المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سامرتُ فيما فُهْتُ روحي في الدجى … فآنستنِي مثلَ صوتِ - نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة - جـ ١

[المحبي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌الباب الأولفي ذكر محاسن شعراء دمشق

- ‌الشام ونواحيها لا زالت طيبة العرار والبشام

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌‌‌دَوْر

- ‌‌‌دَوْر

- ‌دَوْر

- ‌دَوْر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌بسم الله الرحمن الرحيمبقية الباب الأول

- ‌في محاسن شعراء دمشق ونواحيهافصل ذكرت فيه مشاهير البيوت

- ‌السيد محمد بن السيد كمال الدين

- ‌أخوه السيد حسين

- ‌السيد عبد الرحمن

- ‌السيد عبد الكريم

- ‌السيد إبراهيم

- ‌شهاب الدين بن عبد الرحمن

- ‌أخوه إبراهيم

- ‌فضل الله بن شهاب الدين

- ‌ علي بن إبراهيم

- ‌ حفيده إسماعيل

- ‌ولده عبد الغني

- ‌أحمد بن ولي الدين

- ‌ولده عبد الوهاب

- ‌عمر بن محمد

- ‌حفيده محمد بن علي

- ‌حسين بن محمد

- ‌القاضي محب الدين

- ‌عبد اللطيف

- ‌ أخوه محب الله

- ‌محمد بن عبد اللطيف الشهير بالخلوتي

- ‌ السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله

- ‌فصل

- ‌محمد بن عمر الصوفي

- ‌على بن جار الله

- ‌حافظ الدين العجمي

- ‌مرعيّ بن يوسف الكرميّ

- ‌‌‌فصل في معاتبةٍ

- ‌فصل في معاتبةٍ

- ‌فصل في الحثّ على المواعيد

- ‌فصل في شكوى حال غريب

- ‌فصل في مخاطبة محدّث

- ‌فصل في مخاطبة منطقيّ

- ‌فصل في مخاطبة نحويّ

- ‌خير الدين بن أحمد الحنفي

- ‌نجم الدين بن خير الدين

- ‌أحمد الخالدي الصفدي

- ‌حسن الدّرزيّ العيلبونيّ

- ‌محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصّيداويّ

- ‌حسين بن عبد الصمد الحارثيّ

- ‌ولده بهاء الدين

- ‌حسن بن زين الدين الشهيد

- ‌سبطه زين الدين بن محمد

- ‌السيد نور الدين بن أبي الحسن الحسيني

- ‌ولده السيد جمال الدين

- ‌أخوه السيد علي

- ‌نجيب الدين بن محمد بن مكي

- ‌محمد بن حسن بن عليبن محمد، المعروف بالحر

- ‌محمد بن علي بن محمود الحشريّ

- ‌حسين بن شههاب الدينبن حسين بن محمد بن يحيى ابن جاندار البقاعي الكركي

- ‌عبد اللطيف البهائي البعلي

- ‌حسن بن درويش الكاتب الطرابلسي

- ‌عبد الجليل بن محمد الطرابلسي

- ‌رجب بن حجازي المعروف بالحريري الحمصي

- ‌فصل في وصف عمامة

- ‌المعروف بابن الأعوج

- ‌الباب الثاني في نوادر الأدباءبحلب الشهباء

- ‌مصطفى بن عثمان البابي

- ‌السيد موسى الرَّامحمدانيّ

- ‌أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني

- ‌السيد محمد بن عمر العرضي

- ‌فتح الله بن النحاس

- ‌السيد أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب

- ‌ولده السيد باكير

- ‌ السيد عبد القادر بن قضيب البان

- ‌ولده السيد محمد حجازي

- ‌السيد عبد الله بن محمد حجازي

- ‌ السيد يحيى الصادقي

- ‌السيد عطاء الله الصادقيّ

- ‌السيد محمد التقوى

- ‌السيد أسعد بن البتروني

- ‌السيد حسين النبهاني

- ‌القاضي ناصر الدين الحلفاوي

- ‌محمد بن تاج الدين الكوراني

- ‌ولده أبو السعود

- ‌محمد بن أحمد الشيباني

- ‌حسين بن مهنا

- ‌محمد بن عبد الرحمن

- ‌محمد بن الشاه بندر

- ‌صالح بن قمر

- ‌صالح بن نصر الله المعروف بابن سلوم

- ‌مصطفى الزيباري

- ‌مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي

- ‌محمد بن محمد البخشي

- ‌إبراهيم بن أبي اليمن البتروني

- ‌أحمد بن محمد المعروف بابن المنلا

- ‌محمد بن حسن الكواكبي

- ‌الباب الثالثفي نوابغ بلغاء الروم

- ‌الباب الرابعفي ظرائف ظرفاء العراق

- ‌والبحرين والعجم

- ‌شعراء البحرين

- ‌فصل جعلته للمعرباتقديماً وحديثاً

- ‌الباب الخامسفي لطائف لطفاء اليمن

- ‌ذكر بني القاسم الأئمة

- ‌ذكر آل الإمام شمس الدينبن شرف الدين بن شمس الدين

- ‌فائدة

الفصل: سامرتُ فيما فُهْتُ روحي في الدجى … فآنستنِي مثلَ صوتِ

سامرتُ فيما فُهْتُ روحي في الدجى

فآنستنِي مثلَ صوتِ الحادِي

لله ما نجبُ اليعاسيبِ انتشَتْ

من الحُداة في رُوى إنشادِي

تَعيفُ بالمفازِ وِردَ الماء من

مساغِ نظمِي مُرتل التَّحادي

تَميلُ في مسْرَى سُراها جُفَّلاً

تبْغِي الحُداة لا حلى المزادِ

منها:

يا بُرَحاً زادتْ بنا أنواؤُه

زَوْد الغديرِ عن رِوَى الصَّوادِي

جرَّعتني بعد الأُصيحابِ الأسَى

فذُقتُ منه وَصْمةَ النِّكادِ

هلَاّ رحمت مُّغرَماً صَبًّا رقَتْ

دموعُه مَرافِي الوِسادِ

يسخرُ منه كل خِلوٍ من هوًى

يُشفق فيه مُغرَم الوِدادِ

فالخِلوُ ممنوعُ الرِّضا وضِدُّه

عن حاله مُنَّعُ السَّدادِ

أمَّمْتُ ناساً لقَباً وما هم

بأهلِ وُدٍّ يقصدون بادِي

فعدتُ عودَ نادِمٍ وهكذا

من أمَّ غيرَ مثلِه في نادِي

فلا رجعْتَ يا أخا الوُدِّ كما

رجعتُ في عوْدِي وفي تَردادِي

سئمْتُ مني فالورى أحقُّ من

يُسأمُ منه أبدَ الآبادِ

ومن ذلك قوله، من قصيدة، مستهلُّها:

إذا ما دعانِي للهوَى المحكَمِ العُذري

عِذارُ الذي أهوَى فماذا ترى عُذرِي

وهل غيرُ ربِّ الآسِ صُدْغاً ونُكهةً

لداءِ كُلومٍ في الحشاءِ إلى الحشْرِ

عدِمتُ شفا وُردِ المراشِفِ حُلوِهِ

إذا لم أكنْ أقوَى الخلائقِ للصبرِ

وقوله من أخرى:

طيفَ الكرى حُيِّيتَ من زائرِ

منحْتَ بُرْءَ الداءِ من هاجِري

ما كان أحلَى سِنَةَ الغمْضِ في

ليلٍ سَطا في ظُلمِهِ كافرِ

ليلٍ كأنَّ الغمضَ فيه سرَى

ضَلَّ الهُدى فإنْقادَ كالحائِرِ

وقوله:

إن سُقم الجفون اسْقم جَفنِي

وولاني من السَّقامِ فُتورا

ربِّ فاشْفِ السَّقامَ منهم بكسْرٍ

فَهَواهُمْ أضَلَّ خْلقاً كثيرا

وقوله:

دَعْ فؤادِي عليك يذهب حَسْرَهْ

أوْ فيَكفيه منك في العمرِ نظرهْ

ما صَنِيعي وفيك عادَ مآلِي

عودةً كالسَّرابِ في أرضِ قَفْرهْ

‌فصل

عقدتُه لجماعة من العلماء الأجلَاّء، يهتدِي بمصابيح علومهم الأضِلَاّء.

ممن فضله واضحٌ مبيَّن، والتبرُّك بذكره فرضٌ متعيَّن.

فهم وإن كانت آثارهم العليَّة غنيةً عن الوصف والإطالة، فلقد أتوا بأشياء من الشعر هي في الجملة خيرٌ من البطالة. فمنهم: نجمُ الدِّين الغزِّي النجم الأرضي، وابن البدر المضيء، وجدُّه الرَّضيُّ المرْضِيّ.

ثلاثة في نسق، طلعوا فأناروا الغسق.

وقدمهم في النَّباهة، أعلى من قدمهم في الوجاهة.

فمن يساميهم، وإلى الكواكب مراميهم.

وهم في القديم والحديث، أئمة التفسير والحديث.

لم يبرحِ المجدُ يسمُو ذاهباً بهِمُ

حتَّى أزاح الثُّريا وهو ما قنَعَا

والنَّجم انعقدت العَشرةُ عليه، وسعتْ وفودُ العناية مسرعةً إليه.

فَ " والنَّجمِ إذا هوى، ما ضلَّ صاحبكم وما غوَى " لهو الذي به يقتدِي المقتدِي، وبسمته يهتدي المهتدي.

هو النجم يَهدِي جميعَ الورى

فمن دونه البدرُ والشمسَ دونْ

وقد صار في الفضلِ حيثُ انْتهوا

وحيث انْتحوا فبِهِ يقْتدون

إذا ظُلمَةُ الغَيّ ألْوتْ بهم

أضاء فبالنجمِ هم يهْتدونْ

وله دعاءٌ مستجاب؛ وخواطر ليس بينها وبين الله حجاب.

فلو حذِّر به المنهمك في غوايته لأمسك، أو خوطِب به المتهالك في عِصيانه أناب وتنسَّك.

شغل بالإفادة أيامه ولياليه، ونظم على جِيد الأيام فرائده ولآليه.

وتأليفاته كاثرت رمل النَّقا، وأربت على الجواهر في الرَّونق والنَّقا.

مع مالَه من كرمٍ يُخجل الأجواد، وسخاءٍ أضحت عوارفه كالأطواق في الأجياد.

ص: 142

لم تُرْو في التَّواريخ كأحاديثه الحِسان، ولم تسطَّر كآثاره في صحائف الأزمان بالحسن والإحسان.

وله شعر كقدره ثمين، إلا أنه كالياسمين.

فيُكتب لشَرفه، لا لكثرة طُرفِه.

فمن ذلك هذه الزَّائيَّة، عارض بها قطب مكَّة الذي عليه المَدار، وقمر أُفقها الذي يأبى غيرَ الإبدار.

وقصيدته هي هذه:

سبحان من للوجودِ أبرَزْ

رَشاً بحُكم الهوى تعزَّزْ

زادَ على الرِّيمِ في دلالٍ

وعن جميع المهَا تميَّزْ

أحْوى وللظَّرفِ ليس منه

أحْوى ولا للبَهاءِ أحوَزْ

لقد كساهُ الجمالُ ثوباً

بألطف اللطفِ قد تطرَّزْ

رنَا بِطرفٍ جآذِرِيٍّ

كأنه للوصال ألغَزْ

وَعداً ولكن بلا نهارٍ

يا حبَّذا الوعدُ لو تنجَّزْ

بعثتُ باثنينِ من خُضُوعِي

وثالثٍ بعد ذَيْنِ عَزَّزْ

أرجو وِصالاً منه بِعِزٍّ

من عَزَّ من وصلِه فقد بَزّ

فما رثَى لي ولا وفَا لي

وقد قسَا قلبُه ولزَّزْ

وعَفَّ إلا عن قتلِ مثلِي

فإنَّه عنه ما تحرَّزْ

قوله: من عَزَّ بَزَّ. مثل، معناه: من غلب سلب.

قال المفضَّل: أول من قال ذلك رجلٌ من طي، يقال له: جابر بن رألان، أحد بني ثُعل.

وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له؛ حتى إذا كانوا بظهر الحيرة، وكان للمنذر بن ماء السماء يومٌ يركب فيه، فلا يلْقى أحداً إلا قتله، فلقَى في ذلك اليوم جابراً وصاحبيه، فأخذتهم الخيل بالثوَيَّة، فأُتِيَ بهم المنذر، فقال: اقترعوا، فأيُّكم قرع خلَّيتُ سبيله، وقتلتُ الباقين.

فاقترعوا، فقرعهم جابر بن رألان. فخلَّى سبيله، وقتل صاحبيه.

فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال: من عَزَّ بَزَّ. فأرسلها مثلاً.

وقصيدة القطب مطلعها:

أقْبل كالغصنِ حين يهْتزّ

في حُللٍ دون لُطفها الْخزّ

وهي مذكورة في الريحانة.

وذكر الشهاب معها قصيدةً له عارضها بها، ومطلعها:

من علَّم الغصنَ حين يهْتزّ

ميلَ قُدودٍ تميلُ في الخَزّ

وللنَّجم:

أخوكَ في الإسلامِ يُجديك في

علمٍ ورأيٍ منه أو أنْسِ

كأن قد احْتجْتَ إلى نفعِه

وإذ به قد صار في الرَّمْسِ

أصْبحتَ أسَّافاً على صاحبٍ

قد كنتَ تأسَى منه بالأمْسِ

ما أحوجَ المرءَ إلى خِلِّه

وأحوجَ الجنسَ إلى الجنْسِ

ويلاه من عصرٍ رأينا به

على افتقادِ الكُمَّلِ الخمْسِ

لسنا نرى ممَّن مضَى واحداً

ولو بلغْنا مطلَعَ الشمْسِ

هذا معنًى موجود في الأثر، وذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن سليمان بن موسى الأشدق، قال: أخوك في الإسلام إن استشرته في دينك وجدت عنده علما، وإن استشرته في دنياك وجدتَ عنده رأياً، ما لك وله، وإن فارقك فلم تجد منه خلَفَا.

وسليمان هذا كان من أكابر السَّلف.

قال الزُّهري: إن مكحولاً يأتينا، وسليمان بن موسى - يعني لسماع الحديث - وأيمُ الله إن سليمان لأحفظُ الرجُلين. أخرجه في الحلية أيضاً.

ومن هذا ما نقله الشعراوي في طبقاته عن أبي المواهب الشَّاذلي، أنه كان يقول: أهل الخصوصية مزهود فيهم أيام حياتهم، متأسَّف عليهم بعد مماتهم، وهناك يعرف الناس قدرهم، حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم.

وقد قيل في المعنى:

ترى الفتى يُنكِر فضلَ الفتى

ما دامَ حيًّا فإذا ما ذهبْ

لَجَّ به الحِرصُ على نُكتةٍ

يكتُبها عنه بماء الذهبْ

ومن مقاطيعه قوله:

تواضَعْ تكُنْ كالنجم لاح لناظرٍ

على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ

ولا تكُ كالدُّخَّانِ يعلو بنفسِه

إلى طبقاتِ الجوِّ وهو وضيعُ

وقوله:

لا تكرَهنَّ حسوداً

يُجديك نشرَ الفضيلهْ

كم من حسودٍ مُفيدٍ

ما لم تَفِدهُ الفضيلهْ

ومثله لوالده البدر:

الحمدُ للهِ على فضلِهِ

إذ صيَّرَ الحاسدَ لي يخْدِمُ

ص: 143

يجْهدُ في رَفع مقامِي وفي

نشرِ علومِي وهْو لا يعلمُ

ومثله لابن الوردي:

سبحانَ من سخَّر لي حاسِدِي

يُحْدِث لي في غَيبتي ذِكرَا

لا أكرَه الغِيبةَ من حاسدٍ

يُفيدني الشُّهرةَ والأجْرَا

ولأبي حيَّان:

عِداتي لهم فضلٌ عليَّ ومِنَّةٌ

فلا أذْهَب الرحمن عنِّي الأعاديا

هم بحثُوا عنْ زَلَّتي فاجتنبْتُها

وهم نافسُوني فاكْتسبْتُ المعالِيا

الشيخ أيُّوب الخَلوَتِي الوليُّ العارف، ذو المعارف والعوارف.

أحد الراسخين في العلم الإلهي، والكاشفين عن أسرار الحقائق كما هي.

حلَّ من جفن الشكر في سواده، وتبوأ من صدر الإحسان في فؤاده.

فمحامده تملأ المجامع والمسامع، ومناقبه تنير المطالع وتبعث المطامع.

وعلمه تُقبل أمواج البحر بين يديه، وحلمه يطيش شيخ الجبال أبو قبيس لديه.

إلى ما حوى من منظرٍ صبيح، يستنطق الأفواه بالتَّسبيح.

وسخاءٍ لو ركِّب في الطبائع لم يوجد شحيح في نوع الإنسان، وزهدٍ لو كان رقيةً للصبابة لم يبق جريحٌ من حدق الحسان.

وأما رقَّة طبعه فكلما ذكرت تنزَّهت في بحبوحة النعيم الخواطر، واشتقَّت من أنفاس الهجير بين الروض والنهر بمراوح النسيم العواطر.

مع تلطُّفٍ بلغ الغاية في الكمال، وسلامةٍ لم يبق معها فتنةٌ إلا فتنةٍ بجمال.

فهو بالهداية محلَّى، وقد رفع الله في العلياء محلا.

وله من الأخبار ما يُملي التَّواريخ المخلَّدة، ومن الأشعار ما يملأ الكتب المجلَّدة.

فمن شعره قوله من قصيدة، يذكر فيها ليلةً مضت في روض عنبري النَّفح، ويتشوق إليها تشوُّق الشريف لليلة السَّفح.

وليلتنَا على قاسون لمَّا

خرجْنا من منازِلنا ذهابَا

وسِرنَا والغزالُ لنا دليلٌ

ووجه غزالةِ الأفلاكِ غابَا

لقصرِ أبي البقَا شرف اعتلاءً

وطابَ لنا منازِلُه رحابَا

حططْنا فيه أحمالاً ثقالاً

عن الظهرِ الذي قد صارَ قابَا

ومن فضلِ المُدام لقد حظِينَا

بشمَّاسٍ يُديرُ لنا الشَّرابَا

بمدرعَةٍ تخال سوادَ عينِي

لِتمثالٍ لها حاكِي قُنابَا

وغنَّى والظَّلامُ لنا رضيعٌ

وقمْتُ وكان رأسُ الليلِ شابَا

ونادَى بالأذانِ فقلتُ أهلاً

بذاك وكنتُ أول من أجابَا

لأنَّ الصُبحَ أشهرَ سيف حربٍ

وجُنح اللَّيل كان له قِرابَا

وله:

انْظُر إلى السِّحرِ يجري في لواحِظِه

وانْظر إلى دعَجٍ في طرفِه السَّاجِي

وانْظر إلى شعراتٍ فوق وجنتِهِ

كأنَّما هنَّ نملٌ دبَّ في عاجِ

أحسن منه قول بعضهم:

كأن عارِضه والشَّعر عارَضَه

آثارُ نملٍ بدتْ في صفحة العاجِ

توحَّلتْ في لطيمِ المِسكِ أرجُلُها

فعدْنا راجِعةً من غير مِنهاجِ

وله:

الهجوُ أقبح ما يكون إذا بدَى

وإذا اسْتجنَّ ففي الفؤادِ قبيحُ

فلِذاك لا يرضاه إلا جاهِلٌ

إنَّ الجهول بما يقول جَريحُ

وله:

وليلةٍ بِتُّ فيها لا أرَى غِيَراً

مع شادِنٍ وجهه قد أخجلَ القمرَا

نادمْتُه قال هاتِ الكأسَ قلتُ له

جلَّ الذي لافتِضاحِي فيك قد سترَا

وقمتُ أرشفُ من ريقِ المُدامِ ومن

مُدامِ ريقٍ وأقْضِي في الهوَى وطَرَا

ولفَّنا الشوقُ في ثوبيْ تُقًى وهوًى

وطال بالوصلِ لي والليلُ قد قصُرَا

وله:

وليلتنَا بالأمسِ كانتْ عجيبةً

وفينَا غزالٌ أدْعَجُ الطَّرفِ أحوَرُ

سألتُ إلهي أن نعود لمِثلِها

بعَوْد التَّجلِّي قيل لا يتكرَّرُ

وقوله:

وقد لامنِي عاذِلي في الحُبِّ قلت له

حُبِّي شِفائِي كما أنَّ السِّوى مرضِي

قد قال قبليَ شخصٌ لست أعرِفهُ

لكنه قد قضى من شعرِهِ غرضِي

لكلِّ شيءٍ إذا فارقْتهُ عِوَضٌ

وليس لله إن فارقتَ من عِوَضِ

ص: 144

فاصْبِر عليه تنلْ بالصَّبر وصلته

فالمرِّ فيه حلا والحكمُ فيه قُضِي

الحكم لله وهو العدلُ فارْضَ به

ما يغلِب الدهرَ إلا من بذاك رضِي

في الأمثال: في الله عوض من كل فائت. قائله عمر بن عبد العزيز. ورأى أبو جعفر المعدني مكتوباً على جدار:

لكلِّ شيءٍ فقدتهُ عِوَضٌ

وما لِفقدِ الحبيبِ من عِوَضِ

فأجازه بقوله:

وليس في الدهرِ من شدائِدِه

أشدُّ من فاقةٍ على مرَضِ

وقوله: ما يغلب الدهر

إلخ، منه.

لكلِّ شيءٍ مُدَّةٌ وتنقضِي

ما غلبَ الأيَّام إلا من رَضِي

ومما ينسب إليه:

قد لامنِي الخلقُ في عِشقِ الجمالِ ولم

يدرُو مُرادِيَ فيه آهِ لو عرفُوا

وصلتُ منه إلى الإطلاق ثمَّ سرَى

سِرِّي إلى قيد حسنٍ عنده وقفُوا

وله تخميس الأبيات المنسوبة إلى العارف بالله تعالى أحمد الرفاعي:

أفوه إذا يشدُوا الأنامَ بشُكرِكُم

وأكتم سرِّي لا أبوح بسرِّكُمْ

أحبَّتنا من طيبِ نشأةِ خمرِكُم

إذا جنَّ ليلِي هام قلبِي بذِكرِكُمْ

أنوح كما ناحَ الحمامُ المطَّوقُ

عسَى ولعلَّ الدهرَ يأتي بهم عسَى

لأشهدهُم عند الصباحِ وفي المسَا

فقلبِيَ من فقدِ الأحبَّةِ قد قسَا

وفوقي سحابٌ يمطِر الهمَّ والأسَى

وتحتِي بِحارٌ في الهوَى تتدفَّقُ

إذا فاح من نجدٍ بقلبِي عبيرُها

فلا عجبٌ إن قلتُ إني سميرُهَا

وإن خمدتْ نارِي فوجدِي يُثيرُها

سلُو أمَّ عمرٍو كيف باتَ أسيرُهَا

تفكُّ الأسارَى دونه وهو موثَقُ

وفي تلفِ الأرواحِ كم لي إباحةٌ

وفي منزلِ العشَّاقِ كم لي سياحةٌ

فيا ويحَ صَبٍّ أثْخنتْهُ جِراحةٌ

فلا هو مقتولٌ ففي القتلِ راحةٌ

ولا هو مأسورٌ يفكُّ فيطْلقُ

وشعره كثير، ويكفي من الدلالة ما أبان الطرق، ومن القلادة ما أحاط بالعنق.

ومن فصوله القصار، الجارية مجرى الأمثال والحكم، قوله: لا يترك الوسائط، من لم يصر من البسائط.

من صدقت سريرته، انفتحت بصيرته.

طرق الله لا تحصى للإكثار، وأقربها إليه الذِّلُّ والانكسار.

الخول يذهب الحجب، والشهرة تورث العجب.

من لم يكمل عقله، لا يمكن نقله.

في القرن العاشر، احذر أن تعاشر.

في القرن العاشر من القرون، تسيء بالصالحين الظنون.

المحبَّة تصحيح النسب، وثمرة المكتسب.

الأخ من يعرف حال أخيه، في حياته وبعد ما يواريه.

إذا انفسدت أحوال الشَّريعة، فأشراط الساعة سريعة.

وله فروع بسقت في دوحة بستانه، وتروَّت بصبيب الأنواء من صوب هتَّانه.

أشرق مجدهم إشراق الشمس، وقاموا لذات الفضل مقام الحواس الخمس. فمنهم: محمد الكبير الذي لا يفي بوصفه التَّعبير.

قام بعد أبيه خليفة، واتَّخذ الزهد سميره وحليفه.

فكأنه لم يمت من خلفه، ولا غاب عن أهله من استخلفه.

فهو البقيَّة الصالحة وقد ذهب الكرام، والذَّات الفالحة اللائقة بالإكرام.

إلا أنه لم يطل عمره، ولا خلص من الوهن نهيه وأمره.

فمات ودفن عند أبيه ومربيه، فلا زالت رحمة الله تحييه وتحبيه.

ومن المعلوم أن المورد واحد، وسيان فيه ولدٌ ووالد.

وهو معدودٌ من رجال الطريق، ومنخرط في سلك ذلك الفريق.

وله فضلٌ ومجد، وأخلاق تحكي صبا نجد.

مع تبتُّلٍ وركون، وإنابةٍ إلى الله في حركةٍ وسكون.

وبالجملة فمقداره عظيم، ولكنه يقلُّ من النثر والنَّظيم.

ولم يحضرني من شعره، إلا قوله:

يا صاح إن الشِّعر يُزري بذي ال

الحسنِ وإن كان بهيّ الجمالْ

أما ترى الأنفُسَ من شَعرةٍ

تعافُ للماءِ الفراتِ الزُّلالْ

وهذا معنى تداولته الشعراء، والسابق إليه أبو إسحاق الغزِّي، في قوله:

يقولون ماءُ الحسنِ تحتَ عِذاره

على الحالةِ الأولى وذاك غُرورُ

ألسنا نعافُ الشُّربَ من أجلِ شعرةٍ

إذا وقعتْ في الماءِ وهو نميرُ

ثم خلَفه أبو السعود واسطة عقدهم المقتنى، وغصن روضتهم المجتنى.

ص: 145

وعبير ذكرهم المردَّد، ولسان حالهم المجدَّد.

يروقك مجتلاه، ومحلُّه يهزأ بالبدر معتلاه.

كرم فرعاً وأصلا، وشرف جنساً وفصلا.

وله فضلٌ أضحى تاجاً لرأس المناقب، وأدبٌ تتوقَّد به نجوم الليل الثَّواقب.

وبيني وبينه موالاة محققة، وعهود موثَّقة، وثناءٌ كمائمه عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر مفتَّقة.

ورأيت له أشعاراً في الذروة من الانطباع ثاوية، لها في كلِّ قلبٍ بلطف موقعها خلوةٌ في زاوية.

وقد أثبتُّ منها قصيدةً شطَّر بها سينيَّة ابن الفارض، فناصفها شطر الحسن، كما تناصف حسن الخدِّ بالعارض. وهي هذه:

قفْ بالديارِ وحيِّي الأربُعَ الدُّرُسَا

مخاطِباً لرَسيسِ الشوقِ مُقتبِسَا

واسْترجِع القولَ يا ذا الرَّأيِ مُختبِراً

ونادِها فعساها أن تُجيبَ عسَى

وإن أجنَّك ليلٌ من توحُّشِها

فلا تكنْ آيِساً لا كان من أيِسَا

خذْ من زِنادِ الجوَى ناراً مُشعْشعةً

فاشْعلْ من الشوقِ في ظَلمائِها قبَسَا

يا هل درَى النَّفَرُ الغادُون عن كَلِفٍ

موَلَّهٍ هائمٍ كاسَ الغرامِ حَسَا

تَراه مستصْحِبَ الأفكارِ ذا حُرَقٍ

يبيتُ جُنحَ الليالي يرقُب الغلَسَا

فإن بكَى في قِفارٍ خِلتَها لُجَجاً

ما شامَها ناظِرٌ إلَاّ همَى وجَسَا

وإن خبَتْ نارُه هاجَ الغرامُ بهِ

وإن تنفَّس عادتْ كلُّها يَبَسَا

فذو المحاسنِ لا تُحصَى محاسنُه

إذا رآه عَذولٌ حاسدٌ خَنَسَا

ومن أبَيْت فلا فَقْد لوَحشتِهِ

وبارعُ الأُنسِ أعْدَمْ بهِ أنُسَا

قد زارني والدجَى يرْبَدُّ من حَنَقٍ

وحُسنُ إشراقِه بالشُهْبِ قد حُرِسَا

فالزُّهر تَرمُقُه عُجْباً برونَقِهِ

والزَّهرُ يبْسَم عن وجهِ الدُّجَى عَبَسَا

وابْتزَّ قلبيَ قَسراً قلتُ مظْلمَةً

فحسبِيَ اللهُ ممَّن قد جنَا وقَسَا

حيَّرْتني فأنا المُحتارُ وا أسفِي

يا حاكمَ الحبِّ هذا القلب لمْ حُبِسَا

زرعتُ باللَّحظِ ورْداً فوق وَجنتِه

فأثمرتْ منه لي في ناظِرَيهِ أسَى

إن رمتُ أقطفُ منه عِطرَ رائِحةٍ

حقٍّا لِطرفيَ أن يجنِي الذي غرَسَا

وإن أبَى فالأقاحِي منه لي عِوَضٌ

أوْردْتُه القلبَ حيث الحبُّ فيه رَسَا

جعلتُه رأس مالِي مذْ ربحتُ به

مَن عُوِّض الثَّغرَ عن درٍّ فما بُخِسَا

إن صال صِلُّ عِذارَيْه فلا حَرَجٌ

أن عادَ منه صحيحُ الجسم مُنتكسَا

فهذه سُنَّةٌ للعِشقِ واجبةٌ

أن يَجْنِ لسعاً وأنِّي أجْتنِي لَعَسَا

كم باتَ طَوعَ يدِي والوصلُ يجمعُنا

لم يخْطُر السُّوءُ في قلبِي ولا هَجَسَا

وزادنِي عِفَّةً إذْ كان ذا ثِقةٍ

في بُردتيْه التُّقى لا يعرف الدَّنسَا

تلك الليالي التي أعددْتُ من عُمُري

يا ليْتها بقِيتْ والدهرُ ما نُكِسَا

ويا سقَى الله أيَّماً لنا سلَفتْ

مع الأحِبَّةِ كانت كلُّها عُرسَا

لم يحلُ للعينِ شيءٌ بعد فُرْقتهم

وما صَبَا دونها صَبُّ الجَوَى ونَسَا

ولا شمَمْتُ نسيماً أستلِذُّ به

والقلبُ مذ آنسَ التَّذكار ما أنِسَا

يا جنَّةً فارَقَتْها النفسُ مُكرهَةً

أبْقِي لصَبِّك في نيلِ المنَى نفَسَا

وحَقِّ مُوثَقِ عهدٍ لا انْفِكاكَ له

لولا التَّآسِي بدار الخُلدِ مِتُّ أسَى

أحمد بن محمد الهمنداري الحلبي المفتي اتَّخذ الثُّريَّا مصعدا، وورد المجرَّة مقعدا.

ثم طلع شنباً فكان في ثغر الشام، وهبَّ نسيماً فحرَّك طرباً أغصان البشام.

ص: 146

واستقرَّ بروضها الزاهر، استقرار الغمض في الجفن الساهر.

فقيَّد الأعين بصفاته، كما عقل الأفكار بلحظه والتفاته.

وهو نسيج وحده استيلاءً على الفضل واشتمالا، ووحيد نسجه إبداعاً لتحائف المقول واعتماله.

يتحلَّى بخلق لو كان للروض ما ذبل في الشتاء نوره، وفكرٍ لا يُدرك غوره.

وحلم ما شيب بوهم، وتثبُّتٍ لم يخفَّ له وزن.

يصعب إغضابه ويسهل استرضاؤه، ويفيض إقباله ولا يتوقع إغضاؤه.

ويقرب الزمن في عطفه، ولا يتراخى المدى إلى لطفه.

وهناك أدبٌ بسلسل الرقَّة يتدفَّق، وطبعٍ عن زهر الرياض يتفتَّق.

فإذا تفوَّه بسطت الحجور لالتقاط لآليه، وإذا أملى ترك الملأ إملاء أماليه.

وهو أحد من حضرتُ عنده، واقْتدحتُ في الاستفادة زنده.

وكان هو وأبي عقيدي صحبة، وأليفي مودَّة ومحبَّة.

وبينهما لحمةٌ ليست سدَى، واتِّفاق ليس إلا ببرد فضل وندى.

وكان أبي يقول فيه: لم أر مثله كثرة إناءة، وتجنُّب بذاءة وإساءة.

وتناسب ذاتٍ ونعت، وتوافق سجيَّةٍ وسمت.

تروق أنوار خلاله، وأدبه تتنَّفس الرياض في خلاله.

وقد أوردتُ له من شعره الرَّقيق، ما هو أعذب من ريق الندى في ثغور الشَّقيق.

فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها:

دون رشفِ اللِّمى وضَمِّ النُهودِ

طَعَناتُ المثقَّفِ الأُملودِ

واقْتِحام المَنونِ أجدرُ إنْ

أعقبَ وصلاً بحال كل لَمِيدِ

مُهَجُ العاشقين منذ قديمٍ

خلُصتْ للبلاءِ والتَّنكيدِ

من لقلبي بأغْيدٍ قصَم القلْ

بَ بعَضبٍ من اللِّحاظِ حديدِ

ألِفَ النُّفرةَ التي تعقِل العَقْ

لَ وتُذري الدموعَ فوق الخُدودِ

وكتب إلى والدي:

حيَّتْك فضلَ اللهِ دِي

مةُ سُؤدُدٍ نشأتْ بمجدِكْ

وعلَتْك أنوارُ السَّعا

دةِ فاغتنمْ إشراقَ سعْدِكْ

وكذا الفضائِلُ والفوا

ضِلُ والمكارمُ حَشْوُ بُردِكْ

أما القريضُ ونسجُه

فلأنتَ فيه نسيجُ وحْدِكْ

بك جِلَّقٌ فخَرتْ كما

بأبيك قد فَخَرتْ وجَدِّكْ

مولايَ فكرِي قاصِرٌ

عن أن يُحيط بكُنْهِ حَدِّكْ

فاعْذُرْ ودُمْ بمَسرَّةٍ

تبقَى على الدُّنيا كوُدِّكْ

فراجعه بقوله:

هل زهرُ روضٍ أم زَوا

هرُ أنجُمٍ أو دُرُّ عِقدِكْ

أم روضةٌ قد فاح من

رَيَّا رُباها عَرْفُ نَدِّكْ

أم ذي بدورٌ أشرقتْ

في حيِّنا من أُفقِ سَعْدِكْ

يا مُفردَ العصرِ الذي

لم تسمحِ الشَّهْبا بنِدِّكْ

أنت الذي افْتخرتْ بفضْ

لِك أهلُها من عصرِ مهْدِكْ

ولك المعارفُ والعوا

رِفُ واللَّطائفُ قَدْحُ زَنْدِكْ

أرسلتَ نحويَ غادةً

ألفاظُها شهِدتْ بشُهْدِكْ

حيَّتْ فأحْيتْ مُغْرماً

قد كان منتظِراً لوعْدِكْ

وإليك منِّي روضةً

بالوُدِّ ذاكِيةً بحمْدِكْ

وافتْ على ظمَأٍ بها

تبغِي الوُرودَ لِعذْبِ وِرْدِكْ

فاقْبل بفضلِك عُذرَ من

يرعَى الوفَا بوَثيقِ عهْدِكْ

ودعاه الخطيب المحاسني إلى داره، وقمر سعدِه إذ ذاك في إبدراه.

فلما طابق خبر المجلس مخْبَرَه، وأطلق فيه عوده وعنبره. أنشد بديهاً:

قد حلَلْنا بمنزلٍ فاق حُسناً

وبهاءً وحازَ لُطفاً عجيبا

ضاعَ مِسكاً وكيف يُنكَر هذا

منذ ضَمَّ الخطيبَ ضُمِّخَ طِيبا

وقد تناول هذا الجِناس من قول بعضهم:

مُلِئَ المنبرُ مسكاً

مذْ به قمتَ خطيبَا

أتُرى ضَمَّ خطيباً

منك أم ضُمِّخَ طِيبَا

وأنشدني من لفظه لنفسه معنًى ما زلت أحَمِّق به فكري، وأتمنَّى لو كان لي بكلِّ شعري، وهو هذا:

مذ رأى الوردُ على أغصانِه

خَدَّ من أهواه في الروضِ الأنِيقْ

صار مُغمًى فلطِيف الطَّلِّ قدْ

رُشَّ في وَجنتيه كي يستفيقْ

ص: 147

وقلت أمدحه:

يدُ ابنُ أحمدٍ وفضلُ أحمدِ

تُعلِّم الناس طريق الرَّشَدِ

لولاه أصبح الوجودُ عاطلاً

ولم يَبِنْ في الدهرِ طيبُ المَحْتِدِ

مُفتِي دمشقَ الحَبْرُ من صفاتُه

ألذُّ من وصلِ الحسانِ الخُرَّدِ

مَن عنده اللَّذةُ إدراكُ المَنى

وأنكَرُ الأصواتِ صوتُ مَعْبَدِ

لا يعلم الهزلَ ولا يحبُّه

ولا يميلُ طبعُه إلى الدَّدِ

تُسهرِهُ الأفكارُ في مفاخرٍ

يُبْدعها أو مَكْرُماتٍ يبتَدِي

ينظِم منثوراتِها فهي على

جِيدِ العُلى كاللُّؤلؤِ المُنَضَّدِ

مذْ حلَّ في بلدتِنا رِكابُه

هدِيَ به من لم يكنْ بالمهْتَدِي

وأصلحَ الناسَ صلاحُ سِرِّه

فليس من حدٍّ بها أو قَوَدِ

يا جِلَّقَ الشامِ سَقاكِ عارِضٌ

من فضله يُمْطِر صَوْب العسْجَدِ

ما أنتِ إلا في البِقاعِ مثلُه

في العُلَماءِ أوْحدٌ لأوحَدِ

ما شرَّف الدِيارَ غيرُ أهلِها

أحِلْيَةُ العيونِ غيرُ الإثْمِدِ

ما مصرُ إلا حيث حلَّ يوسفٌ

لا نسَبٌ بين امرِئٍ ومعهَدِ

إن صدقَ الظَّنُّ فقُرْبُ رُتبةٍ

من رُتبةٍ كبلدٍ من بلَدِ

أنْجب فينا غُصنَ فضلٍ مُثْمِراً

بالمعلوات والنَّدى والسُّؤدُدِ

تشابَه الغُصنُ وروضُه وقدْ

يظهر في الوالدِ سِرُّ الولَدِ

حكاه في عفَّتِه وفضلِه

والشِّبْلُ في المخْبرِ مثل الأسدِ

لا برِحَا في عِزَّةٍ دائمةٍ

لا تنْقضي ما بقِيَا للأبدِ

فإن في بُقْياهما صَوْنَ العُلى

عن أن تُمَسَّ بيدٍ لأحَدِ

إبراهيم بن منصور الفتَّال شيخ الشيوخ ومعترفهم، وبحر العلماء ومغترفهم.

أما العلم فمنه وإليه، ومعوَّل أرباب فنونه عليه.

وأما الأدب فله فيه التَّبريز، وإذا كان غيره فيه الشِّيةُ فهو الذهب الإبريز.

وله المنطق الذي يسحر العقول، والفكر الذي يصدأ عنه الفِرندُ المصقول.

مع حديثٍ لا يُمل، ومنظرٍ يملأ عيني من تأمل.

تتنافس في مجلسه دررٌ لوامع وحِلًى جِياد، فلا تعلَّق فيه إلا أقراطٌ بآذان وقلائدٌ بأجياد.

وطبعه يعير سحره عيون الحور، ويفضح بعقود آثاره دُرر البجور.

تبتسم الفضائل عن آثاره، وتتفتَّح ثغورها بلوامع إيثاره.

وقد ألقى الله عليه منه محبَّة، جلبت إليه مسْرَى القبول ومهبَّه.

فلا تزال الأعين تحدِّق إلى محيَّاه، والألسن تدعو بانفساح مَحْياه.

وراحته مخدومةٌ بالقُبل، وعيشه أنضر من الربيع المقتبل.

تودُّ كؤوس الراح في أفراحها، لو تعوَّضت بلحظة أُنسِه عن راحِها.

وإذا ذُكر فالقلوب على ثنائه ذات اتِّفاق، وخبرُ فضلِه إذا تُلىَ سَمَر القوادِم وحديث الرِّفاق.

وما أنا في ترنُّمي بذكره، وتعطُّري بحمده وشكره.

إلا النسيم على الحديقة بريَّاه، والصبح بشَّر بالشمس ضوءُ مُحيَّاه.

ولي فيه ما لم يقُلْ شاعرٌ

وما لم يَسِرْ قمرٌ حيث سارَا

وهُنَّ إذا سرنَ من مِقوَلي

وثَبنَ الجبالَ وخُضنَ البحارا

فإنه الذي ضربت بحضرته أطناب عمري، وأنفقت على فائدته أيام دهري.

وتروَّيت من المعرفة بروائع كلامه، وملأت سمعي درُّ الأصداف من آثار أقلامه.

وكان ينوِّه بي ويشيع أدبي، وبالجملة فكان لي مكان أبي.

فأنا من حين فقدته فقدت كهفا آوى إليه، وسنداً أُعوِّل في المآرب عليه.

فحُقَّ لفؤادي أن يستعر بوقده، ولدمعي أن يسيل دماً على فقده.

وأسأل الله أن يزلفه من رحمته ويدنيه، ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه.

فمما تناولته من نظمه، قوله في مديح صاحب الشَّفاعة، صلى الله عليه وسلم:

كلُّنا سيِّدي إليك نؤوبُ

ما لنا لا نعي اللِّقا ونتوبُ

إنَّ عمرَ الشبابِ ولَّى وأبقى

ما جناه فيه وذاك الذُّنوبُ

فإلى كم هذا التَّواني وقد جا

ءَ نذيرُ الحِمام وهو المَشيبُ

ص: 148

ما أحسن قول ابن نباتة: جاء النذير العُريان وهو الشَّيب، وابيضَّ بردُه فظهر فيه دنس العيب.

وآذن صبحته بالتَّفريق، ونُشرت بين السَّواد صفحته فعلم أنها ورقة طريق.

والنَّذير العريان: زُنير، بالنون، بن عمرو الخثعمي.

كان ناكحاً لامرأة من بني زُبيد العريان، فأرادت زبيد أن تغزو خثعم، فحرسه أربعة نفر منهم، وطرحوا عليه ثوباً، فصادف غِرَّةً فحاضرهم بعد أن رمى ثيابه، وكان من أجود الناس شدًّا.

وقال في ذلك:

أنا المنذرُ العُريانُ ينبذُ ثوبَه

لك الصدقُ لم ينبذ لك الثوبَ كاذبُ

ندَّعي الحبَّ فِرْيةً إنما ال

حبُّ حريٌّ بأن يطاعَ الحبيبُ

ليس هذا دأبُ المحبِّين لكن

قد نحاه مشتَّتٌ محجوبُ

إن أعداءَنا توالتْ علينا

نفسُنا والهوى وعقلٌ مريبُ

كيف يرجو الخلاصَ منهم مُعنًّى

في عَماه مكبَّلٌ مجبوبُ

من نرجِّي لدفعِ داءٍ عضالٍ

غيرَ خيرِ الورى وذاك الطبيبُ

سيِّدُ المرسلين خيرُ نبيٍّ

شافعُ الخلقِ يوم تُتلى العيوبُ

مبدأُ الكونِ ختمُ كلِّ نبيٍّ

قد حباه الحِبا قريبٌ مجيبُ

علَّه أن يقول في الحشرِ عنِّي

إنَّ هذا لجاهِنا منسوبُ

وله عندنا ودادٌ قديمٌ

وعلينا يومَ النِّدا محسوبُ

من لهذا الحقيرِ غيرَ نصيرٍ

أو شفيعٍ دعاؤُه يستجيبُ

أنا عونٌ له ويكفيه عوناً

من سواي ولي فِناءٌ رحيبُ

يا نبيَّ الهدى وغوثَ البرايا

ووحيداً وليس في ذا عجيبُ

خصَّك الله بالمراحمِ جمعاً

من يعي ذاك عاقلٌ ولبيبُ

كلُّ فضلٍ مِصباحه أنت حقًّا

إنَّ هذا في المكرمات غريبُ

كلُّ من لم يرَ افتراضَ هواكم

فهو في النارِ حقُّه التَّعذيبُ

وأنشدني من لفظه لنفسه:

ما نلتُ شيئاً إذا كنتُ المُقصِّر في

تحصيلِ أسبابِ توفيقي وإسعادي

إلا ضَياعَ نجاتي وهي نافعتي

يا ربِّ هبْ ليَ يوم الحشرِ إنجادي

وله:

إن كان ذنبي في الشدائدِ مُوقِعي

وبه لقد لاقيتُ ما أنا فيهِ

فالعفوُ منك يزيلُ ذاكَ تكرُّماً

كالشمسِ إن أتتِ الدُّجى تجليهِ

ولما دُفِن في تربته أنشدتُ:

يا تربةً قد غاضَ بحرُ النَّدى

فيها وبدرُ التِّمِّ عند التَّمامْ

ما هيَ إلا حُقَّةٌ أُودِعتْ

من طيِّبِ العنصرِ مسكَ الختامْ

رمضان بن موسى العُطيفي فاضلٌ حظُّه من المعرفة وافر، ووجه أمانيه طلقٌ سافر.

ما زال من الحال في أعذبها شرعة، ومن الحظوة في أسوغها جرعة.

وكان مرفوع الحجاب، منزوع رداء الإعجاب.

وله في الخُلق والخَلق من الرِّضوان رضوان، وفي النَّثر والنظم من المرجان مرجان.

وأما عهده فهو بالصِّدق محلَّى، وودُّه يبلي الجديدان ولا يبلى.

لا أقول إنه أصفى من الماء فقد يشرق به الإنسان، ولا أضوأ من قمر السماء فقد يدركه النُّقصان.

وكنت وصبائي عاطر النَّفحة، لدنُ الغصن ناضر الصَّفحة.

حضرت دروسه في العربيَّة، وأخذت عنه أشياء من الفنون الأدبيَّة.

ثم وقفت له على بدائع من آثاره بهيَّة الإلماع، فأثبتُّ منها ما هو عبق الأفواه وحَلْيُ الأسماع.

فمن ذلك قوله من قطعة، كتب بها لبعض الأدباء، جواباً عن لغز، كتبه إليه في قرنفل: يا من زيَّن سماء الدُّنيا بزهر النُّجوم، وزيَّن الأرض بزهرها المنثور والمنظوم.

نحمدُك على ما أبدعت حكمتك في هذه الأعصار، من زاهي الأزهار.

ونصلِّي ونسلِّم على نبيِّك المختار، وآله الأخيار، ما اختلف الليل والنهار، عدد تنوُّع البهار.

أما بعد: فإن رقيق الكلام، ورشيق النِّظام.

مما يسحر الألباب، وينسج ما بين الأحباب.

ولا بدع فقد قال سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام:

ص: 149

" إنَّ من البيان سحراً، وإنَّ من الشِّعر حكمةً ".

هذا، وقد أخذ رائق كلامكم، وفائق نظامكم.

بهذا الصبِّ أخذ الأحباب الأرواح، ولعب به ولا كالتعاب الرَّاح.

كيف لا، وقد كسيَ حلل البهاء والجمال، وانتظم ولا كانتظام اللآل.

رقَّ فاسترقَّ الأحرار، وحليَ فتحلَّى به أهل الشِّعار.

وراق معناه، فأشرق مغناه.

وحسن مساقه، فحلا مذاقه.

وفاح أرج القرنفل من رياضه، وهبَّت نسمات الجنان من غياضه.

فلله درُّك ودرُّ ما ألغزت، وما أحسن ما بعَّدت وقرَّبت، فقد أبدعت فأعبدت، وأغربت فأرغبت. لغز كالغزل، في نشر طيِّه حلل.

من طوَّل في مدحه فقد قصَّر، وما عسى أن يمدح البحر والجوهر.

ولكن نعتذر إليكم من هذه الشَّقشقات التي أوردناها على سبيل البديه، وكلٌّ ينفق مما عنده ويبديه.

وحين ملت طرباً من ميل تلك اللامات، قلت هذه الأبيات:

أتاني نظامٌ منك يُزري بحسنِه

قفا نبكِ من ذكرَ حبيبٍ ومنزلِ

وأشْممني منه أريجاً كأنه

نسيمُ الصَّبا جاءت بريَّا القرنفُلِ

فيا واحدَ الدنيا وليس مُدافعٌ

ويا من غدا مدحي له مع تغزُّلي

بعثتَ لنا عقداً ثميناً فلو رأى

جواهره النَّظَّامُ ولَّى بمعزلِ

ولو أن رآه امرؤُ القيسِ لم يقُل

ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجلِي

فمن يكُ نظَّاماً فمثلُك فليكُنْ

فصاحة ألفاظٍ بمعنًى مكمَّلِ

رقيقٌ لطيفٌ رائقٌ متحبِّبٌ

إلى كلِّ نفسٍ وهو في العينِ كالحِلِي

يفوحُ عبير المسكِ من طيِّ نشرِه

فكيف وقدْ ألْغزتهُ في القرَنْفلِ

فلا زِلت تَحبونا بكلِّ فضيلةٍ

ولا زلتَ تُحيينا بعلمٍ مفضَّلِ

ولا زلتَ للدنيا إماماً وسيِّداً

وعلمكَ يُروى للحديثِ المسلسَلِ

وله، جواباً عن سؤالٍ دفع إليه في تحقيق معنى البيتين المشهورين، وهما:

عيناه قد شهدَتْ بأنِّي مُخطئٌ

وأتتْ بخطِّ عِذارِه تذكارَا

يا حاكِم الحبِّ اتَّئدْ في قتلتِي

فالخطُّ زورٌ والشُهودُ سُكارَى

تأملت البيتين المشتملين، على خط العِذار وشهادة المقلتين. فلم يظهر لي في الخطأ صواب، وقد بذلت طاقتي فلم يفتح لي الباب.

ولم أسمع من الأشياخ الثقاة الأحبار، ولا من الشبان والرواة للأخبار.

من نقد هذا النقد، الذي هو أحلى من القند.

فتحقَّقت أن مبديه من أولي الألباب، القادرين على الإتيان بكل عجب عجاب.

وأن فكرته تتَّقد كالزُّهر في الدجى، فتوضَّح السبل لأهل الحِجا.

وأنه المتصرف في الدقائق كيف شاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء:

يا من كساهُ الله أردِية العُلى

وحباه عطرَ ثنائِها المتضوِّعِ

وإذا نظرتُ إلى محاسِنِ وجهِه ال

مسعودِ قلتُ لمقلتِي فيها ارْتعِي

وإذا قرينَ الأذنَ شهدُ كلامِهِ

قلتُ اسمعِي وتمتَّعي وارْعي وعِي

وكأنَّما يُوحَى إلى خطراتِهِ

في مطلعٍ أو مخلصٍ أو مقطَعِ

لك في المحاسنِ معجزاتٌ جمَّةٌ

أبداً لغيرِك في الورَى لم تُجمعِ

بحران بحرٌ من البلاغةِ شابه

شعرُ الوليدِ وحسنُ لفظ الأصمعِي

شكراً فكم من فقرةٍ لك كالغِنَى

وافَى الكريمَ بعيد فقرٍ مدقِعِ

وإذا تفتَّق نور شِعركَ ناضِراً

فالحُسنُ بين مرصَّعٍ ومصرَّعِ

أرْجلتَ فرسانَ قلبي ورُضْتَ فر

سان البديعِ وأنت أفْرسُ مُبدِعِ

ونقشْتَ في فَصِّي الزمانِ بدائِعاً

تُزري بآثارِ الرَّبيعِ المُمْرِعِ

وحويْتَ ما تُكْنى به طرًّا فلم

تترُكْ لغيرك فيه بعضَ المَطْمَعِ

غير أن هذا العبد بعد البعد عن المقام، ألمَّ به بعض إلمام.

وهو أنَّ خطأ هذا المحب إذ قاد نفسه لحتفِه في هوى هذا الحبيب البعيد المنال، القريب الوَبال، بحُسن الدلال، كما قال من قال، وأحسن في المقال:

ص: 150

علمتُ أن العيونَ السُّودَ قاتلتِي

وأنَّ عاشِقها لا زال مقْتولا

وقد تعشَّقْتها طفلاً على خطَاءٍ

لِيقضيَ اللهُ أمراً كان مفْعولا

فكأن هذا الحبيب طلب هذا المحب لمجلس قاضي الهوى، وديوان أهلِ الجوَى.

وادَّعى عليه، وأحضر حجَّته وشاهديه.

وقرَّر في دعواه، بحضرة هذا الصَّبِّ الذي يهواه.

أنه قد وقع في إقدامه لمحبَّتي على خطأٍ لا صواب، كيف لا وهو لا يذوق الأرْيَ إلا بعد الشَّبع من الصَّاب.

ولا يمكنه القرب إلا بعد البعد الطويل، ولا الوصل إلا بعد فراقِه لكلِّ خليل.

وهذا خطبٌ جليل، صاحبه إن لم يمت فهو أبداً عليل.

يكابد الأشجان في الليل والنهار، وبعد ذلك إمَّا إلى جنَّةٍ وإمَّا إلى نار.

وقلَّ محبٌ يحصل على حبيبه إلا بعد هذه الأهوال، وإنفاق الرُّوح فضلاً عن الأموال.

فلا يكن العارف كالرافض، لما قال ابن الفارض:

هو الحبُّ فاسْلم بالحشَا ما الهوى سهلُ

فما اخْتاره مُضْنًى به وله عقلُ

وعِشْ خالِياً فالحبُّ راحتُه عَناً

فأوَّله سُقْمٌ وآخرهُ قتْلُ

هذا كلام سلطان العشاق، المقطوع بمعرفته المحبَّة على الإطلاق.

فعند ذلك نظر القاضي لهذا العاشق ولاطفه خِطابا، وسأل سؤاله فلم يُحرِ جوابا.

فكان كما قيل، في حقِّ العاشق الذليل:

وكم من حديثٍ قد خبأناه لِلِّقا

فلما التقيْنا صِرتُ أبكَمَ أخرسَا

فلما أراد القاضي الحكم عليه، بما أبدى لديه.

قال ربُّ الجمال في الحال، الغيرِ حالّ: وهاك أيها القاضي شاهدين، عدلينْ.

مبعدين للرِّيَبِ، مقرِّبين للأرَب.

وأبدى من سحر العيون، ما يهتك السِّرَّ المَصون:

عيونٌ عن السحرِ المُبين تُبينُ

لها عند تحريكِ الجفونِ سكونُ

إذا أبصرتْ قلباً خلِيًّا عن الهوَى

تقولُ له كُنْ عاشِقاً فيكونُ

ثم قال: حكمتُ بهذه الحجج، التي ليس لك منها فرَج.

فعند ذلك قال المحب، وقد اشتعل ناراً: أيها القاضي: " الخط زور والشهود سُكارى " فكان هذا الجرح عين التَّعديل، وتقويةً للدَّليل.

إذا ثبت هذا فلا شك ولا ريب أن العاقل لا يرمي بنفسه في هذه المهاوي، وإن رمى فهو قطعاً لا شكَّ هاوِي.

وكيف يخاصم من بعضه لبعضه شاهد، وبعضه حجَّةٌ تقطع كلَّ خصمٍ معاند.

فهذا خطأٌ لا صواب، عند أولي الألباب.

فإن قيل: كيف يصحُّ أن يشهد البعض على البعض؟.

قلت: هذا له نظيرٌ بما سيقع يوم العرض.

كما أخبر رب العالمين، في كتابه المبين. وهو قوله تعالى:" يوم تشهدُ عليهم ألسِنتُهُمْ وأيديهِم وأرجُلُهُم ".

إلى أنه فرَّق ما بين الدَّارين، لعظم أحد الهولين.

وهذا لا يخفى على الفطن العارف الحاذِق، الذي هو لطعم المعارف ذائِق.

وقد جاء ذلك كثيراً في أشعارهم، وقُرِّر في قصصهم وأخبارهم.

كما قال أبو حفص المُطَّوِّعي، من شعراء اليتيمة:

أيا منيةَ المشتاقِ فيم تركتَنِي

كَئيباً بلا عقلٍ قتيلاً بلا عَقْلِ

فإن كنتَ أنْكرتَ الذي بي من الهوَى

أقمْتُ به من أدمُعي شاهدَِيْ عَدْلِ

وقال الآخر:

وعندي شهودٌ للصَّبابةِ والأسَى

يُزكُّون دعوايَ إذا جئتُ أدَّعِي

سقامِي وتسْهيدِي وشوقِي وأنَّتِي

ووجدي وأشْجاني وحُزني وأدمُعِي

وقال آخر:

إن كنتَ تُنكِر حالي في الغرامِ وما

ألْقى وأنِّيَ في دعوايَ متَّهَمُ

فالليلُ والوَيلُ والتَّسهيدُ يشهدُ لي

والحزنُ والدمعُ والأشواقُ والسَّقمُ

فإن قيل: لم اختصَّ البعض بالعينين، ولم يأتِ باليدين والرِّجلين؟ قلنا: خَصَّ العينين؛ لما فيهما من الحسن الزائد، وكثرة الفوائد.

لأن أحسن ما في الإنسان وجهه الجامع لجميع المنافع، وأحسن ما فيه العينان من غير منازع. قال:

وأحسنُ ما في الوجوهِ العيونُ

وأشبهُ شيءٍ بها النَّرجِسُ

فكانا ألْيَقَ بالمقام، عند الخاصِّ والعام.

فإن قلتَ: لم خصَّ الحِجَّة بالعِذار، الشَّبيه بالليل الماحي لضياء النهار؟ والحجة يطلب فيها الانارة والظهور لا الظلام ولا الستور

ص: 151

قلت: لأمرين؛ يظهران كالعين للعين. أحدهما عقلي، والآخر نقلي.

أما العقليُّ؛ فإن العِذار يشبه حروف الخطِّ المكتوب، فكأن إتيانه حجَّةً ألْيقَ بالمطلوب.

وأما النقلي؛ فإن العِذار خاصُّ بهذه الدار لأنه لا يوجد في الأخرى، فكان بهذه الخصيصة أحرى.

كما قال بعض الناس، ناظِماً ما قال أبو نواس:

قال الإمامُ أبو نواسٍ وهو في

شعرِ الخلاعةِ والمجونِ يقلَّدُ

يا أمَّةً تهوى العِذارَ تمتَّعوا

من لذَّةٍ في الخلدِ ليستْ توجدُ

وقد طغى القلم، بما يعقب السَّأم. والسلام.

القاضي حسين بن محمود العدوي الصَّالحي هو للدهرِ حسنةٌ تكفِّر ما جنى، وللزَّهر خميلةٌ فيها ظلٌّ وجنى.

توقَّد في الأدب ذهنه، وشاخ ولم يعرض فكره وهنه.

وهو من أصدقاء أبي الذين كان يميِّزهم بالتَّقريب، ويستحسن ما يأتون به من النادر الغريب.

وقد لزمته في عهده أدبِّجُ بتقريراته مهارِق الطروس، وأعطَّر بنفحات تحريراته رياض الأدب الرَّيَّانة الغروس.

وتناولتُ من أشعاره ما لو كان للروضِ ما ذوتْ أوراقه، أو في البدر ما فارقه إشراقه. فمن ذلك قوله:

أرى كلَّ إنسانٍ يرى أنَّ حينهُ

من الخطبِ خالٍ إن ذاك لمغرورُ

وكيف وأصل البنيةِ الماءُ والثَّرى

وسوفَ إلى تُربِ القبورِ يصيرُ

فلا تعْتبنْ خِلاًّ إذا جار أو جفَا

فأنت وربِّ العالمين كدورُ

فإن جنحتْ منك الظُّنونُ لحادثٍ

فميلُك للتَّوحيد يا صاحِ مبرورُ

فإنَّ بقاء العزِّ في وحدةِ الفتَى

كما أنَّ إكثار التَّردُّدِ محذورُ

وما مذهبي أنِّي ملولٌ لرفقتِي

ولكنَّ مسلوب الكفاءةِ معذورُ

لقد أصاب في هذا لبَّ الصَّواب، وإن كان تناوله من قبله ابن الجدِّ الأندلسيّ:

وإنِّي لصبٌّ للتَّلاقي وإنَّما

يصدُّ رِكابي عن معاهدِكَ العسرُ

أذوبُ حياءً من زِيارةِ صاحبٍ

إذا لم يساعدْنِي على برِّه الوفْرُ

ولي من قطعة: وإني بحكم الزمان، أستحي من زيارة الإخوان.

حذراً من التَّقصير، وعدم ظهور المعاذير.

فالعين بصيرة، واليد قصيرة.

ويا لهفي على عمر الكرام، يمضي بخيبة المرام.

فلا يقدَّر لهم في كلِّ وقتٍ إسداء نعمة، ولا استدفاع نقمة.

ولا مكافأة ذي منَّة، ولا مداواة أخي محنة.

تتمة الأبيات:

أجلْ إنَّ أبناءَ الزمانِ تفاوتتْ

فمنهم خبيرٌ بالأمورِ ونِحْريرُ

وبالجملة التَّحقيق فالأنْسُ موحِشٌ

وعمَّا سوى الخلَاّقِ شغلك مدحورُ

فيا ربِّ جدْ بالعفوِ والصفحِ والرِّضا

ففعلِيَ مذمومٌ وفعلُكْ مشكورُ

وله:

وليلٍ أدرْنا فضل قاسون بيننا

فكادتْ قلوبُ السامعينَ تطيرُ

فلو ندرِ إلا الفجرَ صارَ دليلَنا

إلى سفحِهِ والسفحُ فيه نفيرُ

وفينا هداةٌ للطَّريق وقادةٌ

لهم كلُّ فضلٍ في الورَى وصُدورُ

فسِرْنا فلا والله لم ندرِ ما الذي

قطعناه بعد المشي كيفَ يصيرُ

فلمَّا وصلْنا المُسْتغاثَ أغاثَنا

به الغيثُ حتَّى غوثُنا لمطِيرُ

فزرْنا وكلٌّ نالَ ما كان ناوِياً

وفزْنا بوقتٍ حسنُه لشهيرُ

ومنه ركِبنا الجوَّ حتَّى كأنَّنا

نجومُ سماءٍ والسحابُ ثبيرُ

إلى أن هبطْنا قبَّة الفلك التي

تسمَّى بنصرٍ مذ أعانَ نصيرُ

رأيْنا بِها عِقدَ الثُّريَّا معلَّقاً

وعين الدَّرارِي النَّيِّراتِ تُشيرُ

فلن نرَ بُرجاً قبلها حلَّ منزِلاً

يسيرُ إليه الناسُ وهو يسيرُ

وأعجبُ شيءٍ أن تراها مُقيمةً

وتمشِي كما يمشِي الفتَى وتغورُ

وأعجبُ من هذا تراهَا عقيمةً

تُربِّي بناتَ النَّعشِ وهي سريرُ

وعدْنا فحيَّانا حيَا فضل سحبِها

بريحٍ له وقعُ الغمامِ صريرُ

ص: 152

إلى أن رمتْنا بعد عالِي مكانِنا

على مُغْرٍ فيها المُقامُ غرورُ

وجئْنا حِمانا مطمئِنِّين أنفساً

على أن مرقى المكرُمات عسيرُ

ودخل على شيخنا إبراهيم الخياري المدني، حين قدم الشام زائراً، أثر انقطاعٍ ربَّما أوجب تهاجرا.

فقابله معتذراً، وأنشده معنًى مبتكراً. وهو:

وما عاقنِي عن لثمِ أذيالِ فضلِكُم

سوى أنَّ عيني مذْ فارقتُكم رمَدَا

فعاتبتُها حتَّى كأنِّي حبيبُها

فأبدتْ كلاماً كانَ قلبي له غِمدَا

وقالتْ لقد كحَّلتُ طرفِي بظرفِهِ

فأفْتحُها سهواً وأُغمضُها عمدَا

فخاطبه الخياري بقوله:

أيا فاضِلا أبدَى لنَا في نِظامِهِ

لطيفَ اعتِذارٍ سكَّنَ الشوقَ والوجدَا

وأشفَى بِلُقياه مريضَ بِعادِهِ

وقدْ كانَ أشفَى للبِعادِ وما أودَى

فصان إلهُ العرشِ مُقلتهُ التي

ترَى كلَّ معنًى دقَّ عن فهمِها جِدَا

لئنْ كُحِّلتْ بالظرفِ قد أسكرت بِما

أدارتْهُ من مقلوبِ أحداقِها شُهْدَا

فإن ترَنِي أشتاقُ خمرةَ قرقَفٍ

فأطلبُها سهْواً وأترُكُها عمدَا

عبد القادر بن عبد الهادي العُمري ممَّن سابق في ميدان البراعة حتى أحرز مداها، ودأب في تحصيل المعارف إلى أن وجد على نار فكرته هُداها.

فإذا قدح بالظَّنِّ أثقب، وإذا ولَّد بالرجاء أنجب.

يعرف النِّقاية فينتقيها، ولا يمرُّ بالنُّفاية التي ينتفيها.

ويطالع ما وراء العواقب، بمرايا من التجارب الثَّواقب.

فلا تبيت فكرته بهم مرتبطةً، حتى تصبح بحلِّ عقدتها مغتبطة.

مع إحاطة بأنواع من الفنون، لا تحوم حولها الأوهام والظُّنون.

وتآليفه ألَّفت بين التَّناسق والتَّوافق، وجمعت حسن التَّطابق والتَّوافق.

وله من الشعر ما ينيل المطلوب، ويمتزج لطفه مع أجزاء القلوب.

وهو أحد أشياخي الذين قلبي بودهم معتلق، ولسان ثنائي بفضلهم منطلق.

تروَّيت حيناً بمائه، واستمطرت الوبل من جانب سمائه.

وكان أنشدني كثيراً من أشعاره الحسان، أنسيتها منذ زمان، وقبَّح الله النِّسيان.

ثمَّ ظفرت له بأشياء اقتطفت أناسيَّ عيونها، وجئت بمحاسن أبكارها وعونها.

فمنها قوله من قصيدة:

خطرتْ تميسُ كخطوطِ بانٍ مُزهرِ

لا الشمسُ منها والبدورُ بأنورِ

عربيَّةُ الألفاظِ أعربَ لفظُها

عن سحر موردها وطيبِ المصدرِ

هي كاسُ خمرٍ للعقول يديرها

كفُّ البلاغةِ في خلالِ الأسطرِ

وجرَتْ من الأسماع جرْيَ مدامةٍ

مُزجت برائقِ ريقِ ظبيٍ أحورِ

وتكادُ من فرطِ البلاغةِ قد تلتْ

في سورةِ الإخلاصِ ذكرَ الكوثرِ

واللفظُ يُنبئنا وحسنُ مذاقِها

بالموردِ العذبِ الهنيِّ السُّكَّري

عجباً لهاتيكَ الفصاحة إنها

حوتِ الفصيح من الصِّحاح الجوهري

نُظمتْ قوافي للعقولِ تخالُها

نظمَ اللآلي في نحورِ البكَّرِ

فكأننِّي وكأنَّها عند اللِّقا

خلَاّنِ قد جُمعا بروضٍ مُزهرِ

أو زورةٌ منَّ الحبيبُ بها على

معشُوقه أو لثمُ بدرٍ مُسفرِ

وقوله من أخرى، أولها:

هذا الغزالُ فإنِّي منه في شُغلِ

وصارَ وجدي به ضرباً من المثلِ

وغازلتنيَ منه العينُ فانبعثتْ

منِّي معاني صحيحِ الشَّوقِ والغزلِ

بدرٌ فما البدرُ إلا من تكوُّنِه

لكنَّه فاقه بالحليِ والخجلِ

فقدُّه خوطُ بانٍ قد أمال به

لطفُ النَّسيمِ إلى وصلي فلم يملِ

وطرفه الغنجُ الوسنانُ أودعَهُ

داعي الهوى حوراً لكن مع الكحلِ

وآسُه فوق ورد الخدِّ تحسَبه

وشياً من النَّمل أو نوعاً من الرَّملِ

والخالُ يدعو إلى رَيحانِ عارضه

أهلَ الغرامِ على خوفٍ من المُقلِ

ص: 153

وقُرطُه خافقٌ كالقلبِ من قلقٍ

مقبِّلاً جِيدَه في زيِّ مُشتغلِ

يفترُّ عن لُؤلُؤٍ في الثغرِ مُنتظمٍ

نَظْمَ الدَّراري بأجيادِ الدُّمى العُطلُ

وريقُه الخمرُ عندي قد أبان به

نصًّا فحلَّ مُدامُ الثغرِ كالعسلِ

نصُّ كلِّ شيءٍ مُنتهاه، فنصُّ الرِّيق: منتهاه في اللَّطف. وبذلك تتم التَّورية في النَّص.

وكاسُنا الثغرُ قد راق المدامُ به

وعلَّه مَنهلاً منه على عَللِ

نجني الحبابَ فلا ندري الجنَى أبدا

بغير رشفِ رُضابِ الثغرِ والقُبلِ

في كلِّ حينٍ أُلاقي من مَضاربه

سيفاً من اللَّحظِ أو طعناً من الأسلِ

ولي بعوثُ هوًى ما زلتُ أُرسلُها

منِّي إليه ولم تظفرْ على أملِ

ولم تنلْ رُسلي إلا مُباعدةً

من المزارِ وإلا لسعةَ العذلِ

يا عمرَك الله لا تسألْ وكُن فطناً

وعن مصارعِ أربابِ الهوى فَسلِ

ابن عمِّه عبد الجليل بن محمد هو كابن عمِّه، مختصٌّ من المدح بأعمِّه.

اشتهر من صغره نبلُه، وأصاب الغرض مذ فوَّق نبله.

ففيه ما شئت من فضلٍ شروق، وأدبٍ يصفِّق عارضه ويروق.

ونفسٍ كريمة الشَّمائل، وفكرةٍ توشَّى بحبرها الخمائل.

وله شعر إذا استجليته استحليته، وإذا لمحته استملحته.

يفيض فيه فيضاً، وأراه يحسن النثر أيضاً.

إلا أنه لم يمهله الدهرُ حتى يبلغ المدى، فاعتُبط وشبابه يانعٌ بسقيط النَّدى.

ولم يبلغني من آثاره إلا قدرٌ قليل، والقليل منه على الكثير دليل.

فمن ذلك قوله في الخال:

خالُ الحبيب بدَا في الخَدِّ مبْتهِجاً

والقلب من شغفٍ للخالِ قد جنحَا

قد عمَّه الحُسن يا من خالهُ حسنٌ

والعمُّ في خدمةٍ للخالِ ما برِحَا

وقوله في العِذار:

نسجَ الفضلُ عليه

حلَّةً تنمو وَقارَا

في المحَيَّا حين حلَّتْ

رقم الحسنُ عِذارَا

وقوله، وفيه اقتباس، وتورية، واكتفاء:

يا لقومِي من غزالٍ

خَنِثِ الأعطافِ ألمَى

إذ تلى سورةَ حسنٍ

وجهُه والحسنُ عَمَّا

سألُوا عن مُحكَمِ الأو

صافِ فيه قال عَمَّا

وقوله:

يا خالِّه لمَّا بدا

في عرشِ خدٍّ واسْتوَى

أوْحَى لصُدْغٍ أيةً

تدعُو كراماً للهوَى

أصله للحاجِرِي:

لك خالٌ فوقَ عرْ

شِ عقيقٍ قد اسْتوَى

بَعث الصُّدغَ مُرْسَلاً

يأمرُ الناسَ بالهوَى

ولبعضهم:

غدا خالُه ربَّ الجمالِ لأنه

على عرشِ خدٍّ فوق كُرسيِّه اسْتوَى

وأرسل بالألحاظِ رُسْلاً أعِزَّةٍ

على فترةٍ يدعو الأنامَ إلى الهوَى

وله كلمات من فصول، قال فيها: لا تزالُ في رِبقةِ الأماني، مادمت في ساحةِ المباني.

البقاءُ مرآةُ التَّجلِّي، والفناءُ منهل التَّخلِّي، والجمعُ منصَّة التَّحلِّي.

والرُّكون للغير، قطيعةٌ في السَّير.

الزهدُ في الظَّاهر، رغبةٌ في المظاهر.

إتقانُ الحواسّ، وظيفة الإفلاس.

ورُؤيةُ الإيناس، مَظِنَّةُ الوسواس.

وحركة الشوق، عصا السَّوق.

وأبوه في الزهد قُدوة، عروةُ متمسِّك منه بعروة.

وقد شملني دعاه وهو للقبضة مناهِز، وما بين دُعائه وحظيرةِ القُدس حاجِز.

وقد مُلِئتْ صحيفة حسناته، واسْتراح صاحبُ شِماله من كتابه سيِّآتِه.

وأسلافهم ما زالوا حِلًى في جِيد الزمن العاطل، إلى أن ينتهوا إلى جدِّهم الفاروق بين الحقِّ والباطل.

رضي الله عنه وعن بقيَّة الأصحاب، وأعمل محبَّته ومحبَّتهم في قلوبنا على الاستصحاب.

عثمان بن محمود، المعروف بالقطَّان فتى الفضل وكهله، وشيخه الذي يقال فيه هذا أهله.

أطلع الله في جبينه غُرَّ السنا، فثنى إليه من البصائر أعنَّة الثنَا.

مأمون المغيب والمحضر، ميمون النَّقيبة والمنظر.

فهو كالشمس في حالتيها يبدو نورها، فينفع ظهورها.

وتحتجب أرجاؤها، فيتوقع ارتجاؤها.

ص: 154

فعلى كلِّ حالٍ هو إنسان، كلُّه إحسان، وكلُّ عضوٍ في مدحه لِسان.

به الفتوَّة يسهل صعبها، ويلتثم شعبها.

وهو في صدق وفائه، ليس أحدٌ من أكفائه.

وقد اتَّحدْت به من منذ عرفت الاتِّحاد، فما رأيته مال عن طريق المودَّة ولا حاد.

وله علي حقُّ مشيخةٍ أنا من بحرها أغترف، وبألطافها الدائمة أعترف.

وكثيراً ما أرد وِرده، وأقتطف ريحانه وورده.

فأنتشق رائحة الجِنان، وأتعشَّق رائِحة الجَنان.

بمحاضرةٍ تهزُّ المعاطف اهتزاز الغصون، ورونقِ لفظٍ لم يدع قيمة للدُّرِّ المصون.

إذا شاهدتْه العيون تقرّ، وإذا ذوكِرت به نوب الأيَّام تفِرّ.

في زمنٍ انفصمت من أعلامه تلك العقود، ولم يبقَ فيه إلا هو آخر العنقود.

فإن شئت قلْ: جعله الله خلفاً عن سلف، وإن أردت قلْ: أبقاه الله عوضاً عن تلف.

فممَّا أخذتُه عنه من شِعره الذي قاله في عنفوانه، وجاء به كسقيطِ الطَّلِّ على ورد الروض وأقحوانه. قوله من قصيدة:

بأبي من مُهجَتِي جرحَا

وإليه الشوقُ ما برحَا

دأبهُ حربِي وسفكُ دمِي

ليتهُ بالسلمِ لوْ سمحَا

غصنُ بانٍ مُثمِرٌ قمراً

يتهادَى قدُّهُ مرَحَا

مذْ تثنَّى غصنُ قامتِهِ

عندَليبُ الوجدِ قد صدَحَا

أي خمرٍ أدارَ ناظِرُه

ما سقَى عقْلاً فمنه صحَا

إن رآنِي باكِياً حزناً

ظلَّ عُجباً ضاحِكاً فرحَا

إن يكنْ حزنِي يُسرُّ به

فأنا أهوَى به البُرَحَا

وعذولِي جاءَ ينصحُني

قلتُ يا منْ لامنِي ولَحَا

ضلَّ عقلِي والفؤادُ معا

ليس لي وعْيٌ لمن نصحَا

جدْ وجدِي عادِمٌ جلَدِي

غاض صبرِي والهوَى طَفحَا

لم يزلْ طرفِي يسِحُّ دماً

إذ به طيرُ الكرَى ذبِحَا

هذا معنى متداول، منه قول الشِّهاب الخفاجي:

ولو لم يكنْ ذابِحاً للكرَى

لما سالَ من مقلتيَّ النَّجيعُ

آهِ واشوقاهُ مِتُّ أسًى

هل دُنُوٌّ للذي نزحَا

إن شدتْ ورقاءُ في فنَنٍ

شدوُها زندَ الجوَى قدَحَا

وإذا ما شامَ طرفَ الشَّ

امِ طرفِي للدِّما سفحَا

يا سقى وادي دِمشقَ حياً

طاب مغتبقاً ومصطبَحَا

وكتبت إليه من مصر: سيِّدي الذي له دعائي وثنائي، وإلى نحوه انعطافي وانثنائي.

لا عدمت الآمال توجَّهها إليه، وكما أتمَّ الله النعمة به فأتمَّها عليه.

أُنهي إليه دعاءً يتباهى به يراع ومِهرق، وثناءً يجعلُ طيبُه فوق سالفٍ ومفرق.

متمسِّكاً من الودِّ بحبلٍ وثيق، ومن العهد بما يتعطَّر بها النَّشر الفتيق.

ومتذكِّراً عيشاً استجليتُ سناه، واستحليت ثناه.

وإنِّي أتلهَّب على طول نواه، وحرِّ جواه.

وقد وسمتَ بإقبالك أياميَ الغُفل، وفتحتَ بمذاكرتكَ عن خِزانة قلبي القُفل.

إلى أن صرف الدهر بحدثانه، وحكم على ما هو شأنه بعدوانه.

وأعاد عليَّ العين أثرا، والخُبرَ خَبَرا.

واللقاءَ توهُّما، والمناسمة توسُّما.

فتذكُّري لأيَّامك التي لم أنسَ عهدها، تركني لا أنتفع بأيام الناس بعدها.

وإنِّي لا أرتاح إلا بذكر فضائلك، ولا أستأنس إلا بكرم شمائلك.

أمزج بها الضَّحايا فتتبسَّم، وأستدعي بها صبا القبول فتتنسَّم.

ولولا اشْتعالُ النارِ في جذوةِ الغَضَا

لما كان يدرِي المرءُ ما نفحَةُ النَّدِّ

وأما الأشواقُ فإن القلبَ مستقرُّها ومستودعها، ومحلُّها ومجتمعها.

وهو عند مولاي فليسأل به خبيرا، وأما الأثنية فإنها على ألسنة الرُّكبان فلينشر بها حبيرَا.

وإلى مثلك يتقرب بإخلاص الوِداد، ومن فضلك تُجتنى ثمرة حسن الاعتقاد.

فسلامي على هاتيك الشَّمائل، سلامُ النَّدى على ورقِ الخمائل.

وتحيَّتي لتلك الحضرة، تحيَّةُ النسيم للماء والخضرة.

وأما دِمشقُ فشوقي إليها شوق البلبل إلى الورد، وامرؤ القيس إلى الأبلق الفرِد.

وأنا مهدٍ تسليماتي إلى كلِّ يابِس من دوحِها وأخضر، ومتبرِّج من ثمراتها في قِباء رواءٍ أنضر.

وأشتاق عهدها والعمرُ ربيعٌ نضر، والرَّوض جرَّ عليه ذيله الخضر:

ص: 155