْرةٌ منه على أحداقِهَا

من خاصِّيَّة الزمرد أن الحيات إذا نظرتْ إليه سالت أعينها.

ومثله ما ذكروه في خواصِّ العقيق، أن التختُّم به يُبطِل السِّحر.

وللصَّفِيِّ الحلِّيّ:

قِيل أن العقيقَ قد يُبطل السِّحْ

رِ بتختِيمِه لِسرٍّ حقيقِي

وأرى مُقلتيك تنفُثُ سِحْ

راً وعلى فِيكَ خاتَمٌ من عقيقِ

ومن الخواص المذكورة للرِّيق، أنه يقتل العقرب.

قال أبو الصَّلت الإشبيليّ:

دبَّ العِذارُ بخدِّه ثم انْثنَى

عن لثْمِ مبسِمه البرُودِ الأشنَبِ

لا غَرْوَ أن خَشِيَ الرَّدَى في لثمِهِ

فالرِّيقُ سَمٌّ قاتلٌ للعقربِ

وأنشدني لنفسه قطعتين، ما أظنهما إلا من رياض الجِنان مقتَطَعتيْن. فالأولى هذه:

قد نضَى طرفُه الكحيلُ حُسامُه

فاسْألِ الله يا فؤادِي السلامَهْ

فاتِكٌ قد سطَا بألحاظِ ريمٍ

بلَّغتْهُ من القلوبِ مَرامَهْ

ناقصٌ للعهودِ ليس يُراعِي

ذِمَّةً للَّذي يُراعِي ذِمامَهْ

قد تعشَّقتُه ربيعَ جمالٍ

يملأ العينَ بهجةً ووَسامَهْ

شَطَّ عنِّي فليس لي مُذ تناءَى

مُسعِدٌ في هواه إلا حَمامَهْ

ذكَّرتْنِي عصراً رقيقَ الحواشِي

بالحِمى ظَلْتُ ناهباً أيَّامَهْ

ما تذكَّرتُ عيشَةُ الغَضَّ إلا

هطلَتْ أدمعِي عليه نَدامَهْ

يا نسيماً من عنبَرِ الشِّحرِ أهْدَى

طِيبَ أنفاسِه لنا شمَّامَهْ

إن تيَمَّمتَ ساحةَ الحيِّ وَشَّى

ساحةَ الحيِّ دُرَّ دَرِّ الغمامَهْ

حيِّي عنِّي أقاحِ تلك الرَّوابِي

ثم قبِّل ثُغورَه البسَّامَهْ

والْوِ عِطفَ القضيبِ نحو أخيهِ

ليُطِيل اعْتناقَه والْتزامَهْ

واقتطِفْ من حدائق الحسنِ ورداً

نقَّطتْ فوقه من المسكِ شَامَهْ

وارْتشِفْ من خِلال تلك الرَّوابي

قاطِر الشُّهدِ خالطْتهُ مُدَامَهْ

واعْتنِق في مُنَمْنَمِ البُردِ خُوطاً

رنَّحتْ خمرةُ الشَّبابِ قَوامَهْ

ولْتُلاعِب له ذُؤابةَ شَعْرٍ

قد تدلَّتْ فقبَّلتْ أقْدامَهْ

وهذه الثانية:

يا وردةً من فوق بانَه

سِحرُ المحبَّةِ من أبانَهْ

أخفيتُه عهدِي وقدْ

غلْغلْتُ في قلبِي مكانَهْ

وكتمتُ أمرَ صَبابتِي

وسدَلْتُ أسْتارَ الصِّيانَهْ

ص: 129

ما كنتُ أحسبُ أن يكو

ن الدمعُ يوماً تُرْجُمانَهْ

لولا وضوحُ الأمرِ ما

أغْرَى بنا الواشِي لسانَهْ

ولَوَى عِنانكَ عن شَجٍ

شوقاً إليك لَوَى عِنانَهْ

يا ظَبيةَ البانِ التي

عند القلوبِ لها مكانَهْ

كُفِّي الصُّدودَ فلَيْتني

من طولِ صَدِّي أُرْوَنانَهْ

يوم أروَنان، وليلة أروَنانة: من الحَرِّ والغَمّ. وقال القيسي: الأروَنان، الصوت.

قد أسْكرتني مُقلتَا

كِ كن في الأجفانِ حَانَهْ

وكرَعْتِ في ماءِ الصِّبا

ففَضحْتِ لينَ الخَيزرانَهْ

أجريْتُ ذكرَك بالحِمى

وقد اجْتلَى طَرفِي جِنانَهْ

فلَوَى القضيبُ مَعاطِفاً

نظَم النَّدَى فيها جُمانَهْ

واحْمرَّ خدُّ شَقيقِها

وافْترَّ ثَغْرُ الأُقحوانَهْ

وأنشدني قوله:

أفدِي مليحاً يفوق البدرَ مُستتِرَا

تحت القناعِ اسْتِتارَ العينِ بالغيْنِ

العين: الشمس. والغين: لغة في الغيم.

أنْشاه مُبدِعُه كالبدرِ مكتمِلاً

حُسناً ووَقَّاه شَرَّ العينِ والغينِ

العين: النَّظرة، والغين: حجابٌ على القلب.

منِعتُ من ثغْره عينِ الحياةِ وكم

قد رُدَّ قاصدُ هذي العينِ بالغينِ

العين: عين الحياة، والغين: العطش.

وراعَ قلبِي فمُذ حاولتُ منه وفاً

أتى بتصْحيف تلك العينِ بالغينِ

الحرفان المعلولان.

وأنشدني قوله:

قال صِفْ فرْعِي الذي قد تدلَّى

فوق خَدِّي أن كنتَ من واصِفيهِ

قلت ماذا أقول في وصفِ رَوْضٍ

قد تدلَّتْ عَريشَةُ الحُسنِ فيهِ

وذكر لي في بعض محاضراته أنه رأى قول بعض الأندلسيِّين:

واللهِ لولا أن يُقال تغَيَّرا

وصِّبا وإن كان التَّصابي أجْدرَا

لأعدت تُفَّاحَ الخدودِ بنفسَجاً

لَثْماً وكافورَ التَّرائِبِ عنبَرا

وقول أبي جعفر محمد المختار من شعراء الدُّمية:

قلتُ هَبِي منكِ لنا قُبْلةً

يا مُنيةَ النفسِ وياقوتَهَا

فأغْمضْت من عينهِا مُؤْخِراً

ورصَّعت بالدُّرِّ ياقوتَهَا

وقول الأمير منجك:

لقد زارني من بعد حَوْلٍ مُودِّعاً

وطوقُ الدجى قد صار في قبضةِ الفجرِ

فأخْجلتُه بالعتبِ حتى رأيتُه

يُزيح الثُّريَّا بالهلالِ عن البدرِ

فنظم هذين البيتين يلمِّح إلى هذه المقاطع:

نظرَ البنفسجُ في الشَّقيقِ مؤثِّراً

فارْتاعَ حتى انْهَلَّ ماءُ جمالِهِ

فغدا يرصِّعُ دُرُّه ياقوتَه

ويُزيح أنجُمَ بدرِه بهلالِهِ

وأنشدني من لفظه لنفسه:

لا تكن وَيْكَ طامعاً في سلُوِّي

فالهوى قد نَمَا أشَدَّ نُمُوِّ

شَفَّني ذلك الشُّويدِنُ حُبًّا

ورمانِي بسهم ذاك الرُّنُوِّ

قمرٌ في ابْتِدائِه تمَّ حُسناً

وسمَا في الكمال أيَّ سُمُوِّ

وقضيبٌ غضُّ النَّباتِ رطيبٌ

عُلَّ من خمرةِ الشَّبابِ ورُوِّي

حُبُّه خطَّ في فؤادِي سطراً

أمَدَ الدهرِ ليس بالمَمْحُوِّ

يمزُج الصَّدَّ بالوِصالِ دَلالاً

فتَرى منه قسوةً في صُفُوِّ

وهواهُ ما زالَ يُورِي لهيباً

بين جنبَيّ ماله من خُبُوِّ

يا سقى اللهُ عهدَنَا بليالٍ

قد جنيْنا بها ثِمارُ الدُّنُوِّ

جمعتْ شملَنَا بِكأسِ سُلافٍ

هي أصْفَى من دمعةِ المجفُوِّ

كلَّما قلتُ يا ابن وُدِّي خُذْها

قال لي هاتِ يا عدُوَّ عدُوِّي

السيد عبد الباقي بن مُغَيْزِل من الزُّمرة الأولى من أخلَاّئي، ومن به أشرق في إبَّان رونقه وجه اجتلائي.

فاستهلَّيت أنا وإياه العيش بدريًّا، وهززت أغصن اللَّذات غصناً طريًّا.

في زمانٍ عيون سعوده روانٍ، والآمال فيه دوانٍ، ما بين بكرٍ وعوان.

ص: 130

لم تبعد فيه أرضي عن أرضه، ولم نأل فيه من القيام بنفل الودِّ وفرضه.

ولم يتنسم أحدنا أخا، إلا هبَّ الآخر معه رَخا.

وهو ممن خلصت ذاته خلوص الذهب عن اللهب، وتميَّزت بما أحرزت من نسبٍ شريف وحسب، ونشب تليدٍ ومكتسب.

شمَّر في الطلب عن ساق، وأبدى بدائع ذا حسنٍ واتِّساق.

وله براعةٌ تعرب عن لسانٍ ذليق، وذهنٌ متوقِّدٌ يزيِّنه وجهٌ طليق.

وفضلٌ يستغني عن المدح، وشعرٌ يعلِّم الحمامة الصَّدح.

قد استخرجت له ما هو كالروض المعطار، تضحك ثغور نواره عن بكاء الأمطار. فمنه قوله، وأنشدنيه من لفظه:

أوَّاه من ذلك الخِشف الذي سنحَا

من أكسَبْ المستهام المُبتلى بُرَحا

لم أنسَ إذ مرَّ مُختالاً بقُرطَقِهِ

من دونه ذلك القدِّ الذي رجحَا

يزور لحظاً بطرفٍ زانَه حَوَرٌ

فكم طريحٍ على فرشِ الضَّنى طرحَا

وكم دواعِي الهوَى من كلِّ جارحةٍ

تستخبِر القلبَ عنَّا أيَّةً جَنَحَا

وبعث إلي بهذه الأبيات، وكان وافاني يوماً لم يجدني في بيتي:

يا ماجِداً حازَ السِّيادة يافِعا

وغدا بأثوابِ البراعة يرتدِي

من مُذكري عهدَ الشَّبيبة والصِّبا

والعيشَ مع وصل الحسانِ الخرَّدِ

كم مرةٍ قد جئتُ نحوَ حِماكُمُ

كي أن أفوز برؤية الوجهِ النَّدِي

فلِسوءِ حظِّي لم تجدكُم مقلتِي

فرجعتُ من ذاك الحمى صِفرَ اليَدِ

فكتبت إليه:

مولاي من دون الأنامِ وسيِّدي

بلَّغتنِي بالسَّعيِ أسنَى سُؤدُدِ

قد جئتنِي والبيتُ مني مُقفِرِ

من سوءِ حظِّي في الزَّمان الأنكَدِ

هي عادةُ الأيَّام أرجو صاحِباً

فيصدُّه قدرٌ عليَّ بمرصَدِ

وإذا أبيْتُ فتًى وعِفتُ دُنُوُّه

ألفيْته نفَسِي يروح ويغْتدِي

وأنشدني من لفظه لنفسه:

كلما رُمتُ خلاصاً من هوَى

ظَبْيِ إنسٍ حَبَّةَ القلبِ ملَكْ

قال لي حُسنُ هَواه كم له

من شَجٍ مثلك مُلقًى في الفلَكْ

وأنشدني قوله:

قلتُ إذا جاءَ صاحبِي

يشْتكي حُرقةَ النَّوَى

كيف شَكواك إننا

كلُّنا في الهوَى سَوَا

وهذا المصراع قد أكثر الناس من تضمينه، وأشهر تضامينه قول بعضهم:

قُل لمن جاءَ يشْتكِي

باهتمامٍ من الهوَى

لا تَفُهْ بالذي جرَى

كلُّنا في الهوَى سَوَا

وأنشدني قوله في أرمد:

لا تحسَبوا حُمرةً في مُقلتِي رمَداً

قد مسَّها بل لأمرٍ زاد في سقَمِي

فإنها نظرتْ شَزْراً لوجنةِ مَن

هواه حلَّ فؤادِي فاكْتستْ بدَمِ

منه قول يوسف العمراني:

لا تنكروا رمَدِي وقد أبصرتُ مَن

أهْوى ومن هو شمسُ حسنٍ باهرِ

فالشمسُ مهما إن أطْلت لنحوِها

نظراً تؤثِّر ضعفَ طرفِ الناظِرِ

ولقد أطلتُ إلى احمِرارِ خدودِه

نظرِي فعكسُ خيالِها في ناظِرِي

وقوله:

رمدتْ جفوني عندما فارقتُ مَن

قد كان كُحلاً في نواظِر عبدِهِ

وسرقتُ حمرةَ ناظرِي وسَقامَه

عند النَّوَى في مُقلتيْهِ وخدِّه

وأنشدني قوله:

أقول لفتَّاكِ اللَّواحظِ أهْيفٍ

يصيد لِحبَّات القلوب من الهُدْبِ

وصُحْبتُه شخصٌ بَذِيٌّ مُذَمَّمٌ

يسوء بمَرآه العيون مع القلبِ

حبيبيَ ما هذا القرِينُ فقال لي

ولا بدَّ للصَّيادِ من صُحبةِ الكلبِ

وكأنه وقف على ما ذكره المقريزي من أنه ثار بمصر في بعض الأحايين ريحٌ شديدة، سقط منها حجرٌ من بعض عضائِد جامع الحاكم، فقلب الحجر، فوُجد عليه هذه الأبيات، وهو لغزٌ عجيب، رقيق لفظه:

إن الذي أسررتُ مكنونَ اسمِهِ

وكتمتُه كيْما أفوزَ بوصلِهِ

مالٌ له جذرٌ تساوَى في الهِجَا

طرفاه يُضرب بعضه في مثلِهِ

فيصير ذاك المالَ إلَاّ أنه

في النصف منه تُصاب أحرُفُ كُلِّهِ

ص: 131

وإذا نطقتَ بربعه من كلِّ ما

من بعد أوَّله نطقتَ بكلُّهِ

لا نَقْطَ فيه إذا تكامل عَدُّه

فيصير منقوطاً بجُملةِ شكْلِهِ

فحلَّه بقوله:

قد كان هذا اللُّغزُ يُصدِي فكرتِي

لكن بحمدِ الله فزتُ بحلِّهِ

تالله نظمُ الذِّكرِ يخرُج منه ما

عنه أشار مُبيِّناً لمحَلِّهِ

مالٌ أتَى من ضربِ سِتٍّ بعضُه

في سِتَّةٍ وهي المُراد بمثلِهِ

فيصير منه النصفُ لكن مذ غدا

مُتساوِي الطرْفين عاد ككُلِّهِ

والنطقُ منه برُبعِهِ أي ثالثٍ

من بعد أوَّله وثانٍ يُجْلِهِ

لا نقْطَ في لفظِ الحروف وإنَّما

عينُ المسَمَّى أنبأتْ عن شكلِهِ

في عِقدِ حالِيَةِ العذارَى إن ترُمْ

إيضاحَ معنًى شاهدٍ عن أصلِهِ

وأنشدته يوماً قولي معمِّياً باسم موفَّق:

من وُلاةِ الجمالِ سلطانُ حسنٍ

حكَّمته القلوبُ فازْداد عُجْبُهْ

حدَّ للقلبِ مذ سمَا حدَّ سِرٍّ

نازِلٍ في حَشاهُ ما راق حِبُّهْ

فحلَّه وحلَاّه، فقلت أخاطبه:

مولاي يا حلَاّلَ كلِّ مُشكِلٍ

بفهمِه ورأيهِ السَّدِيدِ

أفْديك مذْ حلَّيت ما عمَّيتُهُ

حلَّيت قلبِي وفمِي وجِيدِي

فقال هذا يشبه قول العفيف التِّلمساني:

قد قلتُ لمَّا أراد شَدًّا

بخصْرِهِ يا مهفهَفَ القَدّ

حلَّيتَ قلبي وعِقد صبرِي

وعاطلَ الخَصرِ منك بالشَّدّ

وطال ما جال في خلَدي، من أيِّ نوعٍ هذا من أنواع البديع، فقلت له: قد ذكر البدر الدَّماميني، في حاشيته، على شرح لاميَّة العجم: أنه من نوع الاستخدام.

وأنشد منه قول ابن نباتة:

رشفْتُها في مكان خلوتِها

وجيِّد الحسنِ ثَمَّ قد جُمعَا

حلَّتْ مذاقاً ومشرباً وفَماً

والجِيدَ والشعرَ والصفاتِ معَا

وفيه استعمال كلمةٍ واحدة على ستِّ معان.

وقدَّم أن مثل هذا لم ينصُّوا عليه في الاستخدام. انتهى.

وكتبت إليه أستدعيه إلى منتزه بالشَّرف الأعلى، في يوم شرف الشمس: سيدي، النفس خضراء والربيع أخضر، وأنا شريف وأنت شريف، فما علينا أن نهجر المألف والمربع، ونجمع بين هذه الفصول الأربع.

في زمنٍ تعتدل فيه الطِّباع، وتقف عليه الخواطر والأسماع.

فانهض لنكون إلفين، ولك الأعلى من الشرفين.

في يومٍ حلَّ به شرفُ الشمس، واعتدلت الحواسُّ الخمس.

فهناك أنشدك باللسان، مع موافقة الجوارح والجنان:

لِم لا أتيهُ في العُلى

على جميعِ السَّلفِ

والسيدُ الشريفُ قد

شرَّفني في الشَّرفِ

أحمد بن عبد الله العطار، المعروف بابن جدي سمحٌ سهل، لكل ثناءٍ أهل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب.

بمحاضرة أشهى من ريق المحبوب، ومحاولة أصفى من ريِّق الشُّؤبوب.

وعلى الجملة فما هو إلا تحفة قادم، وأطروفة منادم.

وعودة صحةٍ لمريض، واصطباح عيش في روضة أريض.

وبيني وبينه أخوة أواخيها مشدودة، وأبواب التمويهات عنها مسدودة.

ما زلنا في خلسةً للودِّ ونُهزة، وأريحيةٍ للحظِّ وهزَّة.

من حين رضعنا للتَّآلف ذلك الدر، وجرينا فيه على حكم عالم الذَّر.

والله يصوننا في بقية العمر عن الغير، كما صاننا عن الشَّوائبِ فيما مضى وغبر.

فمن أريج عاطره، الذي نفح به روض خاطِره. قوله مضمِّناً:

وبَليتِي ساجِي اللِّحاظِ قوامه

غُصْنٌ على دِعصٍ تُثنِّيه الصَّبا

يهتزُّ لِيناً حين يخطُر مائساً

جذلانِ من مرحِ الشَّبيبة والصِّبا

بدرٌ تقمَّص بالملاحةِ والبَها

فغدا إلى كلِّ القلوبِ مُحبَّبا

سلَّتْ لواحِظُه علينا مرْهفاً

ما كان إلا في القلوبِ مُجرَّبا

يخشى على وردِ الخدودِ لِلافحٍ

فغدا بريْحان العِذارِ مُنقَّبا

ساوَمتُه وَصْلا فحدَّق لحظَهُ

مُتبرِّماً نَحْوي وألوَى مُغضَبا

ص: 132

فكأنَّ صفحة خدِّه وعِذارَه

تُفَّاحةٌ رُمِيتْ لتقتُلَ عقربا

وأنشدني من لفظه لنفسه:

ولمَّا رأيتُ الفضلَ في النَّاسِ ضائعاً

وأكثَرُ منه ضيْعةً فيهمُ الحرُّ

بخِلتُ بِشعري حيث لم أرَ في الورى

فتًى إن رأى شِعراً يحرِّكه الشِّعرُ

ورحتُ بنفسٍ لم يُرِق ماءَ وجهِها

سؤالٌ حَداه العسرُ واقْتادَه اليُسْرُ

وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه، قوله من قصيدة طويلة، مطلعها:

عتَبِي على الدَّهرِ عَتْبٌ ليس يسمعُه

إذْ بالهوى والنَّوى قلبي يروِّعهُ

بانُوا فأصبحتُ أشكو بعد ما رحَلوا

لِلبيْن ما بي يدُ التَّفريق تجْمعُهُ

شكْوى يكاد لها صُمُّ الصَّفا جَزَعاً

كما تصدَّع قلبي منه يَصدعُهُ

منها:

بي من رسِيسِ الهوَى داءٌ يُصانِعُني

طولَ الزَّمان إلى ما الحب يصنعُهُ

وأنثَنِي من لَظى الأشواقِ في حُرَقٍ

إذا وميضُ الدُّجى يبدو تلَمُّعهُ

لم ألقَ يومَ النَّوى إلا حَشاً قَلِقاً

ومدمعاً بِأتيِّ الدمعِ يشفعُهُ

يا صاحِ أين ليالينا التي سلفتْ

مرَّتْ سِراعاً وطيبُ العيش أسرعُهُ

فاعجبْ لنارِ ضُلوعي كلما خمدَتْ

أشَبَّها من غُروبِ الجفْنِ أدمعُهُ

وباتَ يُذكِي ضِرامي صادحٌ غَرِدٌ

في النَّيربَيْنِ بتَرْنامٍ يُرجِّعُهُ

يا وُرقُ مهلاً أذَا التَّرجاُع من فرحٍ

بارَّوض أم فَقْدِ إلفٍ عزَّ مرجعُهُ

وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله:

أفي كلِّ يومٍ بالنَّوى تتروَّعُ

ومن حادثاتِ الدَّهرِ يُشجِيك موقِعُ

وتشْقى برسمٍ قد ترَسَّمه البِلَى

وتَسقِي ثَراه كلُّ نَكباءَ زَعْزَعُ

وتندبُ أطلالاً تعفَّتْ رسومُها

وتشكو لرَبْعٍ أعجَمٍ ليس يسمعُ

وتُسبِل تَهْتانَ المدامعِ هاطلاً

على قفرةٍ من دِيمةٍ ليس تُقْلِعُ

وتُصبح هيما بين قفرٍ تجوسُه

وتُمسي وَلهاناً وأنت مروَّعُ

وترمِي بطَرفيْكَ الهِضابَ عشِيَّةً

أفي كلِّ هضْبٍ للأَحبَّة مَطْلَعُ

وقائلةٍ فيما الوقوفُ وقد خلا

من القومِ مُصطافٌ يرُوق ومربَعُ

فقلتُ لها أذرِي للدموعَ وهكذا

أخو الشوقِ من فرطِ الصَّبابةِ يصنعُ

وما كنتُ أدري قبل وَشْك رحيلِهمْ

بأنِّي إذا بانُوا عن الجِزْع أجزَعُ

ولا أنَّ أنفاسي يُصعِّدها الجوَى

إذا لاح برقٌ في الدُّجُنَّةِ يلمَعُ

فرُحْتُ ودمعُ العينِ تجري غُروبُه

على الخَدِّ منِّي والحمائمُ تسجعُ

تنوح بِشطِّ الوادِيين ولِي حَشا

إذا ما انبرَى تَرنامُها يتصدَّعُ

فلا كبدِي تهْدا ولا الشوقُ مُقصِرٌ

ولا لوعتي تخبو ولا العينُ تهجعُ

وقد رحَلوا عن أيمُنِ الجِزْع غُدوةً

فلم يبق في قُربِ التَّزوارُ مطمَعُ

وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه قوله:

ومُعطَّفِ الأصداغِ يخْتلِس النُّهى

أبدَى التَّشاغُلَ عن مُحِبٍّ والِهِ

يُبدِي تلفُّتَ شادنٍ ويُديرُ لَحْ

ظَىْ جُؤذُرٍ والبدرُ جزءُ جمالِهِ

تِمثالُ شكلِ الحسنِ لا بل إنَّما

الحسنُ مطبوعٌ على تِمثالِهِ

وكنت أنشدته قولي:

ولمَّا أدار الشمسَ بدرٌ لأنجُمٍ

بأُفقِ الهنا بين الهلاليْن في الغَسَقْ

عجبْتُ له يُبدِي لنا البدرَ طالعاً

وما غاب عنَّا بعدُ جِيدِه الشَّفَقْ

فنظم هذا المعنى، وأنشدنيه من لفظه:

وساقٍ مَيودِ القَدِّ أحْورَ أوْطفٍ

إذا لم يُمِتْ بالصدِّ يقتلُ بالحَدَقْ

يُرينا بأُفقِ الكأسِ شمساً توسَّطتْ

هلالين يمْحو نورُها أيةَ الغسَقْ

ص: 133

ومذ همَّ يَحسوها ترفَّع جِيدُه

فبَان لنا صبحٌ وما غَرب الشَّفَقْ

وكتبت إليه أستدعيه إلى روض: طلع علينا هذا اليوم في نضارته، يكاد صحوه يمطر من غضارته.

فلقينا زهره، ونظمنا نثره.

في روضٍ وُشِّيَ بخسْرَوانيّ الدِّيباج، وغُشِّيَ بما يربو على أصناف الجواهر في الابتهاج.

فمن نورٍ مُدَرْهمُه بَهِج، وزهرٍ مُدنره رَهِج.

يُضاحِك دُرَّه مُرجانه، ويعبق بصائِك المسك أردانهُ.

وللنَّسيم فيه اعتلالُ إشفاق، إذا ما رقد المخمور فيه أفاق.

والرَّوضُ رطبُ الثَّرى طيِّب المَقِيل، وليس فيه غير رِدفِ الساقي ثقيل.

ولم نعدم نَدامَى بألفاظٍ عِذاب، كأنها قَنْد مُذاب.

معرفتهم بأغصان القُدود، وتُفَّاح الخدود.

لا بالنِّصول الحِداد، والقِسِيِّ الشِّداد.

ولديهم من الفُكاهة، ولُطف البداهة.

ما إذا جُلِيَ فما الرَّاح والتُّفاح، وما ريحان الأصداغ إذا فاح.

وإن شاءوا ألحقوها بحِكَمٍ مَتْلُوَّة، وأخبارٍ في صحف الإحسان مَجْلُوَّة.

وعندنا لحنٌ يُثير الشَّجَن، ويبعث من الشوقِ ما أجَنّ.

وحبيبٌ قرب من عهد الصِّقال خدُّه، فلم يجفَّ ريحانه ولم يذوِ وردُه.

يزلُّ عن خدِّه الذَّرُّ فلا يعلق، ويمشي عليه النملُ فيزلق.

وقد تمنَّينا فلم نجدْ غيرَك أُمنِية، ولا مثل آدابِك غَضَّة جنيَّة.

وعلمنا أنه ليس للأُنس مع غيبك بهجة، ولا للعيش دون لقاك مُهجة.

فبالله إلا ما أنجَحْتَ الأوطار، وفتحتَ بمذاكرتك عن جَونة العطَّار.

ولك الثَّناء الذي يتجمَّل به الدهر، ويتفتَّق ريَّاه عن الروضِ فاح فيه أريجُ الزَّهْر.

السيد سليمان، المعروف بالحموي الكاتب حرفته الدواة والقلم، ولديه البراعة تُلْقَى أعِنَّةُ السَّلم.

وله طبع سبكتْ تِبرهُ الأيام، وصقلتْ حديد ذهنِه من صَدإِ الأوهام.

بوجهٍ فيه الفلاح يتوسَّم، كأنه دُرٌّ يوقِده ثغرٌ تبسَّم.

وقد أوقفني من شعره على مُلح غضَّةِ الشُّفوف، فجرَّدتْ منها كلَّ بيتٍ كأنَّ الحسنَ عليه موقوف.

فمن ذلك قوله في الغزل:

قم يا نديمي نُباكِر القَدحا

أما ترى الصبح زَنْدَه قدَحا

والجوُّ صافي الأدِيم من كدَرٍ

صَفْوَ امرِئ في وِدادِه نصَحا

وقام من فوق أيكةٍ غَرِدٌ

يُذْكرنا بالصَّبُوح إذ صدحَا

وقد أهاجتْ لنا الصَّبا شَجَناً

بنشرِها العنبرِيِّ إذ نفَحَا

فحركتْ ساكنَ الفؤاد وما

أسْأرَه الوجدُ فيه والبُرَحا

والدهْر أبْدى الرِّضا وجادَ لنا

بفرصة والرقيبُ قد نَزَحا

فانهَض لنقضِي من الصِّبا وطَراً

في غَفلةِ اللائمينَ والنُّصَحا

وعاطِني قرْقفاً معتَّقةً

صهباءَ تنفِي الهمومَ والتَّرحَا

من كفِّ ظبْيٍ كأنما غفِلتْ

أعين رِضوانَ عنه مذ سَرَحا

أحورُ أحْوَى أغَنُّ ذو هيفٍ

فداؤُه كلُّ من عليه لَحَى

قد أبدعَ اللهُ خلقَه فأتى

مُتَّزِراً بالجمال مُتَّشِحا

رقَّتْ حواشِي طباعِه فحكتْ

رِقَّةَ ألفاظ من حَوى المُلحَا

ومنه ما بعث به اليَّ في غرض له:

أنعِم صباحاً سيِّدي

يا ذا العُلى والسُّؤدُدِ

يا ابنَ الموالي الأكرمي

نَ فداك كلُّ مُسوَّدِ

يا ماجداً وطئَ السُّها

واحتلَّ فَرْق الفَرقَدِ

بفضائلٍ ومآثرٍ

ومفاخرٍ لم تُجحَدِ

وشواردٍ كعقُود دُرٍّ

فُصِلتْ بزَبرجَدِ

فاقت برَونقها نِظا

مَ البحتريِّ وأحمدِ

وبديعِ نثرٍ قد حكَى

ديباجةَ الروضِ النَّدِي

تابتْ لهُ حَبُّ القُلو

بِ عن المدادِ الأسودِ

يا أيُّها المولَى الأمي

نُ ونجلُ أكرمِ أمجدِ

أنتَ الذي يُرجَى لد

فعِ خُطوبِ دهرٍ مُعتدِ

العبدُ قدْ عبثتْ بهِ

أيدِي الزمانِ الأنكدِ

ص: 134

وحوادثٍ ضيَّقْنَ في

عينيهِ رَحْبَ الفَدْفَدِ

والصبرُ ليسَ بممكِنٍ

والحظُّ ليس بمُسعِدِ

مولايَ هل من عطفةٍ

ممزوجةٍ بتَودُّدِ

أو نظرةٍ تُدْنِي الفقي

رَ من الجَنابِ الأسعدِ

تاللهِ لم أقصِد سِوا

كَ وهل سواكَ بمقصدِ

فبِحرمَةِ الآدابِ كُنْ

من جَوْرِ دهري مُسعِدي

لا زلتَ مقصوداً على

رَغْمِ الحسودِ الأنْكَدِ

وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله:

يا أيُّها الملِكُ الباهي بطلعتهِ

ومَن لعهدِ وِدادِي في الهوى نبَذا

أفسدتَ قلبيَ لمَّا أن نزلْتَ به

فقال لي هكذا المُلوكَ إذا

وهذا فيه الاقتباس مع الاكتفاء.

ولبعض المتقدمين عن عصرنا:

مليكةَ الحُسنِ جُودِي باللِّقا كرمَا

لمُغرَمٍ قلبه ذاب فيكِ إِذا

أفسدت قلبي فقالتْ تلك عادتُنا

قد قال سبحانَه إنَّ الملوكَ إِذا

وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله من قصيدة، مطلعها:

قد نبَّهتْنا صَوادِحُ القمْرِي

لمَّا تراءتْ طلائعُ الفجرِ

وفاح من نَسْمة الصَّبا عَبِقٌ

يفُوق رَيَّاهُ عنْبَر الشِّحرِ

والروضُ يخْتال في مُصبَّغَةٍ

تجُرُّ أذْيالَها على النَّهرِ

وسرورُه كالقيانِ إذ خطرتْ

لِرقصِها في مآزِرٍ خُضرِ

هذا مسبوق إليه في قول ابن طاهر الخبَّاز:

والسَّروُ فيها كعَذارَى غدتْ

ترقُص في أردِيةٍ خُضْرِ

والطَّلُّ في أعينِ الزُّهورِ حكى

أدمُعَ صَبٍّ أحسَّ بالشرِّ

والجوُّ قد راقَ والمُدامةُ قد

رقَّتْ كطبعِ النديمِ أو شِعرِي

ودارَ من فوقِ وجهِها حَبَبٌ

يُخجِل مَرآه ناصِعَ الدُّرِّ

فانْهضْ فَدَتْك النفوسُ مُبتكِراً

وهاتِها قبل ضيعة العُمرِ

صهباءَ تنفي همومَ ذي تَرَحٍ

إن برزَتْ كالعروسِ من خِدْرِ

طيِّبةَ النَّشرِ في الكؤوسِ وهل

بعد عَروسٍ يكون من عِطْرِ

يُديرها أهيفَ القَوامِ رَشاً

مُخْتَصَر الخَصرِ بدائعَ السِّحرِ

يسْقي قليلَ المُدامِ عن ثقةٍ

منه بما في الجفونِ من خمرِ

وأنشدته يوماً قولي:

بُروحِيَ من وجهُه آيةٌ

تدلُّ على خلقهِ المُنْقَنِ

أُحاول في صُدغِه لحظةً

فتمنعني زحمةُ الأعيُنِ

فأنشدني في معارضة بديهاً:

كلَّما رمتُ نَظرةً والْتماحاً

لعِذارٍ على الخدودِ أدارَهْ

لم يجِدْ ناظِري إليه طريقاً

لازدِحام اللواحِظ النَّظَّارَهْ

وأنشدني من لفظه لنفسه:

لا تحسبُوا أن رَيْحانَ العِذارِ بدَا

بوجنةٍ صاغَها الرحمنُ وابتَدَعا

وإنما طوقُه السَّمُّورُ قابلَها

فشكلُه في حواشِيها قد انْطَبعَا

مثله للشهاب الخفاجي:

وظبيٍ من السَّمُّورِ أُلبِس فروةً

ومال كما هزَّت صباً سُحرةً سَروَا

وإلا عيونُ الناسِ من دَهشةٍ به

تُخايلُ أهْداباً فتحسَبُه فَرْوَا

وأنشدني من لفظه لنفسه:

نبِّه الصَّحبَ لارتِشافِ سُلافِ

وأدِرها بين النُّدامى الظِّرافِ

وامسحِ الطَّرفَ من فتورِ نُعاسٍ

بذُيول الصَّبا الرِّقاقِ اللِّطافِ

يا فَدَتْكَ النفوسُ دَاوِ بصرفِ الرِّ

احِ روحاً تعرَّضتْ للتلافِ

واسقِنيها من كفِّ ظبيٍ غريرٍ

لَيِّنِ المُلتوى قليلِ الخلافِ

مُخطَفِ الخصرِ يختفي البندُ منه

بين طيِّ الأعكانِ والأردافِ

في رياضٍ حُفَّتْ بِسروٍ نضيرٍ

كجوارٍ ميَّالةِ الأعطافِ

باكَرَتْها غُرُّ السحابِ بصوبٍ

دائِم السَّحِّ هاطلٍ مِذرافِ

ص: 135

خدمتْ زُهرُها النجومَ فأبدَتْ

شكْلها في غديرِها الشَّفَّافِ

وقرأت له يوماً الديباجة التي عملتها لديوان شعري، ومنها قولي في معرض غزل: كأنَّ خاله بين الحاجبين، هنديٌّ يلعب بسيفين، أو جارح يختطف الجوارح بجناحين.

فأعجبه ما قلته وراقه، وألقى عليه أوراقه، وجاءني بعد أيام وقد نظم هذا في مقطوع، وأنشدنيه، وهو:

كأنما الخالُ بين الحاجبيْن فتًى

يرمِي بقوسيْن أو يسطو بسيفينِ

أو طائرٍ جارحٍ أهوَى على شَرَفٍ

ليخطِف القلبَ منِّي بالجناحينِ

ونظمت وأنا بالقاهرة قصيدة،، وصفت بها بركة الأزبكية، وتخلَّصت إلى مدح بِركةٍ خطَّها الأستاذ زين العابدين، لا برح المجد ينطق بلسانه، والجود يشكر موارد إحسانه.

فلما وصلت إلى دمشق، وقف عليها المترجم، فكتب إليَّ قصيدةً على وزنها ورَوِيِّها، وصدرها بإنشاءٍ من نسج قلمهِ.

فأما قصيدتي، فهذه:

يا حبَّذا خُضرُ الخما

ئلِ في رياضِ الأزبكيهْ

وخُفوقُ أرديةِ النَّسي

مِ سرى ببقْعتِها النَّديَّهْ

أرضٌ تكنَّفَها الحدا

ئقُ والرياضُ الأريَضِيهْ

وتعطَّرتْ أرجاؤُها

بالرَّائِحاتِ المَنْدَليَّهْ

فوَّاحةٌ بِشذا العَبي

رِ وعابقاتٌ عنبريَّهْ

وترنَّمتْ أطيارُها

سَحَراً بأصواتٍ شجيَّهْ

وإذا تأمَّلتَ القُصو

رَ بها عرفتَ بها المَزِيَّهْ

ومُنحتْ ما تختارُ من

طُرفِ المُراداتِ البهيَّهْ

ومُنِيتَ ما تهواه من

تلك الوجوه الأصبَحِيَّهْ

وتمايلتْ شوقاً لطلْ

عتك القدودُ السَّمهَرِيَّهْ

وقصَرتَ كلَّ هوًى على

خَصرِ الخُصورِ الخاتِميَّهْ

وخلُصتَ من سهمِ العُيو

ن وأنت يا قلبي الرَّميَّهْ

من كلِّ مرهوبِ الشَّبا

في لحظِه رُسْلُ المَنِيَّهْ

وإذا أشارَ ملاطِفاً

ويلاهُ من تلك البلِيَّهْ

يدعو النفوس إلى التَّلا

فِ وليس يدري ما القضِيَّهْ

وعلى تَلَفُّتِ جيدهِ

كم حار مُرتادُ التَّقِيَّهْ

ونَصيبُه في الحسنِ حيْ

ث الشمسُ غُرَّتُه المُضِيَّهْ

فاختَر هنالك مَربَعاً

تُكفي به كلَّ البليَّهْ

وتُقيمُ موفورَ المُنى

وتحُفُّك المِنَنُ الحَفِيَّهْ

في ظلِّ زين العابدي

ن الشَّهمِ أستاذ البرِيَّهْ

مولًى أناخَ المجدُ في

أعقابِه البيضِ النَّقِيَّهْ

وتشرَّفتْ بجنابِه

شرفُ القرومِ المولويَّهْ

فالفضل فضلُ فتًى له الْ

أنعامُ والحُسنى سجيَّهْ

والفخرُ شِنْشِنَةٌ له

ولقد أراها أخزميَّهْ

والحِلمُ وصفٌ قصَّرتْ

عنه السَّجايا الأحنفِيَّهْ

والجُود كلُّ الجودِ في

شِيَمٍ غذتْه حاتِميَّهْ

ضاهى بمقعدِه السُّها

فغَدتْ منازلَه العليَّهْ

وجرى القضاءُ بوَفقِ ما

يرجوه من حُسنِ الطَّويَّهْ

مولاي حيَّى الله وجْ

هك بالتَّحياتِ الزكيَّهْ

ورعاك ما دام الدوا

مُ بعيشةِ العمرِ الهنيَّهْ

أنا من عرفتَ بأنه

منسوبُ سُدَّتِك السنيَّهْ

وإليك لي حقُّ انتما

ءِ فاجرِ حقَّ المالكيَّهْ

وأقِل عِثاري إن سقَطْ

تُ لضعفِ حالي في الهويَّهْ

فأنا الذي خطَّيتُ رَحْ

لي في حِماك حِمَى الحمِيَّهْ

وأرحتُ من تعبِ الحيا

ةِ هناك جسمي والمطِيَّهْ

ما لي براحٌ ما برحْ

تُ وكان في عمرِي بقيَّهْ

ص: 136

ما الكدُّ في دارِي لا ولا

أرضِ القِلاع الأعصميَّهْ

كلَاّ ولا لي ما حيي

تُ بجِلَّقٍ والرومِ نِيَّهْ

إلا جِوارُكِ مُنيتي

حيث الهباتُ الأريَحيَّهْ

حيث الأخِلَاّءٌ الكِرا

مُ ذوو الفُكاهاتِ الجنيَّهْ

من كل وضَّاحِ الصَّبي

حةِ وهو بسَّامُ العَشِيَّهْ

لا زلتَ تخدمُكَ الأفا

ضلُ والسَّراةُ اللَّوذعيَّهْ

وإليكَها مختارةً

من جِلَّقِ الشامِ الزَّهيَّهْ

غنَّاءَ حاليةَ المُقلَّ

دِ بالعقودِ الجوهريَّهْ

غُذِّيتْ أوانَ شبابِها

بشَميمِ سفحِ الصَّالحيَّهْ

وتروَّحت بالشِّيحِ والْ

قَيصومِ من تربٍ زكيَّهْ

وكسَا معاطِفها الدَّلا

لُ حُلى الجمالِ السُّندسيَّهْ

تُوليكَ من طرَفَ المقو

لِ نفائِسَ الدُّرِّ السنيَّهْ

وتبثُّ مدحَك في الورى

بصفاتِك الغُرِّ الرضِيَّهْ

فاهنأْ بها وبمثلِها

من خالِص الطُّرَفِ الطَّريَّهْ

وبقِيتَ ما بقيَ البقا

ءُ وأنت ميزانُ البريَّهْ

تَحبوكَ في أمرِ المُنى

ألطافُ مولاك الخفيَّهْ

وهذا ما كتبه إليَّ من إنشائه، ويتلوه قصيدته: إن أشرفَ ما نمَّقه قلم، وأتحفَ ما نَمنَمه رقم.

وأبهجَ ما تزيَّن به طِرس، وأبدع ما جرى به نِقس.

سلامٌ أضوعُ من شميم الكِبا، وألطفُ من نسيم الصَّبا.

وأعطرُ من أرَج أزهار الرياض، وأسحر من تغازل الأجفان المِراض.

وأثنِيةٌ لا يُحصى عدُّها، وأدعيةٌ لا ينقطع مددُها.

أُهدي ذلك إلى جناب من لا أسمِّيه؛ لجلالته، ولا أكنِّيه؛ وقدره المُعتلي عن ذلك يُغنيهِ.

حرس الله ذاته العليَّة، وجمَّل الوجود بصفاتِه السَّنيَّة.

وبعد، فإن تفضَّل المولى بالسؤال، عن كيفيَّة الحال.

فالعبد لله الحمد ذي المِنن الوافية، في بحبوحة الصحة والعافية.

غير أن الشوق، شبَّ عمرُه عن الطَّوق.

يسَّر الله الاجتماع بكم إنه وَلِيُّ التيسير، " وهو على جمعِهم إذا يشاءُ قدير ".

والذي يعرِضه هذا الدَّاعي، أن المولى حين أشرق في فلك مصر بدرُه الكامل، وغاب عن أُفق شامنا الذي هم للمحاسِن شامِل.

لم يزل العبدُ لألم البين مكابد القلق والضَّجر، متطلِّعاً لأخباركم السارَّة حتى ظفر منها بأبلغ أثر.

وذلك قصيدتكم الرافلة في الحلل البهيَّة، المتضمِّنة لمدح الأستاذ ووصف بركة الأزبكيَّة.

التي سجد لبلاغة نظامها من هو أبلغ من الوليد، والفريدة التي كلُّ بيتٍ منها بألف قصيد.

لا برحتْ جواهر ألفاظ مولانا قلائد لذوي التَّحقيق، وعرائسُ أبكار أفكارِه محلَاّةً بمدائح آلِ الصِّدِّيق.

فعند ذلك توسَّلت إلى الله تعالى بسيِّد الكونين، أنه كما سرَّني برؤية الأثر أن يُقِرَّ الأعين بالعين.

وتصدَّيتُ لعرض أشواقي التي خرجت على حدِّ الحَصر، بأن أعارضها بقصيدةٍ أهديها لأوحد العصر.

لتكون لأثر الشوق قافية، فأشبهتْها ولكن وزناً وقافية.

ومن يقوى لمعارضة البحر الكامل، وأين الثُّريَّا من يدِ المتناول.

وهاهي واصلةٌ إليك، وقادمةٌ عليك.

وصل الله لك أسباب نتائج الأمل، متلفِّعةً بأسمالِها، تعثر في ذيلها من الخجل.

فتلقَّها بالبِشر والقبول، وأنزِلها منك بأحسن منزول.

وأسبل عليها من حلل إحسانك سِترا، لأنك من أهل البيت وصاحب البيت أدرى.

والقصيدة هي هذه:

أسَقيطُ طَلٍّ جال في

زُهر الرياض السُّندسيَّهْ

أم ثغرُ المبا

سِمِ ذي الثَّنايا اللُّؤلؤيَّهْ

أم وحيُ حوراءِ اللَّوا

حِظ أم عقودٌ جوهريَّهْ

أم نسمةٌ شِحرِيَّةٌ

نفحَتْ فجاءتْ عنبريَّهْ

أم روضةٌ غنَّاءُ يا

نِعةٌ أزاهِرها زهيَّهْ

أم ذاك نفثُ السِّحرِ من

مولاي أرسلَه هدِيَّهْ

ص: 137

أعني الأمينَ أمينَ كنْ

زِ الفضلِ بسَّامَ العشِيَّهْ

حاوِي الفصاحةِ والبلا

غةِ والصفاتِ الألمعيَّهْ

ساد الورى بشمائلٍ

عنوانُها النفسُ الزَّكيَّهْ

فَرعٌ زَكيٌّ أصلُه

خيرُ الخلائقِ والبريَّهْ

يا مجلياً بكر المعا

ني الغرِّ بالكَلِمِ الجليَّهْ

للهِ دَرُّ عقيلةٍ

ألبَسْتها الحُللَ السنيَّهْ

وبعثتَها تروِي أحا

ديثَ الكرامِ الأريحيَّهْ

من ذا يُساجِلكَ النِّظا

مَ وأنت سحَّاحُ السجيَّهْ

أدبٌ كأزهارِ الرُّبى

سُقيتْ بأخلاقٍ رَوِيَّهْ

وشواردٌ سارتْ بها الرُّ

كبانُ للمدنِ القصيَّهْ

غُرَرٌ كأنَّ روِيَّها

دُرُّ الثُّغورِ الألْعسِيَّهْ

كادتْ لرِقَّتِها تسي

لُ فترتوِي كبِدٌ صدِيَّهْ

يا سيِّداً كم راضَ لي

في النَّظم قافيةً عصِيَّهْ

يا أوحدَ العصرِ الذي

حاز الهِباتِ الحاتميَّهْ

أوَمَا كفى بِفراقِ طلْ

عتِكَ البهيَّهْ لي بليَّهْ

حتى نسيتَ عهودَ ودِّ

ي بعد إخلاصِ الطَّويَّهْ

ثم انثنيتَ فهِجتَ لي

شجَناً بذكْر الأزبكيَّهْ

وسلوتَ عن وادي دِمش

قَ وما حوى والصالحِيَّهْ

ذاتِ المنارةِ والجوا

سِقِ والرِّياضِ الأريَضِيَّهْ

والنَّيربين الأفيحَيْ

نِ بها وغوطَتِها البهيَّهْ

والسَّبعةِ الأنهار تجْ

ري في البِقاع الأقْدسِيَّهْ

والوُرْقِ يُبدِي لحنُها

بالجُنْكِ أصواتاً شجِيَّهْ

وعليلِ مسْكِيِّ الصَّبا

يهْفو بأنفاسٍ نَدِيَّهْ

والمرجةِ الخضراءِ إذْ

فُرِشتْ ببسْطٍ عبقريَّهْ

ومسارِحِ الآرامِ في

أرجائِها وقتَ العشيَّهْ

من كلِّ أغيدَ مُشرقٍ

أبْهى من الشمسِ المُضِيَّهْ

يفترُّ عن شنَبٍ أغرَّ

حوَى صِحاحَ الجوهريَّهْ

وجَناتُه الياقوتُ وال

خِيلانُ أضحتْ عبقريَّهْ

ولِحاظُه فعلتْ بنا

أضعافَ فعلِ المشرَفِيَّهْ

عن بابلٍ أخذتْ فنو

نَ السحرِ فهي البابليَّهْ

يرنو فيرمِي أسهُماً

منها وحاجبُه الحَنِيَّهْ

يُصمِي ولا يدري بأنَّ

فؤادَ مُضناهُ الرَّمِيَّهْ

لدنُ المعاطفِ قَدُّه

قدُّ الرِّماحِ السَّمهريَّهْ

نشوانُ من خمرِ الدَّلا

لِ سُقِيَ بكاساتٍ رَوِيَّهْ

فكأنَّه ملِكٌ وأل

بابُ الأنامِ له رعِيَّهْ

هذي محاسِنُ جِلَّقَ ال

فيحاءِ تَفْديك البريَّهْ

أُنموذجاً منها وصفْ

تُ وانت أدري بالبقية

فبأي عذر ملت عن

رؤيا الشَّهيَّهْ

حيَّى الإله جمالَ وَجْ

هِكِ بالرضا أسنَى يحيَّهْ

مولايَ هل من نظرةٍ

صِدقُ الوِدادِ لها مزِيَّهْ

فلواعِجُ الأشواق في الْ

أحشاءِ جمرتُها ذكِيَّهْ

أنا عبدُكَ الخِلُّ الوَفِيُّ

وليس حالاتي خفِيَّهْ

فاسلمْ فديتُكَ حيث كُنْ

تَ ودُمْ بعيشتِك الرخِيَّهْ

وإليكهَا رُعبوبَةً

تُنبيك عن حُسنِ الطَّوِيَّهْ

حموِيَّةً شاميَّةً

وافتْ بفاكهةٍ جنِيَّهْ

ص: 138

فاسبِلْ عليها من جمي

لِ السترِ أرديةً نقِيَّهْ

لا زلتَ ممدوحَ الصَّفا

تِ الغُرِّ محمودَ السَّجِيَّهْ

ما غرَّدتْ وُرْقُ الحما

ئِمِ في الرِّياضِ السندسيَّهْ

ولما وردت عليَّ وكنت مقيماً ببولاق، وأنا حليف أخلاقٍ أخلاق.

وذلك لفقد الأنيس، حتى اليعافيرُ والعِيس.

لا أرى ردِيفاً إلا من القافية، ولا أطلبُ صديقاً إلا من العافية.

ولا ذقتُ إلا ماءَ عيني مشربا، ولا نِلتُ إلا لحمَ كفِّي مطعَما.

وقد عرفتُ شأني وزماني، وخلعتُ من عنقي رِبْقةَ الأماني.

لا تزعجني المهمَّة، إلى استعمال الهمَّة، وأنا ناظرٌ إلى نفسي بالذنبِ والتُّهمة.

فقد اجترمتُ الخطايا، وركبتُ الأجرامَ رواحِلَ ومطايا.

وفارقتُ العيون الصِّحاح، والألفاظَ الفِصاح.

والرِّياضَ النَّواسِم، والثغورَ البواسِم.

والمواطن التي عرفتُ بافتراع الأحاسنِ ناسَها، وألقيتُ بها أزِمَّةَ الآداب تروق أنواعها وأجناسَها.

فكتبت إليه وضرورتي مشروحة، ودعوى التَّحامُل عن كتفي مطروحة.

وأستوهب الله رحمةً تجعل عِناني في يد التوفيق، وتصرِف عَياني عن هذه الوحدة إلى الفريق الرَّفيق.

وصل كتابك فاتَّفقتِ القلوب على تفضيله، واختلفت الألسنةُ في تمثيله.

فمِن مدَّعٍ أنه رُقْيةُ الوصل، وريقة النحل.

ومنتحلٍ أنه دُرَّةُ النَّحر، ولؤلؤةُ البحر.

وقائلٍ هو السُّكَّرُ المعقود، وسلافُ العنقود.

فأمَّا أنا فتركت التشبيه، وقلت ماله مقيل ولا شبيه.

بَنَتِ البلاغةُ سماءَ بيانه، وحُشر الحسن بين قلم منشيه وبنانِه.

فعين الله على هذه الألفاظ الغر، التي يحسدها على اتساقها الياقوت والدُّر.

وقد عرفتني من خبر سلامتك ما رجوت له الدوام، ودعوت له بالحفظ من حوادث الأيام.

وكان سرى خيالك فشوَّق، واستطار برقك فأرَّق.

فأجفان الإخلاص ناظرةٌ إليك، ويد القبول مسلِّمةٌ عليك.

وأما القصيدة التي هي دُرَّة التقاصير، وربيبة تلك المقاصير.

فقد وردت مؤكدة لك المحبَّة في القلوب، والرغبة في الودِّ المطلوب.

وفطنت بتلك النِّيَّة، وما أظنُّها كانت عن رَوِيَّة.

فهي كدعوة السائل، إنَّما تجري لتأكيد الوسائل.

كيف ومحلُّها منطَمِسٌ بغبار الأغيار، وحق لمن رأى غُبار بولاق أن يشكو صدأَ الأكدار.

ولعل السيِّد نظر إلى بيت العيون والرَّميَّة، فعلم أن النفس من مخالستِها أبِيَّة.

فلو قاصراتُ الطرفِ أقبلْنَ كالمهَا

وقَبَّلْنَ رأسِي ما قبلتُ مَزارَها

نعم القلوب بعيون الشام علق، إلى أن يصير إلى ما منه خُلق.

فأما وحَدَقِها المراض، وسهامِها التي تتمنَّاها الأغراض.

ورُنوِّها ولو لحظةً فإن لها حقَّا، وتلَفُّتِها ولو غلطةً فإنِّي عبدُها رقَّا.

إني مذ ودَّعتُ بها حلاوةُ الرِّضا، ودَّعتُ العيشَ المُرتضى، وبتُّ على جمرِ الغضا، وحدِّ السيف المُنتضى.

وأنا الآن بحكم الزمان، مستودعٌ دار الهوان.

أضحك للبؤس، وأبَشُّ للوجه العبوس.

وأتصفَّح وجوهاً لا أرجوها، وأريد أمدحُها والمروءة تهجوها.

أكثرهم شيخٌ يتفتَّى، ويبرز في أطوارٍ شتَّى.

يأكل ما تأكل الناس، ويخالفهم في المشرب واللِّباس.

له وجهٌ لا يشِف، وعينٌ لا ترِف.

إذا تكلَّم، كَلَم، وإذا بَشَّ، أدهش وأوحش.

كلامه في الرِّضا، مثلُ هزَّات الفضا.

خلق الله ذاته عبرةً للنَّوائب.

وثمَّ من رُّزِق فلتةً، ورُمِق بغتة.

عمر غناه قصير، وهو بطريق اللُّؤمِ بصير.

فإذا رأيت رثاثة حاله ونعمته لديه، يوشك أن تدَّعي غضب الله عليها وعليه.

وقد مقتُّ به الأيام وتصاريفها، وسئمت الحياة وتكاليفها.

ولو جهلت أن الحِذق، لا يزيد الرِّزق.

لعذرت نفسي في الرحل أشدُّه، والحبل أمدُّه.

ولكني أعلم هذا وأعمل ضدَّه، وأسير سيراً ينكِر المرء فيه جهده.

وإلا فمن أخذني بالمطار، في هذه الأقطار.

حتى تركني أنازل المحن، وأعتب هذا الزَّمن.

وأقول: قد بليت فيه، بأيَّامٍ كأيَّام رمضان وليالٍ كلياليه.

تلك كظلِّ الرُّمح، وهذه تهويمة الصُّبح.

وكلاهما تارةً بنار الجحيم يلتهِب، وآونةً بفيحِه للحارِّ الغريزي ينتهِب.

قد أخلَاّ بالعادة، وجاوزا المألوف بزيادة.

ص: 139

وحشوهما ذباب يبرح ويسنح، وبعدم مبالاة خلطائه لا يهفُّ للبراح ولا يجنح.

وبرغوثٌ كنقطة دغل، أو سويداء دخل.

يدرك بطعنٍ مؤلم، ويستحلُّ دم كلِّ مسلم.

وبعوضٌ يطيل الألم، ولا يفنى حتى يرتوي من شرب دم.

وبقٌّ خارجٌ عما يعهد، يلحُّ في الوصول إلى العظم ويجهد.

ووراء ذلك ضجيج، ولا ضجيج الحجيج.

وزحام يبلَى به الشخص من السَّحر في الطريق، حتى يقول: ما هذه القيامة على الرِّيق.

وأمَّا حديث قلَّة الأدب فمن هنا يُؤثر، والأقلُّ منهم تابعٌ للأكثر.

وكيف يُرجى منهم حجاب، ومكان الحياء منهم خراب.

إلى غير ذلك من قبائح تركتُها حذراً من تلويث الكتاب، وفضائح لا يُلبس عليها ثياب.

هذا وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على المكروه سواه، ولا يعرف قدر نعمته إلا من عالج بلواه.

فلولا العلَّة لم تحمد الصحة، ولولا التَّرحة لم تطلب الفرحة.

فأنا فارقتُ الجنة تعلمة آدم أبي، واستبدلتُ نقيضها بطرفٍ نافرٍ وقلبٍ أبي.

وخضتُ غمار المهالك والرَّدى، ونظرتُ إلى الآخرة وأنا في الدنيا.

وتعوَّضتُ عن تلك الوجوه بهذه الوجوه، واختلفتْ حالي فأنا متناقض معهم في كل ما أرجوه.

فما أشبهني بكحلٍ في عين أعمى، ومصباحٍ عند أكمَه، ونغمةِ عودٍ عند أصمّ، وخاتمٍ في أُصبع أشلّ.

ودرَّةٍ في رأس قروي، وسُبحةٍ في يد بدوي.

وسيفٍ في قبضة جبان، ومصراع تضمين في شعر ابن غزلان، أو أبي الغزلان.

وإنِّي إلى مواضع إيناسي، ومراتع غزلان صريمي وكِناسي.

أحنُّ من حمامةٍ لفرخْ، وأورى شوقاً من عفار ومرخْ.

وأنا مقدم على أدوات التوسُّل، متوسِّل بصاحب الشفاعة في التَّوصُّل.

فعسى أرى وقت التَّلفُّت، ولا علِقتْ لي بعدها لحظةٌ بالتلفُّت.

وإن نبذوا بعدي الحَصاة، فلا أب لهم إن لم يكنِسوا العَرَصات.

فإن عمدوا إلى أن يوقِدوا في أثري النَّار، فليسرعوا إلى أن يثيروا في قفاي الغبار.

وضَراعتي إلى السميعِ المُجيب، أن يجعل ذلك أقرب من كلِّ قريب.

والسلام.

محي الدين السلطي شيخ الصَّنعة ووليدُها، والمتوفِّر له طريفها من الفنون وتليدها.

وابن بَجْدَتها في القريض، وأخو جملتها في النفس الطويل العريض، وأبو عذرتها في التَّصريح بالأغراض والتَّعريض.

رأس بالاستحقاق الآن، وسهَّل طرق الفنون وألان.

وهو شاعر لا يطمح في لحاقه مجاريه، ولا يُحثى التُّراب إلا في وجه مُباريه.

وقد ناهز الثمانين، وسما على العرانين.

فلو رآه ابن سبعين لما تجاوز حدَّه، أو الثمانين لاستنجد بهمَّة جدِّه.

وهو أعصف القوم ريحا، وأكثرهم عن البيان تصريحا.

قلبه قليبٌ واسع، وغوره بعيدٌ شاسع.

لا يقرطِس غرضاً إلا أصماه، ولا يفوِّق سهماً إلا أصاب مرماه.

وقد صحِبته مدةً فتمتَّعت بآدابه، ورأيت التحوُّل في كلِّ فنٍّ من دابه.

وتناولت من أشعاره تحفاً بادية الإغراب، وطُرفاً أترابها في اتِّفاق الصنعة تحت التراب.

فدونك منها ما لا يحتاج حسنه إلى إثبات، كالدُّرِّ يكفيه من حسنه نحورٌ ولبَّات.

فمن ذلك قوله من مقصورة، مستهلَّها:

قوامُه واللَّحظُ منه يُفتَنى

مُمَنَّعٌ بين الرِّماح والظُّبَى

من جفنة كسرى استبيح اسمه

وللنجاشي الحكم في الخال مضى

في حرَكاتِ قدِّه يستحسن الضَّ

مُّ ومن أجفانِهِ الكسر ارتوى

وثغرُه قالوا العُذَيْبُ قلتُ من

ذاكَ يُشامُ البرقُ منه أوْمَضَا

منها:

من لم يذُقْ حُلوَ الهوى ومُرهُ

لم يدرِ ما بين الضَّلالِ والهُدَى

يا صاحِ أعْنى غيرَ صاحٍ من هوًى

إن جُزتَ سلعاً منه سلْ عن ذي نَبَا

أخَيَّم الأحبابُ أم قد ظعَنوا

فهاكَ آثارُ المَطِيِّ في طَوَى

وكنت طلبت منه شيئاً من أشعاره، لأثبته في كتابي هذا، فوعد وسوَّف.

فكتبت إليه:

أمولايَ مُحيِي رسومَ الأدبْ

ومن حاز فيه أجَلَّ الرُّتبْ

لكَ اللهُ من مُبدِعٍ في الصنِيعِ

إذا فاه يَمجبُ منه العجَبْ

فشِعرُك تطرب منه المُدامُ

ونثرُك يرقُص منه الحبَبْ

وأنت الحياةُ لجسمِ العُلى

وللفضلِ رونقُهُ المكتسَبْ

ص: 140

ولولا وجودُك ما شاقنِي

كلامٌ يروق وذاتٌ تُحَبْ

وعدْتَ بإرسال بعضِ القَريضِ

فأنجِزْ لأبلُغَ منك الأرَبْ

فهذا الربيعُ أتى قائلاً

خذُوا طرَباً في أوانِ الطرَبْ

فأرسل إليَّ قطعاً من شعره، وكتب معها: مولاي، وصلت الغادة التي بسماعها عربدت الأفكار، وسكرت مذ شامت أسطرَها ولا سُكر بمُصطار.

فيا لها من غرِّيدةٍ غرَّدت فصدحَ من سماعها الحمام، وحمامةٍ ورقاء فعلت بنا كما تفعل الرُّوح بالأجسام.

سجدت بين يديها البلغاءُ والفصحا، حتى سكر بخمرها المعنوي من لا يشرب وبها صحَا، فهي الدواء للجهَّال والدَّوا، ومعناها المرويُّ والفخر لمن لها روَى.

داوت بكلامها الكُلوم، وسارت في مراتبها منازلُ النجوم.

أشرقت في آفاق الأفكار وضاءت، وشرَّقت القاصدين عن الوصول بأدمُعِها ففاضت.

برزت من كِنِّ حاصل الكمال جوهرةً فريدة، فشهدت بنو الفجر منها وتنهَّدت بدرِّها أبكار الأفكار فهي بها سعيدة.

بانت فيها لبانات الأغراض، ميَّادةً يؤْتَمُّ بجوها وتُلغى الأعراض.

بائية اكتسبت بصائرُنا صحة الإيضاح في المعاني، ببديع بيانها السَّامي على من يُعاني.

تتجلَّى كأنَّها ذكاء نوراً فتكفُّ عن إدراكها العيون، فهي معلومة الذَّات بالصفات مجهولة الكُنه كما قال الفاضلون.

خطفت بأشعَّة أنوارها من ظنَّ السَّراب شرابا، وسلبت وكست فتلك عقولاً وهذه أسبابا.

فيالها من فاصلةٍ كبرى، وخافضة عن بعدها لخدمتها وِزرا.

هذا وقد قلَّدتُها عنُق دهري فطال، ووطئت ممشاها بالعيون وطأة إدلال.

فقال كمالها ارفع رَاسا، وتجلَّى جمالاً فأحيَى أنفاسا.

فهي السائدة على سُؤدد السيادة، وكأنها لِمُرسلها حُسنى وزيادة.

وقد ضاق وُسع هذا الدَّاعي عن هذا المدى، لكنه لحثالة حاله وقلَّة رأس ماله، قام منشدا:

صدوحةُ روضِ اللَّهى والطربْ

ومَغنى الفِصاح وكِنُّ الأدبْ

غريدةُ بيتِ ولاءِ الولِيِّ

نتيجةُ فخرِ لُغاتِ العربْ

عن الرَّاح تُغني بحسوِ العقولِ

فما الخمرُ وصفاً وبِنتُ العِنبْ

بدتْ في خِمارِ اللَّهى تنثنِي

فعربَدَ منها الحِجى واضطرَبْ

ولمَّا اسْتقرَّت براح الخَديم

أراح مُناه وزيحَ النَّصبْ

كأنّ أمينَ الوفا قد وفَا

يُخاصِم دهراً حليفَ العَتبْ

فأبْرز حِلماً وحُكماً له

فهل يُستطاعُ سِوى ما كتَبْ

أجَبنا نجيباً سمَا عصرُه

بما قال أمراً وما قد طلبْ

فهاك رُوَى عاجزٍ عن مدَى

وَفاك وعن شأوِ أهلِ الحسَبْ

وهذا ما بعث به.

فمن ذلك قوله من قصيدة: هذا المفرد في الغزل استجدتُه فأفردته، وهو:

وجهٌ إذا قابلَ شمس الضُّحى

والبدرَ ليلاً فات وقتُ الصَّلاهْ

وقوله:

ومختَضرٍ أرْثَتْه منِّي ضمائرٌ

على ظنِّها لم تدرِ في أمرِها السَّببْ

فكان كما أرويه حقًّا بلا مِرا

إلى رحمةِ الله الرحيم هو الأدبْ

أرثيتُ لفلان، إذا رفقتَ له. ورثى الميِّت بالشعر، وربما قالوا أرثأته بالشعر، ويعد من غلط البصريين. وأما أرثيتُه، فلم أره.

ومن ذلك قوله:

بي غادةٌ تُملِي الجوَى

من شرحِ أسوا مِحنتي

ناظرتُها من خاطري

فأنا الذي وهي التِي

فيه إيداع لبيت ابن لؤلؤ الذهبي، وهو:

فأنا الذي أُملِي الجَوى من خاطِري

وهي التي تُملي من الأوراقِ

ومن ذلك قوله، من قصيدة، مطلعها:

إنَّ أصْلدَ الزِّناد في الأيادي

ما أصْلدتْ قرائحُ الأكبادِ

أورتْ زنائدِي فنوناً قصَّرتْ

عن نعتِها اللَّهى من الأمجادِ

من كلِّ معنًى بالبديع شأوُه

له رَقَى على بيانِ الشادِي

معناه في لطافةِ التركيب والْ

معنَى كلُطفِ الرُّوحِ في الأجسادِ

برَعتُ فيها فاليراعُ خادِمي

والطِّرس ملكِي والرُّوى أجنادي

ص: 141