الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكتب إلى صدر الشام وعالمها، ومن به قامت دعائم معالمها عبد الرحمن العمادي المفتي:
رحمة العلم والفتاوى عليه
…
وصلاة الأقلام في الأوراق
وقوله:
القلب أصدق شاهدٍ
…
عدلٍ على صدق المحبه
ومن القلوب إلى القلو
…
ب مواردٌ للحب عذبه
طوبى لمن يسقى بكا
…
س رحيقها المختوم شربه
فراجعه بقوله:
الحبُّ أظهر من إقا
…
مة شاهدٍ بين الأحبه
ومحبةٌ برهانها
…
عينٌ العيان تعدُّ حبَّه
وإذا ارتضى المولى بفت
…
وى القلب فليستفت قلبه
ومن شعره ما قاله عاقداً فيه حديث: أحبب حبيبك هونامَّا فعسى أن يكون بغيضك يومامَّا، وأبغض بغيضك هونامَّا فعسى أن يكون حبيبك يومامَّا:
بين المحبة والتباغض برزخٌ
…
فيه بقاء الود بين الناسِ
بخلاف أقصى الحب أو أقصى الذي
…
هو ضدُّه من كل قلبٍ قاسي
فمآل كلٍّ منهما ندمٌ على
…
تفريطه ندماً بغير قياسِ
ومن مقاطيعه قوله:
إذا ما أزمع الأحباب ظعناً
…
وثار لدى الوداع حنين وجدي
فقل لهم بعبرة ذي ولوعٍ
…
تمتَّع من شميم عرار نجدِ
تتمته:
فما بعد العشيَّة من عرار
قال أبو هلال في كتاب المعاني: الألوان، يعني من النساء، تعتريها بالعشية صفرةٌ مستحسنة، كما قال:
. . . وصف
…
راء العشيَّة كالعراره
قال الشهاب: أقول: العرار زهر بري أصفر، ومن هنا يفهم معنى قوله:
فما بعد العشيَّة من عرار
وقوله مضمناً:
إن هبَّ ريح التنائي
…
بين الرفاق عصوفا
فقل حشاشة نفسٍ
…
وقل خلقت ألوفا
يريد بيت المتنبي:
حشاشة نفسٍ ودَّعت يوم ودَّعوا
…
فلم أدر أيَّ الظاعنين أشيِّعُ
وبيته الآخر:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصِّبا
…
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقوله:
إن رحَّل القوم عنا
…
ركابهم ظاعنينا
فقل لهم بانكسارٍ
…
يا من يعزُّ علينا
تتمته:
..........أن نفارقهم
…
وجداننا كل شيءٍ بعدكم عدمُ
وقوله:
أحببتها هيفاء يزري قدُّها
…
بالغصن رنَّحه النسيم وحرَّكا
مرت فضاع المسك من أردانها
…
فوددْتُ بالأردان أن أتمسَّكا
وقوله:
يا ويح قلبي من هوى شادنٍ
…
يجرحه اللَّحظ بتكراره
أدنو فتغدو وردتا خدِّه
…
بنفسجاً يزهو بنواره
وقوله:
أفٍّ لدُنيا لم تزل
…
عن وجه ذلٍّ سافره
تعميرها مستلزمٌ
…
تخريب دار الآخره
فصل
ذكرت فيه مما في الأصل أربعة من الرجال، وصفهم حليٌ تتغاير فيه ربات الحجال.
تحث بهم عزمها القلوص النواجي، وتستفيد منهم سحرها العيون السواجي وإني لا آمن من أن يقال: كرروا على الأسماع، والمكرر مملول بالإجماع.
ومن العادات، ترك المعادات. فخبر الحبيب يطيب على الإعادة، وسجع الحمام إذا تردد أطرب بحسب العادة. ومن يمل من الأنفاس ترديداً، ويسأم من رشفات الثغور تعديداً. على أني مقتف أثر الباخرزي في دميته، حيث أعاد ذكر بعض من ذكر الثعالبي في يتيمته. وقال: لولا تكرار الكؤوس، لما استقر الإطراب في النفوس، ولا استقلت صبابة على الرؤوس، والحياة على حسن مساقها وطيب مذاقها، إذا جاوزت النفس الأول معادة، وحبها لكل من الحيوانات عادة، حتى إنها لا تمل إذا كررت عليها، ولا تكره إذا ردت إليها.
والشرط إني لا أذكر من شعرهم السامي، وزهرهم الذي نبت في الروض الشامي. إلا ما لم يصل إليه، وما ذكره منه لا أحاشره عليه.
والحكمة هي الضالة فأين وجدت أخذت، وحيث ما سمجت نبذت.
وما بعثني على ذكرهم، إلا التلذذ بحمدهم وشكرهم. وإني لأحسب إن طالت لعهدهم السنون، أن تتعلق بمحاسنهم خطاطيف الظنون. وعلى كل حال فحقهم علي أوجب، وزيادة إلمامي بنخبهم لا تنكر ولا تحجب.
فمنهم: أبو الطيب الغزِّي أوحد البلغاء العظام، وأجل من تفوه بالنثار والنظام.
جاء أمةً وحده في الافتنان، وامتطى جواد البراعة فأجراه طلق العنان. فهو في النباهة آية، لم تفته من مطالبه غاية. فكل خاطرٍ ينفد إلا خاطره، وكل سحابٍ يضن إلا سحابٌ يسح من فكره ماطره. ومكانته في السؤدد عالية، وساعة قربه ليست بالعمر غالية. تحلى بالزهد، وبذل في التخلي الجهد.
وشعره حجة متصابٍ وفتنة متناسك، إذا سمعه المشغوف لم يبق فيه إلا رمقٌ بلذاته متماسك. قالت الأصداف: الفخر لألفاظه الغر، فلذلك حشا الدهر في فمها الدر.
إذا ابتدأ معنًى أبرزه كهلال العيد، وأوقعه موقع فصل الخطاب وبيت القصيد.
وإن استعاره صيره خلقاً جديداً، وجعله كليله في الفكر جديدا.
وأقام دعامته إن خفي رسماً، وأعطاه روحاً إذا كان جسماً.
وأنا ممن ألهج به ابتهاجاً وزهواً، ولي بمحاسنه شغف المتيم بمن يهوى. تحركني إليها دواعي الوجد، فأولع بها ولوع ابن الدمينة بصبا نجد. وقد جئتك منها بما يملأ المسامع التذاذاً، ويجعل القلوب من الوجد جذاذا.
قال في الغزل:
رشأٌ تمكَّن من فؤاد التَّائه
…
في قفر حُبِّيه وفي بيدائهِ
أسدٌ يجول بحلية الحسن التي
…
فيها الأسود تكون من أُسرائهِ
ملكٌ ترى رمحَ القوم وقوس حا
…
جبه وسيفَ اللَّحظ من نظرائهِ
قمرٌ تراءى نحو مرآة السَّما
…
ءِ وفيه أثَّر بدره بإزائهِ
أترى أرى نفسي مفكَّهةً به
…
ليلاً يحنُّ إليَّ في ظلمائهِ
فلكم تطاول نأيه عنِّي وذق
…
تُ به عناً لا ذقت طعم عنائهِ
في ليلةٍ تلقى الكئيب مفكراً
…
ممَّا به يرعى نجوم سمائهِ
لولا غزير الدَّمع أحرقه الحشا
…
لولاه أصبح مغرقاً ببكائهِ
أمعنِّفي دع عنك تعنيفي فلي
…
س يطيعني سمعي على إصغائهِ
لم يصغِ للتَّعنيف مسمع والهٍ
…
رسخ الهوى والوجد في سودائهِ
يا صاحبيَّ سلاه هل من عودةٍ
…
بزمان أنسٍ تمَّ لي بلقائهِ
أم هل وصالٌ أرتجيه منه أو
…
وعدٌ فأبقى في انتظارِ وفائهِ
أم هل أسامر طيفه من بعد أن
…
قاسيتُ فرطَ نفورِهِ وإبائِهِ
فهواه داءٌ ضمن قلبي لا يزو
…
لُ وما لقلبي مَخلصٌ من دائهِ
فأنا المقيم على المحبَّة والوَلا
…
وأنا الذي في الرِّقِّ من خُدَمائهِ
وله من قصيدةٍ كلها درر وغرر:
أما آن من نجم الشُّجون غروبُ
…
وحتَّى متى ريح الفتون تنوبُ
تكلِّفني من بعد سلوان صَبوتي
…
شَمالٌ تُعنِّي مهجتي وجنوبُ
سهرتُ لها نائي المضاجع فانبرى
…
لها بين أحناءِ الضُّلوع لهيبُ
إذا ركدت ريحٌ وقرَّ نسيمها
…
أبى منه إلَاّ أن يعود هبوبُ
وفي الصَّدر بدرٌ فيه لم تحظَ أعينٌ
…
ولا صوَّرته للنُّفوسِ قلوبُ
محيَّاه روضٌ ناضرٌ في نثيرِهِ
…
نظائم منها باهرٌ وعجيبُ
قناةٌ عليها للشُّموس مطالعٌ
…
ومركزها دون الإزارِ كثيبُ
بعيدُ مناطِ القُرطِ سحرٌ لحاظُه
…
ذَهوبٌ بألبابِ الرِّجال لعوبُ
بديع التَّثنِّي للهواء وللهوى
…
نسيمٌ يباري لطفه ونسيبُ
يجول وِشاحٌ أو تَغصَّ دمالجٌ
…
إذا لاح في بردٍ وماس قضيبُ
يُرى منه في ريمٍ مهاةٌ وضيغمٌ
…
ويعرض في الأخلاء منه مهيبُ
يشوب الرِّضا بالصَّدِّ والوصل بالقِلى
…
وما هو إلَاّ مسقمٌ وطبيبُ
تمنُّعُ إطماعٍ وإطماعُ مانعٍ
…
ودرٌّ ودَلٌّ رائقٌ وخلوبُ
دعاني إلى الرُّجعى على حين غفلةٍ
…
من الحسن والأهواءُ منه تريبُ
دعا سائري من كلِّ عضوٍ وكلَّما
…
دعا منه داعيهِ أجابَ مجيبُ
لُسِبْتُ من الصُّدغ الجنيِّ بعقربٍ
…
له بين ورد الوجنتين دبيبُ
لئن عاد لي عيد اللَّواعج غرَّةً
…
فإن فؤادي للغرامِ نسيبُ
وعنوانُ حالي لو رأى بثَّ بعضهِ
…
شُحوبٌ ومن دون الشُّحوبِ وجِيبُ
لحا الله قلبي كم تنازعه الرَّدى
…
لحاظٌ لها في صفحتيه نُدوبُ
يلَذُّ الهوى لا دَرَّ دَرُّ أبي الهوى
…
وحسبك منه زفرةٌ ونحيبُ
أُدرِّجُ أنفاسي مخافة كاشحٍ
…
وأُطرق كيما لا يقال مريبُ
أدين بكتمان الهوى فيذيعُهُ
…
فؤادٌ وطرفٌ خافقٌ وسكوبُ
وقالوا غَوِيٌّ لا يتوب وآثمٌ
…
وما علموا حوباً فكيف نتوبُ
بحسب التَّوافي من عفافي زاجرٌ
…
ومن صونه عمَّا يريب قريبُ
أُجلُّك أن أُبدي هواك علالةً
…
ولكن لسان العاشقين خطيبُ
وله من قصيدة، أولها:
نَهْنِه دوالح جفنك المقروح
…
وأرحْ طلائح قلبك المجروحِ
ودع الهوى طلق العنان لأهله
…
وارْبَأْ بنفسك عن رباه الفيحِ
فلرُبَّما ضاق الفضاءُ بأهله
…
ولربَّما سُدَّت مهافي الرِّيحِ
كم ذا تبيتُ مسهَّداً ترعى السُّها
…
متململاً من لاعج التبريحِ
كم ذا تصُدُّ عن النَّصيح عمايةً
…
وترى وليَّ النُّصح غير نصيحِ
وممنِّعِ كابن الغزالة دونه
…
غابا حمًى من ذبَّلٍ وصفيحِ
لم يعتلق مضناه منه بزورةٍ
…
تشفي ولا فتكه بمريحِ
لو شئت لا شئت المعادَ إلى الهوى
…
لرأيتني بالروح غير شحيحِ
ورأيت آرام الصَّريمِ سوانحاً
…
في مجلسي وصوادراً في سوحِي
ورأيتني ضمَّت على متنسِّكٍ
…
متعفِّفٍ حين اللقاء كشوحي
وله من أخرى، مستهلها:
وفتًى يرفُّ بمثل ثوب نضارِ
…
وعثاعثٍ ترتجُّ تحت إزارِ
أمَّا محيَّاه الوسيم فإنه
…
منح القلوب ومطمح الأنظارِ
شفعت ذوائبه الدُّجى وجبينه
…
بهر الهلال عشيَّة الإفطارِ
يرنو بأكحل كالجراز فيا له
…
من أسودٍ ذي أبيضٍ بتارِ
تبدو له أسد العرين ظواهراً
…
فيعيدها أخفى من الأسرارِ
صنمٌ تخرُّ له البطارق سجُّداً
…
ليجيرهم فيهيلهم في النَّارِ
إن قلت بدرٌ رابني بسفوره
…
أو قلت ريمٌ راعني بنفارِ
لو أنكرت منِّي هواه جوارحي
…
فشحوب جسماني به إقراري
لم أنسه واللَّيل بحرٌ مزبدٌ
…
بنجومه وأديمه من قارِ
وإذا به وافى يفوح كأنَّما
…
زرَّت غلائله على عطَّارِ
صدع الدُّجنَّة فارياً ديجورها
…
عن بدر تمٍّ مشرق الأنوارِ
وافتَّر يبسم عن ثنايا وامضٍ
…
بلآلئٍ نسق النَّظام صغارِ
قلت: صغر الأسنان ممدوح، قال ابن النبيه:
ولم أرَ قبل مبسمه
…
صغير الجوهر المثمنِ
واعتذر عن كبرها القائل:
يفتَّرُّ عن مثل نظم الدُّرِّ أتقنه
…
بحسن تأليفه في النَّظم متقنهُ
عابوا كبار ثناياه فقلت لهم
…
الدُّرُّ أكبره في العين أثمنهُ
تتمة الأبيات:
علَّت بخرطومٍ كميتٍ سلسلٍ
…
لا مزَّةٍ كلا ولا مصطارِ
روح بلا جسمٍ ولكن جوهرٌ
…
متصدِّفٌ بالقار والفخَّارِ
لو عبَّ ساقيها دجًى في كأسها
…
لرأيت بدراً لسَّ شمس نهارِ
حمراء تحسبها عقيقة بارقٍ
…
إن لم تكنها فهي جذوة نارِ
مسكيَّةٌ فكأنها دم شادنٍ
…
يحتَّل من كاساتها في قارِ
منها في المديح:
وهَّابُ أذوادِ المطافل يكتفي
…
بسقوبها بل واهب الأخطارِ
ينسي أحاديث المكارم إنه
…
ملغي الوعود ومهدر الأعذارِ
يطفو السَّخاء على أسرَّته كما
…
يطفو الفرنْد على الصقيل العاري
ما زال في طلب العلا حتَّى انبرى
…
كهلاً فأدرك خمسة الأشبارِ
في بردتيه أبو دؤاد لجاره
…
ولمن يناويه أبو الأذعارِ
مولاي يا كهف الأفاضل والنُّهى
…
ويمين بيت الله ذي الأستارِ
إنَّي لأُكبر منك هيبة ضيغمٍ
…
وأجلُّها مني عن الإكبارِ
سأقول فيك الشِّعر يقطر حسنه
…
أو يستمدُّ السِّحر من أشعاري
يزري بوشيِ الرَّوض نمَّق نوره
…
كفُّ النَّسيم وراحة الأمطارِ
وله من أخرى، مطلعها:
أمؤنِّبي في الحبِّ لا متواني
…
ما أنت من ولهي ومن سلواني
لا تسقني ماء الملام فإنَّما
…
عيناي من ماء الهوى عينانِ
وله بجانحتيَّ صون حديثه
…
دينٌ وشأني مخبرٌ عن شاني
لولا ضرامٌ شبَّ بين جوانحي
…
لغرقتُ من غربيَّ بالطُوفانِ
رفقاً فلا غير المنية والجوى
…
هو أوَّلٌ وهي المحلُّ الثاني
ليت الذي فهقت كؤوس جفونه
…
أنهى بهنَّ إليك ما سقَّاني
إنَّ المذرَّبةَ الظُّبي ولحاظه
…
أنَّى اتَّجهتُ من الهوى سيَّانِ
لله من أجفان جؤذرِ كلَّةٍ
…
يرعى الحشا بدلاً عن الحوذانِ
يطفو النَّعيم على غرارة وجهه
…
فترفُّ منه شقائق النُّعمانِ
متوضِّح القسمات يبرح خالباً
…
منِّي جناني جاذباً بعناني
وبغيضةٌ سبل الغرام إليَّ ما
…
لم يعتسفها ضلَّة الهجرانِ
وسبيَّةٍ من خمر عانة مزَّة
…
نظم المزاج بها عقود جمانِ
قتلت بصوبٍ من صبير غمامةٍ
…
لمعت بمثل مصابح الرُّهبانِ
ومنها في المديح:
فرعٌ تمكَّن من نصابٍ دونه
…
أخذُ الكميِّ بمنكبي ثهلانِ
يقظٌ بأعقاب الأمور كأنَّما
…
يدلي بجاسوسٍ إلى الكتمانِ
لا تطَّبيهِ مدامةٌ تجلى على
…
عزف القيان ورنَّة العيدانِ
عمَّت فضائله وذاع نوالهُ
…
كالشَّمس لا تخفى بكلِّ مكانِ
منها:
واستجلِها عذراء عُلَّ رضابُها
…
حمراء تهزأ بالنجيع القاني
شُجَّت بذي خصرٍ يبدِّد فوقها
…
حبَيَاً يجول كأعين النِّينانِ
النينان: جمع نونٍ، وهو الحوت. قيل هو جمعٌ غير معروف.
وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد، في قوله في صفة السفينة:
تلاعب نينان البحور ورُبَّما
…
رأيت نفوس القوم من جريها تجري
فغيره بشار بتيار البحور وقد قال أبو الطيب يصف خيلاً:
فهنَّ مع السيدان في البرِّ عسَّلٌ
…
وهنَّ مع النينان في البحر عوَّمُ
قلت: وأبو الطيب، له في اللغة النظر الصيِّب، وهو ممن يميز الخبيث من الطيب. ومن نتفه ومقاطيعه قوله:
عاطيته حلب العصير ولا سوى
…
زهر النُّجوم تجاه زهر المجلسِ
انظر إليه كأنَّه متبرمٌ
…
مما تغازله عيون النَّرجسِ
وكأنَّ صفحة خدِّه ياقوتةٌ
…
وكأنَّ عارضه خميلة سندسِ
هذا على أسلوب قول ابن هانئ الأندلسي:
خالسته نظراً وكان مورَّداً
…
فاحمرَّ حتى كاد أن يتلهَّبا
انظر إليه كأنَّه متنصِّلٌ
…
بجفونه ولقد يكون المذنبا
وكأنَّ صفحة خدِّه وعذاره
…
تفَّاحةٌ رميت لتقتل عقربا
وله:
صادفته متبذِّلاً بصحابه
…
يوماً فأقصر عنهم في منزلِ
وتركته نهب الرِّعاع وإنَّه
…
أشهى إليَّ من الرَّحيق السلسلِ
وله:
لقد علقْتَ يا فؤادي
…
بالحسين ذي الوسنْ
فإن ظمئْتَ فارشِفن
…
ريق الحسين والحسنْ
وله:
ناسَقني الوصْل فهنَّيتهُ
…
ميقات موسى فات بالصَّدِّ
لا بدَّ من بينٍ على غرَّةٍ
…
ما أنت إلا زمن الوردِ
وله:
لنا نفوسٌ إذا هي انصدعت
…
بلمح طرفٍ تقوم ساعتها
عزَّت فعاشت بفقرها رغداً
…
وفي اعتزال الأنام راحتها
وله:
نضارة أهل الكيفِ ظلٌّ من اكتسى
…
به نحو شهرٍ ظلَّ في النَّاس عاريا
على وجه ميٍّ مسحةٌ من ملاحةٍ
…
تزول ويبقى الخزيُ من بعد باديا
وله:
أعدَّ لهمِّه أوراق كيفٍ
…
تمدُّ من السرور عليه فيئا
كألسنة الشموع تضيء لكن
…
تذيب نفوسها شيئاً فشيئا
أحمد بن شاهين عين الزمان ويمينه، لو حلف ليأتين بمثله حنثت يمينه.
فهو شخصٌ كله جود، وما من فضلٍ إلا في ذاته موجود.
موارد كرمه سائغة، وملابس نعمه سابغة.
مورق عيدان العلا رطبها
…
أبلج وجه العرف بسَّامهُ
مع شيمةٍ لو أنَّها في الماء ما تغير، وهمةٍ لو أنَّها للنَّجم ما تغور. وأيادٍ روائحٌ غوادي، كنسيم الرياض غبَّ الغوادي.
فللمزنِ فيض بنانه، وللروض حسن افتنانه. وله فكرٌ إذا اتقد تلهب منه اللهب، وخلقٌ إذا انتقد تبهرج عنده الذهب.
وكان في مبدإه من الجند على طريقة والده، حتى بلغ فنزع بنفسه إلى مجدٍ أغناه مطرفه عن تالده. وحبب إليه أنواع المعارف، فاعتاض عن حمر المضارب بسود المراعف.
كما قال:
صبوت إلى حبِّ الفضائل بعدما
…
تقلَّدت خطِّيًّا وصلت بمخذمِ
ومارست من بعد القناة يراعةً
…
كأبيض مصقول العوارض لهذمِ
وصار مدادي من سواد محاجري
…
وقد كان محمرًّا يسيل كعندمِ
فجاء من التحائف التي بيضت وجوه القراطيس، وجذبت المحاسن إلى صوبها جذب المغناطيس. بما أطلع قدود المها محفوفةً بالولائد، ولآلي الثغور كأنَّها على العقد قد نظمها للقلائد. إلى نظامٍ مثل السوالف زمَّت بالشعور، وأداءٍ كدرر البحور علِّقت في النحور. وشعره وإنشاؤه إذا رآهما الأديب، قال: ليس للبلاغة إلا ذان، يلجان السمع إلى القلب بلا أذانٍ ولا استئذان. أحاطت ببدائعه حواشي الإجادة، إحاطة الحلل بالقدود، وتوشت رياض روائعه بالملاحة توشية العذار بورد الخدود.
فكل ما كتبه أوفاه به لسانه، لا سبيل لأن يجحد حسنه وينكر استحسانه. ومضى عليه زمن وهو في عيشٍ رفيه، والعز ناظر وهو نورٌ فيه.
حتى أسن فوقف الدهر في تعهده دون حقوقه، وخرج إلى ما كان يهيؤه له من بره إلى عقوقه. وأخر مطالبه تأخير الغريم، لدين الكريم.
وبدله عن النشاط المقيم، بالحظ العقيم.
وللزمان حال لا إلى بقا، وصفوٌ لا يبقى على نقا.
فسلوة الأيام موعدها الحشر، ولكتابها منتهًى هو النشر.
ثم عاجله الحِمام، فسقى تربه هطَّال الغمام.
وما جاده الغيثُ عن غُلَّةٍ
…
ولكن ليبكي النَّدى بالنَّدى
وقيل فيه:
قلت لما قضى ابن شاهين نحباً
…
وهو مولًى كلٌّ يشير إليهِ
رحم الله سيِّداً وعزيزاً
…
بكت الأرض والسَّماء عليه
فمما اخترته من آثاره، وألمعت به من نظامه ونثاره. رسالة ألمع على الأسلوب البديع، وجرى فيها على أسلوب البديع.
كتب بها إلى شيخه الحسن البوريني، يتعهد بها مطالعته، ويسأل مراجعته. عقب مهاجرة وقعت بينهما، واقتضت بينهما: أعز الله الشيخ الذي سكن من الجوارح أشرفها، وسلك من طرق الجفا أوعرها وأسرفها.
وبالغ في العقوبة وزاد، واستغرق أوقات الوداد بالبعد والعناد.
وارتكب مركباً من الخليقة صعباً، وقطع جميع الطرق إلا طريق الوفا وثباً.
واستعار أذناً ليستوعي بها المثالب، وعيناً ينظر بها المصائب.
ويداً يبطش بها من كل صاحب ومصاحب، ورجلاً يسعى بها إلى الأباعد دون الأقارب.
ووجهاً يتصرف في أسرَّته، كتصرُّف الملك الجائر في رعيته.
ويفعل بمحبيه، ما لا يفعل الدَّهر ببنيه.
لا تظهر الطلاقة في وجهه إلا ريثما يخلطها بإعراض، ولا ينبسط هنيئةً من الزَّمان إلا وهو وشيك انقباض.
يبدو لطفه لمعاً ثم ينقطع، ويحلو ماؤه جرعاً ثم يمتنع.
فلا يدوم له سرور الهنا، إلا بما هو من حمانا يحلُّه، وبما هو من أعراضنا يستحلُّه.
فيا ليت شعري، أيُّ مصونٍ من سرِّك أذعته، أو مفروضٍ في الخدمة رفضته، أو واجبٌ في الزِّيادة أهملته.
وهل كنت إلا كما قيل: ضيفٌ أهداه بلدٌ شاسع، وأدَّاه أملٌ واسع.
وحداه عقلٌ، وإن قلَّ. وهداه رأيٌ، وإن ضلَّ.
ثم ما أبعدت صحبةٌ إلا أدنت مهانة، ولا زادت حرقةٌ إلا نقصت صيانة. ولا تضاعفت ذمة، إلا تراجعت منزلة.
ولم تزل الغصة بنا حتى صار الوابل رذاذاً، والتشوق المفرط معاذا.
وصار حسن ذلك الالتفات ازوراراً، وطويل ذلك السلام اختصاراً.
وكان المهلب يقول: عجبت لمن يشتري العبيد بماله، كيف لا يملك الأحرار بمعروفه.
وفي الحديث: البشاشة خيرٌ من القرى.
وفي المثل: اليوم العبوس، خيرٌ من الوجه العبوس.
ومن كلامهم: الحوادث الممضة مكسبةٌ لحظوظٍ جزيلة، منها: ثواب مدخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريفٌ بقدر النعمة.
وقد شاهدت فيها خامساً؛ وهو صون ماء الوجه عن الذل والهوان.
مولاي يا من له في كلِّ جارحةٍ
…
لسان شكرٍ يؤدي بعض ما وجبا
ما هذه الكراهة من فتًى خفيف الجسد والروح، ثقيل الرأس بالعقل، غضيض الجفن بالحيا، طلق الوجه، عف اللسان، رحب الصدر، باسط الكف بالجود، طويل الباع بالإحسان، صافي القلب، سليم الفطرة، محني الضلوع على الأسى، مطوي الجوانح بالهوى، قصير الخطى عن الأذى.
فما محاسن شيءٍ كله حسن
ما فيه لَوٌّ ولا ليتٌّ تنقِّصه
…
وإنَّما أدركته حرفة الأدبِ
على أنني والحمد لله لم أكن
…
مذاداً مع الحرمان منك ولا شربُ
ولكنني أبردت صدري بنهلةٍ
…
من الفضل غُصَّت دون موردها الشَّربُ
وذلك لأني أطلعت التردد إليك، وعولت أمري في طلبي عليك.
ووردت من أنهار فضلك كل معين، وكنت لي في طلبي وأملي خير معين.
والنعمة لا تجحد، والحسنة لا تكفر.
والشمس لا يمكن سترها بحجاب، والبدر لا يخفى ضوؤه وإن كان تحت السحاب.
والكذب شيمة المنافقين، ألا لعنة الله على الكاذبين.
وأنا ما قلت ذلك إلا رائياً أن لا طيب إلا ما اختلط بترابك، وأن لا سعد إلا ما خيم ببابك.
وأن لا ربيع إلا في بقعتك، وأن لا أنس إلا بطلعتك.
وأن لا فرح إلا بقربك، وأن لا ترح إلا ببعدك، وأن لا نشاط إلا بحبك، وأن لا علم إلا ما استفيد منك، وأن لا فضل إلا ما أخذ عنك، وأن لا دليل إلا ما جيء به معزوًّا إليك، وأن لا سند إلا ما أخذ من فيك، ومحالٌ عليك.
لعلمي بأنك البدر الكامل، والفرد الذي ليس له معادل ولا مماثل.
هذا، مع مغالاتي فيك، ومنافستي عليك، ومناظرتي بك، وانتمائي بالفضيلة التامة إليك.
وإنشادي مستمسكاً بحبل ودادك، ومتمسكاً بترب مهادك.
ومعتقداً أن رضاك ثوابٌ، وغضبك عقاب. ورغبتك إحسان، ورهبتك خسران.
وإعراضك جحيم، والتفاتك نعيم. ومثلك لا مثل يضاهيك.
إن غضب تجمل، وإن تأذى ولو بوهمٍ تحمل.
وإن جاء فاسقٌ بنباءٍ تبصر واستفسر، وإن ثبت لديه شيءٌ ولو دعاء اغتفر واستهتر.
فهاتِ قل لي يا من مكانته
…
في القلب قد حلَّها بمفرده
أي جوابٍ لمن يسأل عن حلمك، واستفسر عن ثمرة علمك. فإن الحلم، ثمرة العلم. وهو دالٌّ عليه، كدلالة النور على الثمر، والهالة على القمر. وقد وجد كماله فيك، وظهرت ثمرته عليك، وتذللت قطوفه دانيةً إليك.
وأعود فأقول: بعض هذا الجفا يا مولاي يكفي، وجزءٌ من هذا الإعراض يجزي. وفي قليلٍ من صدودك انتقام كثير، وفي يسيرٍ من هجرك إسرافٌ وتبذير. وفي أدنى ما بلغني عنك كافٍ ومقنع، وفي أقل ما رأيته منك للقلب مؤلم وموجع. وفي المثل: من يسمع يخل، ومن يكثر يمل. وأظن أن الداعي إلى مهاجرتي نميمةٌ جاء بها فاسق، ونبأ افتراه كاشح.
ومع ذلك لو ارتكبت جريرةً لما استحقيت من القطيعة المهلكة أعظم مما رأيته وقاسيته، ولو اكتسبت كبيرةً لما استوجبت من العقوبة المنهكة بعض ما عاينته وعانيته. ولو أشركت، والعياذ بالله تعالى، لمحت ذنبي التوبة والاستغفار، ولو كفرت، معاذ الله، لغطت على كفري الندامة والاعتذار.
ولما أحتمل أن يسمى كبيرة، ويدعى ولو على المجاز جريرة. وهب أنني يا مولاي لا أؤاخذك بأغراضك وإعراضك، ولا أعاتبك بإسرافك وإخلاقك، ولا أقابلك بإخلافك وأخلاقك. ولا أواجهك بانقيادك وعدم انتقادك، ولا أعارضك بإعراضك، وعدم اعتراضك. ولا أطالبك بتألبك، وعدم تألمك، ولا أحاسبك بما حرمتنيه من عطفك، ولا أصادرك وإن سؤتني بما تثنيه من عطفك.
أفي حكم المروءة أن تبعد من يقاربك، وتطرد من يصاحبك. وتطرح من يهابك ولا يملُّك، وتسمح بقطيعة من يجلُّك ولا يخلُّك.
ومن أمثالهم: أهل الحفائظ أهل الحفاظ. والحفائظ تحلل الأحقاد، فأين من سيدي الحفيظة المأمولة لتحلِّل ما عنده وما استقصاه، وتهدم ما شاده الواشي وما بناه.
والعين تعرف من عيني محدِّثها
…
إن كان من حزبها أو من أعاديها
وقد باغتني مقالةٌ من بعضها في القلب جروحٌ. فليت شعري، وهل ليت بنافعة، متى كان جرحاً، حتى صار قرحاً.
ومتى قدح الزند حتى اضطرم هذا الوقد.
ومتى تكاثف القطر وهمى، حتى اجتمع هذا البحر وطمى ومتى طنَّت الحصا، حتى بلغ مداها عنان السَّما.
وبالجملة فقد شاركت الليال، في تقلب الأحوال. ووافقت الأيام، في اصطناعها اللثام.
هلَاّ ألهمت أن ترد بعقلٍ وتصدَّر بتميز، " وما ذلك على الله بعزيز ".
ولولا أنك أعنتها ونصرتها، وآزرتها وظاهرتها. لردَّت على أعقابها ناكصة، ورجعت على أدبارها خائبة. ولأمنت مكرها، واجتنبت إصرها.
ولكنها جمرة ليل، وأثمر ثمارٍ لا سيل. وبناءٌ على شفا، وعلَّةٌ قريبة الشِّفا.
وقد ثبت أن العقوبة للمسيء، والحرمان للمجرم، والخذلان للمعتدي، والقصاص للمذنب، والمؤاخذة للجاني. وأنا أبيض وجه العهد، واضح حجة الود، مصاحب التوفيق، بريء الساحة، مجانب الهفوات. ولو أنني علمت أنه أمرٌ بيت بليل، لجازيت الصانع كيلاً بكيل، ولكني سأريه ناجذي وأتجلد، وأري الشامتين أني لريب الدَّهر لا أتضعضع.
ولعمرك ما علمت أن صريح الرأي في التحول عنك مطلوب، ولا تحققت أن المجاز في كل تركيب من الألفاظ العرفية متداول مرغوب. لأتبصر أن قول القائل مثلاً: اذهب الأعمى. أن يكون عبارةً عن طرد المخاطب ضمناً، وقد تقرر أن المخاطب يدخل في عموم كلامه لا أن المخاطب يدخل فيما خوطب به. ولو علمت قبل ما عدت بعد.
لست أشكو من امتناعك عنِّي
…
يا منى النَّفس حيث عزَّ الإيابُ
سوء حظِّي أنالني منك هذا
…
فعلى الحظِّ لا عليك العتابُ
وأحرى بقول القائل:
إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسهم
…
فليس بمغنٍ عنك عقد الرتائمِ
حلفت ولم أترك لنفسك ريبةً
…
وليس وراء الله للمرء مطلبُ
إني لا قابلت إحسانك بكفر، ولا أسأت أدباً فيما صنعته في خدمتك بأن أتبعه بمنّ. ولك عندي اليد البيضاء التي لا أقبضها عن الدعاء لك، والأخرى التي لا أبسطها بالدعاء عليك.
وها أنا أشكو إليك، جعلني الله فداك، ما لا يمكن الإيضاح به، ولا الصراحة عنه، ولا التوصل بالاستيفاء، ولا التسلط بالاستحضار عليه، ولا التجمل بالإغضاء، ولا البيان لما فيه، ولا التمحل له.
وربما ذكرت البعض منه، وقلت: لعلِّي كنت شائماً سراباً، أو مستمطراً جهاماً، أو رائياً خلَّباً، أو وارداً حيث لا مراد، أو مستعيناً حيث لا معين، أو مستغيثاً حيث لا مغيث، أو مستجيراً حيث لا مجار، أو مستميحاً حيث لا سماح، ولك المثل الأعلى.
لا تعجبوا ضربي له من دونه
…
مثلاً شروداً في النَّدى والباسِ
فالله قد ضرب الأقلَّ لنوره
…
مثلاً من المشكاة والنِّبراسِ
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته
…
ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ
فهل كنت كالمقتدي بناقضة الغزل، أو كالمستصحب سراةً لملمَّةٍ فإذا عم عزل. أو كراضٍ من الغنيمة بالإياب، ومن المركب بالتعليق، أو كراجع بخفِّي حنين.
هذا، وأنا أقول: لن تضر الحوار وطأة أمِّه. بيد أنه يقال، فيما تقدم ومضى من المدد الخوال:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً
…
فليقسُ أحياناً على من يرحمُ
ومثلي من تهفو به نشوة الصِّبا
…
ومثلك من يعفو ومالك من مثلٍ
وإني لينهاني نهاي عن التي
…
أشاد بها الواشي ويعقلني عقلي
وما أنا بالمهدي إلى السؤدد الخنا
…
ولا بالمسيء القول في الحسن الفعل
فهات جواباً عنك ترضي به العلى
…
إذا سألتني بعد ألسنة الحفلِ
فبين الرِّضا والسُّخط ظنِّي واقفٌ
…
وقوف الهوى بين القطيعة والوصلِ
ولو تيسرت لي مخاطبتك مشافهةً لكان لي معك ذوقٌ من الكلام، لكن لما عزَّت المشافهة، استغنيت بالمكاتبة والمراسلة، قائلاً:
لك الحمد أما من نحبُّ فلا نرى
…
وننظر من لا نشتهي فلك الحمدُ
ولعمري إن ليلي عليك ليل السليم، ونهاري دونك نهار الأليم. وفكري قد صدئَ لعدم مطارحتك، وطرفي قد قذي لندرة مشاهدتك. وقلبي لعزة رضاك واجبٌ مضطرب، وصدري لعلة مؤانستك حرج ضيِّق، وفمي لبعد مصاحبتك واجمٌ ساكت، وصادف حجاي عارضٌ وعين، فغلبني الدمع بسلاسل من عسجد ولجين:
أما والذي أبكى وأضحك والذي
…
أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ
لقد صديت مرآة الخيال، وقذي طرفٌ طال ما سهر الليال. وتزلزل محلُّ سيدي من قلبي، أطال له البقاء، ومنحه سوابغ النعم والارتقاء.
رفقاً بمنزلك الذي تحتلُّه
…
يا من يخرِّب بيته بيديهِ
وضاق وسع الفضا، وسكت مصقع الخطبا. وجنَّ صاحي القوم، وبكت مقلةٌ يعزُّ عليها النوم.
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
…
وأذللت دمعاً من خلائقه الكبرُ
معلِّلتي بالوعد والموت دونه
…
إذا متُّ عطشانا فلا نزل القطرُ
أما تتقي الله في واقفٍ أمامك، مستغفرٍ تائب. وأرق ما يعرض على المولى قول القائل:
سلي تعلمي إن كنت غير عليمةٍ
…
بأن ليس في حبِّي لغيرك مطمعُ
فأنَّ لي القلب الذي ليس خالياً
…
من الوجد والجفن الذي ليس يهجعُ
فوالله ما أنفكُّ أذكر موضعي
…
لديك ولا أنفك نحوك أنزعُ
وبالجملة:
أُعيذها نظراتٍ منك صادقةً
…
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ
وهاك هدية الوقت، وعفو الساعة، وفيض البديهة. ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم. وجمرات الحدَّة، وثمرات المودَّة. ومهاداة الخاطر للناظر، ومباراة الطَّبع للسَّمع، ومجاذبة الجنان للبيان. وها هو جواد البلاغة علك الشَّكيم، حابس العنان، لم يأخذ طلقه، ولم يستوف مضماره.
وهذا هو النهض فما بالك بالركض، وقد آلى لا يعرق عرق التنبيه ما لم يسمع بتصهالهِ، ويرعد بقرع نعاله. ويوصل ممتطيه غايةً لا تدرك، وغارةً بالرياح الهوج لا تنهك. ومع ذلك لو نظمت النثر كالدرر، وأتيت به رائقاً كنسيم السَّحر، وموشياً كألوان الزهر، وما كنت إلا كمهدي التمر إلى هجر، والفصاحة لأهل الوبر.
وآخر ما أقول إن ودي موقوفٌ عليك، وحبيس سبيلك، وتحت رهنك. فمتى عاودته، وجدته سائغ المعبر، غضَّ المنظر، جنيَّ المخبر. يندى بشاشةً، ويقطر حسناً، ويفوح عنبراً، ويثمر لطفاً. فإن فعلت ذلك فهو حسن، وإن عدت فالعود أحمد. وإن كان الأمر كما يقال: لا ولا. فالغبن مشترك. والله يتولى السرائر، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وإن راسلتك بما زاد أو نقص فهو منك، وبسببك والسلام.
وله من كتاب كتبه، وهو بجبل الشوف، إلى بعض خواصِّه، جواباً عن كتاب كتبه إليه، يطلب بعض طرائف الجبل: وإني أراك تُهدي ولا تستهدي، وتضلُّ في رأيك ولا تستهدي.
وكأنك تلوِّح بطرائف هذه الجبال، وليس فيها سوى العُقاب والوبال، عدد ما فيها من الحجارة والرمال.
وما ظنِّي إلا أنَّك تسبَّبت إلى استهداء طرائف المقال، وتقنَّعت عن جرِّ الأثقال، بالقيراط من الجواهر والمثقال.
وإلا فأنت أعلم بالحال، وما فيها من ضروب المحال، والاختلال، والاعتلال، والاضمحلال، والابتذال.
ولقد قرأت في أخبار بعض الأخيار؛ أن بعض الأدبار الأُرباء، كتب إلى بعض الأمراء النُّجباء. يستهديه من طرائف خراسان، ويلوِّح بالإحسان من فضل ذلك الإنسان.
فكتب إليه ذلك الأمير العريض الجاه، سقا الله ثراه، ورضي عنه وأرضاه: أما بعد، فقد وصل كتابك، معرِّضاً بطرائف هذه الناحية، وقد بعثت إليك بعدل صابونٍ لتغسل عني طمعك، والسلام.
قلت: وفي هذه الحكاية تسليةٌ للشيخ الذي رضاه قريب الغاية، وتلافيه لا يحتاج لشدة عناية، لوجود الكفاية. لأنه ربما يكتفي في الهدية، ببلغةٍ حامدية أو أحمدية. فيغسل طمعه رطل صابون، ويدفع عطشه وعد الكمون، وهو حرٌّ قانعٌ بالدُّون.
وله من رسالة كتب بها إلى أبي العباس أحمد المقري، ذلك الإمام اللوذعي العبقري، يذكر فيها موت ولدٍ له صغير: لا أوحش الله مولانا الأستاذ مما سيعرض على سمعه من عُجَري وبُجَري، ومن حديثي وغريب سمري. وهو أن الله سبحانه وله الحمد، قد جعل رونق معاشي، وريحانة فؤادي من غير تنفيس مهلةٍ ذخر معادي، ومشرد رقادي.
وقد مات للحجاج ولد، وكان بيضة البلد. فصعد متن المنبر، وحمد الله وشكر وأكثر.
ثم قال ويده على كبده، من حرِّ ما يجدِهِ: الحمد لله الذي يقتل أولادنا ونحمده.
ونظر أبو الحارث، وكان مشوه الخلق في المرآة، فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. وها أنا يا سيدي، أحمد الله سبحانه، وقد فقدت جزء نفسي، وفلذَة كبدي، وشطر روحي، ونور عيني. وما أسفي إلا على ما سمَّاه الشيخ باسمه، ووسمه بوسمه. وأرَّخ مولده، وحمد مصدره ومورده. وقد عراني بسببه الذُّهول، وأنا في سنِّ الكهول. ولولا ذاك لما أغفلت خدمة سيِّدي إلى الآن، من رسالةٍ أستجلب بها شرفاً طارفاً، كما استفدت في الفوز بخدمته مفخراً سالفاً.
وله من رسالة إلى بعض حواشيه، يعاتبه على نقيصةٍ قذف بها بحر واشيه: اعلم، أصلحك الله، أن خبر السوء ينمو ويربو، ويبلغ متراكماً متضاعفاً، ويصل متواتراً مترادفاً. ثم إنه في السرعة يقطع مسافة سنةٍ في جمعة، وذلك أنَّ الشرَّ أغلب في الطباع، والهوى كما يعلم به القاضي شفيعٌ مطاع.
والنَّفس أقرب إلى العقوق، ولإضاعة الحقوق. والعقرب، إلى الشرِّ أميل. والأفعوان، بعيد من مراتب الإحسان.
ومن وزن الميزان في غير ميزانه، عوقب بنقصانه، وعدم رجحانه. ولعمري لولا أن الخبر يحتمل سامرين، ويتردَّد بين شفتين. لأوجعت القاضي عتباً، ونهبت أديمه نهباً، وأخذت كلَّ سفينةٍ غصباً. كأنَّ القاضي سمع قولهم:
إذا أنت لم تنفع فضُرَّ فإنَّما
…
يراد الفتى كيما يُضَرُّ وينفعُ
فعمل بمعناه، وتمسك بفحواه، ونسي أُولاه وأُخراه.
قال الصاحب لأبي سعد الرُّستمي حين جفاه:
فلعلَّ تيماً أن تُلاقي خطَّةً
…
فتروم نصراً من بني العوَّامِ
القاضي، وإن كان يحتاج إلى ما هو أوضح في العتاب، من هذا الخطاب. تقريباً لفهمه، وتوضيحاً لعلمه. ولكن هو كما قال أبو الطيب:
وكلمةٍ في طريقٍ خفتُ أُعربها
…
فتهتدي لي ولم أقدر على المحنِ
وإنما نهجت على سَنَني في البلاغة، وسبيلي في الخطابة والكتابة. وهو أصلحه الله تعالى على سَنَنِه في الجفا، وقلِّة الوفا، ووقوفه من الصِّدق في الصَّداقة على شفا، وحسبي الله تعالى وكفى.
وكان بينه وبين أبي الطَّيِّب الغزِّي مودَّة ومصافاة، ثم أعقبها مقاطعة ومجافاة. فكتب إليه هذه الاعتذارية النابغة، وهي كما تراها تهزأ باعتذارات النَّابغة. ومطلعها:
ألمَّت أيادي الخطب سائمة العتب
…
على أنها العُتبَى تكون لذي الحبِّ
يقول فيها:
لأية حال يا ابن خيرِ أرومةٍ
…
أُذاذد عن العذب الزُّلال بلا شربِ
وأشرب صاب الدَّمع يطفو أجاجُه
…
لبُعدك والأعداءُ واردةُ العذبِ
منها:
فيا ليت شعري والأماني تعلُّلٌ
…
وروض المنى ينبيك عن وابلٍ رطبِ
متى أردِ الإسعاف في منهل الرِّضا
…
وأعتاض عن نزر المودَّة بالسَّكبِ
وقد كنت آتي في السَّلام تتابعاً
…
فلم صرت أرضى في الزِّيارة بالغَبِّ
ولو أنَّني واقعت عمداً جريرةً
…
لما كان بدعاً منك داعية السَّبِّ
ولكنني والله أعلم لم أكن
…
لأقطع أوصال المحبَّة كالإربِ
ولم أستثر حرب الفجار ولم أُطع
…
مسيلمةً إذ رام آلفة الحجبِ
ولم أعتقد أن الخلافة فلتةٌ
…
بعهد أبي بكرٍ ولا كان من دأبي
ولم أرم فاروق العدالة غيبةً
…
وقد طلبت منه النَّجيبة بالكذبِ
ولم أكُ نجواً للخوارج إذ بغوا
…
على قتل عثمان بسطوةِ ذي شُطبِ
ولم أكُ سلماً لابن ملجم إذ سطا
…
لحربِ عليٍّ والهوان لذي الحربِ
ولم أكُ في قتل الحسينِ مجرِّداً
…
لصِمامتي أو أن يذاد عن الشُّربِ
ولم أختلق بِدعاً وحسبك داعياً
…
إذا كان عرض المرء منثلم الغربِ
وهبْ أنَّني مارستُ ذلك كلَّه
…
فحسبي من الإعراض يا أملي حسبي
وقد وقفت من هذا النمط على اعتذارية، توسل بها أبو جعفر المري في تربة المهدي، عند عبد المؤمن سلطان الأندلس، بعد أن نكبه، وهي هذه: تالله لو أحاطت بي كلُّ خطيئةٍ، ولم تنفكَّ نفسي عن الخيرات بطيئة. حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السُّجود.
وقلت: إنه لم يُوحَ في الفُلك لنوح. وبريت لقدارٍ نبلاً، وبرمت لحطب نار الخليلِ حبلاً. وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطِّين. وقبضت قبضةً من أثر الرَّسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها. وذممت كلَّ قرشي، وأكرمت لأجل وحشيٍّ كلَّ حبشي.
وقلت أن بيعة الثَّقيفة، لا توجب إمامة الخليفة. وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتقلت من حصار الدَّار وقتل أشمطها بشعبة.
وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت من قرع سنِّ الحسين قضيباً. ثم أتيت حضرة المعصوم لائذاً، وبقبر الإمام المهديِّ عائذاً.
لآن لمقالتي أن تسمع، وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع.
فعفواً أمير المؤمنين فإنَّنا
…
نُقلُّ قلوباً هدَّها الخفقانُ
وكتب إلى الأمير محمد بن منجك يسلِّيه وقد احترقت يده وقدمه، بنارٍ اعتلقت بمطبخه ليلة عيد الفطر، وقد أجاد وأحسن كلّ الإحسان:
قالوا يد المنجكيِّ ذو الرُّتَبِ
…
آلمها النار قلت من عَجَبِ
يمينه ديمةٌ ونائلها
…
بحرٌ فكيف اختشت من اللَّهبِ
تضرُّه النار وهو مطفئها
…
والنار ليست تضرُّ بالسُّحبِ
وإنَّما قام وهو محتفلٌ
…
كعادةٍ منه تنتمي لأبِ
تبغي قِرى الضَّيف في إثارتها
…
وذاك دأب الكرام في العربِ
فقبَّلتْ كفَّه لما له نظرتْ
…
من هِمَّةٍ للقِرى مع النَّصبِ
أو قد رأت مكرمات راحته
…
عمَّت جميع الأنام بالنَّشَبِ
فبادَرَتْه لتجتدي نشباً
…
منه فساءت مواطن الطَّلبِ
وضرَّ أقدامها ولو عقلتْ
…
لقَبَّلَتْها بغاية الأدبِ
لكن بحمد الإله ما شُغلت
…
عن مسِّها لليراع والقُضُبِ
انظر إلى وجوده وقد طلبتْ
…
من كفِّه قبلةً فلم تخبِ
جُودٌ يروح الجمادُ يطلبه
…
ما شِيمَ كلَاّ في سالف الحقبِ
ومن نتفه قوله:
نَصَل الشَّباب وما نصُلتُ عن الهوى
…
وبدا المشيب وفيَّ فضلُ تصابي
وغدوتُ أعترضُ الدِّيار مُسلِّماً
…
يوماً فلم تسمح بردِّ جوابِ
فكأنَّها وكأنَّني في رسمها
…
أعشى يحدِّق في سطور كتابِ
وقوله:
إني أبُثُّك حبًّا
…
حُبًّا يرى السِّلم حربا
ويغصبُ القلبَ غصبا
…
وينهب الصبر نهبا
يا من كوى ألف قلبٍ
…
سامح من النار قلبا
وقوله:
يا عدوًّا قد ظلمنا
…
هُ بتلقيب الحبيبِ
وغريب الطَّبع فينا
…
وهو في زيِّ قريبِ
ما قليلٌ أنت لكن
…
منك قد ضلَّ نصيبي
وقوله:
لاحظته فتغيَّرت
…
لحظاته غضباً لحربي
فاستلَّ من أجفانه
…
سيفاً وأغمده بقلبي
يا من رأى في دهره
…
قلباً غدا غمداً لعضبِ
وقوله:
يا شقيق الظَّبيِ لحظاً
…
والرَّشا في لفتاتكْ
فتَّ غصن البان قدًّا
…
والنَّقا في خطراتكْ
لست هاروت ولكن
…
سحره من حركاتكْ
عظَّم الله بصبري
…
أجر ماضي لحظاتكْ
أنا والله قتيلٌ
…
هالكٌ من نظراتكْ
جرحت قلبي وهذا
…
شاهدي في وجناتكْ
أنا أستبقي حياتي
…
لتُقَضَّى في حياتكْ
كيف تعصيك حياةٌ
…
هي من بعض هباتكْ
آه من ضعف غرامي
…
وتقوِّي عزماتكْ
آه من طول عنائي
…
وتداني خطراتكْ
وله من قصيدة، مطلعها:
ذا ودادي وهل ترى لودادي
…
حافظاً في الأنام مثل فؤادي
كلَّما رحتُ أستميح حبيباً
…
ودَّه جاد لي بضدِّ مرادي
فكأنَّ الأنام أضحوا فلاناً
…
وفلانٌ هو الذي لي يعادي
كلَّما رمت قربه أخذت بي
…
شيمةٌ منه تقتضيه بعادي
مثل صبري إذا تلقَّى هواهُ
…
كان ذا رائحاً وذلك غادي
إن تمادى بنا جفاهُ قليلاً
…
فانتظر للأساة والعٌوَّادِ
عجباً من نواك وهو طريفٌ
…
كيف لم يرع حقِّ قرب تلادي
أخلفَتْك الشؤون عجزاً فجادت
…
بالسَّواري أكبادنا والغوادي
ليس عندي من الدُّموع سوى ما
…
وهبتْهُ عصارة الأكبادِ
كان طول القناة ودُّك عندي
…
فانبرى من جفاك عرض النِّجادِ
لا تلمني على هواك فإنَّا
…
قد أتينا معاً على ميعادِ
صادف القلب خالياً فاحتواه
…
مطمئِنَّاً وكان بالمرصادِ
معنى البيتين ينظر إلى قول الآخر:
أتاني هواهُ قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلباً خالياً فتمكَّناَ
نقل عن أبي بكر الأصبهاني أنه عابه، فقال: كل من صادف مكاناً خالياً تمكَّن فيه، والمستحسن أن يعرفه من دونه.
أقول: هذا كلام من لم يذق حلاوة المعاني؛ فإنَّ الشاعر قصد أن غرامه قائمٌ، لم يسبقه غيره، فإنه متمكِّن في قلبه لا يزول، وما قصد معنًى آخر، كما قيل:
أتاني هواه والهوى قد أحاط بي
…
ليجمل بيت القلب للحبِّ منزلا
فصيَّرته وقفاً عليه ولم يجد
…
إليه سبيلاً غيره فتحوَّلا
تتمة الأبيات الأولى:
كان لي منك لحظةٌ أصطفيها
…
فغدا لحظها كسيف الأعادي
كنت أخشى غِرارها وهي سلمٌ
…
كيف إذ جرِّدت من الأغمادِ
عملت للوشاة فينا سيوفٌ
…
عجباً رحن وهي غير حدادِ
لست مستسعداً حبيباً تجنَّى
…
لي ذنباً وصدَّ عن إسعادي
آه من وصلك البعيد التَّداني
…
آه من هجرك الكثير التَّمادي
لا ابتلاني الإله بعدك حتى
…
يلبس الخدُّ منك ثوب الحدادِ
ويرى الورد كالبنفسج لوناً
…
منك والأقحوان غير نوادي
إذ عرى نرجس العيون ذبولٌ
…
وغدا الغصن ليس بالميَّادِ
ذاك نوحي عليك وهو زمانٌ
…
منصفٌ للهوى من الأضدادِ
ومن نتفه قوله:
علَّمتني الذُّلَّ حتى صرت آلفه
…
وما التذَّلُّلُ خلق الباز والأسدِ
يا من أهان فؤادي من محبته
…
أعزَّك الله فارحمني ولا تزدِ
قد صرت طوع يد الأشواق مكتئباً
…
من بعد ما كانت الأشواق طوع يدي
وقوله:
وأذكرني قدَّ القناة قوامه
…
وهزَّني الشَّوق اهتزاز المهنَّدِ
وأزعجني حتى ظننت وسادتي
…
عليَّ وقد أمست كقطعة جلمدِ
ألا إنَّني يا شوق بالله عائذٌ
…
ومستشفعٌ من فتنتي بمحمدِ
وله من قصيدة، أولها:
لحى الله أوقاتي وضاعف من صبري
…
على مرِّها مرَّ السَّحاب بالقطرِ
تحاربني الأيام حتى كأنَّني
…
تطالبني عن كلِّ من مات بالوترِ
الوتر: الذَّحل، وهو الثأر.
قال يونس: أهل العالية يقولون: الوتر، يعني بالكسر: في العدد، وفي الذحل، بالفتح.
عددت أويقاتي ولاحظتُ طيبها
…
فأجودها ما مرَّ في الحلم من دهري
إذا رحتُ أحصيها لأعلم يسرها
…
عدمت حياتي والمصير إلى عسرِ
متى ما اعتبرتَ العمر ما كان صافياً
…
تجد رجلاً قد عاش عمراً بلا عمرِ
هذا معنًى غريب، وأظنه تناوله من قول الحتاتي، وهو:
عمرُ الفتى قالوا زمان الرِّضا
…
بصفوة الأحباب في اليسرِ
صدَّقت ما قالوه كي يُقبلوا
…
فينظروا شيخاً بلا عمرِ
وأصله قول الأمير أسامة بن منقذ:
قالوا نهاهُ الأربعون عن الصِّبا
…
وأخو المشيب يجور ثمَّتَ يهتدي
كم حار في ليل الشباب فدلَّه
…
صبح المشيب على الطَّريق الأقصدِ
وإذا عددت سنيَّ ثم نقصتها
…
زمن الهموم فتلك ساعة مولدي
قال العماد الأصفهاني: تعجب من مقاصد هذه الكلم، وتعرض لموارد هذه الحكم واقض العجب كل العجب من غرارة هذا الأدب، ولولا أن المداد أفضل ما رقم به صحائف الكتب، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب، فهذا أبلغ من قول أبي فراس الحمداني:
ما العمر ما طالت به الدُّهور
…
العمر ما تمَّ به السُّرور
فالفضل للمتقدم في ابتكار المعنى، وللمتأخر في المبالغة.
العود أحمد:
وها أنا في طيِّ الليالي معدِّدٌ
…
كواكبه من حيث لا حاسبٌ يدري
كأنِّي في همِّي مدى الليل راكبٌ
…
على فلك نائي المدى أبداً يسري
أروح مجدًّا مصعداً وعزيمتي
…
إلى اللَّوح كي أقرا به سورة اليسرِ
وأحفظها من جبهةٍ شمْتُ نورها
…
على بعدها قدرُ الكواكب والبدرِ
وله:
عجبت للشمس إذ حلَّت مؤثِّرةً
…
في جبهةٍ لم أخلها قطُّ في البشرِ
وإنما الجبهة الغرَّاء منزلةٌ
…
مختصَّةٌ في ذرى الأفلاك بالقمرِ
ما كنت أحسب أن الشمس تعشقه
…
حتى تبيَّنتُ منها حدَّة النَّظرِ
وله:
انظر لأوراق الربيع وقد بدت
…
محمرَّةً في صفرة الأشجارِ
وكأنَّها لما تبدَّت بينها
…
شفقٌ تبدَّى في سماء نُضارِ
وله:
قد أُحبُّ الرَّبيع لِلَّهو فيه
…
بلطيف الهواء والأزهارِ
ثم فصلُ الخريفِ عنديَ أحلى
…
لاجتنائي فيه لذيذ الثِّمارِ
ومن غزلياته قوله:
ومعذِّرٍ خفيت خطوطُ عِذاره
…
فبدت لطالب وصله أعذارهُ
قد لاح تحت ورودِه ريحانةٌ
…
وبدا خفيًّا للعيون غبارهُ
يبدو فتقطر بالدِّما أقطارُه
…
دلاًّ ويخطو بالخُطى خطَّارهُ
رقَّت شمائله ورقَّ كلامُه
…
وتعبَّدت أوطارنا أوطارهُ
فشككْتُ بين مؤنَّثٍ ومذكَّرٍ
…
فيه فأنْبَا باليقين عذارُهُ
من هذا، بل أجود منه قول تقيِّ الدين الفارسكوري:
توهَّمتُه شمساً وكان يريبني
…
نسيم الصَّبا منه ومن طبعها الحَرُّ
فلمَّا دجى ليل العِذارِ ولم يغب
…
علمتُ وزالت شبهتي أنه البدرُ
وله:
وما زالت تخبِّرُني المعالي
…
سراراً لا أطيق له جهارا
فإن أظفرْ به فأنا حَرِيٌّ
…
وإلا فالمقدَّر لا يُجارى
وحيَّاه غلامٌ بوردةٍ، فقال:
انظر إلى وردةٍ حيَّى بها رشأٌ
…
نشوان وافى من الغلمان كالحورِ
كأنَّها شفتاه حين جاء بها
…
مضمومةً إذ بدت أو طرفُ مخمورِ
في التشبيه الأول شمةٌ من قول الشريف الرضي:
كم وردةٍ تحكي بسبق الورد
…
طليعةً تشرَّعت من جندِ
قد ضمَّها في الغصن فرط البرد
…
ضمَّ فمٍ لقبلةٍ من بُعْدِ
ولابن الرومي:
وردٌ تفتَّح ثم ارتدَّ مجتمعاً
…
كما تجمَّعت الأفواه للقُبَلِ
ومن تضامين ابن تميم الفائقة:
سبقتْ إليك من الحدائق وردةٌ
…
وأتتك قبل أوانها تطفيلا
طمعتْ بلثمك إذ رأتك فجمَّعت
…
فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
وأصله قول المتنبي في راكب فرس:
ويُغيرني جذب الزِّمام لقلبها
…
فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
وله عاقداً لحكمة تؤثر:
إذا أقبلت دنياك يوماً على امرئٍ
…
كسَته ولم يشعر محاسن غيرهِ
وإن أدبرتْ سلبتْ محاسن نفسه
…
وكُسى شروراً عن ملابس خيرهِ
وله:
كلُّ الحوائج تنقضي
…
فاعجب لفرقِ قضائها
فالأُسد تفترس المها
…
وتعيثُ في أعضائها
والنَّمل عظمٌ واحدٌ
…
منها يفي برضائها
وله من النوع الذي يسمى بالاكتفاء:
إنَّ احتفال المرء بالمرء لا
…
أحبُّه إلا مع الاكتفا
مبالغات النَّاس مذمومةٌ
…
فاسلك سبيل القصد في الاحتفا
فيها التزامٌ عجيب، لم ينظم مثله، وهو أن يكون اللفظ المكتفي به بمعنى اللفظ المكتفي منه؛ فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى الاعتناء؛ فيكون على هذا الاكتفاء وعدمه على حدٍّ سواء، إذ لو قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء، مع تسمية النوع فيهما.
وله:
أضمُّ على قلبي يديَّ تشوُّقاً
…
وألوي حيازيمي عليك تحرُّقاً
تساوى حضوري في هواك وغيبتي
…
ومن عجبٍ شوقٌ لدى البعد واللِّقا
رعى الله قلبي حيث كان فإنَّه
…
غدا بحبال الشَّمس منك معلَّقا
ومن رباعياته قوله:
أبكيك ولو بقدر شوقي أبكي
…
أوردت محاجري حياضَ الهُلكِ
لو قال لي الغرام ممَّن تشكو
…
بأساً وأساً لقلت منكي منكي
وله:
أيُّ ذنبٍ ليَ قل لي
…
غير حظٍّ منك قلِّ
أتراني منك أصبح
…
تُ برأيِ مستقلِّ
لك نفسي أيها ال
…
جاني فخذ جهد المقلِّ
وله:
أيُّها الجاني المدلُّ
…
لك نفسي وتقلُّ
طال تعذيبك قلبي
…
فعذابي لا يحلُّ
أنت في حلٍّ فبادر
…
بدمٍ ليس يحلُّ
وله من قصيدة، مطلعها:
عذراً لطيشك إن السنَّ مقتبل
…
فليس ينفع في أشواقك العذلُ
سبعٌ وعشرون لو مرَّت على جبلٍ
…
لراح يختال منها ذلك الجبلُ
قضَّيت فيها شباباً لو تطلَّبه
…
رضوان في الخلد أعيتْ قصده الحيلُ
نظيمةٌ كعقود الدرِّ في نسقٍ
…
فلو حوتها عقودٌ زانها العطلُ
نشوان أطفح من خمر الشَّباب ولا
…
كنشوة الخمر يشكو فعلها الثَّملُ
من حيث عندي فكاهاتٌ ألذُّ بها
…
راحي الرُّضاب وتفاحي هي القبلُ
أعانق الغصن في أكمامه قمرٌ
…
وألثم البدر في أعطافه كسلُ
لو حلَّت الشَّمس يوماً في محلَّتنا
…
لراح يندبها من شجوه الحملُ
أو قابل البدر عندي من أسامره
…
لمسه دونه التَّشوير والخجل
أيام لم أحتمل للصبر عاقبةً
…
ولم أقل ليت جفني راح ينهملُ
مرَّت فلا صفوُها في العيش ذو رنقٍ
…
يوماً ولا ظلُّها في الأمن منتقلُ
تلهو السِّنون بها في أمرهنَّ كما
…
يلهو بقلب الفتى في يومه الأملُ
وله الميمية التي أبانت عن شغف، كاد يفضي به إلى التلف، وغرامٍ رمي منه بكلف الكلف. وسبب ذلك صدُّ حبيبٍ لم يدع فيه للتَّحمل محلاً، وأذهل لبَّه فتركه بمقتضيات الحب مخلاً، وهي هذه:
حكَّمتهم في فؤادي حسبما رسموا
…
فليتهم حكموا بالعدل إذ حكموا
أو ليتنا قد صبرنا مذعنين لهم
…
أو ليتهم إذ تولوا أمرنا رحموا
جاروا ولو علموا أني لحكمهم
…
طوع القياد لما جاروا ولا ظلموا
ضنُّوا بصحبتهم عنا ولو علموا
…
صدق المحبة منَّا خلتهم ندموا
هم عرَّضونا لبلواهم بقربهم
…
حتى إذا ما رأوا إقبالنا سئموا
كنَّا بنينا لهم في القلب منزلةً
…
علياء حتى إذا ما شيِّدت هدموا
ظنُّوا بنا غير ما تطوي سرائرنا
…
والله يأبى الذي ظنُّوه والكرمُ
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي
…
أنا الثُّريَّا وذانِ الشَّيبُ والهرمُ
رأيتهم لم يمَلُّوا خلَّتين لهم
…
وبئْستِ الخلَّتان الغدر والسَّأمُ
رحلت عنهم ولي في كلِّ جارحةٍ
…
منِّي لسانٌ عليهم يشتكي وفمُ
وإن ترحَّلت عن قومٍ وقد قدروا
…
أن لا تفارقهم فالرَّاحلون همُ
يا نازحين عراهم من تذكُّرنا
…
عارٍ فلا مسَّكم من بعد ذا ألمُ
جنيتم ثمَّ رحتم عابثين وهل
…
في العدل أن يعتب الجاني ويجترمُ
كنتم ولا عيب فيكم غير أنَّكم
…
قد شاب ماءكم للشاربين دمُ
عجبتُ منكم وفي أخلاقكم عجبٌ
…
كيف استوى فيكم المخدوم والخدمُ
سلبتم النَّفع حتَّى ظنَّ طالبكم
…
أنَّ الذي قد تولَّى كبركم صنمُ
غدرتم ووفينا في محبَّتكم
…
إنَّ الوفاء لدى أهل النُّهى ذممُ
قد كنت يوسف إذ بعتم كإخوته
…
بالبخس مني فتًى تغلو به القيمُ
لا ذنب فيما أحلتم للوشاة وهل
…
للخصم ذنبٌ إذا لم ينصف الحكمُ
إن كان يجمعنا حبٌّ لفرقتكم
…
فليت أنَّا بقدر الحبِّ نقتسمُ
هل في القضية ممن لست أنسبهم
…
أنِّي على حبِّكم بالصِّدق متَّهمُ
إن كان حبُّ الفتى ذنبٌ يعدا له
…
إني إذاً أنا بالبغضاء متَّسمُ
زعمتم أنَّنا نهوى شمائلكم
…
وإنَّما تعشق الأخلاق والشِّيمُ
أيُّ الفريقين أوفى عندكم نفرٌ
…
هَوَوْا وما كتموا أم معشرٌ كتموا
لم تفرقوا ما البزاة الشُّهب عندكم
…
وقد أحاطتكم الغربان والرَّخمُ
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
…
إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ
فرَّطتم في عقود الودِّ فاغتنموا
…
تفريطكم إنه ما ليس ينتظمُ
جمحتم اليوم عن طرق الوفاء فلا
…
جذب الأزمَّةِ يثنيكم ولا اللُّجمُ
رحتم تغضُّون منِّي دون أسرتكم
…
حتى كأنيَ في أجفانكم سقمُ
بيني وبينكم بهماء مظلمةٌ
…
من غدركم لم تجبْها الأينقُ الرُّسمُ
جهلتم قدر معروفي ومعرفتي
…
وسوف يبلغ شأوه النَّدمُ
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صممُ
أبدو فيخضع من بالسُّوء يذكرني
…
كأنَّني فوق أعناق العدى علمُ
صفحت عنكم فلا أنِّي قبلت لكم
…
عذراً ولكنَّ نفسي دأبها الشَّممُ
فادعوا بأبنائكم حتى نباهلكم
…
أو لا فإنا لها الإنصاف نحتكمُ
أرخصتم سعر شعري في مديحكم
…
فراح يهجوكم القرطاس والقلمُ
أنام ملء عيوني لا أعاتبكم
…
وتسهر السُّمر من أجلي وتختصمُ
جنايةٌ أرْشُها وصمٌ لكم أبداً
…
وشرُّ ما يكسب الإنسان ما يصمُ
من لي بأن تفقهوا أن الأنام بكم
…
نصفان مستهزئٌ والنِّصف منتقمُ
ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ
…
لو أن فعلكم من فعلنا أممُ
هجرتم وهجرنا منصفين وفي
…
فعل النُّهى دون أفعال الورى حكمُ
ضاق الكِناس عليكم يا ظباءُ بنا
…
وليس للأُسد إلا الغاب والأجمُ
ما لي وآرامكم حتى أخالطها
…
وفي التَّقرب ما تدنو به التُّهمُ
فارقتكم لا فؤادي راح مضطرماً
…
شوقاً ولا العين في أجفانها ديمُ
سلوا تنبِّيكم حالي وما صنعتْ
…
من بعد فرقتكم في صدريَ الهممُ
وكيف أصبح قلبي في تقلُّبه
…
والعين كيف كراها راح يزدَّحمُ
يدٌ علينا لواشينا فلا عثرتْ
…
ولا سعتْ لتجافينا به القدمُ
قد هان في بصري ما كنت أبصره
…
كأنَّما يقظتي في وصلكم حلمُ
وكنت أبكي على حظِّي بكم زمناً
…
فصرت أعجب من حظِّي وأبتسمُ
وصرت أندبكم لا أنَّني أسِفٌ
…
لكن لأعلم قومي أنَّكم رِممُ
طلبتُ صحبتكم حتى وجدتكم
…
إذا احتفلْت بكم سيَّان والعدمُ
ورحت والصَّبر لم تثلم جوانبه
…
وعدت والقلب مني باردٌ شَبِمُ
إني وما ضمَّ قلبي من سلوِّكمُ
…
أليةً ليس عندي غيرها قسمُ
قد اغتنمتم بعادي عن مجالسكم
…
وليس قربكم في النَّاس يغتنمُ
وكنت أزعم أن البيت بيتكم
…
وأنَّ عرضكم دون الورى حرمُ
وأنَّني عبدكم حتى رأيت لكم
…
عبداً يسيء بمولاه وينهزمُ
ما كان لي أن أُرى في الرِّق مشتركا
…
مع عبد سوءٍ به الأحرار تُهتَضَمُ
عميتم عن محبيكم فسيء بكم
…
وتلك عاقبة القوم الذي عموا
سحرت ذا الدُّرَّ حتى صغته كلماً
…
لا تحسبوا أنه ما بينكم كلِمُ
لو لم تكن رقَّة الألفاظ تخدعكم
…
لقلتم إنها المصقولة الخذِمُ
فلا رعى الله من لم يرع صحبتنا
…
ولا رعى مرتعاً سامت به النَّعمُ
وله:
ربَّ يومٍ جاء يوحي بأمرٍ
…
فيه شيطانه إلى شيطاني
من سرارٍ بين اللَّحاظ وروحي
…
أتقنت علم سحره العينانِ
وأفاضا من الهوى في حديثٍ
…
ليس من جنس ما يعي الملكانِ
ثم زنداي وشَّحاه وشاحاً
…
ما لزنَّاره بذاك يدانِ
فاغتدينا من العناق اتِّحاداً
…
مثل جسمٍ قد حلَّه روحانِ
وله:
لمَّا رأيت العيش من ثمر الصِّبا
…
وعلمت أنَّ العفو حظُّ الجاني
أدركت ما سوَّلتُهُ شبيبتي
…
وفعلتُ ما لا ظنَّه شيطاني
وله:
ولقد صحبتُ العزَّ مذ أنا يافعٌ
…
فهو الشَّباب على الشبابِ أتاني
ولو اعترى بعد الشباب لسرَّني
…
فالعزُّ مكتهلاً شبابٌ ثاني
وله:
قد أظماني الغرام مما فيَّا
…
هيَّا بفضول دمعِ كاسي هيَّا
لا تلحظنِّي عروس بختي أنَفاً
…
حتى ولو انتقشتُ كلي كيَّا
الأمير منجك بن محمد المنجكي هذا الأمير، سقى عهده مفاض الديم، وحيى الرضوان منه تلك الشيم. إن لم يكن ثاني أبي فراس في الشعر وحده، فهو مع ذلك ثاني ابن طيٍّ الذي تجاوز في الكرم حده. فهما إن ابتدآ الأمرين في الوجود، فهو الذي انتهى به الفضل والجود. وأحسن ما في الطاووس الذنب، وفي الخمر معنًى ليس في العنب.
هذا، وكل ناطقٍ بلسان، وعارفٍ بحسنٍ واستحسان. مجمعٌ على فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه، والجاهل قال بالتقليد. وهو منذ لاح هلاله في أوجه، وأبوه بين حزب الإقبال وفوجه. يفدى بالشموس والأقمار، ويمد بالأنفس والأعمار. وإن لم يكن في قبة السما، فهو في بحبوحة القُنَّة الشَّما. يباهي بسؤددٍ اتصلت أصوله اتصال الشآبيب، وتناسبت فروعه تناسب الرماح كعوباً على كعوب، وأنابيب على أنابيب. وعزٍّ له ذروةٌ تفضي إلى روضٍ بالسَّماح يجود، فكم لجباه العفاة لديه من مجال سجودٍ من مجالس جود. حتى قعد مقعد والده، واحتوى من رياشه على طريفه وتالده.
هنالك سلك من البذل ما سلك، وسخا والسخيُّ جوده بما ملك. فأعرضت عنه الأيام إعراض النسيم عن الروضة الغنَّاء، وتخلت عنه تخلي العقد عن عنق الحسناء.
وإذا الجواد يبيت من
…
جور الزمَّان على وسادِ
كالعين تفرح غيرها
…
وتظلُّ لابسة الحدادِ
وقد أدركته وسبجه بدِّل بعاجه، وسمهريُّ قدِّه رمي باعوجاجه. وكان بينه وبين أبي محبة ومودة، ومجالس اجتماعاتٍ لمذاكرة الأدب معدة. فكنت أجني من مطارحتها بدائع مائسات الأعطاف، وأقطف روائع مستعذبات الجنى والقطاف. ولقد رأيت من فضله ما لم أر قبل ولا بعد، وطالما حصلت منه على أمانيَّ في هذا الشأن من غير وعد. فمن لفظٍ إذا سمعته قلت كأنَّ العرب استخلفته على لسانها، ومعنًى إذا تخيلته قلت: هذا للبراعة إنسان عينها وعين إنسانها. إلى محاضرةٍ إذا تحرَّى في أسلوبها الرَّشيق، تهمُّ ببسط الحجر لالتقاط درها النسيق. وأما حديث لين العريكة، ودماثة السليقة، فلم ير من يشبهه في الخلق والخليقة. بأدبٍ ضافي الذليل مطرز الكم، وشعرٍ يكاد يحيي الجماد وينطق البكم.
وها أنا أورد من أشعاره ما تزهو به القراطيس على صفحات الخدود المحشاة بالسوالف، ويغني عن لذة السلاف السلسل تذهَّبت به الليالي السوالف.
فمن ذلك قوله من قصيدة، مطلعها:
يعدُّ عليَّ أنفاسي ذَنوبا
…
إذا ما قلت أفديه حبيبا
وأبعد ما يكون الودُّ منه
…
إذا ما بات من أملي قريبا
حبيبٌ كلَّما يلقاه صبٌّ
…
يصير عليه من يهوى رقيبا
سقاه الحسن ماء الدلِّ حتى
…
من الكافور أنبته قضيبا
يعاف منازل العشاق كبراً
…
ولو فرشت مسالكها قلوبا
فلو حمل النَّسيم إليه مني
…
سلاماً راح يمنعه الهبوبا
أغار على الجفا منه لغيري
…
فليت جفاه لي أضحى نصيبا
وأعشق أعين الرُّقباء فيه
…
ولو مُلئت عيونهم عيوبا
لقد أخذ الهوى بزمام قلبي
…
وصيَّر دمع أجفاني صبيبا
وما أمَّلتُ في أهلي نصيراً
…
فكيف الآن أطلبه غريبا
وأقصد أن يعيد رُوا شبابي
…
زمانٌ غادر الولدان شيبا
وما خفيت عليَّ النَّاس حتى
…
أروم اليوم من رخمٍ حليبا
إذا ظنَّ الشَّباب خشيت منه
…
لفقد مساعدي يلفى مجيبا
وهب أنِّي حكيتُ الشاة ضعفاً
…
فما لي أحسب السنَّور ذيبا
منها في المديح:
لئن سعدتْ ولو في النَّوم عيني
…
برؤياه لتلك العين طوبى
وإن ضنَّ السَّحاب فلا أبالي
…
وفيض نداه قد أضحى سكوبا
إذا تليت مآثره بأرضٍ
…
غدا الفلك المُدار بها طروبا
وقوله:
نوروز لا كنت قلبي فيك مكروبُ
…
الشَّمس طالعةٌ والبدر محجوبُ
أرى الحسان وما لي بينهم حسنٌ
…
ما كلُّ من نظرتْهُ العين محبوبُ
صفر الفؤاد من الأفراح ممتلئٌ
…
بالحزن قلبي وفيض الدَّمع مسكوبُ
أبغي القيام وسوء الحظِّ يقعدني
…
من عاند القدر المحتوم مغلوبُ
وقوله:
حبيبٌ حماه الملك تحت قبابه
…
يكاد يذيب الروح فرط احتجابه
تدير على سمعي الأماني حديثهُ
…
فتسكر أفكاري بذكر رُضابهِ
يعيد تراب الأرض مسكاً وعنبراً
…
إذا قبَّلتْ للشُّكر فضل ثيابه
يكلِّمني باللَّحظ عن أخذ مهجتي
…
فيسبق تسليمي بردِّ جوابهِ
وقوله:
ما شرَّف الروض في نزاهته
…
إلا وستر الغمام ينسحبُ
كأنَّه البدر عند رؤيته
…
لا شكَّ شمس النَّهار تحتجبُ
وقوله:
تحجَّب عني الطَّيف حتى كأنَّه
…
تخيَّل إنساني عليه رقيبا
وقد كان يغشى قبل ما احتبك الهوى
…
فظنَّ خيالي للنحول قريبا
وقوله:
عِدْ وماطل فقد رضيت به
…
منك وإن كان بالجفا آيبْ
صدق وعود الحسان أجمعها
…
فدًى للذَّات وعدك الكاذبْ
وقوله:
ألا لا تبكِ حادثة افتراقٍ
…
ولا تفرح بلذَّات الإيابِ
فما الدُّنيا وما ضمَّته إلا
…
كخطِّ منَجِّمٍ فوق التُّرابِ
وقوله:
الموت أطيب ما يجتنى
…
إن شطَّت الدارُ وطال الحجابْ
لا يدخل النَّار أسير الهوى
…
إذ لا يرى الجنَّة أهلُ العذاب
معنى هذا البيت مضطرب، وقد سئلت عنه فأجبت: بأنه معرب من بيت بالتركية لفضولي، ومعناه: أن نار العشق التي يعذَّب بها العاشق في الدنيا هي نار الآخرة عندها جنَّةٌ، فإذا دخلها العاشق، والمفروض من أهل العذاب، يعني في العشق، لا يدخل النار الأُخرويَّة؛ لأنها بالنسبة إليه جنة.
وقوله:
مهلاً فحبُّك بي أراه عابثاً
…
وأظنُّه للرُّوح منِّي وارثا
من ذا الذي ألوى بعهدك في الهوى
…
حتى انثنيت عن المودَّة ناكثا
جرَّبت فيك الحادثات فلم أجد
…
مثل الرَّقيب إذا خلونا حادثا
يا مشبِهَ الآرامِ ألا أنَّها
…
خُلقت لنا عيناه سحراً نافثا
قد راح بالقمرين طرفي هازئاً
…
لمَّا رأى في بُردتيكَ الثَّالثا
أقول: ما تصورت أن الثاء تهون هذا الهوان، ولا تذعن هذا الإذعان، ولا تنقاد للكلِم إلا أن يكون كلمة المعان. فهذا السحر البياني إن لم يكن السحر المبين، وهذا المعجز الباهر، وأنا أول المؤمنين.
وله من قصيدة، مستهلها:
كبدٌ من سنان لحظك جرحَى
…
وعيونٌ تُردِّدُ الدَّمع سَحَّا
وحنينٌ إلى الدِّيار ووجدٌ
…
يستفزُّ النُّهى وشوقٌ ألَحَّا
يا ابن وُدِّي تفديك من كلِّ سوءٍ
…
مهجٌ فيك ليس تقبل نصحا
قم بنا نشرب المدامة بكراً
…
حيث رقَّ الهوى ونسكنُ صَرْحا
في رياضٍ كأنَّما هي خَدَّا
…
كَ بهاءً وطيب صدغك نَفْحا
مطلعاً من ضياء وجهك والفر
…
ع ظلاماً يغشى العيون وصبحا
سكرَ الكأسُ إذ سكِرْتُ بعيني
…
كَ فكان المُدامُ منِّي أصْحى
هذا بيتٌ تقلقل مبناه، فلهذا لم يفهم معناه، وسكر الكأس بظهور لازم السُّكر وهو الميل عليه، وإن صح أن المدام بمعنى المديم، فهو المعنى الذي يرجع إليه.
وله:
زمن الربيع مطِيَّة الأفراح
…
ومُعدِّل الأرواح في الأشباحِ
زمنٌ به لولا اشتباك فواقعٍ
…
طارت حُمَيَّانا من الأقداحِ
أخذه من قول ابن المعتز:
كادت تطيرُ وقد طِرْنا بها فرحاً
…
لولا الشّباكُ التي صيغَت من الحَبَبِ
ولأبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي:
والماءُ يحذر منها أن تطيرَ فقد
…
صاغ الحَبابُ عليها صيغة الشَّبَكِ
وله:
حمائم الدَّوح ما هذي التَّغاريد
…
عن باعثٍ هي أم لي منكِ تقليدُ
نوْحِي ونوْحك جنْح الليل متَّفقٌ
…
والمشْغِلان لنا وردٌ وتوريدُ
إن كان يغنيك أصوات الصَّفير فلي
…
قلبٌ يعلَّلُه في الحبِّ تفنيدُ
تعجَّبت نار قلبي من تجلُّده
…
ومن جفوني شكا دمعٌ وتسهيدُ
والحزن باقٍ على ما كنت أعهده
…
وإن تكرَّر عيدٌ بعده عيدُ
جريح بيضِ الظُّبا تُرجى سلامته
…
إلا الذي جرَحتْهُ الأعينُ السودُ
لي بالظَّعائن نهَّابُ العقول رَشاً
…
قوامه بانةٌ والقلب جلمودُ
لو مرَّت الريح تَروي عن ئؤابتِه
…
لم يبق من عهد عادٍ ثَمَّ ملحودُ
لكنَّما منعتْها من مواطنه
…
مهابةٌ تتحاماها الصناديدُ
من البشانِقةِ الغُرِّ الذين لهم
…
لواءٌ حسنٌ على الأقمار معقودُ
نحن المسيئون إن جاروا وإن عدلوا
…
وما يرون حميداً فهو محمودُ
والذُّلُّ أشرف عزٍّ في محبَّتهم
…
وشَرْيُ هجرهم أرىٌ وقِنديدٌ
لا تصحبَنْ غير حرٍّ إن ظفرت به
…
وما سواه إذا جرَّبت تنكيدُ
ومن بدائعه قوله:
ومذ كشف الفَصَّاد عن زنده رأى
…
محاسن ألْهَتْهُ فضَلَّ عن الرُّشدِ
فقطَّب من أهوى وأبصر مغضَباً
…
وأوقع ظلَّ الجفن منه على الزَّندِ
وأطلعَ نور الأُرجوان وحبَّذا
…
من الياسمين الأُرجوان على الوردِ
وهذا معنى ترجمه من الفارسية، وقد ظفرتُ في العربية بما يقاربه، وقائله أبو الحسن الجرجاني:
يا ليت عيني تحمَّلت ألمَك
…
وليت نفسي تقسَّمت سَقَمكْ
وليت كفَّ الطبيب إذ فصَدتْ
…
عرقك أجرتْ من ناظريَّ دمكْ
أعَرْته صبغ وجنتيك كما
…
تُعيره إن لثمتَ من لثمك
طرفك أمضى من حدِّ مبضعه
…
فالحظْ به العِرق واربَحَنْ ألَمَكْ
وللأمير:
شمس الضُّحى وأهِلَّة الأعيادِ
…
لضياء وجهك أحسد الحسَّادِ
وإذا شدا بك مطربٌ في مجلسٍ
…
رقصتْ لك الأرواح في الأجسادِ
جرَّدت من سحر الجفون صوارماً
…
فأبت سوى الأكبادِ من أغمادِ
مسحَ المنى من زور طيفك راحةٌ
…
من بعد ما غسل البكاء رقادي
ما كنت أفتقد الشَّباب لو أنَّني
…
عُوِّضت عنك بنشأةِ الميعادِ
وله:
لا تهمل الكأس حين يملأها
…
من هو في الحسن واحدٌ فردُ
طينته عنبرٌ وخامرها ال
…
مسكُ والياسمين والوردُ
وله:
تَخِذَ الجور والجناية عادهْ
…
وانتهاب النُّفوس قبل الولادهْ
لا تضعْ سهم مقلتيه فؤادي
…
ضمن تلك السِّهام ألف شهادهْ
وله:
قد زارني وكأنَّه ريحانةٌ
…
يهتزُّ من تحت القِباءِ الأخضرِ
فظننْت منه ضمن كلِّ سلامةٍ
…
من طيبه شمَّامةٌ من عنبرِ
ولِكنْزِ مبسمه دنوْتُ فخلته
…
ياقوتةً مُلئت بأنفس جوهرِ
فهصرته هصر النَّسيم أراكةً
…
متلطِّفاً حتى كأن لم يشعرِ
متعانقين على فراش صِيانةٍ
…
مُتحذِّرين من الصَّباح المسفرِ
وله:
لم تمل بي عن العفافِ العُقارُ
…
أعشق الغِيد والوقار الوقارُ
أنظم الشعر ما حييت وإنَّي
…
لابنُ بيتٍ تُهدى له الأشعارُ
يتحلَّى بيَ الزَّمان تحلِّي ال
…
غصن لمَّا يزينه النُّوارُ
صقلتني يد التَّجارب حتى
…
صحَّ عزمي وطاب من الغِرارُ
ومكاني من الفخارِ مكانٌ
…
حَسَدتْه الشُّموس والأقمارُ
وقوله:
إن للَّيل بقايا عنبرٍ
…
في قميص الصُّبح منها أثرُ
بادرت أيدي الصَّبا تلبسُه
…
فبدا عند الرِّياض الخبرُ
انظره مع قول البهاء زهير:
رعى الله ليلة وصلٍ مضتْ
…
وما خالط الصَّفو فيها الكدرْ
خلوْنا وما بيننا ثالثٌ
…
فأصبح عند النَّسيم الخبرْ
وله:
ألا هاتِ اسقني كاساً فكاسَا
…
وحيِّ بها ثلاثاً بل سداسا
فإني في احْتساها لا أعاصي
…
رشاً تَخِذَ الحشا منَّي كناسا
حبيبٌ كلما ألقاه يُغضي
…
فلو أهديته آساً لآسى
يريك إذا بدا قمراً منيراً
…
وعطفاً إن ثنى عِطفاً وماسا
ويبسم ثغره عن أُقحوانٍ
…
ويجلو خدُّه ورداً وآسا
خلعت عذار نُسكي في هواه
…
وما راقبت في حبَّيه ناسا
فأحلى الحبِّ ما كان افتضاحاً
…
وأشهى الوصل ما كان اختلاسا
وله:
يا بني العشق ليس نُحسب أحيا
…
أو بموتى نعدُّ تحت الأراضي
تارةً نألف الحياة وطوراً
…
نتغنَّى بذكر طيب الرِّياضِ
نحن ما بين صحَّةٍ وسقامٍ
…
كجفون الدُّمى الصِّحاح المراضِ
وله:
ومهفهفٍ لولا عقارب صدغه
…
لتناهبت وجناته الألحاظُ
طارحته ذكر الهوى وعواذلي
…
لا راقدون ولا هم أيقاظُ
نبدي الحديث ولا حديث كأنما
…
عبراتنا ما بيننا ألفاظُ
وله:
وزارني طيفه وهناً فأرقَّني
…
كبارقٍ بخلال الوَدقِ قد لمعا
فما وحقِّك عن ودٍّ زيارته
…
لكن ليزجرَ طرفي والرُّقاد معا
وله:
رَيحانتي روض المحاسن ما الذي
…
بلِّغتماه من العذول اللاغي
حتى توارت وردتا خدَّيكما
…
عن ناظري ببنفسج الأصداغِ
وله، وهو معنًى أبدع فيه كل الإبداع، وأتى به كالبدر خرج من تحت الشعاع:
نبَّهته ودواعي الأنس داعيةٌ
…
إلى الطِّلا وبشير الصُّبح قد هتفا
فقام من نومه وسْنان تحسبه
…
بدراً تقطَّع عنه الغيم فانكشفا
وقال هات وخذها وانتهز فُرصاً
…
فما ترى لزمانٍ ينقضي خلفا
وله:
يا غزالاً يُقلُّ مسكاً فتيقا
…
في فمٍ يُخجل المدام الرَّحيقا
قد سقاك الجمال ماء نعيمٍ
…
مُنبت منك في الخدود شقيقا
لا تذرني تفديك روحي وحيداً
…
أشتكي غربةً تسيء الصَّديقا
أنا أسعى وفي سلاسل صدغي
…
ك فؤادي فارحم أسيراً طليقا
جرحتْ مقلتاك قلبي لهذا
…
درُّ دمعي قد استحال عقيقا
لو ذكرْنا لماك عند حضور الرَّا
…
حِ باتت فلم تجد مستفيقا
بك أرواحنا تسرُّ وترتا
…
حْ فتختارك الرَّفيق الرَّفيقا
الصَّبوحَ الصًّبوحَ قبل مشيبِ ال
…
حظِّ منَّا أو الغبوق الغبوقا
نجتني زهرة الشَّباب ونلهوا
…
حيث نلقى الأشواق روضاً أنيقا
بين وعد آمالنا ووعيدٍ
…
منك نستنظر الكذوب الصَّدوقا
وله:
أفديه من قمرٍ أطواره شغلت
…
قلبي وعقلي بتغريبٍ وتشريقِ
من السَّليم وقد أحنى حواجبه
…
وطرفه بين تسديدٍ وتفويقِ
وله:
تلوح لنا بالرُّوم من كلِّ جانبٍ
…
وجوهٌ تُعيد الصُّبح والليلُ حالكُ
أنظمأ في دارٍ تفيض بحورها
…
وتَشْرَقُ فيها بالجمال المسالكُ
وله:
لا تغتَرِر بشبابك الغضِّ الذي
…
أيَّامه قمرٌ يلوح ويأفلُ
ودع اتِّباع النَّفس عنك فإنما
…
حُبُّ الجمالِ الصَّبرُ عنه أجملُ
نَعَم العيون الفاتكاتُ قواتلٌ
…
لكنَّ سهام الله منها أقتلُ
وله:
مولَّهٌ بك لا تجدي وسائله
…
ولا من الدَّمع جاريه وسائلهُ
عزيز صبرٍ أذلَّ الحبُّ مهجته
…
وعنَّفته على الشكوى قبائلهُ
عامٌ نأى عنك فيه مكرهاً فعلى
…
أسحاره أبداً تبكي أصائلهُ
والكاس مذ بنتَ عنها تشتكي ظمأً
…
والرَّوض من حزنٍ جفَّت خمائلهُ
كلَّفت حملَ نواك اليوم قلب فتًى
…
أرقُّ من نسمة الوادي أصائلهُ
وله:
قد زار من كنت قبل زورته
…
أراه لكن بمقلة الأملِ
بتنا ضجيعين والعناق له
…
ثوبٌ علينا قد زرَّ بالقبلِ
ومن رباعياته قوله:
ما مرَّ تذكُّر الكرى في بالي
…
إلا دفعته راحة البلبالِ
أشفقت من الجفون لمساً يؤذي
…
أقدام خيالك العزيز الغالي
مثله للبابي وفيه زيادة:
أردُّ الكرى إذ زار خفيةَ نظرةٍ
…
إليه فتدمي رقةً خدَّه القاني
وأسهر خوفاً أن يمرَّ خياله
…
بعيني فتؤذى أخمصاه بأجفاني
وأصله قول الوقشي:
إذا ظنَّ وكراً مقلتي طائر الكرى
…
رأى هدبها فارتاع خوف الحبائلِ
ويقاربه قول الصلاح الصفدي:
أيا وحشتا في ليلِ شوقي لنوركم
…
ويا فرحتا لو كان في النَّوم يطرقُ
وهيهات لو زار الخيال منعته
…
مخافة أن تجري دموعي فيغرقُ
وللأمير منجك:
انظر إلى فحمٍ كأنَّ لهيبه
…
لمعُ الأسنَّة في مثار القسطلِ
وكأنَّه والنَّار في أحشائهِ
…
صدر الحسود ونعمة المتفضِّلِ
هذا التشبيه تناوله من قول عبد الجليل المرسي في وصف فرنٍ:
ربَّ فرنٍ رأيته يتلظَّى
…
وربيعٌ مخالطي وعقيدي
قال صفهُ فقلت صدر حسودٍ
…
خالطته مكارم المحسودِ
ولابن مجير الأندلسي، وقد حضر مع عدوٍّ له، جاحد لما فعله معه من الخير، وأمامهما زجاجةٌ سوداء فيها خمر، فقال له الحسود المذكور: إن كنت شاعراً فقل في هذه. فقال ارتجالاً:
سأشكو إلى النُّدمان أمر زجاجةٍ
…
تردَّت بثوبٍ حالك اللون أسحمِ
تصبُّ بها شمس المدامة بيننا
…
فتغرب في جنحٍ من اللَّيل مظلمِ
وتجحد أنوار الحميَّا بلونها
…
كقلب حسودٍ جاحدٍ يدَ منعمِ
وقد أحسن القاضي التنوخي، في تشبيه النار، حيث قال:
فاهتف بنارٍ إلى فحمٍ كأنَّهما
…
في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتَّفقا
وللأمير، وهو من بدائعه:
لو لم يكن راعها فكرٌ تصوَّرها
…
من والهٍ وثنتها مقلة الأملِ
ما قابلت نصف بدرٍ بابن ليلته
…
وألقت الزُّهرَ فوق الشَّمس من خجلِ
قلت: هذان البيتان درَّان أو وردتان.
ومن خمرياته التي تصير الزاهد ضجيع دسكرةٍ وحان، وتنوب عن لذَّة السَّماع ومطربات الألحان:
أدر المدامة يا نديمي
…
حمراء كالخدِّ اللَّطيمِ
تسري بأرواح النَّهى
…
كالبرءِ في الجسم السَّقيمِ
وأقم إذا جنَّ الدُّجى
…
متردياً ظلَّ الكرومِ
فالجوُّ راق كأنَّما
…
صقلته أنفاس النسيمِ
وتبدَّدت زهر النجو
…
مِ تبدُّدَ العقد النَّظيمِ
قم هاتها واستجلِها
…
من كفِّ ذي شجوٍ رخيمِ
بدرٍ يريك محاسناً
…
يسبي بها عقل الحليمِ
إن ماسَ يزري بالقنا
…
وإذا رنا فبكلِّ ريمِ
في روضةٍ نسجت بها
…
أيدي الصَّبا حبر الجميمِ
الجميم: مجتمع من البهمى، أي النبت.
ضحكت بها الأزهار لم
…
اأن بكى جفنُ الغيومِ
كم ليلةٍ قضَّيتها
…
في ظلِّها الصَّافي الأديمِ
متذكِّراً عهد الدُّمى
…
متناسياً ذكر الرسومِ
نشوان من خمر الصِّبا
…
جذلان بالأنس المقيمِ
حيث الشَّبيبة غضَّةٌ
…
والوقت مقتبل النَّعيمِ
قلت: وقد اشتهر له في المدامة والنديم، وما يسلي عن لطف الحديث وصفو القديم. مع أنه ما عاقر عقاراً، ولا وهب لمجلس راعٍ وقاراً.
هذا ما سمعته من فيه، ولم ينقل عنه، فيما أعلم، شيءٌ ينافيه.
ومما يستجاد له قوله:
منعتْك رؤية كاشحٍ
…
من أن تَمُرَّ مسلِّما
إن تخشَ من نظرٍ إليَّ
…
شِمِ الهلال تكرُّما
فلعلَّ لحظي يلتقي
…
وهناً ولحظك في السَّما
أصله قول بعضهم:
إلى الطَّائر النَّسر انظري كلَّ ليلةٍ
…
فإنِّي إليه بالعشيَّة ناظرُ
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده
…
فنشكو جميعاً ما تجنُّ الضَّمائرُ
ولابن المعتز منه:
ألست أرى النَّجم الذي هو طالعٌ
…
عليكِ فهذا للمحبِّين نافعُ
عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها
…
فيجتمعا إذ ليس في الأرضِ جامعُ
ولبعض شعراء الخريدة:
وأنظر البدر مرتاحاً لرؤيتهِ
…
لعلَّ طرف الذي أهواه ينظرهُ
ومن صنائعه قوله:
عدَّتُ المجد يراعٌ وحسام
…
وثمار الشُّكر تجنيها الكرامُ
أعذب الأشياء في ممنوعها
…
وبإعراض الدُّمى يحلو الغرامٌ
من يبت سهران في كسب العلا
…
حرِّم الغمض عليه والمنامُ
قلت: هذه النبذة لم أر لها مثالاً، كلما قيد كلمتها الخطُّ سيَّرها اللفظ أمثالا: وله:
أغار إذا وصفْتُك من لساني
…
ومن قلمي عليكَ ومن بناني
لئن منعتْك قومي عن حديثي
…
فكم باتت تساجلك الأماني
وإن حجبوك عن نظري فإنِّي
…
أراك بعين فكري من مكاني
وإن تكُ نارُ صدِّك لي تلظَّى
…
فمنك أشمُّ رائحة الجنانِ
وإن شَرَّقْت أو غرَّبْت عنِّي
…
فما لك منزلٌ إلا جناني
سقَى الأثلاثِ من يَبرينَ دمعي
…
وحيَّا العهد هاتيك المغاني
معاهد كم جنيتُ العيش غضًّا
…
بها زمناً ولم أعهد بِجاني
أروح بها أجرُّ الذَّيل تيهاً
…
وأُسقى الرَّاح من راح التَّهاني
ليالٍ كلُّها سَحَرٌ ودهرٌ
…
فؤادي منه يرتع في أمانِ
فغالطني الزَّمان وقال كهلٌ
…
وأيَّام الصِّبا في العنفوانِ
أقَبل الأربعين أُصيب شيباً
…
فما عذر المشيب وقد دهاني
طوت أيدي الحوادث بسط لَهوي
…
وألوت من مواطنه عِناني
وله:
نفسٌ تعلَّلُ بالأماني
…
لا بالقِيان ولا بالقَناني
ومدامعٌ مسفوحةٌ
…
بين المعاهد والمغاني
وأبيت مضموم اليدي
…
نِ على التَّرائب والجَنَانِ
أشكو الصَّبابةَ للصَّبا
…
بةِ بالمدامع لا اللِّسانِ
وأقول إذ هتفت بنا
…
وَرقاً شجاها ما شجاني
يا وُرْقُ ما هذا النُّوا
…
ح فبعض ما عندي كفاني
غادرْتُ بين الغوطتي
…
نِ بمنزلي السَّامي المكانِ
أُمًّا لها كبدٌ عليَّ
…
مذابةٌ مما دهاني
تستخبرُ الرُّكبان عن
…
حالي وتندبُ كلَّ آنِ
فعسى الذي أبلى يُعي
…
نُ ويلتقي ناءٍ بدانِ
وله:
قم هاتها فانتهابُ العيش مُغتنمٌ
…
من كفِّ مُعتدلٍ في خير إبَّانِ
حيث الرياضُ اكتستْ من سندسٍ حُللاً
…
وتوِّجتْ بيواقيتٍ وعِقيانِ
والمسك في الفلك العُلويِّ إذ رَتَعتْ
…
غزالةُ الأفقِ والكافور سيَّانِ
وله:
وحبيبٍ مكلَّلٍ بعيونِ
…
جعلتْ طوقة اللَّيالي يميني
يتشكَّى من البضاضةِ حتَّى
…
لو جعلنا الفراشَ من ياسمينِ
قوله: مكلل بعيون: استعمال لطيف، أول من استعمله بشَّار بن برد، في قوله:
ومُكلَّلاتٍ بالعيونِ
…
طَرقْننا ورجَعْنَ مُلسا
وقيل في معناه: إنَّهن لحسنهن تعلو الأبصار إلى وجوههن ورؤوسهن، كأن لهنَّ إكليلاً من العيون.
ومن أبياته الفذَّة قوله:
صادفْتُه فتناولتْ لَحَظاتهُ
…
عقلي وأعرض نافراً متجنِّبا
وقوله:
وابتسَمَ الورد فكادت له
…
تُمزِّق الرَّاحُ قميص الزُّجاجِ
وقوله:
بعض الذَّوات هي النَّعيم لمبصرٍ
…
والبعض منها في الجفون قُروحُ
وقوله:
إن كتبي إليه صحف الأماني
…
وبها الرُّسْلُ بيننا الأرواحُ
وقوله:
متوَّجُ الرَّاح بالإبريقِ ذو قُرطٍ
…
مثل الهلال له الجوزاءُ زنَّارُ
وقوله:
طيرٌ أعار الغصن جُنكاً رُكِّبتْ
…
أوتاره من فِضَّةِ الأمطارِ
وقوله:
إذا أمسك المرآةَ ينظرُ وجهه
…
فظاهرها بدرٌ وباطنها شمسُ
وقوله:
ومُدامي ذكر الحبيبِ ونقْلي
…
قُبَلُ الظَّنِّ من شفاه المحالِ
وقوله:
ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ
…
لو زار فيه الحبيبُ ما قُبلا
وقوله:
الجسم يبرأ بالعلاجِ سَقامُه
…
وشِفا النُّفوس صداقةُ الخِلَاّنِ
وقوله:
بعض الحسانِ تراه عند مالكه
…
كأنَّه العيد في أيَّامِ كانونِ
وقوله:
أحببتُ من أجله من كان يشبهُه
…
حتى حكيت بجسمي سُقْمَ جَفنيهِ
عبد اللطيف المنقاري ماجدٌ استوفى شرف الأرومة، واستعلق مزيَّة النسبة المرومة. فما بات إلا بتكميل النفس وجده وكلفه؛ لأنه أتى الفضل وهو لعمري لا يتكلفه.
فهو معروفٌ بأصله وفصله، ومشهورٌ له بنبله وفضله. له المقام الأحظى، والمعارف التي ملأت سمعاً ولحظا. وهو من منذ حلت عنه تمائمه، ونيطت عليه عمائمه. مخطوب الحظوة عند الأنام، حالٌّ من الالتفات في الذروة والسَّنام. تارةً يفيد منًى وتارةً يستفيد ثناً:
تُروى محاسنُ لفظه وكأنَّها
…
دُرَرٌ وآراءٌ كمثلِ دَراري
ومآثرٌ قد خلِّدت فكأنَّها
…
غُررٌ وعزمٌ مثل حدِّ غَرارِ
إلى أن فجع به المجد الأثيل، وفقد من الدنيا فقيد المثيل. وله أدبٌ نقده نضّ، ومقطعه غضّ. أخذت كلمه بمجامع القلوب، وملك قلمه الغاية من حسن الأسلوب. وقد أثبت له ما تستهديه بُرداً مُوشَّى، وتستجليه خداً بالقلم الرِّيحانيِّ محشَّى.
فمنه قوله، من قصيدةٍ، أولها:
بين حَنايا ضلوعي اللَّهبُ
…
ومن جفوني اسْتهلَّتِ السُّحُبُ
وفي فؤادي غليلُ منتزِحٍ
…
يعاف إلا الدِّيار تقْتربُ
يا بأبي اليوم شادنٌ غَنِجٌ
…
يعبث بالقلب وهو ملتهبُ
يسنَحُ لكن بصفحتي رشأٍ
…
والقدُّ إن ماد دونه القُضُبُ
صُفر وشاحٍ يزينه هيفٌ
…
ليس كخودٍ يزينها القلب
إن لاح في الحيِّ بدر طلْعته
…
فالشمس في الأُفق منه تحتجبُ
أشْنبُ لم تحكِ برق مبسمهِ
…
يا برق إلا وفاتَكَ الشَّنَبُ
يطفو على الثَّغر مي مُقبَّله
…
حبابُ ظلْمٍ وحبَّذا الحبَبُ
كأنَّه لؤلؤٌ تُبدِّده
…
أيدي عذارى أفضى بها اللَّعبُ
ما مرَّ في الحلى وهو مُؤتلِقٌ
…
إلا ازدهى الحلى ثغره الشَّنبُ
يعطو بجيدٍ كقرطه قلقٍ
…
والقلب ما جال منه مضطربُ
وسانحاتٍ نفثن في عقد ال
…
ألبابِ سحراً ودونه العطبُ
به اختلسْنَ الفؤاد من كثبٍ
…
واقتاد جسمي السًّقامُ والوصبُ
تجرح منهنَّ مهجتي مقلٌ
…
يفعلن ما ليس تفعل القُضُبُ
ظعنَّ والقلب في ركائبهم
…
يخفق والجسم للضَّنَى نهبُ
من فوق خِلبي وضعتُ صاحَ يدي
…
فلم أجده وصدَّه لهبُ
لمَّا تيقَّنتُ أن دوحتهم
…
ليس لها ما حَييت منقلَبُ
أبليتُ صبراً لم يبلِه أحدٌ
…
واقتسمتني مآربُ شعبُ
منهن لي ذات دُملَجٍ سلبت
…
عقلي وعادت تقول ما السَّببُ
هذا على أسلوب قول مهيار:
قتلتني وانثنت تسأل بي
…
أيُّها الناس لمن هذا القتيلُ
يصبو جنوناً ويدَّعي سفهاً
…
أنِّي له دون ذا الورى طلبُ
وليس عندي علمٌ بصبوته
…
ولا تعهدتُ أنَّه وصِبُ
لو كان فيما يقوله شغفاً
…
صدقٌ عراه لعشقِنا النَّصبُ
فقلت لو شئت يا منايا لما
…
سألت عني وأنت لي أربُ
إنَّ نحولِي وعبرتي معاً
…
بعد أنيني لشاهدٌ عجبُ
أشكوك لو كان منصفٌ حكمٌ
…
يقضي غراماً وليس يحتسب
لكنني الآن قد رجعت ولا
…
يرجع مثلي متيَّمٌ سلبُ
يا قلب عجْ من حِمى مكائدِهم
…
واترك مقاماً به لك التَّعبُ
كم ذا تقاسي مصاب جفوتهم
…
وأنت والدَّهر كله حرِبُ
وكم تعاني بحبِّها ولهاً
…
عهدكم لن تقلَّه كتبُ
فخلِّ دعداً وذِكر معهدِها
…
وعد عنها وأنت مجتنِبُ
وغضَّ طرفاً عن كلِّ غانيةٍ
…
واترك غزال الصَّريمِ ينتحبُ
إن عنده جاز أن يصارِمني
…
فالعيد عندِي بمذهبي يجِبُ
ولا تسمَّع للحنِ شاديةٍ
…
ولو إلى اللَّحنِ هزَّك الطَّربُ
وجِدَّ واترك منًى خدِعت بها
…
فالهزل داءٌ دواؤه الهربُ
وله من قصيدة أرسلها إلى ديار بكرٍ، يتشوق بها إلى دمشق، ويذكر منتزهاتها. ومطلعها:
سقى دار سعدى من دمشق غمامُ
…
وحيَّى بقاعَ الغوطتين سلامُ
وجاد هضاب الصَّالحيَّةِ صيِبُ
…
له في رياض النَّيربين ركامُ
منها:
ذكرت الحمى والدَّار ذكرى طريدةٍ
…
تذاد كظمآنٍ سلاه أوامُ
فنحتُ على تلك الرُّبوعِ تشوقاً
…
كما ناح من فقدِ الحميمِ حمامُ
أيا صاحبي نجواي يوم ترحَّلوا
…
وحزن الفلا ما بيننا وأكامُ
نشدْتكما بالودِّ هل جاد بعدنا
…
دِمشق بأجفاني القِراح غمامُ
وهل عذبات البانِ فيها موائسٌ
…
وزهر الرُّبى هل أبرزته كِمامُ
وهل أعشب الرَّوض الدِّمشقيُّ غِبَّنا
…
وهل هبَّ في الوادي السعيدِ بشامُ
وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها
…
تجول بها الأنهارُ وهي جِمامُ
وهل شرف الأعلى مطلٌّ وقعره
…
على المرجةِ الخضراءِ فيه كرامُ
وهل ظلُّ ذاك الدَّوحِ ضافٍ وغصنه
…
وريقٌ وبدر الحيِّ فيه يقامُ
وهل ظبياتٌ في ضميرٍ سوانِحٌ
…
وعين المها هل قادهنَّ زمامُ
ضمير: مصغر: قرية دمشق.
وهل أمويُّ العلمِ والدين جامعٌ
…
شعائِره والذِّكر فيه يقامُ
وهل قاسيونٌ قلبه متفطِّرٌ
…
وفيه الرجال الأربعون صِيامُ
ألا ليت شعري هل أعود لِجلِّقٍ
…
وهل لي بوادي النيربين مقامُ
وهل أرِدنْ ماء الجزيرة راتِعاً
…
بمقصفها والحظُّ فيهِ مرامُ
سلامٌ على تلك المغانِي وأهلِها
…
وإن ريش لي من نأيهنَّ سِهامُ
لقد جمعت فيها محاسِن أصبحت
…
لدرجي فخارِ الشامِ وهي خِتامُ
بلادٌ بها الحصباء درٌّ وتربها
…
عبيرٌ وأنفاس الشَّمال مدامُ
وغرَّتِها أضحت بجبهة روضِها
…
تضيء فخلخال الغدير لِزامُ
تنائيت عنها فالفؤاد مشتَّتٌ
…
ووعر الفيافي بيننا ورَغامُ
لقد كدت أقضي من بعادي تشوُّقاً
…
أليها وجسمي قد عراه سَقامُ
وله:
لهفي على زمنٍ قضَّيته جذِلاً
…
مسربلاً ببرودِ العزِّ والنِعمِ
مضى كأن لم يكن ذاك الزَّمان أتى
…
حتى كأني به في غفلةِ الحلمِ
ما أسأرتْ لي لياليه التي سلفت
…
بلذَّةِ العيشِ إلا زفرة النَّدمِ
محمد بن يوسف الكريمي أقول فيه لا متأثِّماً، ولست من خجلٍ متلثِّماً: إنه أبرع من سبك لفظاً مع معنى، وأرقُّ من أراد أن يشعر فغنى. وهو من رقة العشرة، يكاد يدخل في القشرة. ومن خفة الروح، مع الذرِّ في الهواء يروح. ومضى عليه زمنٌ لا يعرف الصحو، ولا يفرق بين الإثبات والمحو.
وهو في قيد الرق، يجمع بين العود والزِق. هذا، وعهده يرف ماءه، ويشفُّ عن النضرة ماؤه. وتتألق غرَّته، وتشرق أسرَّته. والعيش كما يدريه، على ما يطيب يجريه. حتى فلَّ الدهر شبا شبيبته، ومحا من لوح الوجود محاسن جبهته. هناك ألجمه الشَّيب بلجامه، فنكَّب لا يلوي على كاسه وِجامِه. وقد وقفت بخطه على أشعارٍ له ألذَّ من ماء القراح، وأطيب من النسيم حفَّت به لذَّات الروح والراح.
فذكرت منها ما ينوب عن الريقين: الروض، والصَّبا، ويغني عن الرائقين: الرِّيق، والصَّهبا. فمن ذلك قوله من قصيدة، مستهلها:
في فؤادي من الخدودِ لهيبُ
…
جنَّةٌ طاب لي بها التَّعذيبُ
صحوتي من هوى الحِسانِ خمارٌ
…
وشبابٌ بلا تصابٍ مشيبُ
داوني باللِّحاظِ فالحبُّ فينا
…
دار بلوى بها السَّقام طبيبُ
لفؤادي من لحظةِ السُّخطِ سهمٌ
…
هي من قسمةِ الهوى لي نصيبُ
كلُّ قلبٍ له الصَّبابة داءٌ
…
ألف الدَّاء فالحكيم رقيبُ
مِحنة الحبِّ عندنا دار بلوى
…
فلها من قلوبِنا أيُّوبُ
هكذا حاكم الهوى فلديهِ
…
من ذنوبٍ لنا تعدُّ القلوبُ
لو بدا للوجودِ يوسفُ حسنٍ
…
ضمَّه من قلوبنا يعقوبُ
لا تلمني سداً فمدمن خمرِ ال
…
حبِّ في ملَّةِ الهوى لا يتوبُ
في لِحاظِ الظباءِ آية سحرٍ
…
قد تلاها على العقول الحبيبُ
رشأٌ أخجل البدور إذا ما
…
شوَّشت خاطر الفؤادِ الجنوبُ
ما رأينا من قبلِ وجهك أن قد
…
حمل البدر في الزَّمانِ قضيبُ
قاتلي في الهوى اللِّحاظُ وهذا
…
شاهد الخدِّ من دمي مخضوبُ
قد رماني بأسهمِ الجورِ عمداً
…
وسوى القلبِ سهمه لا يصيبُ
ليت أنَّا لم يخلق الحبُّ فينا
…
ليت أو لم يكن فؤادٌ طروبُ
يا أخا الوجدِ هل رأيت قتيلاً
…
وهو ظلماً بنفسهِ مطلوبُ
هذا من قول المتنبي:
وأنا الذي اجتلبَ المنيَّةَ طرفهُ
…
فمن المطالبُ والقتيل القاتلُ
وهو أخذه من قول دعبل:
يا ليت شعري كيف يومكما
…
يا صاحبيَّ إذا دمِي سفكا
لا تأخذا بظلامتي أحداً
…
قلبي وطرفي في دمي اشتركا
وقد أخذه أبو الحسن الكسروي فحسَّنه، حيث قال من أبيات:
أنا القتيلُ وطرفي قاتلي ودمي
…
ما بين قلبي ومن علِّقته هدرُ
يا لقلبٍ أطعته وعصاني
…
فهو إلا إلى الهوى لا يجيبُ
خبِّري يا صبا رياض التَّصابي
…
فبذِكرِ الهوى فؤادي يطيبُ
عرف القلب فيك رائحة الحبِّ
…
ويدري بسمِّهِ المسلوبُ
ساعدتني على النَّحيبِ حمامٌ
…
حيث ما لي سوى صداها مجيبُ
أنا والوِرقُ في الطلولِ غريبا
…
نِ ويستصحِبُ الغريبَ الغريبُ
غير أنِّي بِها رهين فؤادي
…
وهي تأتي وحيث شاءت تؤوبُ
علِّم القلب منطِقَ الطَّير شجواً
…
فله في فنونِهِ تهذيبُ
وله من أخرى، مطلعها:
فيك أمسَى وفيك بالوجدِ أضحى
…
مستهامٌ لا يعرف الدَّهر نُصحا
يا غزالاً بوجدِهِ سِقم الصَّب
…
رِ من القلب والهوى فيهِ صحَّا
أنت بالهجرِ قد أطلت الليالي
…
ومنعت الخيال عنِّي شحَّا
وإذا زرتَ والزَّمان بخيلٌ
…
لم أجِد للدُّجى وحقِّك جنحا
أرتجي بالعذارِ ليل وصالٍ
…
فأرى تحته لوجهِك صبحا
يا قتيلاً بمذهبِ الحبِّ ظلماً
…
دمه طلَّ وهو يطلب صلحا
شاهِدا قِتلتي فؤادي وطرفي
…
وترى في كِلا الشهيدينِ جرحا
قاتلي شادِنٌ أعدَّ لقتلي
…
بلحاظٍ عضباً بالقدِّ رمحا
يا لقلبٍ ما فيه يبرأ جرحٌ
…
للتَّصابي إلا أرى فيهِ جرحا
ومريضِ اللِّحاظِ ساهمَ قلبي
…
سقم طرفيهِ واستزدْت فشحَّا
علَّمتني جفونُه الوجدَ لما
…
أن تلت للحَشا من السِّحرِ شرحا
عارضتني والوجدَ منها عيونٌ
…
ما نبا العضبُ لو أعارته صفحا
وله يصف يوماً أطربه فيه الفرح، ونال فيه من اللذة ما اقترح. مع فتية مسامرتهم ألذ من الكأس إذا احتبك المجلس، وأوقعوا من المبلغ النقدِ إذا تملكه المفلس:
يا ربَّ يومٍ قطعته فرحَا
…
في روضِ أنسٍ هزاره صدحَا
صفا بهِ العيش لي وجادَ بهِ
…
دهرٌ وآمالُ مهجتي منَحا
مع فتيةٍ دام لي الفخارُ بهم
…
ومعشرٍ صبحُ فضلهم وضحَا
من كلِّ ندبٍ شهاب فِكرتِه
…
لو قابل البدرَ نوره افتضحَا
يومٌ كعهدِ الصِّبا لرقتِهِ
…
نالَ بهِ القلب وفقَ ما اقترحَا
طالبت دهري بيومنا زمناً
…
فالآن دهري بهِ لقد سمحَا
أذكرني طيبُ يومِنا زمناً
…
كنت بريمِ الصريمِ مفتضحَا
أيَّام لا أسمع الملامَ ولا
…
أصغي للاحٍ إذا صبوت لحَى
رشأٌ غدا يفضح الظِّباء بَهَاً
…
بدرُ سناً طلعت الشُّموسِ محَا
عجِبت من فعلِ سهمِ مقلته
…
أردَى عميدَ الهوى وما جرحَا
محجَّب الحسنِ شمسُ وجنتِهِ
…
زان بَهَاها الحَيَا لمن لمحَا
حديثُ وجدي هو القديم بهِ
…
والحالُ حالي بهِ ومَا برِحَا
يا قلب للغيرِ لا تمل أبداً
…
فما يداويكَ غير من جرحَا
وله من قصيدة، أولها:
من لقلبٍ ما بينَ سمرٍ وبيضِ
…
من قوامٍ لدنٍ وطرفٍ مريضِ
ما لمن صادمَ الهوى من نصيرٍ
…
فإليه إذا سطَا تفويضي
زارني في الدُّجى فكان كبدرِ التِّ
…
مِّ قد لاحَ في الليالي البيضِ
شادنٌ لو يقابل الشَّمسَ والبد
…
رَ لكانا في رتبةِ المستفيضِ
سلبَ العقلَ والفؤادَ وخلَاّ
…
ني لهجرانهِ الطويلِ العريضِ
فنهاري نهارُ منتظرٍ في
…
هِ وليلي لا ذقتَ ليل المريضِ
ومن أخرى، أولها:
جادَ من بعدِ بعدهِ بالتَّلاقي
…
ودنا شائقٌ إلى مشتاقِ
رشأٌ طالَ ما أذابَ فؤادي
…
بسعيرِ النَّوى وحرِّ الفراقِ
لم نزل نحسب الغرامَ مِزاحاً
…
فرأينا مصارِعَ العشَّاقِ
كنت أشكو الجفا وأخشى صدوداً
…
فرأيت البِعادَ مرَّ المذاقِ
كلُّ مرٍّ لدى المذاقِ مطاقٌ
…
وأرى الصَّبرَ عنك غير مطاقِ
من لقلبٍ لم يُلفَى إلا جريحاً
…
بسهامِ الجفونِ والأحداقِ
يا لهذا الفؤادِ لم ينجُ يوماً
…
من وثاقٍ إلا غدا في وثاقِ
هكذا من له الصَّبابةُ داءٌ
…
ليس يرجو النجاةَ مما يلاقي
وله:
على مَ تفتِكُ في العشَّاقِ بالمقلِ
…
أما تخاف على الهنديِّ من فللِ
لقد أبحتَ دمي يا من كلِفتُ بهِ
…
فأصبَحتْ كلماتي فيه كالمثلِ
يا من إذا ما لسهمِ اللَّحظِ أغرَضَ
…
أيقنتُ وِجدانَ قومٍ من بني ثُعَلِ
بنو ثعل: قبيلة فيهم رماة، يضرب المثل بجودة رميهم.
قال امرؤُ القيس:
ربَّ رامٍ من بني ثعَلٍ
…
مخرجٍ كفَّيهِ من سترِهْ
فهو لا يخطي رميَّته
…
ما لم لا عدَّ من نفرِهْ
يقال في الدعاء على الإنسان: لا عدَّ من نفره، ويراد به التعجب.
شمائلٌ لكَ عاطتني الشَّمولَ فمَا
…
برِحت بين سكرانٍ إلى ثملِ
آهاً على زمنٍ كان الرَّقيبُ بهِ
…
صِفرَ الأكفِّ من التَّعنيفِ والعذَلِ
هلَاّ تُعيدُ زماناً كنت طَوعَ يدي
…
فيه وصدريَ ملآنٌ من الأملِ
وله:
لحَى الله فِعلَ الغانياتِ إذا دهتْ
…
فؤاداً لأبناء الصَّبابةِ أو عقْلا
ولا سلِّطتْ يوماً على قلبِ عاشقٍ
…
عيونٌ ترى في ظلم عاشِقها عدلا
يُرينك عينَ الودِّ والوجدِ نظرةً
…
ويُخرجنَ جِدَّ الوجدِ للقلبِ والهزَلا
فحتى إذا شبهت بنارِ جوانحٍ
…
وأيقن بالمطروحِ من أرسلَ النَّبْلا
غدرنَ فلا يرعين للصَّبِّ ذمَّةً
…
وأغضينَ عنه في الهوى الأعينَ النُّجْلا
نوافر منها لم تفزْ شِقوةً سوى
…
بوعدٍ رأينا في جوانبه المَطْلا
وله من قصيدة، مستهلها:
تُرجَّى الأماني ل أماني المتيَّمِ
…
وترقا دموعٌ غيرُ أدمعِ مغرمِ
بذا بيننا يقضي الغرامُ كما بنا
…
لحكمِ الهوى في الحبِّ من متظلِّمِ
متى لم يصبْ لذَّاتِها طالبٌ أتى
…
بقلبٍ سليمٍ أم بطرفٍ مُهوِّمِ
بحيثُ أبثُّ الوجدَ ليلةَ لم يكنْ
…
لديَّ سوى زهر النُّجوم بمحرَمِ
أُعدَّد فيها كوكباً بعد كوكبٍ
…
وأرقبُ فيها أنجماً إثر أنجمِ
فلم يك غير الطَّرفِ لي من مسامرٍ
…
ولم أرَ غير الدَّمعِ لي من مترجِمِ
عدِمنا الهوى يُردي العميدَ ولم يصلْ
…
بعضبٍ سوى لحظِ الحسانِ وأسهمِ
حَوينا قلوباً من دعاها لراحةٍ
…
عصَته ولبَّت من دعاها لمؤلمِ
أضلَّت فلم تسكن بصدر مُتيَّمٍ
…
إذا لم يلوَّع من وُشاةٍ ولُوَّمِ
وريمٍ أبى إلا نِفاراً فمذ رأى
…
على الصَّيْدِ صيَّاداً غدا غير مقدِمِ
يلاحظني والسِّحر ملءُ جفونِه
…
يقود إليه القلبَ قودَ مسلِّمِ
يرنِّحهُ سكرُ الدَّلالِ فينثني
…
كما عطفتْ غصناً صباً في تنسُّمِ
فإن زار وهناً والأماني تَعِلَّةٌ
…
ترى البدر وافى فوق غصنٍ منعَّمِ
بخدٍ سقاهُ وابل الخزِّ والحيا
…
سلافةَ خمرٍ أو عصارةَ عَنْدَمِ
ومن غزلياته وغرره قوله، من نبوية مطلعها:
نأى والأماني الكاذباتُ به تدنو
…
بديعُ جمالٍ من محاسنه الحسنُ
هو البدرُ لا تنكر عليه بعادَهُ
…
تراه قريباً والبِعادُ له شأنُ
أطال عليَّ الهجرَ حتى لطولِه
…
تعلَّم منه هجرَ صاحبه الجفنُ
وعرَّفني الأحزانَ حتى ألفتُها
…
فمن أجله عندي السُّرورُ هو الحزنُ
رشاً طلعت شمسُ البَها من جبينِه
…
وماسَ بها من قدِّه غصنٌ لدنُ
فديتك ما هذا التنائي فلستُ من
…
يُطيق بأن تشتاقك العينُ والأذنُ
بَعُدتَ ولكن لا عن القلبِ والرَّجا
…
إذا لم يَشُبْهُ الياسُ كان له المنُّ
أظنُّك تدنو والليالي ضنينةٌ
…
بقربِك لكن ربَّما صدق الظَّنُّ
فيا مسرفاً في هجره أنت يوسفٌ
…
إذا غاب فالدُّنيا ليعقوبِه سِجنُ
سقى الله عهدً للشَّبيبةِ ماضياً
…
ولا برحَتْ تنْهَلُّ في رَبعِها المُزْنُ
وحيِّي ربوعَ اللَّهوِ والوجدِ والصِّبا
…
سحابُ رضاً أنواؤها اللُّطفُ واليمنُ
معاهدُ وجدٍ باكرتْ روضَها الصَّبا
…
فصافحَ إذ مرتْ به الغصنَ الغصنُ
قطفتُ بها اللَّذَّاتِ مع كلِّ شادنٍ
…
سقامِي بعينيه إذا ما ايرْنوُ
له في البَها تُعْزى المحاسنُ كلُّها
…
كما لرسولِ اللهِ كلٌّ بها يعنُو
ومن مقاطيعه ونتفه، قوله:
وكنت أقولُ إنكَ في فؤادي
…
لو أنَّ القلبَ بعدك كان عندي
سِوى عن ناظرِي ما غبتَ يوماً
…
فذكرُكَ غالبَ الأوقاتِ وِردي
وقوله:
هل ترجعُ أيامي بنادِي الوادي
…
تالله فقد عدَدْتُها أعيادي
أيامَ يضمُّ شملنا مُنتزهٌ
…
بالغوطةِ لا فقدتُ ذاكَ النَّادِي
وقوله:
ما جاءَ الليلُ أو أضاءَ الفجرُ
…
إلا وذكرتُ عيشنا يا بدرُ
لهفي لزمانٍ عِيشةٌ راضيةٌ
…
قد منَّ بها على يديكَ الدَّهرُ
وقوله:
ومُعذرٍ صفحاتُ وجنتهِ
…
كالشمسِ في حلَكٍ من الدَّمسِ
حيَّى فخلتُ الشمسَ قد طلعت
…
ليلاً لِما شاهدتُ من أُنْسي
فعجبتُ من شمسٍ بدتْ لِدُجًى
…
وبقيتُ فيه مُراجعاً نفسي
فغدا يقولُ أذاك من عجبٍ
…
أعجب لهذا الأمرِ بالعكسِ
فانظر لمعجزةِ العِذارِ بدا
…
في وجنتي كاللَّيلِ في الشمسِ
ومما ينسب إليه قوله:
ومَهاةٍ قد راعتِ العودَ حتى
…
عاد بعد الجِماحِ وهو ذليلُ
خاف من عَرْ أُذنِه إذ عصاها
…
فلهذا كما تقولُ يقولُ
نحوه للحسن بن يونس:
غيداءُ تأمرُ عودَها فيطيعُها
…
أبدَّ ويتبعها اتِّباعَ ودودِ
فكأنما الصَّوتانِ حين تمازَجا
…
ماءُ الغمام وابنةُ العنقودِ
ولكشاجم:
جاءتْ بعودٍ تناغيهِ فيتبعُها
…
فانظر بدائعَ ما تأْتي به الشَّجرُ
فما يزالُ عليه أو بهِ طربٌ
…
يَهيجُه الأعجمانِ الطَّيرُ والوترُ
وليوسف بن عمران الحلبي:
يستوقفُ الأطيارَ حسنُ غِنائها
…
إن ردَّدتْ ألحانَها ترديدا
وتظنُّ صوتَ العودِ صوتَ غنائها
…
وغِناءَها أبداً تظنُّ العودا
وقوله مضمِّناً:
يا من يدُ الرحمنِ قد خطَّت على
…
صفحات خدَّيهِ السَّنيَّةِ لامَا
قد تمَّ حسنُكَ بالعِذارِ فمن رأى
…
بدراً يكون له الكسوفُ تماما
البيت لأبي فرج بم هندو، وقبله:
خلعَ العِذارُ على عِذارِك خِلعةً
…
خلعت قلوبَ العاشقينَ غراما
قد تمَّ، وهو معنًى، كم حام على تضمُّنه مُعَنَّى.
وللباخرزي فيما يقاربه:
وجهٌ حكى الوصلَ طيباً زانهُ صُدُغٌ
…
كأنَّه الهجرُ فوقَ الوصلِ علَّقهُ
وقد رأيتُ أعاجيبَ الزَّمانِ وما
…
رأيتُ وصلاً يكون الهجرُ رونقهُ
أخوه أكمل قرين أخيه ونده، فأحدهما السيف والآخر فرنده.
وكانا إذا اجتمعا تقابل البدر والثريا، وتطارح الشمول الرائق والرَّويَّةِ الرَّيَّا فتسابق بهما الكميت في ميدان الدِّنان، فمن رآهما قال ما شاء في طليقي عنان.
وإذا أخذا في معاطاةِ الأسمارْ، فما مشابهةُ الأماني في بلهنية الأعمار. ومحمد، إن كان أكبرُ سنًّا، فأكمل أرهف منه مسنًّا. إلا أنه اعتراه طرفٌ من الجنون، فصيَّره ثالث خالد والجنون. وله من جنونه أفانين، عدَّ بها من عقلاء المجانين.
وقد وقفتُ من شعره على كلمٍ يوسى به الكلم، ويعد من الظلم قياسها إلى الظلم.
فمن ذلك قوله في وصف حديقة زهر، يخترقها من اللجين الذائب نهر. إذا خمشته يد الصَّبا، تتوهمه زرداً مذهبا.
وفيه دولابٌ يشجي الصَّبَّ بنحيبه، كأنه محبٌّ وقد رمي بفقد حبيبه:
وحديقةٍ ينسابُ بين غصونها
…
نهرٌ يُرى كالفضَّةِ البيضاءِ
قد ألبَستْه يدُ الجنائبِ والصَّبا
…
زرداً كنبتِ الرَّوضةِ الغنَّاءِ
دولابُه بحنينهِ كمذكِّرٍ
…
عهدَ الصِّبا ومعاهد السَّرَّاءِ
أبداً يدورُ على الأحبةِ باكياً
…
بمدامعٍ تربو على الأنواءِ
ناحَ الحمامُ قِدماً فهو في
…
ترجيعهِ موفٍ قديمَ إِخاءِ
ومن بدائع قوله:
بهَوًى سرتْ من سالفيْ
…
ك إلى فؤادي في لهيبِ
فأتت بأطيبَ ما يسرُّ
…
ذوِي الهوَى في طيِّ طِيبِ
إلا رحِمْتَ شبابَ ذي
…
قلبٍ عليلٍ بالوجيبِ
فحنَوْتَ من كرمٍ علي
…
هِ كميلةِ الغصنِ الرَّطيبِ
وقوله:
ولائمٍ قد لامَني في الطِّلا
…
وترْكها والنَّهيِ عن شربها
فقلتُ تلحانِيَ جهلاً أمَا
…
كفى طلوعُ الشمسِ مِن غربهَا
الغرب: دَنُّ الخمر، وبه تمت التورية.
وأصله قول أبي القاسم بن طلحة، في مغربي:
أيتها النفسُ إليهِ اذهبي
…
فحبُّهُ المشهورُ من مذْهبي
مُفضَّضُ الثَّغرِ له شامةٌ
…
من عنبرٍ في خدِّهِ المُذْهبِ
آيَسَنِي التَّوبةَ من عشقِهِ
…
طلوعُه شمساً من المغربِ
وللشهاب الخفاجي:
كمْ قهقَهَ الإبريقُ إذ قيلَ تابْ
…
وابتسمَ الكأسُ بثغرِ الحبابْ
والرَّاحُ شمسٌ قد تبدَّتْ لهُ
…
من مغربِ الدَّنِّ فكيف المتابْ
للهِ أيَّامٌ مضتْ سرعَةً
…
كهجعةٍ من ذي جوًى واكتئابْ
ليلاتُها قمرٌ وأيَّامها
…
كأنَّها أعيادُ عصرِ الشَّبابْ
واغتبق يوماً بمحلٍّ كان يتخذه مفترش ندوته، ومتوسد صبوته. ومضطجع اطمئنانه، ومدار كأسه ودنانه. وهو في ينع الشباب، ورواء الأحباب. عندما اقترن بالليل نهاره، وامتزج بالبنفسج بهاره. وقد أحضر من آلات أُنسهِ، وأظهر من نوع ذلك وجنسه. ما يروق النَّاظر، ويصقل الخاطر.
فكتب يستدعي له صديقاً، كان يتخذه في ذلك العهد رفيقاً:
بادِر أُخَيَّ إلى الغبوقِ براحةٍ
…
تنفي همومَ الصَّبِّ حين يصبُّها
حمراءَ رصَّعها الحبابُ كأنَّها
…
شفقُ السَّماءِ تجولُ فيه شُهْبُها
بادر أخي، أطال الله بقاك، وقهر من يعاديك ويشناك. إلى تعاطي راحةٍ حاكى مزاجك مزاجها لطفاً، وزاد عليها بهاءً وأدباً وظرفاً. إذا أخذها الساقي وصب، ذهب عمَّن كان بين الشرب والصب. لا سيما إذا كانت حمراء كاللجين، مرصعةً بجواهر الحبب أو ممزوجةً بين بيْن. فالمأمول من الأخ المبادرة، ليفوز منه أخوه بأحسن مسامرة ومحاورة.
وفي ذيل الاستدعاء:
يا من رِضاهُ جنَّةٌ كمُلتْ
…
والسُّخطُ داءٌ منكرٌ ضَنْكُ
زُرْ روضَنا كالغيثِ أكسبَه
…
عِطراً فزيْنٌ بالتُّقى النسكُ
ماسَ الشَّقيق لنا على قُضُبٍ
…
خضرٍ كسِمطٍ زانَه السِّلكُ
وكأنَّه والقضْبُ تحمله
…
أقداحُ ياقوتٍ به مسكُ
ومن غزلياته قوله:
بهَوًى جَدَّ بقلبي
…
طامعاً في لَفتاتِكْ
وفؤادٍ ضلَّ في
…
حصرِ قليلٍ من صفاتِكْ
وفؤادٍ لم يُمتَّعْ
…
حظوةً من خطواتِكْ
غافلاً عن ذنبِه إذ
…
هو من بعضِ هِباتكْ
يا غزالاً خاطرَ القلْ
…
بَ برؤْيا خطراتِكْ
آهِ ما أعجزنِي عن
…
حملِ ماضي عزماتِكْ
بالحِمى ترتعُ والأُسْ
…
دُ ثَوَتْ في عَرَصاتِكْ
كيفَ يرجوكَ فؤادٌ
…
والحِمى بعضُ حُماتِكْ
بأبي حبَّاتُ مسكٍ
…
نُقِّلتْ من وجناتِكْ
بل سويداءْ قلوبٍ
…
أُحرقتْ في جمراتِك
أتُرى يا دهرُ هل في
…
لحظةٍ من لَحَظاتِكْ
يغفلُ الواشونَ كي أح
…
سبُها من حسَناتِكْ
ومن رباعياته قوله:
حَيَّى وسقى الحَيا الرُّبى والسَّفْحا
…
من غاديةٍ تشبه دمعي سَفحا
والله وما ذكرتُ عيشي بِهِما
…
إلا وضرَبتُ عن سواهُمْ صَفحا
وقوله:
لا أنْظُر للسَّماءِ فافْهَمْ عُذري
…
قد ضاق برؤيا قمرٍ بها صدري
في صورةِ من أهوى وفي حاجِبِه
…
ما يُغني عن هلالها والبدرِ
أهل العربية فرَّقوا بين الرُّؤيا والرُّؤية، فكن مستيقظاً في نظائره؛ فإنها كثيرة في أشعار المتأخرين.
ومن بدائعه قوله في مُعَذَّرٍ عنِم الحسنُ روضَ خده النَّضر، وتلاقى في جانبيه موسى مع الخضر:
يا حسنَ حمرةِ خدٍّ زادَ بهجتَهُ
…
لونُ العِذار الذي حارتْ به الفِكَرُ
كأنَّ موسى كليمَ اللهِ أنسَه
…
حيناً وجرَّ عليه ذيلهُ الخَضِرُ
نقله من قول ابن سعيد، صاحب المرقص والمطرب، في نارَنْجة نصفها أخضر والآخر أحمر:
وبنتُ أيكٍ دنا من لثمِها قُزَحٌ
…
فصار في خدِّها من لثمِهِ أثَرُ
يبدو بعينيك منها منظرٌ عجَبٌ
…
زبرجدٌ ونُضارٌ صاغَه المطرُ
كأنَّ موسى نبيَّ الله أقْبسَها
…
ناراً وجرَّ عليها ذيله الخَضِرُ
وقد ألمع ابن سعيد بمأخذه من حيث لم يشعر؛ حيث قال في مكان آخر، من مرقصه: لما رحلت إلى دمشق وأبصرتها، فتنني منظرها، وأكثرت القول فيها، إلى أن وقع لي من قصيدةٍ:
في جِلِّقٍ نزلوا حيث النَّعيمُ غدا
…
مُطوَّلاً وهو في الآفاقِ مُختصَرُ
القُضْبُ راقصةٌ والطَّيرُ صادحةٌ
…
والنَّشرُ مرتفعٌ والماءُ منحدرُ
وقد تجلَّتْ من اللَّذَّاتِ أوجهُها
…
لكنَّها بظلالِ الدَّوحِ تستترُ
وكلُّ وادٍ به موسى يفجِّره
…
وكلُّ نهرٍ على حافاتِه الخَضِرُ
ولابن فضل الله:
للشامِ فضلٌ باهرٌ
…
بعيشِها الرَّغدِ النَّضِرْ
في كلِّ روضٍ يلتقي
…
ماءُ الحياة والخَضِرْ
ومن رباعياته قوله:
إمَّا يَمنٌ أهلُ الهوى أو قيسُ
…
ليسوا مثْلي وإن تباهوا ليسوا
لو أنصَفني حاكمهُم في بُرَحِي
…
ما قيسَ بمن عنه تلاهَوا قيسُ
وكتب إليه أخوه ملغِزاً:
يا أكملاً يستكملُ الظَّرفا
…
يا فاضلاً والفضلُ لا يَخفى
ويا شقيقي من فَخاري به
…
ومن غدا لي في الورى طَرفا
أكملُ منه إن أصِفه فلي
…
أرجَع من أوصافه الوَصفا
قل لي عن وصفٍ حُروفٌ له
…
أربعةٌ ما نقصتْ حرفَا
إذا وصفتَ الشَّحصَ يوماً به
…
فعينه في دبرِه تُلفَى
ولم يزلْ يصحبُ كُلَاّبةً
…
بها يجيد القبضَ لا الصَّرفَا
ثانيهِ نصفْ العُشرِ من ثالثٍ
…
وكلُّه لم يبلغِ الألفا
ينقص عنها بل عن بعضِها
…
ولم تكمِّل ناقصاً حلفا
موصوفُه نصفانِ فانظرْ له
…
نصفاً ولا تنظرْ له نِصفا
ثانيهِ مع ثالثهِ فعلُه
…
متى يُشاجِر عِرسَه عُنْفا
يُظهِر في أفعاله خفَّةً
…
وهو لِثقلٍ لم يغبْ طرْفَا
كالبومِ شُؤمٌ وهو إلفٌ لنا
…
فهل رأيتُم بومةً إلفا
أجِبْ وعن ذا الوصفِ أوضحْ لنا
…
لا ذقتَ للدَّهرِ إذاً صَرْفا
فأجابه ملغزاً أيضاً:
جاءتْ فزادتْ روضنا عرْفا
…
بل قلَّدتْ آذانَنا شُنْفا
وأطفأتْ من كبدِي لوعةً
…
ولم تكنْ من غيرها تُطفا
وهيَّجتْ شوقي إلى ماجدٍ
…
لم أكُ أبغي غيره إلفا
أعِني شقيقي من أرى بُعدَه
…
للدَّهرِ ذنباً لم يكدْ يُعفى
ذو كرمٍ لو شامه حاتمٌ
…
عضَّ على أنملهِ لَهفا
رَبُّ المعانِي والقوافِي التي
…
كالُّرِّ إذ ترصِفه رصفَا
كانت كعذبِ الماءِ عند الصَّفَا
…
أو كلَمًى أرشِفه رشفا
أو كوصالٍ من حبيبٍ وقد
…
أكثَر في ميعادِه الخُلفا
مُضيِّعٍ أرعاهُ بين الورى
…
وشيمةُ الأحبابِ لا تخفَى
أبيتُ أُملي من غرامِي له
…
كتُبْاً ومن إِعراضِه صُحْفا
يُدير من ألحاظِه أكؤساً
…
حمَّلها أجفانَه الوَطفا
تسقِيه راحاً مُزِجتْ من دِما
…
عيني وتسقيني الهوَى صِرفا
سائلةً عن ساعدٍ لم يزلْ
…
كعطفةِ الأصداغِ مُلتفَّا
أو كسِوارٍ ضاق عن عبلةٍ
…
أو كهلالٍ كاد أن يخْفَى
لكن إذا مدَّت إلى مرقدٍ
…
كقامةِ الحبِّ إذ تُلفَى
لا زلتَ تعطيها وأمثالَها
…
من راحةٍ كالدِّيمةِ الوَطفا
وبعدُ ما وصفٌ له أحرفٌ
…
أربعةٌ لم تستزد حَرفا
أوَّلُه سبعُ لعشرٍ حوى
…
ثانيهِ لا زلتَ له حِلفا
إن تُسقِط المفردَ يعدْ
…
جمعاً وهذا عنكَ لا يخفَى
وفعْل أمرٍ تمَّ فعلاً لمن
…
نارُ غرامِي فيه لا تُطفا
إن تقلبِ الثالثَ مع رابعٍ
…
يكنْ لموصوفٍ به وصفَا
ثانيهِ مع ثالِثه وصفُه
…
إذ اعتراه النَّومُ أو أغفى
أَبِنهُ لي لا زلت في عِزَّةٍ
…
لم تغضِ عما رمتَه طرفا
والدَّهرُ عبدٌ لك أو قائدٌ
…
يُجيبُ من عادَيته طِرفا
ومن شعره قوله:
أُسلِّي فؤادي بادِّكاركَ طامعاً
…
بصبري وأين الصَّبرُ من قلبِ عاشقِ
وألوِي ضُلوعي كي أُسَكِّن روعةً
…
ومالي بقلبٍ ساكنِ الجسم خافقِ
أُؤمِّل عذباً من رُضابَك بارداً
…
لإخمادِ جمرٍ بين جنبيَّ حارِقِ
فأذكرُ من عذبِ اللَّمى مع لمعِهِ
…
أحاديثَ جِيران العُذَيْبِ وبارِقِ
ففي الصبْح صبرٌ إن أكن غير ناظِرٍ
…
إليه دليلاً إن يكن غيرَ طارقِ
فويلِي من جسمٍ طريحٍ من الهوى
…
وإِنسانِ عينٍ بالمدامعِ شارِقِ
محمد بن علي، المعروف بالحريري الحرفوشي هو في المعارف نسيج وحده، والآداب طلاع ثنايا نجده.
عاش حيناً في حانوت ينسج حللاً ويوشيها، ويطرز متون القراطيس بحبر أقلامه ويحشيها.
ولديه تنشد ضوالُّ اللغة والإعراب، وتقف الآراء حيرى في محاسنه بين الإعجاب والإغراب.
فشدت نحوه المطايا، وأشرقت فضائله كبيض العطايا.
وشفت ظروفه حروف مباينه، فنمَّت عن سلافة لطافة معاينه.
كما نمَّ الزُّجاج على الصَّهبا، والنسيم عن شذا الربى. ومع أنه شيخ الوقار، له كلماتٌ يعصر منها العقار. فمن جاراه في طرف الرقَّة، بعدت عليه الشُّقَّة.
وكانت لديه مقاصد، يلوح منها للمنى مراصد. أيام عيشه بالمرة مؤتلف، والحظُّ غادٍ إليه ومختلف. حتى أغري الدهر بشمله ففرقَّه، وأضري ببرد ائتلافه فمزَّقه.
بسبب غرضٍ نقم عليه، وكاد يسوق الحتف إليه. فخرج مع البازي إلى بلاد العجم، وثمَّت طلع كوكب إقباله ونجم.
ودعاه الشاه عباس للرئاسة فأجاب، واراه من كمال التقرب الأفق المنجاب.
فأقام والأهواء إليه منساقة، إلى أن دعاه داعي الحتف إلى اللَّحد فأجابه وساقه.
وقد أوردت له من شعره الذي يباهي الدِّيباج الخسرواني، ما يستعير اللُّطف منه الراح الأرجواني. فمن ذلك قوله معمياً باسم مراد:
إذا خيِّرتُ بين الثَّغ
…
رِ والصَّهباء من حبِّي
أقدِّم ثغر من أهوى
…
على ما دار بالقلبِ
وقوله:
صبَّر الرحمن صبًّا
…
ذاق هجران حبيبهْ
وحماهُ برد وصلٍ
…
منه مطفٍ للهيبهْ
فلعمري ليس يدري ال
…
هجرَ إلا من رمي بهْ
وقوله:
أنا والله لا أبالي وإن ذمَّ
…
وإن أكثر الجهول السِّبابا
أنا كالشمس في الأنام مقامي
…
معتلٍ لا ترى عليه حجابا
أدبي مفخري وفخري علومي
…
لا أراه النِّجار والأسبابا
وقوله:
ترومُ وُلاة الجوْر نصراً على العدى
…
وهيهات يلقى النَّصر غير مصيبِ
وكيف يروم النَّصر من كان خلفه
…
سهام دعاءٍ عن قسيِّ قلوبِ
هذا معنًى تداولته الشعراء، والحسن منه قول ابن نباتة المصري:
ألا رُبِّ ذي ظلمٍ كمنْتُ لحربه
…
فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
وما كان لي إلا سهام تركُّعٍ
…
وداعيةٌ لا تُتَّقى بدروعِ
وهيهات أن ينجو الظَّلوم وخلفه
…
سهام دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ
مُريَّشةٌ بالهدب من جفن ساهرٍ
…
مُنَصَّلةٌ أطرافها بدموعِ
ومن المنشآت المبتدعة: المحارب إذا شيِّع بالدعاء له فقد أنجد بمدد بل أمداد، وحفظ ظهره بجندٍ بل أجناد. وإذا شيِّع بالدعاء عليه، فقد خرج خلفه كمينٌ لا يقوى له فيلقاه، ولا يراه فيتوقَّاه. ولن يغلب عسكرٌ واحدٌ عسكرين من الدعاء والأعداء، ولن يسلم من أعوز ظهره مجنُّ الضُّعفاء، ولن ينصر في الأرض من حورب من السماء.
ومن نتفه قوله في إفرنجي:
بروحيَ ظبيٌ فاترُ الطَّرف أحورٌ
…
رنا فرمى قلبي بسهم من الغنجِ
أبت مهجتي الإشراكَ فيه وقد غدا
…
يرى شرعة التَّثليثِ واضحة النَّهجِ
فيا قوم هل فيكم معينٌ على الأسى
…
وهل من طريقٍ من قطيعته تنجي
فقد سامني في الحبِّ مالا أطيقه
…
وأوقعني من زاخرِ الصَّدِّ في لجِّي
وبرَّح بي حتى لقد رقَّ عذَّلي
…
وما حال من أضحى بقبضةِ إفرنجي
وكتب إلى صديقٍ له تمرض بالحمَّى:
أنا مذ قيل لي بأنَّك تشكو
…
ضُرَّ حمَّاكَ زاد بي التَّبريحُ
أنت روحِي وكيف يُلفى سليماً
…
جسدٌ لم تصحَّ فيه الرُّوحُ
وله:
إن أصبح الوغدُ يعلو فوق منزِلتي
…
من غير ما سببٍ يقضي بترجيحِ
فالنَّقع يعلو على بيضِ الكماة كما
…
علا الدُّخانُ علي النِّيران مع ريحِ
أخذه من قول الآخر:
إن يقعدُ فوقي لغيرِ نزاهةٍ
…
وعلوِّ مرتبةٍ وعزِّ مكانِ
فالنَّارُ يعلوها الدُّخانُ وربَّما
…
يعلو الغبارُ عمائمَ الفرسانُ
وله:
أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحدٍ
…
ما نابنِي من صديقٍ يدَّعي الرَشَدا
صافيته من ضميري وُدَّ ذي مِقتٍ
…
فاعتضتُ عنه بمذقٍ باللِّساِن غدا
فعدتُ من بعدِه والدَّهرُ ذو عجبٍ
…
لا أصطفي في الورى لي صاحباً أبدا
وله في الشيخ محمد الجواد الكاظمي:
جرَى في حلبةِ العلياءِ شوطاً
…
بسعيٍ ما عدا سننَ السوادِ
ففاتَ السابقينَ إلى المعالي
…
وما هذا بِبدعٍ من جوادي
وله في إثبات التَّشوق، وحزن التفرق؛ وفيه التفريع، من أنواع البديع:
وما ظبيةٌ قد بانَ عنها وليدها
…
فضاقتْ بها الغبراءْ ذرعاً وبيدُها
وهامتْ بما لاقته من حرِّ وجدِها
…
وراحتْ فلا تدري إلى أينَ عودُها
تجوب الفيافي في الهجيرِ فلا ترى
…
أنيساً بها يبدو سِوى من يعيدُها
بأحزنَ منِّي حين سارَت مطيُّ من
…
أحبُّ وروحي في يديهِ وجودُها
وله:
يقولون في الغليونِ أفرطْتَ رغبةً
…
وليسَ بشيءٍ تقتنيهِ وتختارُ
فقلتُ لهم ما ذاكَ إلا لأنه
…
مضاهيَّ لا تنفكُّ في قلبه النارُ
ومن غزلياته قوله:
روحي الفداءُ لشادنٍ
…
ذي نفرةٍ من زيِّ آنسْ
سلبَ الجفونَ رقادها
…
وأثارَ في القلبِ الوساوسْ
وأعارَ من سقمِ اللِّحاظِ
…
لجسمي المضنى الوساوسْ
ويلايَ من جورِ القوا
…
مِ إذا بدا كالغصنِ مائسْ
وإذا رنا فالبيضُ تش
…
بهُ فعلَ هاتيكَ النَّواعسْ
يا لائماً يرجو سلوَّ
…
فتًى له جلبتْ هواجسْ
خفِّض عليكَ فإنني
…
مُغرًى لثوبِ السقمِ لابسْ
أنَّى سلوُّ متيَّمٍ
…
من روحِه في الحبِّ آيسْ
يجد الملامَ ألذَّ من
…
صدِّ الذي بالوصلِ شامسْ
لهفي على زمنٍ لنا
…
يُهدي المناسبَ والمُجانسْ
أيَّام كنت وغصن ودِّ
…
ي أخضرٌ والصَّدُّ يابسْ
ومناهل اللَّذَّاتِ صا
…
فٍ وردها مع كلِّ كانسْ
والدَّهر طلقٌ والشَّبي
…
بة غضَّةٌ والرَّبع آنسْ
والرَّاح دارَ فلا تسلْ
…
ما حلَّ في تلك المجالسْ
وله بعد ما بعد عن أوطانه، متذكراً عهد منشئهِ وقطانه:
فؤادُ المعنَّى بالتَّباعد مودعُ
…
بحيِّ الذي يهوى فلوموه أو دعوا
ففي قلبهِ من لاعِجِ الوجدِ شاغلٌ
…
وليس له في العيشِ بالبعدِ مطمعُ
يودُّ بأن يقضي ولم يقضِ ساعةً
…
له بالنَّوى لو كان ذلك ينفعُ
وما باختيارٍ منه أصبحَ نازِحاً
…
وماذا الذي فيما قضى البينُ يصنعُ
سأشكو من البينِ المفرق بيننا
…
إلى الله علَّ الله للشملِ يجمعُ
فجسمي نحيلٌ مذ نأى من أودُّهُ
…
وعيني لطولِ البعدِ لم تكُ تهجعُ
فلو عادَني العوَّادُ لم يهدهم إلى
…
مكاني سوى ما من أنيني يسمعُ
ولو عادَ من أهوى لعادتْ به القُوى
…
لجسمٍ بأثوابِ الضنى يتلفَّعُ
فيا ليتَ شعري هل أراهُ ولو كرًى
…
وهل ذلك الماضي من العيشِ يرجِعُ
وهل علم الأحبابُ أنِّي مفارقٌ
…
حشاشةَ نفسٍ ودَّعت يومَ ودَّعوا
وهل هم على العهدِ القديمِ الذي أنا
…
عليه مقيمٌ أم لذلك ضيعوا
وله:
لا بِدعَ أن أضحى الجهولُ يدَّعي
…
مكانتي ويدَّعي الترفُّعا
فالشمسُ أعلى مفخراً وقد غدا
…
من فوقِها كيوانُ أعلى مطلعَا
ومن قول ابن رشيق:
بحيثُ يهونُ المرءُ يكرمُ ضدُّهُ
…
وحيث هبوطُ الشمس يشرقُ كيوانُ
وله:
رعى الله أوقاتاً بها كنتُ أجهلُ ال
…
فراقَ وأياماً بها أُنكِر الجفَا
تقضَّتْ كلمحِ العينِ أو زور طارقٍ
…
أتى مسرِعاً أو بارِقٍ في الدُّجى خفا
وأبدِلتُ منها فرقةً وتشتتاً
…
وبعداً وهجراً دائماً وتأسُّفا
فيا ربِّي أنعِم باللقاءِ لمدنفٍ
…
وإلا فكنْ بالحتفِ يا ربِّ مسعِفا
وله:
حباني الوجدَ والحُرقا
…
وأودعَ مقلتي الأرقَا
وروَّع بالجفا قلباً
…
بغيرِ هواهُ ما علقَا
رنا بصوارمٍ خذمٍ
…
تسمَّت بيننا حدقا
حمى أوردَ وجنتِه
…
بأسودِ خاله ووقى
ولاحَ بواضحٍ أضحى
…
لهُ شمس الضُّحى شفقَا
له خصرٌ بألحاظِ ال
…
ورى ما زال منتطِقا
تعارض المتنبي في هذا المعنى مع السري الرفَّاء. فبيت المتنبي قوله:
وخصرٍ تثبتُ الأحداقُ فيهِ
…
كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقَا
وبيت السري قوله:
أحاطتْ عيونُ العاشقينَ بخصرِه
…
فهنَّ له دون النِّطاقِ نِطاقَا
وكثيرٌ يظنون أن المتنبي هو المخترع لهذا المعنى، ولا يدرون أنه لعلي بن يحيى، من أبيات تغنَّى بها:
وجهٌ كأنَّ البدرَ ليلةَ تِمِّهِ
…
منه استعارَ النورَ والإشراقا
وأرى عليه حديقةً أضحى لها
…
حدقي وأحداقُ الأنامِ نِطاقَا
ونقل الشهاب الخفاجي إلى العذار، مضمِّناً مصراع أبي الطيب، وأجاد:
عِذارٌ خَطَّ في الوجناتِ خطًّا
…
حوى كلَّ الأنامِ به وفاقَا
ترى الأبصارَ شاخصةً إليه
…
وماءَ الحسنِ في خدَّيهِ راقَا
تصوَّرتْ العيونُ به فأمسى
…
كأنَّ عليه من حدقٍ نِطاقا
تتمة القصيدة:
فياللهِ من بدرٍ
…
غدا قلبي لهُ أُفقا
ألا يا حبَّذا زمنٌ
…
حظيتُ به ونِلتُ لِقا
زمانٌ لم أجِد فيه
…
لشملِ الوصلِ مفتَرَقا
أهيمُ بسالفٍ حَلَكٍ
…
وأهوى واضِحا يققَا
تولَّى مسرعا عنقاً
…
ومرَّ كطارِقٍ طرقَا
وطبعُ الدَّهرِ لا يبقى
…
على حالٍ وإن رفقَا
فكن خلواً به فرداً
…
وسرْ في الأرضِ منطلِقا
وكن جلداً إذا ما الدَّه
…
رُ أبدى مشرباً رنْقا
وله من قصيدة، أولها:
يا ليتَها إذ لم تجُد بوِصالِ
…
سمحتْ بوعدٍ أو بطيفِ خيالِ
جنحتْ لما رقشَ الوُشاةُ ونمَّقوا
…
من أنَّني سالٍ ولستُ بسالِ
ومدامِعي لولا زفيري ولم يكدْ
…
ينجو الورى من سحِّها المتوالي
ونحولُ جسمٍ واحتمالُ مكارهٍ
…
وسهادُ جفني وادِّكارُ ليالي
فإلى مَ أظمأُ في الورى ومواردِي
…
فيه سربٌ أو لموعُ الآلِ
ولِم اختياري عن فؤادِي كلَّ من
…
ألقى وقلبي عند ذاتِ الخالِ
أخذه، ولم يحسن الأخذ من قول الباخرزي:
قالت وقد فتَّشتُ عنها كلَّ من
…
لاقيتهُ من حاضرٍ أو بادي
أنا في فؤادِك فارمِ طرفَكَ نحوهُ
…
ترَني فقلتُ لها وأين فؤادِي
هيفاءُ رنَّحها الدَّلالُ فأخجلتْ
…
هِيفَ الغصونِ بقدِّها الميَّالِ
في خدِّها الوردُ الجنِيُّ وثغرُها
…
يحوِي لذيذَ الشُّهدِ والجِريالِ
حجبتْ محيَّاها الجميلَ ببُرْقُعٍ
…
كرقيقِ غَيمٍ فوقَ بدرِ كمالِ
ونضتْ من الأجفانِ بيضَ صوارمٍ
…
فغزَتْ بهنَّ ولم تنادِ نزالِ
وتنزَّه يوماً في روضٍ افترَّت بواسمه، وتعطَّرتْ نواسمه. وتفتَّحت أزهاره، ونطق بلبله وهزاره.
فقال يصفه:
ومكانِ أُنسٍ قد حوى من لُطفِه
…
مِن كلِّ وصفٍ رائقٍ مُستحسنِ
فالرِّيحُ تعبثُ في الغصونِ تمايساً
…
والطَّير تشدو باختلاف الألسنِ
فكأنَّه الفردوسُ أحرَز صفوَه
…
أملُ النُّفوسِ ومُستلذُّ الأعينِ
وله في الغزل:
مَن لي بهيفاءَ أذكتْ من تباعدها
…
في القلبِ ناراً ولم تسمحْ لمُضناهَا
واهاً لها من فتاةٍ إن رنتْ فعلتْ
…
ما ليس يفعله الهِنديُّ عيناها
ومن جيِّده قوله في الخال:
قال لي من غدا إمامَ أولِي الفضْ
…
لِ ورَبَّ المباحثِ الفلسفيهْ
إنَّ عندي بُرهانَ حقٍّ على نفْ
…
يِ الهيولى والصُّرةِ الجِسميهْ
قلت ما هو فقالَ شامةُ حبِّي
…
قد غدتْ وهي نقطةٌ جوهريهْ
قلت: هذا جارٍ على رأي المتكلمين في الرد على الحكماء، من أن إثبات النقطة يستلزم نفي الهيولى والصورة، وقد حاول محاولةً عجيبة.
ومثل هذا الاستعمال - أعني استعمال ألفاظ أهل الكلام والهندسة والنحو - مما قال فيه ابن سنان الخفاجي: ينبغي أن لا يستعمل في الكلام المنظوم والمنثور.
قال: لأن الإنسان إذا خاض في علمٍ، وتكلم في صناعةٍ، وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة. ثم مثَّل ذلك بقول أبي تمَّام:
مَودَّةٌ ذهبٌ أثمارُها شَبَهٌ
…
وهِمَّةٌ جوهرٌ معروفها عرَضُ
قال ابن الأثير، في المثل السائر: وهذا الذي أنكره هو عين المعروف في هذه الصناعة:
إنَّ الذي تكرهون منه
…
هو الذي يشتهيه قلبي
فقوله: إن الإنسان إلى آخره، مسلَّمٌ إليه، ولكنه شذَّ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدةً من كل علمٍ وطلِّ صناعةٍ؛ لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه، ولا حاصر يحصره.
وقال ابن المعتز، في كتاب البديع: مما يعاب على الشعراء استعمال ألفاظ الحكماء، كالكيمياء، والسَّيمياء، والهَيولَى.
ولعله كان معيباً في الصدر الأول، لأنه لو يُؤلف استعماله، وعلى أمثالنا لا يعاب؛ لشيوعه، بعد نقل كتب اليونان إلينا؛ فإن اللفظ قد يعدُّ فصيحاً عند قومٍ دون آخرين.
ألا ترى أن أبا هلال قال في كتابه الصناعتين: الوحشيُّ يعاب على القروِي دون البدوي، الذي هو لغته؛ لأنه معروفٌ عندهم. وهذا مما أطلقه أرباب المعاني فاحفظه.
يوسف البديعي
أديب للبديع من القول منسوب، وواحدٌ بألفٍ من البديع محسوب. أطلع الكتاب باسقاً، ووافى به درًّا متناسقاً. وكان خرج من دمشق وعوده طري، وشرابه سائغ مري. لم تتقشَّع غمامته، ولم تذبل كمامته. وعلى قدر جماله، رزق حظًّا من كماله.
فدخل الشهباء وناسها أولئك الناس، يومئذٍ توددٌ وإيناس. فتبسمت له خلائقهم عن شفاه الصباح، وكأنما هي الرياض باح بسرها نفس الصباح.
وحسن في أعينهم حسن الحور، ووقع من قلوبهم وقع الوطر. وما برح أمره يروق ويحسن، حتى خطبته القلوب وهتفت به الألسن.
فصدح بشعره مترنِّماً في ناديهم، ونال بهم مغانم من أياديهم. وجلب لهم درَّ الكلام، فحلب منهم دَرَّ الكرام.
ولما وافاهم ابن الحسام متوشِّحاً بالقضاء، وخليفةً للسيف في المَضاء. وله البسالة التي تقتنص شوارد المعالي وتفترس، في الأريحية التي يحتمي بها الأمل من الخطوب ويحترس.
ووزنه بميزان الاختبار، فألفاه حريٍّا بالاعتبار. فنوَّه به، واعتنى بأدبه.
وولِيَ الشام فصحبه ملتحفاً بالخطوة، وواقفاً من تقربه بتلك الربوة. ودخل بعدها الروم لخدمته، وتقلب دهراً في خصائص نعمته.
وباسمه ألَّف من كتبه ما ألَّف، وجارى في حومة السبق من تقدَّمه فما تخلَّف. وهو في الأدب ممن ملك البيان عناناً. وهصر من فنونه المتنوعة أفناناً. إن نثر فالدُّرُّ المنثور انفصم نظامه، أو نظم فما اللؤلؤ المشهور نسَّقه نظَّامُه. وله في الفوائد الفرائد، ما تنتقيه لأوساط القلائد الخرائد.
وقد رأيت جملة من بدائعه فتنزَّهت في حدائق ذات بهجةٍ، ورويت ظمآن سمعي من فوائده، وموارده العذبة اللَّهجة.
وها أنا أورد له ما يغازل الجفون الوسن، وتأبى محاسنه إلا أن تذكِّر بيوسف الحسن. فمن ذلك قوله:
رويداً هو الوجدُ الذي جلَّ فادحُه
…
وقد بعدتْ ممَّن أُحبُّ مطاوحُهْ
هوًى تاهتِ الأفكارُ في كنهِ ذاتِه
…
ومتنُ غرامٍ عنه يعجزُ شارحُهْ
أقيكَ الرَّدى هل أنت بالقربِ منجِدٌ
…
أخا دَنَفٍ لاحت عليه لوائحُهْ
مُعنًّى رثتْ أعداؤُه لنحولِهِ
…
ورقَّ له ممَّا يقاسيه كاشحُهْ
وليس له خِدنٌ يعينُ على الأسى
…
يطارِحُه شجوَ الهوى ويطارحُهْ
يحاوِل كتمانَ الهوى وجفونُه ال
…
قريحةُ تُبدِي ما أكنَّتْ جوانحُهْ
خُطوبٌ أصابتْه لو أنَّ ببعضها
…
جَنيناً دَرَى في المهدِ شابتْ مسائحُهْ
رمتْهُ يدُ الأيَّامِ عمداً بنأيِهم
…
وضاقتْ عليه بالتَّجَنِّي فسائحُهْ
خليليَّ حُثَّا أينُقَ الرَّكبِ بي ولا
…
تقولا من الإدلاجِ كلَّتْ طلائحُهْ
وعُوجا على الرَّكبِ الذي قد جهِلتُما
…
معالِمهُ تَهديكُماهُ روائحُهْ
مَحلٌّ إِليه كلُّ قلوبٍ مشوَّقٌ
…
وتستوقِفُ الأحداقَ حسناً أباطحُهْ
يظن به من جازَه حلَّ معبداً
…
إذا صدحتْ فوق الغصونِ صوادحُهْ
سقاهُ وحيَّاهُ الغمامُ بوابلٍ
…
تباكِره أوداقهُ وتراوحُهْ
به تَرَيَا من لو بدا البدر في الدُّجى
…
وأسفرَ في ديجوره فهو فاضحُهْ
جميلاً يعيرُ الشمسَ من نورِ وجهِهِ
…
وتُسبى به من كلِّ حيٍّ ملائحُهْ
جبيناً تهابُ الأُسْدُ سورةَ وجههِ
…
ويخشاهُ من في الدِّرعِ تُخشى صفائحُهْ
يصدُّ معنَّاهُ نهاراً وربَّما
…
يوافيهِ ليلاً طيفُه فيصالحُهْ
له مقلَتا ريمٍ وما شامَ غيرهُ
…
جَوارحها إلا وذابتْ جوارحُهْ
إذا أوعدَ الهجرانَ وفَّى وعيدَهُ
…
وإن وعد المشتاقَ فهو يمازحُهْ
وإن لامَني فيه عَذولي جهالةٍ
…
وقد طلَّ من دمعي على الخدِّ سافحُهْ
فلي عنه شغلٌ بامتِداحي مهذَّباً
…
تُزيِّنُ أبكارَ المعاني مدائحُهْ
وقوله من قصيدة، مطلعها:
هل للمتيَّمِ من نصيرِ
…
ومضامِ وجدٍ من مجيرِ
أو مسعفٍ لطليقِ دم
…
عٍ وهو ذو لبٍّ أسيرِ
دَنِفٌ يبيتُ وبين أح
…
شاهُ له نارُ السَّعيرِ
لم يلقَ إلا الشَّوقَ وال
…
وجدَ المُبرِّحِ من سميرِ
ويرومُ إخفاءَ الهوى
…
والحبِّ من بعدِ الظَّهورِ
أنَّى وأدمعه جرتْ
…
في وجنتَيْه كالنُّهورِ
يرعى نجومَ الليلِ شو
…
قاً منه للظَّبيِ الغريرِ
رَشَأٌ كخطوطٍ في كثي
…
بٍ تحتَ بدرٍ مستنيرِ
يرنو فتفعل بالعقو
…
لِ لِحاظُه فعلَ الخمورِ
فتنتْ ملاحةُ وجههِ ال
…
وضَّاحِ ربَّات الخدورِ
يستوقفُ الأحداقَ إذ
…
يبدو بمنظرِه النَّضيرِ
مهما نسيتُ فلست أنْ
…
سى ما مضى لي بالغويرِ
إذ زارَ بعد إطالةِ ال
…
هِجرانِ في ليلٍ قصيرِ
ووفى بلا وعدٍ وكم
…
وعدٌ يشابُ له بزورِ
أحْيَى بزورته وقد
…
تلِفتْ به روحُ المزورِ
وأدار أكؤسه على الَّ
…
سكرانِ من لحظِ المديرِ
راحٌ يذكِّرنا بها
…
عهد الخوَرْنَقِ والسَّديرِ
شمسٌ لها إشارقُها
…
وقتَ الهجيرِ بلا هجيرِ
ضمنتْ وأوفتْ أنَّها
…
تنفي الهُمومَ من الصُّدورِ
وتعيدُ أوقاتَ السُّرو
…
رِ بغير أوقاتِ السُّرورِ
فوحقِّ ساحرِ مقلتي
…
هِ في العشايا والبُكورِ
إلا بمدحِ المصطفى ال
…
منعوتِ بالحسبِ الخطيرِ
مولًى خزائنُ علمِه
…
في صدرِه لا في الصُّدورِ
فاقَ الأوائل بالعلا
…
والفضلِ في الزمن الأخيرِ
إن نمَّقتْ كفَّاه طر
…
ساً خيلَ كالرَّوضِ المطيرِ
تعساً لمن جاراه فه
…
وَبغيرِ شكٍّ في غرورِ
لم يدرِ أنَّ صفاتِه
…
في النَّاسِ عزَّتْ عن نظيرِ
لو كان ذا عقلٍ لَمَا
…
قاسَ الجداولَ بالبحورِ
وكان بينه وبين السيد موسى الرَّام حمداني مراجعات، فكتب بعض الظرفاء عن لسانه إلى السيد قصيدةً شهيرة، كالشمس وقت الظهيرة، واقتضى الأمر عدم إخباره بذلك، فراجعه عنها بقوله:
يا دَير سمعان ذكَّرتني
…
رسومكَ الدُّرَّسُ الدَّريسا
أودتْ بسكَّانكَ اللَّيالي
…
ولم تدعْ منهم أنيسا
فلا أغَبَّتْك غادياتٌ
…
ولا عدتْ ربعكَ الدَّريسا
والناسُ مثل الرُّسومِ إلا
…
إذا جنوا فاخراً نفِيسا
فكتب إليه البديعي هذه القصيدة:
ليس إلا بالقرب ما بك يوسى
…
من جوًى دونه يُذيبُ النُّفوسا
قد سقتْك الأيامُ خمرةَ وجدٍ
…
وأدارت من البِعادِ كؤوسا
بعَّدت عنك من تحبُّ وهذا الدَّ
…
هرُ يولي الفتى نعيماً وبوسا
أين أوقاتُك التي كنت فيها
…
لم تبِتْ من رِضا حبيبٍ يَؤوسا
حيث يسقيكَ خَنْدريساً حبيبٌ
…
ريقُه العذب يزدري الخَندرِيسا
ذو قوامٍ ما ماس في الرَّوضِ إلا
…
علَّم الغصنَ قَدُّه أن يميسا
طالما زار في الدُّجى وثُريَّ
…
اه تحاكي في المغرب الإنكيسا
غلساً خوفَ لائمٍ والذي يكْ
…
تمُ وصلاً يحاول التغليسا
فسقى عهدَه بجِلِّقَ عهد الدَّ
…
معِ من مقلتي وربعاً أنيسا
بلدةٌ ما ذكرتها قطُّ إلا
…
حرَّك الشوقُ من غرامي رسيسا
واستهلَّت مدامعي كالغوادِي
…
وغدا القلب من جَواه وطيسا
منذ فارقتُ أهلها لم يطبْ لي
…
صفوُ عيشٍ يحبو نديماً سَؤوسا
منها:
من أناسٍ ذكوا أصولاً وكانوا
…
من أناسٍ نموا وطابوا غُروسا
نصروا دين ربِّهم بمواضٍ
…
كم أذلَّتْ جحافِلاً وخميسا
تقف النَّاسُ هيبةً ووَقاراً
…
بحِماهم إذا رأوهمْ جلوسا
أذْهب الله عنهم الرِّجسَ والفح
…
شاءَ دون الأنامِ والتَّدليسا
وبعد أن رأى هذه القصيدة المنحولة، أخذه ما أقامه وأقعده، وملكه ما أزعجه وأكمده.
ولم يبقى أحدٌ إلا زاره واشتكى، وزأر وبكى. فكتب إليه معتذراً:
ما لموسى الشَّريف أصبحَ يبدي
…
بعد ذاك الإقبالِ هجري وصدِّي
ما كفى أنه أراد لي الكيْ
…
دَ مراراً ولم ينل غير وجدِ
زار دار النَّقيب ذي الفضلِ من أو
…
صافَه الغرُّ ليس تُحصى بعدِّ
ذي المعالي والمكرمات حجازي
…
من غدا في الأنامِ من غيرِ نِدِّ
سيدٌّ جوده لو اقتسمته النَّا
…
سُ طرًّا لم تلق طالبَ رِفدِ
الجليل الشَّهيرُ بابن قضيب ال
…
بان لا زال للورى بدر َسعدِ
واشتكى عنده وذمَّ ولكن
…
ذَمُّ مثلي من مثله ليس يجدي
شاتماً ملء فيهِ في معرض الهز
…
لِ ووالله لم يرم غير جدِّ
مُسبلاً دمعهُ كأنَّ حبيباً
…
بعد قربٍ رماهُ منه ببعدِ
مبدياً من حرارة القهرِ ما لو
…
حلَّت الكونَ لم يكن كُنهَ بردِ
وبدا مغرماً كأن بشَتمي
…
آدميٌّ غدا بصورةِ قردِ
والذي أوجبَ التَّخاصم أني
…
كنت قدْماً منحته صفوَ وُدِّي
ثمَّ كلَّت قريحتي عن مديحٍ
…
فاستعارت له حديقة حمدِ
ورآها من بعد حولٍ وشهري
…
ن بدرجٍ قد كان من قبلُ عندي
فبدا منه ما بدا وسقاني
…
وتحسَّى من أكؤسِ الذمِّ وِردي
وعلى كلِّ حالةٍ سيِّدُ الأح
…
كامِ أرجو وما سواه تَعدِّ
ولما دار هذا القول، وهدر القوم هدر الشول.
كتب السيد أحمد بن النقيب يداعب البديعي بهذه الأبيات، المخصوصة هنا بالإثبات. وهي قوله:
مولايَ يوسفُ إن يقولوا سارِقٌ
…
للشِّعر فاحذر أن تضيق وتضجَرا
هذا نبيُّ الله يوسفُ قيل قد
…
سرق الصُّواعَ وكان قولاً مُفترَى
لك من فرائدِكَ الشَّواردِ شاهدٌ
…
عدلٌ يردُّ الخصمَ عنك محيَّرا
فإذا تناشدها العداةُ وأبصَروا
…
من حسنِها ما لم يكنْ متستِّرا
ذَهلوا عن الأيدِي ولكن قطَّعوا
…
أكبادَهُنَّ تلَهُّفاً وتحسُّرا
وللبديعي يودع ابن الحسام، حين فارق الشام، بعد انفصاله عن قضائها، وتوجه إلى مركز عِزَّه، ويعتذر إليه عن تخلُّفه عنه:
أُحاشيهِ عن ذِكرى حديث وداعِه
…
وأُكبِرُه عن بثِّه وسماعهِ
وما كان صبري عند وَشْك النَّوى على ال
…
جوى غير صبرِ الموتِ عند نزاعِهِ
ونحنُ بأُفقِ الشَّامِ في خدمةِ الذي
…
يضيقُ الفضا عن صدرهِ واتِّساعهِ
أجَلُّ حماة الدِّنِ وابنُ حسامهِ
…
وحامي حِمى أركانِهِ وقطاعِهِ
عشِيَّة توديع المآثرِ والعُلى
…
وكلُّ فخارٍ للورَى في رِباعِهِ
وما سرتُ عن وادي دِمشقَ ولم يسرْ
…
وسُؤدُدُه في مُدْنِهِ وضياعِهِ
سوى أنَّني لا أرتضِي أن أرى بهِ
…
سواهُ على أعيانهِ ورِعاعهِ
فأيُّ فؤادٍ بعد يومَ رحيلهِ
…
غدا سالماً من وجدِه وانصداعِهِ
قيا أيُّها السَّارِي عن الشَّامِ بعدَما
…
ثوى عدلُهُ في قاعهِ وبقاعهِ
ويا قادماً بل راحلاً عن بلادِنا
…
وفي كلِّ أرضٍ نيِّرٌ من شعاعِهِ
فلا تنسَ عبداً نازِحاً شاع ذِكرُه
…
إلى بابِكَ السَّامي علا بانْقطاعِهِ
ومن كانَ للأُسْدِ الضَّواري انتماؤُه
…
له غُنْيةُ في دهرِه عن ضياعِهِ
وأنت الذي نوَّهتُ من قبلُ باسمِه
…
وأبقيْتُ ذِكراً خالداً باصطِناعِهِ
وله من قصيدة، يمدح بها النَّجم الحلفاوي، مطلعها:
أتى زائراً وهْناً ولم يخشَ عاذِلاً
…
ونورُ ذُكاءِ الأُفقِ سار مراحِلا
وجادَ بما لو رُمْته من خالهِ
…
لكانَ لما أوْلى من الوصلِ باخِلا
حبيبٌ لو أنَّ البدرَ أصبحَ حائزاً
…
ضِياءَ مُحيَّاهُ لما زال كامِلا
رشيقٌ كخطوط الخيزرانِ ما انثنَى
…
وما مالَ إلا وانثنَى القلبُ مائِلا
يحرِّك بالأعطافِ أجنحةَ الهوى
…
إذا حَرَّكَتْ من فوقهِنَّ الغلائِلا
فبِتُّ أعاطيهِ سلافَ مُدامةٍ
…
ترُدُّ الدَّياجي من سناهُ أصائِلا
إذا بزَغتْ من راحتيهِ بدا من السَّ
…
رورِ لنا ما كان مِن قبلُ آفِلا
إلى أن نضَا ثوبَ الشَّبابِ الدُّجى وقد
…
غدتْ زُهرُه إلا قليلاً أوافِلا
وذو الرَّعثاتِ الحمرِ هبَّ كأنَّما
…
عليه ضِياءٌ شامَ مَناضِلا
الرَّعثات: جمع رعثة، ورعثة الدِّيك عثْنونُه.
قال الشاعر:
من صوتِ ذي رَعَثاتٍ ساكِن الدارِ
فكبَّر مولاهُ وهلَّلَ إذ رأى
…
هزيعَ الدُّجى الزِّنجيِّ أدْبر راحِلا
وقام بجيشٍ من ذويه كأنَّه
…
وإياهم كِسرى يحثُّ القبائِلا
على قضُبِ العقيانِ يمشي مجلبباً
…
جلابيبَ مثل الروضِ ما زالَ حافِلا
فسرْنا إلى نادٍ رحيبٍ سماؤهُ
…
تريكَ بدوراً مشرقاتٍ كوامِلا
إلى منزلٍ للأُنسِ فيهِ منازلٌ
…
بهنَّ غدا حسناً يفوقُ المنازِلا
حكى دنِفاً أحشاؤُه قد تضرَّمتْ
…
بنارِ الأسى لو كان يشكو البلابِلا
به يبذُل الحسنَ المصونَ لمن بهِ
…
وفي غيرهِ لو كان ما كانَ باذِلا
ترى جدرَه كالعاشقينَ من الجوى
…
غداةَ النَّوى تُبدي دموعاً هواطِلا
لقد شادَه نجمُ الهِدايةِ واحدُ ال
…
أفاضِلُ في الشَّهباءِ طولاً ونائِلا
منها في المديح:
وكم نمَّقتْ أفكارُه غلسَ الدُّجى
…
رياضاً سقاها الفضلُ طلاًّ ووابِلا
حدائقُ لم يكسُ الهجيرُ نظيرها
…
ذبولاً وقد تلقى الرِياضَ ذوابِلا
عرائِسُ تلقاها بضافِي ثيابِها
…
فإن لاحَ ما فيهنَّ قلتَ ثواكِلا
تُجيبكَ عمَّا رمْتَ وهي صوامتٌ
…
ومن ذا رأى خرسا تُجيب المُسائِلا
بدائِع فكرٍ للأواخِر وطَّدتْ
…
محاسِن ذِكرٍ تستقلُّ الأوائِلا
ألمَّ في هذه القطعة بقول السري الرفاء، في وصف الكتب:
عندِي إذا ما الرَّوضُ أصبحَ ذابِلا
…
تحفٌ أغضُّ من الرياضِ شمائِلا
خُرسٌ يحدِّثُ آخرٌ عن أولٍ
…
بعجائِبٍ سلفتْ وكنَّ أوائِلا
سُقيتْ بأطرافِ اليراعِ ظهورها
…
وبطونُها طلَاّ أجمَّ ووابِلا
وتُريكَ ما قد فاتَ من دهرٍ مضى
…
حتى تراهُ بعينِ فكرِكَ ماثِلا
وله في الشيب:
يقولُ ليَ الشَّيبُ وقد راعني
…
منه سنًا قد أبادَني الوسَنا
إلى مَ لا ترعوي ألستَ ترى
…
قد لبستْ كلُّ شعرةٍ كفنا
وله فيه أيضاً:
وسائِلةٍ حالي وقد ودَّع الصِّبا
…
ولاحتْ نجومُ الشَّيبِ في الرأسِ تُزهرُ
وما حالُ من يغدو ومن فوق رأسِهِ
…
مدى عمرِه لا زالتْ البيضُ تشهرُ
محمد بن نور الدين الشهير بابن الدرا هو لمشامِّ الأرواح شمامة، وكأنَّه زهرةٌ تفتحت عن كمامة. بزع في أفق دمشق وبها برع. وما أتحققه إلا في بحبوحة الترف ترعرع.
فمرة يتشبه بالبدر إذا أقمر، وتارةً يتمثَّل بالغصن إذا أثمر.
وهو في لطف الشمائل، بمثابة نور الخمائل. ترقرق عليه ماء القبول، فنظم ما هو أرقُّ من نسيم القبول.
وشعره يكاد من كثرة مائه يتقطر، ويكاد القلب من غرامياته يتفطر. ولأجل أنَّه من أشعار الصِّبا، وهي كما قيل التمر باللِّبا. رق رقة دين الفاسق، وشقَّ عليه قلبه العاشق.
وأنا من منذ ولعت بالشعر، وساومت منه من سوق الرقيق كلَّ غالي السِّعر.
شغِفٌ به وبشعرِه
…
شغفَ المحبِّ بمن يحبْ
أتفكه بيانع ثمره، وأعدُّه من ليلي ومن سمرِه. وقد أتيتُ منه بما أسأل في وجنة الدهر غرةً ماء الحسن فيها مترقرق، وحسبك من شعرٍ إذا ما غنَّى به النبت الهشيمُ يورق.
فمنه قوله في قصيدةٍ، مطلعها:
ساقٍ أغنُّ وروضةٌ غنَّاءُ
…
ومُدامَ كرخِيَّةٌ صهباءُ
يسعى بها طوراً ويجلس تارةً
…
فيديرُها من لحظِه الإيماءُ
رشأٌ تجاذبتِ المحاسنُ خلقهُ
…
حتى لودَّتْ أنَّها أعضاءُ
خطَّار قامتِه الرطيبةِ ما انثنَى
…
إلا استلذَّتْ فتكةَ الأحشاءْ
وشموسُ طلعتِ حسنِه مذ أسفرتُ
…
حمدتْ أُفولَ عقولِها العقلاءُ
في جنحِ طرَّتهِ وصبحُ جبينِه
…
نعمَ الصَّاحُ وحبَّذَ الإمساءُ
أفديهِ إن أخذَ الطِّلا منهُ وقد
…
دعتِ الكرَى أجفانُه الوطفاءُ
يحبوكَ من تحفِ الحديثِ لطائِفاً
…
هي عنديَ الأكوابُ والنُّدماءُ
منها:
حتى إذا أذكى الحياءُ بخدِّهِ
…
لهباً بهِ تتلهَّبُ الأحشاءُ
واحمرَّ قلبُ عقاربِ الصُّدغينِ وان
…
هلَّتْ بلؤلؤِ عقدِها الجوزاءُ
فوقفتُ أحيرَ من مناطِق خصرِه
…
متوسِّلاً ودعائِي استصحاءُ
فانزاحتِ الجوزاءُ نحوَ غروبِها
…
وبدا لشمسِ جبينِه لألاءُ
ورنا إليَّ ملاطِفاً بعتابِه
…
ويزينُه أدبٌ له وحياءُ
منها:
فوحقِّ إفحامِي بما أملاهُ لي
…
ولأنَّني تعنو ليَ الفصحاءُ
لم أعدو ما أسدَتهُ لي حسناتُه
…
أنَّى وكلِّي في هواه وفاءُ
لا بل عليَّ من العفافِ وصونِه
…
وعلوِّ منصبِ حسنِه رقباءُ
ما ثمَّ غير تلاثمٍ وتعانقٍ
…
ويديَّ مفرشُ جيدِه وغطاءُ
وفمي على فه وأشكوهُ الظَّما
…
ظمأٌ جناه لقلبيَ الإرواءُ
حتى إذا أفضتْ أفاويهُ الصَّبا
…
وأتتْ تكلِّلُ ذيلها الأنداءُ
وبدا الكرى يسطو على إحساسِه
…
ورقى إلى أجفانِه الإغفاءُ
عطسَ الصَّباحُ فهبَّ يمسح نعسةً
…
لم يشفِها من مقلتيهِ لقاءُ
قلت: قال المرزوقي في شرح الفصيح: عطِس: فاجأ من غير إرادة، ومصدره العطس، والعُطاس الاسم، جعل كالأدواء. يقال: أرغم الله معطِسه. وعطِس الصبح والفجر، على التشبيه.
قلت: كما في قول ابن الوردي:
قلتُ لهُ والدُّجَى مولٍّ
…
ونحنُ في الأنسِ والتَّلاقِي
قد عطِس الصُّبحُ يا حبيبي
…
فلا تشمِّتْهُ بالفراقِ
ومثله عطاس الدهر، كما في قول الغزي:
كم من بكورٍ إلى فخرٍ ومنقبةٍ
…
جعلتَهُ لعطاسِ الدَّهرِ تشميتا
وله من أبيات، أولها:
عطفتُ على ودِّ الهوَى وولاتِه
…
وأخلصتُ أسراري لحفظِ إخائِهِ
وما ذاك إلا أن حبانِي بشادنٍ
…
يقطِّعُ أكبادَ الجفا بوفائهِ
رخيمُ معانِي الدلِّ أدمثُ من رُوا
…
نعيمِ خدودِ الغانياتِ ومائهِ
سقيمُ حواشِي الطرفِ والخصرِ عزَّ أن
…
يلوحَ لرأيِ العينِ بندُ قبائهِ
غلامٌ كأنَّ الله ألبسَ خدَّهُ
…
لِثامَ ورودٍ مذهباً بحيائهِ
وأودعَ جفنيهِ من السِّحرِ صارماً
…
تلوحُ المنايا منهُ عندَ انتضائهِ
فكم من فؤادٍ في وطيسِ غرامهِ
…
جريحٍ بهِ مخضوبةٍ بدمائهِ
وللحسنِ بل لله بانة قدِّهِ
…
إذا عبثتْ فيها طلا خيلائِهِ
يصوِّبها نحوي فيوهمنِي المنَى
…
أداءَ سلامٍ خصَّني بأدائِهِ
وما هو إلا أن تحقَّقَ أنَّ لي
…
بقية روحٍ سلَّها باثْنائهِ
إلى اله أشكو أرقمَاً فوقَ جيدهِ
…
يجوسُ خلالَ الفكرِ حال اختفائهِ
ومهما بدَا من وكرِه وهو يلتَوي
…
لوى كلَّ عضوٍ مستهاماً بدائهِ
وله من قصيدة في الغزل، مستهلها:
إليكَ شقيقي في الصَّبابةِ أندبُ
…
أواناً به كنَّا نلذُّ ونطربُ
أوانَ امتطينا فوقَ زهوٍ مضمَّراً
…
له قصباتُ السَّبقِ أيانَ يلعبُ
حملْنا على جيشِ الهمومِ فلم ندعْ
…
به منه إلا ما يوارِيه مهربُ
ولا رمحَ إلا من قوامٍ مهفهفٍ
…
ولا سهمَ إلا ما أراشتْهُ أهدبُ
ولا مرهفٌ من غير ساجٍ مدعَّجٍ
…
ولا درعَ إلا ثوبُ حسنٍ مذهَّبُ
نصِرنا به مذ منَّ بالوصلِ شادنٌ
…
صدوقُ الأمانِي في ترجِّيهِ يكذبُ
رقيقُ حواشي الحسنِ لولا مهابةٌ
…
له كادَ بالألحاظِ حاشاهُ ينهبُ
لطلعتِه في كلِّ قلبٍ مشارِقٌ
…
وللعقلِ منها حين تشرقُ مغرِبُ
خبيرٌ بأحكامِ الهوَى فجميع ما
…
ينمِّقهُ الواشي لديهِ مكذَّبُ
وإذ كانَ مجبولَ الخلالِ على الوفَا
…
خليلكَ فاللَاّحِي عليهِ معذَّبُ
وله مضمِّناً بيت المهيار:
فتنتُ بهِ والصُّبحُ من فرقِ شعرِه
…
بدَا ولشمسِ الرَّاحِ فيها غروبُ
فكدتُ لِما شاهدتُ لولا طُلوعُها
…
بمشرقِ أفقِ الخدِّ منه أذوبُ
ولولا طلوعُ الشمسِ بعد غروبِها
…
هوتْ معها الأرواحُ حين تغيبُ
وله مضمِّناً:
لقد علقتُ ببدرٍ زانهُ حورُ
…
في مقلتيهِ بهِ يسطو على المهجِ
وأهلهُ لم تزلْ تغريهِ في تلفي
…
وكلَّما زادَ تيهاً زاد بِي وهجِي
فليصنعوا كلَّما شاءوا لأنفسِهِم
…
همْ أهلُ بدرٍ فلا يخشونَ من حرجِ
تذكرت هنا قول أيمن بن محمد السعدي، من موشَّح أودع فيه هذا البيت:
لولا هواكَ المرادُ
…
ما كنتُ ممنْ يُصادُ
ولا شجانِي البعادُ
…
يا بدرُ أهلُكَ جادوا
غلِطتُ جاروا وزادَا
…
لكنَّهم بكَ سادُوا
فليفعلوا ما أرادوا
…
فإنَّهم أهلُ بدرُ
ومن مبدعاته قوله:
ليس إلى الكيمياءِ منتسِباً
…
من باتَ من حرِّ نارِها موهَجْ
حتى استحالتْ أجزاؤها ذهبَاً
…
بل من يعيد العقيقَ فيروزجْ
قلت: لله درُّه، ما أبدع درَّهُ! وقد أخذ هذا المعنى شيخنا عبد الغني النابلسي، فقال:
قولوا لأهلِ الكيميا إن تدَّعوا
…
جعلَ اللُّجينِ كما زعمتُمْ عسجدَا
بالله هل في وُسعكمْ أن تصبِغوا
…
حجر العقيقِ فتجعلوهُ زبرجدَا
وللإشبيلي ما يقارب هذا في نار:
لابنه الزَّندِ في الكوانين جمرٌ
…
كالدَّراري في اللَّيلة الظَّلماءِ
خبِّروني عنها ولا تكذبوني
…
أسِواها يكونُ للكيمياءِ
سبكتْ فحمُها صفائحَ درٍّ
…
رصَّعتها بالفضَّة البيضاء
وله خمسة أبيات، كالخمسة السيارات، يخرج من أوائلها اسم عثمان، وهي:
على كلِّ عضوٍ فيَّ دارت لحاظهُ
…
كؤوس غرامٍ قد مُلئن من السِّحرِ
ثملْتُ بها وجداً ولم أصح صبوةً
…
فها أنا بين الصَّحو حيرانُ والسُّكرِ
معاذ الهوى أن يُرتجى من يدِ الهوى
…
خلاصي وأن يُقضى بغيرِ الهوى عمري
أإن كان لي عن مذهب الحبِّ مذهبٌ
…
فلا برحت روحي تعذَّبُ بالهجرِ
نعمتُ بهذا العيش والموت دونهُ
…
إذا كان يرضيه ولو كنتُ في أسرِ
وله من رائية ملئت بنوافث السحر، وغازلت عيون المها بين الرصافة والجسر:
أما وظبا الألحاظِ أرْهفها السِّحرُ
…
وجال فرنداً في جوانبها الخمرُ
فصالت بفتكٍ جاوز الحدَّ حدُّها
…
على أنَّها مرضى وأجفانها فترُ
وزانةِ قدٍّ ثقَّفتْها يد الصِّبا
…
ولم يُثنها إلا من الصَّلف السُّكرُ
فجارت على الأحشاء فتكاً وإنها
…
لعادلةٌ بل لا يُلمُّ بها وزرُ
وعهدٍ بأيدي الوصل كان لنا به
…
مبايعةٌ حيَّ مرابعه القطرُ
وحقِّ مواثيق الهوى بين أهله
…
وعذب إشاراتٍ لهم دونها السِّحرُ
لقد وضحتْ للحسن في التُّرك آيةٌ
…
على من عداهم مثل ما ابتسم الفجرُ
فكم فيهم من كل أحورَ إن رنا
…
أصاب فؤاد النُّسك يتبعه الصَّبرُ
له حركاتُ الظَّبي يمرح عابثاً
…
ويمشي الهوينى ثمَّ يدركهُ النَّفرُ
وذي طرَّةٍ من فوق صلتٍ كأنها
…
حواشي الدُّجى قد عنَّ من تحتها البدرُ
تبدِّدها منه الرُّعونة غافلاً
…
ولكن على تبديدها جُمع الشَّرُّ
وخصرٍ ولكن لا مسمَّى لكنْهه
…
مناطقه حيرى وما تحتها مرُّ
يُناجي معانيه الدَّفين من الهوى
…
فينهضُ من بعد الممات له نشرُ
تعلَّقتهُ من بعد ما اندمل الحشا
…
ولم يبق نَهيٌ للغرام ولا أمرُ
فيا ويح هذا القلب كم طعن الهوى
…
ويعلم أن الحلوَ منه هو المرُّ
فياربِّ إما لجَّ في غُلوائه
…
فصبِّره للبلوى فقد برَّح الضرُّ
وجمعته مع مليحٍ ليلة، يشتهي الفلك في شبهها نيله.
والمجلس بتزاحم الرقباء شرق، وكلٌّ منهم من فرط غرامه صبٌّ أرق.
فلاحت من المليح إيماءة مفتقد، أعقبتها وجلةٌ من ناظرٍ منتقد.
فلم يتمالك الشيخ أن صوب النظر، حتى كاد يفضي به إلى الأمر المنتظر.
فلما استشعر الغلام عطف عطفة مشفق، وأراه في ضمن إغضائه موعد مرفق.
مشيراً للكتمان تارةً بانطباق جفنٍ ملئ سحراً، وآونةً بإظهار ثنايا أبانت فوق ياقوت الشفاه درًّا. فقال:
قلتُ له والهوى بيننا
…
يطوف بالكأس الهنيِّ المري
اكفف حسامَ اللَّحظِ عن مهجةٍ
…
ذابت لريَّا ريقكَ السُّكري
فأغمد الهنديَّ من جفنه
…
ورصَّع الياقوت بالجوهرِ
وله، ويخرج منه اسم بكري بطريق التعمية:
لوى واوَ صدْغٍ خاله الخال عقرباً
…
أصاب بها كبدي الصَّديع ولا يدري
ولا بدَّ من رشفٍ يبلُّ غصونها
…
فما شفَّ قلبي غيرُ منع لمى الثَّغرِ
طريقة حله، أن الواو بالحساب الهندي بستة، وترسم هكذا 6وأراد بليها قلبها، فتصير هكذا 2، وهذا رسم الاثنين؛ وله الباء.
وأراد بقوله كبدي ولا بد، الكاف والياء؛ ورشفٍ يبل غصونها الراء، وبالتنصيص عليه بقوله: فما شفَّ.
وكون العمل في البيت الأول دون الثاني، أو الآخر، أو فيهما، مما يعاب عند أهل هذا الفن.
لك الله دعني من حديثك إنَّه
…
متى غبت تشقى من سواه المسامعُ
وصنْ رونقَ الوجه البديع جماله
…
فإن لحْت حاضت في الجفون المدامع
المعنى: أنك إذا لحت سالت العيون دماً، لشدة شغفها بك، ففيه استعارة تبعية أو مكنية.
شبه المدامع بالنساء، والمرأة إذا اشتدت شهوتها وأفرطت سال حيضها.
وأصله قول المتنبي:
خفِ الله واستُر ذا الجمال ببرقعٍفإن لحتَ حاضت في الخدود العواتق. والعواتق: هي الشَّوابُّ من النساء.
وله:
لحاظٌ كأن الله أودع جفنها
…
حياةً لأرباب الهوى وهلاكا
إذا فوَّقت سهماً يخطُّ دم الحشا
…
على نصله أهلاً جعلت فداكا
وله:
رأت نمل عارضه مقلتي
…
تحوم على الثغر من غير نهلِ
فسالتْ دماً ثم قالت لنا
…
ذَبحْت كراي على بيت نملِ
وله:
وقد زعموا أن القلوب بحبَّةٍ
…
تصاد وقالوا إنها حبَّة الخالِ
ولكنَّه قد صاد قلبي بحبِّه
…
بلا حبَّةٍ ربُّ الولا صاحب الخالِ
وله:
ويح قلبي من ظالمٍ لم يبال
…
بذَهاب النفوس تحت النِّعالِ
ما بدا للعيون إلا رأته
…
مرهفاتٍ وأسهماً وعوالي
لا ترم وصله فقد قطعت بي
…
ضُ سرار الجبين رأس الوصالِ
تناوله من قول الأمير المنجكي:
ألا دعني وشأني يا ابن ودي
…
ومحوي كلَّ شخصٍ من خيالي
أيقصد من أسرَّته سيوفٌ
…
طبعن لضرب أعناق السُّؤالِ
ولي من أبيات:
أمواج إحسانٍ أسرَّة وجهه
…
لصديقه وسيوف بأسٍ للعدى
وله:
وكنت أصون الدَّمع عن أن أذيله
…
إلى أن دنا يوم التَّرحُّل لا كانا
فقلَّدتها يوم الوداع بلؤلؤٍ
…
أحالته أنفاس التَّحرُّق مرجانا
وله:
ألزمت نفسي الصَّوم عن شادنٍ
…
كالبدر يستوعبه النَّاظرون
آليت لا أفطر إلا على
…
وجه هلالٍ ما رأته العيون
وله:
وحقُّ هوى مصافحةِ المنايا
…
أخفُّ عليَّ منه باليدينِ
إذا فكَّرتُ فيه لمست رأسي
…
كأني موقنٌ بهجوم حيني
أصل هذا قول أبي نواس في الأمين بن الرشيد:
إنِّي لصبٌّ ولا أقول بمن
…
أخاف من لا يخاف من أحدِ
إذا تفكَّرت في هواي له
…
ألمس رأسي هل طار عن جسدي
وهذا النوع من البديع سماه المبرد في الكامل والتبريزي في شرح ديوان أبي تمام الإيماء.
وهو إما إيماءٌ إلى تشبيه، كقوله:
جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذِّئب قط
أو إلى غيره.
قال الشهاب في كتابه الطراز: وكنت قبل هذا سميته طيف الخيال، وهو أن ترسم في لوح فكرك معنًى صوَّرته يد الخيال، فتصبه في قالب التحقيق، وترمز إليه بجعل روادفه وآثاره محسوسة ادِّعاءً، كما أن ما يلقى إلى المتخيلة في المنام يرى ذلك، ولا يلزم من ابتنائه على الكناية والتشبيه أن يعد منهما، لأمرٍ ما يدريه من له خبرةٌ بالبديع.
وفي كتاب الإشارة لابن عبد السلام، من المجاز تنزيل المتوهم منزلة المحقق، كقوله: تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ، أي في حسبان رائيها.
ومثله من الشعر قول أبي نواس. وأنشد البيتين.
وللمتنبي في منهزم:
ولكنَّه ولَّى وللطَّعنِ سورةً
…
إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا
المنازي:
تروع حصاهُ حاليةَ العَذارى
…
فتلمس جانبَ العِقدِ النَّظيمِ
المنجكي في وصف خط:
لو شامَ ذو الخالِ نقط أحرفهِ
…
لراح باليدِ لامسَ الخدِّ
ولشهاب:
للهِ نهرٌ صفا فأبصرَ من
…
يقوم في جنبِ شطِّه سمكه
يمدُّ كفًّا له ليأخذها
…
يظنُّ نسجَ الصَّبا لها شبكه
وهو مأخوذ من قول عمر المحَّار:
انظر إلى النَّهرِ في تطرُّدِه
…
وصفوهِ قد وشَى على السمكِ
توهَّم الرِّيح صفوهُ فغدا
…
للنَّسجِ فوق الغديرِ كالشبكِ
قلت: ثم رأيت الشهاب ذكر بيت أبي نواس في آخر الريحانة، وقال: لقد تلطَّف وأغرب في قوله أمسُّ رأسي؛ لجعله ما يترقبه واقعاً به، حتى فتش عن رأسه، وجسها بيده، ليعلم هل قطعت أم لا.
وهذا كقول المنازي. وأنشد البيت. وفيه التعبير عن المقال بالفعال، كقوله:
ويشتمُ بالأفعالِ قبل التكلمِ
ومثله قول ابن رشيق:
قبَّلني محتشِماً شادنٌ
…
أحوجُ ما كنت لتقبيلِهِ
أومأَ إذ حيَّا بنا رنْجةً
…
عرفتُ منها كنهَ تأويلِهِ
لما تطيَّرتُ بمعكوسها
…
ضمَّت بناناً نحو تقبيلِهِ
قال: وهذا لم أر من ذكره، وهو مما استخرجته، وسميته نطق الأفعال. انتهى.
ولابن الدَّرَّا مذيِّلاً بيتي الحتاتي، اللذين أعار بهما ساحة الشرفين صفحه، وساق بهما إلى الورد العالي نفحه.
ومما قاله:
بصبا المرجةِ المبلَّلِ ذيلُه
…
علِّلِ القلبَ علَّ يبردُ ويلهْ
وادَّكرْ يومنا بيومي حبيبٍ
…
سلفا والسُّلاف تركض خيلهْ
ونديمٍ رقَّت حواشيه لطفاً
…
وبحكم الهوى تحجَّب نيلهْ
سمهريِّ القوامِ ما ماسَ تيهاً
…
أو دلالاً إلا وأتلفَ ميلهْ
ذي محيًّا كالبدرِ في جنحِ ليلٍ
…
باختلاسِ العقولِ قد جنَّ ليلهْ
جئت من تحتِ ذيلهِ مستجيراً
…
والتَّجنِّي عليَّ يسحب ذيلهْ
قلت يا من في حلبةِ الحسنِ قد حا
…
زَ السَّبق حيث الجمال تركض خيلهْ
الأمان الأمان من حربِ إعرا
…
ضِكَ عن مغرمٍ تراكم ويلهْ
ومن مجنونه المستغرب، قوله:
لنا صاحبٌ مغرًى بعونِ ذوي الهوى
…
يشاركهم في وجدِهم والتَّولُّهِ
إذا عزَّ أن يلقى محبًّا رقى على الشَّ
…
واهقِ يستقري دخان التَّأوُّهِ
وله في المنزلة المعروفة بالوجه، في طريق الحاج المصري:
شكا أهلُ وجهٍ قلَّة الماء بأرضهم
…
وأنَّ الحيا شحَّت عليهم سماؤُهُ
فقلت لهم قولاً لهم فيه سلوةٌ
…
إذا قلَّ ماء الوجهِ قلَّ حياؤُهُ
المصراع الأخير مضمنُ من قول القيراطي في هذا المحل:
أقول وقد جِئنا إلى الوجهِ جمعنا
…
عطاشاً وكلٌّ خاب فيهِ رجاؤُهُ
إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ
…
ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤُهُ
قلت: ووجه الهجو للوجه، بسبب قلة مائه هو الوجه.
وللقطب المكي في مدحه:
أقولُ ووادي الوجهِ سال من الحيا
…
وقد طابَ فيهِ للحجيجِ مقامُ
على ذلك الوجهِ المليحِ تحيَّةٌ
…
مباركةٌ من ربِّنا وسلامُ
وللقيراطي فيه:
أتيتُ إلى الحجازِ فقلتُ لمَّا
…
تبدَّى وجههُ لي وارتويتُ
وكم في الأرضِ من وجهٍ مليحٍ
…
ولكن مثلُ وجهكَ ما رأيتُ
وهذا قد ظهرت فيه الوجهة، واندفعت عنه الشبهة. وبهذا تعلم مذهب العرب، وأهل الأدب، في مدح الشيء وذمه، كما فعل الحريري في الدِّينار.
وقد ألف الثعالبي، وابن رشيق في ذلك. قال ابن رشيق: أكثر ما تجري هذه المحامد والمذام على جهة المسامحة، لا من باب المشاححة؛ وإلا فالشيء لا يوافق ضده، فيكون الحسن قبيحاً والقبيح حسناً في حالٍ واحدة لمعنى واحد، لكن لكل شيءٍ كما ذكر الجاحظ مساوٍ ومحاسن، كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استشهده الزبرقان ابن بدر على ما ادعاه من الشرف في قومه.
قال عمرو: أجل يا رسول الله، إنه مانع حوزته، مطاعٌ في أدنيه، شديد العارضة.
فقال الزبرقان: أما والله لقد علم أكثر مما قال، ولكن حسدني وشرفي.
قال عمرو: أما وقد قال ما قال، فوالله ما علمته إلا ضيق العطن، زمر المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى.
فرأى الكراهة في عين النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف قوله، فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى ولا قد صدقت في الثانية.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً، وإنَّ من الشعر لحكمةً ".
ولقد أحسن ابن الرومي، حيث قال:
في زخرفِ القولِ تزيينٌ لباطلهِ
…
والحقُّ قد يعتريهِ بعضُ تغييرِ
تقولُ هذا مجاجُ النَّحلِ تمدحهُ
…
وأن تعبْ قلتَ ذا قيءُ الزَّنابيرِ
مدحاً وذمًّا وما جاوزتَ حدَّهما
…
سحرُ البيانِ يُري الظلماءَ في النُّورِ
عبد الباقي بن أحمد، المعروف بابن السَّمَّان زهرة النَّاظر المتنشِّق، وزهرة المجتلِي المتعشِّق.
مسَحتْ خلالُ قذى العيون؛ فما رأته إلا وهي نقيَّة الجفون. تتستَّر الملاحةُ في غلائله، وتتقطَّر الرَّجاجةُ من شمائله.
يَعشقُه من كمالِه غَدُهُ
…
ويكثِر الوجدَ نحوه الأمسُ
وله طبع كالروض صقلت يد الصَّبا ديباجة وجهه الوسيم، تتلَّقى النُّفوس من قبوله تلقِّي المخمور برد النَّسيم.
غرائب حديثه نُزه العقول ونجع الأسماع، يتجاوز بها غاياتٍ لم تختلج في خواطر الأطماع. وشعره يفعل بالألباب فعل بنات الدِّنان، وما السحر سحر مِراض الأجفان، ولكنَّما هو سحر البيان. وذكر مبدأ أمره، ومطلع قصيدة عمره. أنه تعاطى الاشتغال وخط غداره ما بَقَل، ثم خرج إلى مصر وروضه على أول ما ينزه المقل. ثم تتابعت عليه الرحل يميناً وشمالاً، وهو يترقى في المعارف استيلاءً واشتمالاً. ولم يبق بلدةً إلا جنى ثمرها، واستفاد وقائعها وسمرها. ولا رئيس إلا فاز بنعمه، وحصل على غرائب قسمه.
حتى وصل إلى مجلس السلطان في خاتمة المطاف، فأقام برهةً في مبراتٍ وألطاف. وقد خطبته الحظوة، وما قصرت له الخطوة. ولحظته السعادة بأبصارها، وتواردت لحفايته بأنصارها.
ثم كثر فيه المخلط واللاغي، واشرأبت النفوس إلى ما في طبائعها من التباغي.
فأبعد بعد ذلك التقريب، وأوشك أن يجفوه البعيد والقريب. وجربه الدهر بالأقدار، تجربة الياقوت بالنار.
ثم أعطي مدرسةً بدار الخلافة، فطاوعه البخت بعدما أراد خلافه. واستقر الأمل لديه، استقرار الطِّرس في يديه. ولما كنت بأدرنة وردها فلقيته برهةً، لا أعدها من عمري إلا نزهة.
وكنت من الاغتراب، في نهاية الوحشة والاضطراب. فأنست به بعد التوحش، وأنسيت مورداً أرواني من التعطش. ولما كان مقامه بها كنغبة طائرٍ على وجل، لاهتمامه بالعود إلى مقره على عجل.
لم أستتمَّ عناقهُ للقائهِ
…
حتى ابتدأت عناقهُ لوداعهِ
فكتبت إليه عند الوداع، رقعةً محكمة الإبداع. وهي:
إمامك التَّوفيق والرُّشدُ
…
وخدنك التَّأييدُ والسعدُ
وكلَّما حلَّيت في منزلٍ
…
قابلك الإقبالُ والجدُّ
مولاي من ذكره أنيسي، في وحشتي وغربتي، وخيال لطفه جليسي، في وحدتي وكربتي.
أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهمُ
…
مثل القذى مانعاً طرفي من الوسنِ
لا زالت مقاليد السعادة طوع يديك، ومرقاة السيادة مشغوفة بلثم قدميك. والعمر المديد، والطالع السعيد.
هذا حشو ثيابك، وذا خادم ركابك.
فارحلْ لك البشرى فأيمنِ طالعٍ
…
وعلى السلامة والسَّيادة فانزلِ
يشهد الله أنني من منذ شدَّت الركاب، وأزفَ البين بفراق الأحباب. صرت مقسَّماً بين نفسٍ مقيمةٍ بكربها، وروحٍ رهينةٍ في ركابها. على أن النَّفس وإن أقعدها الدهر قسراً، لم تقعد عنك ساعةً فكراً. ولا غبت إلا على عيون الإقبال في إغماضها، وعلى نفوس الآمال في انقباضها. حيث رماني الزمان، بسهام الحرمان.
وإنَّ من أعظمِ البلوَى أخا لسَنٍ
…
يبيتُ ضيفاً لعجمٍ في الورَى خُرَسِ
والى الله أرفع قصتي، وأبتهل إليه في دفع غصَّتي.
عسَى اللهُ إنَّ الله ليس بغافلٍ
…
ولا بدَّ من يسرٍ إذا ما انتهى العسرُ
فاسأله سبحانه أن ييسر نيل المنى، ويزيل عنَّا هذا العنا.
ويطفئ نار الجوى، على رغم أنف النوى. لنكفر سيئة أليم الفراق، بحسن نعيم التلاق.
إن عادَ شملي بمن أهواهُ مجتمعاً
…
لا أعتِبُ الدَّهرَ يوماً بالذي صنعَا
ثم قدمت إلى القسطنطينية فأْتَلفت به ائتلاف روح، بجسد بالٍ مطروح. وامتزجت معه امتزاج، راحٍ بماءٍ قراح. ومضت لي معه أوقاتٌ عددتها من حسنات الزمان، وجعلتها تاريخ الأماني والأمان.
والأوقات لا تتفاضل بالذات، ولكن أوقات اللَّذَّات لذَّات. أتمتع من لفظه بائتلاف العقود، ومن مغناه بسلاف العنقود. حتى تولاه مولاه بعفوه ورضوانه، وقضى بتفريق شمل أخدانِه وإخوانِه. فأضحى كالظَّن المرجمِ، وخبره كاللفظ المرخَّمِ.
وقد فقدت به الوطر في نضرته، والعيش الذي يشفُّ عن نبي الرَّبيع في خضرته. وكان أعارني من فوائده صدراً وافياً، وأهدى إليَّ من فرائده قدراً كافياً. فعدمت من فضل ربيعها وورداً، وبقيت يعدها كالسَّيف فرداً.
فمما أخذته عنه من أشعاره التي أخذت بأطراف الحسن، وإذا تليتْ على محزونٍ سرتْ عن فؤاده الحزن، قوله من قصيدة، مستهلها:
يشوِّقنَا للدَّارِ ذِكرُ الحبائبِ
…
وينطقنا بالحمدِ فيضُ المواهبِ
وإنَّا لقومٌ لا نرى الحبَّ سبَّتاً
…
إذا ما رأتهُ سبَّتاً آل غالبِ
ولا نرهبُ الأقدارَ إلا إذا رمتْ
…
سهامَ المنايا من قسيِّ الحواجبِ
ولا نعذلُ الأحبابَ في الصَّدِّ والجفا
…
ولا نرتجي سلمَ العدوِّ المحاربِ
إذا كانَ قلبُ المرءِ ليسَ يطيعُه
…
فأجدرُ بالعصيانِ قلبُ الأجانِبِ
وليلٍ كقلبِ السَّامريِّ وظلِّهِ
…
كوكبُه لا تهتدي للمغاربِ
قطعتُ وأصحابي سُكارى من الكَرى
…
وقد ضمَّنا والزُّهرَ ثوبُ الغياهبِ
على ضامرٍ كالسَّهمِ سيراً ورقةً
…
فأبعدُ مطلوبٍ وأقربُ طالبِ
أحاول سبقَ الشُّهبِ في كلِّ حالةٍ
…
يداوِي بنعماهِ جروحَ النَّوائبِ
دفعنا بجدواهُ الخطوبَ وجودِه
…
وقد يدفعُ الدِّرياقُ سمَّ العقاربِ
همامٌ أتى في مجدِهِ وصفاتِه
…
وأفكارِه دونَ الورى بالعجائبِ
ومولًى يكادُ البحرُ يشبه جودَه
…
ولكنَّه كالشُّهدِ عذبُ المشاربِ
به تفخرُ الأيَّامُ والمجدُ والعُلا
…
إذا افتخرتْ أمثالُه بالمراتبِ
وتخشى نهاياتُ العواقبِ رأيهُ
…
إذا خافَ أهلُ الرأيِ سوءَ العواقبِ
وعلَاّمةٌ لو كانَ من قبلِ مالكٍ
…
لما اختلفتْ أقوالُ أهلِ المذاهبِ
بفكرٍ دقيقِ الفكرِ في كلِّ مشكلٍ
…
من الأمرِ كالسَّيفِ الرقيقِ المضاربِ
بعثتُ إليه بالقوافي كأنَّها
…
مقانبُ شكرٍ تهتدي بمقانبِ
ولولا صروفُ الدَّهرِ أهديتُ ضِعفها
…
مرصَّعةً بالنَّيِّراتِ الثَّواقبِ
ولكنَّها جهدُ المقلِّ وحملةُ ال
…
جبانِ على ضعفٍ ونارُ الحباحبِ
فسامِح وعامِل بالتي أنتَ أهلهُ
…
فعفوك عندي من أجلِّ المطالبِ
وقوله من أخرى يمتدح بها أخا الوزير الفاضل، وهو بتكريت:
بالنَّفسِ يسمحُ من أرادَ نفيسا
…
والحبُّ أولُ ما يكونُ رسيسَا
وأطارَ عنِّي النَّومَ طيفٌ طارقٌ
…
قطع القِفارَ وجاوزَ القاموسا
أفلحْتَ كيفَ وصلتَ لِلْوَنَدِيكِ من
…
أقصَى البلادِ وجئتَها جاسوسا
أم كيف خلَّفتَ الشَّآمَ وأهلَهُ
…
وتركتَ وادِي النيْيرَبِ المأنوسا
أرضٌ إذا سرَّحتْ طرفكَ خِلتها
…
روضاً يقِلُّ على الغصونِ شموسا
أن كانَ غيَّرها الزمانُ فإنَّني
…
أمسيتُ منِّي قبلها مأيوسا
والحبُّ أمرٌ حارَ فيهِ أٌلُو النُّهى
…
وأضَل بقراطاً وجالينوسا
كالدَّهرِ يلعبُ ما يشاءُ بأهلِه
…
يضعُ الرئيسَ ويرفعُ المرؤوسا
لا سامحَ الله النَّوى من كافرٍ
…
عبدٍ ولا رحِمَ الرَّحيمُ العيسا
ومهامةٍ قفرٍ يضِلُّ بها القطا
…
ويرى الدَّليلُ بسهلِها التَّغليسا
للجِنِّ في أقدارِها زجلٌ فلا
…
تلقى بها إنساً وليس أنيسا
العرب إذا وصفت المكان بالبعد جعلته مساكن الجن، كقول الأخطل:
ملاعبُ جِنَّانٍ كأنَّ تُرابها
…
إذا اطَّرَدَتْ فيها الرِّياحُ مُغَربَلُ
وقول ذي الرُّمَّة:
للجِنِّ باللَّيلِ في حافاتِها زجلٌ
…
كما تجاوَبَ يومَ الرِّيحِ عَيْشومُ
وهو نبت، أو شجر.
سايرتُ فيهِ النَّيِّراتِ بسابقٍ
…
يحكِي المهاةَ ويشبهُ الطَّاووسا
كالبرقِ مَرًّا والغَمامِ تأوُّباً
…
والمِسكِ نفحاً والنَّقا ملموسا
يُلقي الصَّواعقَ من حوافِرِه إذا
…
وَطِئَ الجنادلَ حين لاتَ وطيسا
نشوانُ كالبرجِ المشَيَّدِ فوقه
…
بطلٌ يجرُّ من المهابِ خميسا
متقلِّدٍ زُرقَ النِّصالِ كأنَّما
…
خُلِقتْ لتردِي الضَّارياتِ نُفوسا
نهبتْ من الأعمارِ ما بقيتْ به
…
وتجرَّعتْ ماءَ الحِمامِ بَئيسا
ترمي بها حَنْيَ الضُّلوعِ قواضِبٌ
…
كحواجبِ الغيدِ الخرائدِ شوسا
لو خالها الكُسَعِيُّ سحرة ليلةٍ
…
ذمَّ الحريصَ وأحمدَ التَّعريسا
أو صادمتْ صمَّ الجبالِ تصدَّعتْ
…
وبنتْ لكلِّ حديدةٍ ناووسا
وتسابقُ الأقدارَ منها أسهمٌ
…
تَفرِي الرُّجومَ ويرهب القابوسا
من حاذقٍ أو طارقٍ أم حاذمٍ
…
أو زاهقٍ لا يقبلُ التَّلبيسا
فكأنَّها أقلامُ أفضلِ من مشى
…
فوق الثَّرى وحوى الفخارَ رئيسا
فَرعُ المعالي خيرُ من بلغَ السُّهى
…
مجداً وسامى في العلا إدريسا
والفارسُ الكرَّارُ مغوارُ الوغى
…
ومعيدُ سعدِ المشركين نُحوسا
بالفضلِ أكدَّ ما الأوائلُ أسَّسوا
…
وأفادنا التَّأكيدَ والتَّأسيسا
ندعو بسطوتِه الزَّمانَ فيرعوي
…
فرقاً ونطرد باسمِه إبليسا
ونخطُّ أحرفهُ الكريمةَ رقيَةً
…
لشفاءِ ما أعيَى أرسطاليسا
يردِي الحسامَ بجسمِ من أردى بهَ
…
ويردُّ مبتسم الكُماةِ عبوسا
قد أنطقَ الإسلامَ صامتُ سيفِه
…
بعد السُّكوتِ وأخرسَ الناقوسا
يا من ثملتُ على السَّماعِ بحبِّه
…
وقرأتُ فيهِ من الغرامِ دُروسا
أنا من علمتَ وِدادهُ وجهِلتَهُ
…
وسيصحبنَّ لدى عُلاكَ جليسا
أغرقته بالجودِ قبل ورودِه
…
ثقةً ومثلكَ لا يكون خسيسا
لا زلتَ صدراً للصُّدورِ مقدَّماً
…
أبداً بحفظِ إلههِ محروسا
في عزِّ داودٍ ودولة يوسفٍ
…
وعلا سليمانٍ ورفقةِ عيسى
وقال يمدح الوزير الفاضل، وهو بتكريت، وكان دخوله إليها لأجل مدحه:
أخفُّ النَّوى ما سهَّلتهُ الرَّسائِلُ
…
وأحلى الهوى ما كدَّرتهُ العواذلُ
ولا ملحَ في عيشٍ إذا لم يكن له
…
حبيبٌ يجافي تارةً ويوصِلُ
ولا خيرَ فيمن حوَّلَ البعدُ قلبه
…
ولا في ودادٍ غيَّرتهُ العوامِلُ
وقفنا على الأطلالِ واللَّيلُ شائبٌ
…
وأعناقنا فوق المطايا موائِلُ
ولما رآها الدَّمعُ والَّدمعُ حائرٌ
…
أناخَ وحيَّا تربها وهو راجِلُ
هذا من قول أبي الطيب:
ولما رأينا رسمَ من لم يدعْ لنا
…
فؤاداً لعرفانِ الرُّسومِ ولا لبَّا
نزلنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً
…
لمن بانَ عنهُ أن نامَّ به رَكبا
قال ابن بسَّام في الذَّخيرة: أول من بكى الربعة ووقف واستوقف الملك الضَّليل، حيث يقول:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
ثم جاء أبو الطيب فنزل، وترجَّل، ومشى في آثار الدِّيار، حيث يقول:
نزلْنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً
البيت، وما قبله.
ثم جاء أبو العلاء المعري فلم يقنع بهذه الكرامة حتى خشع وسجد، حيث قال:
تحيةُ كِسرى في الملوكِ وتُبَّعٍ
…
لربعِك لا أرضى تحيةَ أربُعِ
وليس بنا حبُّ الدِّيارِ وإنَّما
…
لنا بها والسُّكانِ شغلٌ وشاغلُ
هذا من قول الآخر:
أحبُّ الحِمى من أجلِ من سكنَ الحِمى
…
ومن أجل أهليها تحبُّ المنازِلُ
وقوله:
وما حبُّ الدِّيارِ شغفنَ قلبي
…
ولكن حبُّ من سكنَ الدِّيارا
خلِقنا وحفظُ الودِّ منا سجيَّةٌ
…
وحسنُ الوفا طبعٌ ونعمَ الشَّمائلُ
ونفغرُ عوراءَ الحسودِ وإن جنَى
…
ونعلم أنَّ الخصمَ ما شاءَ قائِلُ
يعيِّرني قومٌ بقومي ومحْتِدِي
…
كما عِيبَ بالعضبِ الصَّقيلِ الحمائلُ
أجلْ حسدونِي حيثُ فضِّلتُ دونهمْ
…
وكم حُسِدتْ في النَّاسِ قبلي الأفاضلُ
وما الفخْر بالأجسامِ والمالِ والعُلى
…
ولكن بأنواعِ الكمالِ التَّفاضُلُ
ومن يكُ أعمى القلبِ يلزم بقولِه
…
كما يحذرُ الأعمى العصا إذ يقاتِلُ
وما يصنع الإنسانُ يوماً بنورهِ
…
إذا عادلتْ فيه النُّجوم الجنادِلُ
وفيمَ نضيعُ العمرَ في غيرِ طائلٍ
…
إذا ما استوى في النَّاسِ قسٌّ وباقلُ
وأصعبُ ما حاولتَ تثقيفُ أعوجٍ
…
وأثقلُ شيءٍ جاهلٌ متعاقلُ
إذا جاءَ نقَّادُ الرِّجالِ من الوغى
…
تميَّز عن أهلِ الكمالِ الأراذلُ
عنيتُ الوزير ابن الوزيرِ الذي به
…
تذلُّ وتعنو للشَّعوبِ القبائلُ
جوادٌ إذا استوهبْتهُ السَّيفَ في الوغى
…
وأنت له خصمٌ فإنَّك نائل
هذا من قول أبي الطيب المتنبي:
كريمٌ متى استوهِبْتَ ما أنت راكبٌ
…
وقد لقحَتْ حربٌ فإنَّك نازلُ
وأصله خبرٌ عن حاتم الطائي، أنه بارز عامر بن الطفيل، وقد رمح عامراً، فخافه، فقال له: لأُبخِّلَّنكَ.
قال: بماذا؟ قال: ادفع إليَّ رمحك أقاتلك به.
فرمى إليه برمحه، ورجع مولِّياً. وقال بشار ما ينظر إلى هذا المعنى:
لو كانَ لي سيفٌ غداةَ الوغى
…
طبتُ بهِ نفساً لأعدائِي
وأحسن ما قيل فيه قول البحتري:
ماضٍ على عزمِه في الجودِ لو وهب الشَّ
…
بابَ يوم لقاءِ البيضِ ما ندِما
أبو إسحاق الغزِّي:
متيَّمٌ بالذي لو قالَ سائِلهُ
…
هبْ لي جميعَ كرَى عينيكَ لم ينمِ
إليه مصيرُ الأمجدينِ وإنَّما
…
تصبُّ إلى البحرِ المحيطِ الجداولُ
وهذا أيضاً من قول أبي الطيب:
أرى كلَّ ذي مُلكٍ إليك مصيرُهُ
…
كأنَّك بحرٌ والملوكُ جداولُ
وهو أخذه من قول ابن المعتز:
ملكٌ تواضعتِ الملوكُ لعزِّهِ
…
قَسراً وفاضَ على الجداولِ بحرُهُ
ويهتزُّ قلبُ الأرضِ خوفاً إذا مشى
…
فتحسبُ أنَّ الرُّعب فيه زلازِلُ
له نعمٌ تُفتِي المديح وهمَّةٌ
…
لها كلُّ قدرٍ شامخٍ متضائِلُ
يُيَممهُ الجبَّارُ والكبرُ بُرده
…
فتلقاه في أعتابه وهو راجلُ
أتى مُشركي قصرٍ وكانوا جراءةً
…
يظنُّون أن الحصنَ للقوم حائلُ
وسارَ بجيشٍ آصفيٍّ عرمرمٍ
…
هو البدرُ فيهم والنجومُ الجحافلُ
فما وجدوا إلا الأمانَ وسيلةً
…
إلى عفوِ من تخشى علاه الوسائلُ
ولا ملجأ من سيفه غيرُ سيفه
…
وكلُّ نصيرٍ غيره فهوَ خاذلُ
فجاد عليهمْ بالنُّفوسِ تفضُّلاً
…
وعفواً ولم يخط العَطا منه سائلُ
وعاد بتأييدٍ وعزٍّ ودولةٍ
…
لها فوق فرقِ الفرقدين منازلُ
يموج به البحرُ الخضمُّ تفاخراً
…
وتحسدُ أعلامَ الجواري الرَّواحلُ
أفصَّ ختامِ المُلكِ والخاتمُ الذي
…
أتانا بما لم تستطعهُ الأوائلُ
فلو كان بدراً لم يلحْ قطُّ كوكبٌ
…
ولو كان بحراً لم يحدِّدهُ ساحلُ
إليكَ عقوداً يكسفُ الشَّمسَ نورها
…
وتخجلُ بدرَ الأفقِ والبدر كاملُ
أتتك تجرُّ الذيلَ تيهاً ورفعةً
…
بأنك ممدوحٌ وأني قائلُ
وهاتيك أبياتٌ لها فتفطَّرت
…
وأنت لها بالبرِّ والجودِ واصلُ
وهذا معنًى حسن، وقد اختلسه من قول السيد محمد العرضي، وهو الفاتح لهذا الباب:
هابَ القريضُ مديحهُ
…
فانشقَّ أنصافاً سطورهْ
وتبعه البابي، في وصف قصيدة فقال:
أوهمتها مدح السِّوى
…
فتميزتْ بالغيظِ وهْما
تتمة القصيدة:
ومثلكَ من لا يظهرُ المدحُ قدرهُ
…
ولكنَّ من لم يشكرِ الفضلَ جاهلُ
ألم ترَ أنَّ الروضَ يثني على الحيا
…
بنشرٍ إذا ما باكرتهُ الحواملُ
فكيفَ بمن أحييته، ولسانهُ
…
صقيلُ الشَّبا والجود بالحمدِ كافلُ
سأوليك مدحاً ينقضي الدهرُ دونه
…
تسيرُ به رُكباننا والقوافلُ
وأصدحُ بالحمد الذي أنت أهله
…
كما صدحتْ فوق الغصون البلابلُ
ألا كلُّ مجدٍ غيرُ مجدك عاطلٌ
…
وكلُّ مديح لم يكن فيك عاطلُ
وله لامية عارض بها امرأ القيس، الذي انتسب إليه حسن السبك، وبشعره ترنمت ورق البلاغة، وذاك أشهر من قفا نبك.
ومطلعها:
توكل على الرحمن حقَّ التوكُّلِ
وهي طويلةٌ جداً، وقد ذكرتها في تاريخي، ولا إفادة في الإعادة.
واتفق بيني وبينه مراجعات، أقطعها جانبه الظرف، وتردت كالنسيم بين الروضتين طيبة الشميم والعرف.
اكتفيت بذكرها في التاريخ، كما وقع غليه الاختيار؛ لأنها من قسم الخبر، والتاريخ موضوعه الأخبار.
وذكرت عنده يوماً بعض الموالي ممن أكاذيبه في قلب الأماني قروح، ووعده كخلَّب برقٍ يلوح.
وكنت ممن اغتر بزخارفه، وطمع في عارفةٍ من عوارفه.
فنشد ضالةً له في ذمة مطلِه، وأنشد ما قاله في مخيلة وعد مثله:
ولا تركننَّ إلى غادةٍ
…
ولو خادعتكَ بزورِ المحالِ
ففتكُ الظُّبا دون فتكِ الظِّبا
…
وعهدُ الغواني كعهد الموالي
ولعمري لقد أنصف، في الذي وصف.
وحكم حكماً يشهد به العيان، وليس بعد العيان، حاجةٌ إلى البيان.
ولما ولي المدرسة المعروفة بزال باشا، وهي آخر ما وليه من المدارس. وهشت له الأماني، وتاهت به التهاني.
وظن أنه سالمته الخطوب، وجلت عن وجه رجائه القطوب. ولم يدر أن القدر عليه بالمرصد، ويد المنون تخترمه دون المقصد.
نظم قصيدةً مطلعها:
ألم ترَ أنَّ الهمَّ زال بزَالا
…
وأحسنَ آمالاً لنا ومآلا
فلما رأيته لم أشك في استحكام الفال؛ وألقي في روعي الطيرة من لفظة زال. وفارقته عشيَّة يوم أردِّد الفكر، وأجدِّد في ليلتي ذلك الذكر.
حتى جفا جنبيَّ الضجعة، وجانب جفنيَّ الرقدة والهجعة. فما انشق الفجر عن حبيب الظلام، حتى أتاني مخبرٌ بأنه يعالج الحمام.
فبادرت إليه فوجدته أخذه الشرق، وهو يلفظ آخر الرمق. ونفسه الباقي، قد بلغ التراقي. ثم قضى نحبه، ولقي ربه.
فالله يستثمره عائدة الأخرى آجلاً، كما استنجزه فائدة الأولى عاجلاً.
وقد قلت أرثيه من قصيدةٍ، مطلعها:
كلُّ حيٍّ على البسيطةِ فانِ
…
غيرَ وجهِ المهيمن الرحمن
إلى أن قلت فيها:
أين روحُ الزمان من كنتُ حي
…
ناً وإيَّاه نخلتيْ حلوانِ
نخلتا حلوان يضرب بهما المثل في طول الصحبة.
وكان المهدي خرج إلى أكناف حلوان متصيداً، فانتهى إلى نخلتي حلوان، فنزل تحتهما وقعد للشرب، فغناه المغنِّي:
أيا نخلتيْ حُلوان بالشِّعبِ إنَّما
…
أشَذَّ كما عن نخْل جوخَى شقاكُما
إذا نحنُ جاوزنا الثنيَّة لم نزَل
…
على وجلٍ من سيرِنا أو نراكما
فهمَّ بقطعهما، فكتب إليه أبوه المنصور: مه يا بني، واحذر أن تكون ذلك النحس الذي ذكره الشاعر في خطابهما، حيث قال:
واعلما إن علِمتُما أنَّ نحساً
…
سوفَ يلقاكُما فتفترِقانِ
تتمة المرثية:
كان فينا كالوردِ في وجناتِ ال
…
غيدِ والسِّحرِ في عيونِ الحسانِ
عاجلَ الدَّهرُ نيِّر الفضلِ الكس
…
فِ وبدرَ الكمالِ بالنُّقصانِ
رجع الجوهر النَّفيسُ إلى الأص
…
لِ وأضحى مقرُّه في الجنانِ
ليتَ شعرِي وليس يُجدي أعن عم
…
دٍ رمتْهُ الخطوبُ أم نسيانِ
كيف دكَّيتَ أيها الخطبُ رضوى
…
ونقلْتَ الهِضاب من ثهلانِ
منها:
يا صديقي تركْتني لهمومٍ
…
ينقضي قبلها زمانُ الزَّمانِ
لست أرضى عليك حكم لبيدٍ
…
مذهبي في الوفاءِ حكمُ ابن هاني
عيلَ صبرِي وإنَّما أتأسَّى
…
بعمومِ المصابِ في الأعيانِ
أسعدُ الصَّاحبينِ من ماتَ من قب
…
لُ وأبقى الصَّديقَ للأحزانِ
إنَّما هذه مراحِلُ تطوى
…
والبرايا تُساقُ كالرُّكبانِ
ومردي بحكم لبيد قوله:
إلى الحملِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما
…
ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذرْ
وبحكم ابن هانئ:
سأبكي عليهِ مدةَ العمرِ إنَّني
…
رأيتُ لبيداً في الوفاءِ مقصِّرا
عبد الحي بن أبي بكر، المعروف بطرَّز الرِّيحان أديب طرزه تطريز الرقاع بوشي تحبيراته، وفنه تحلية جيد الكلام بجواهر تعبيراته. تنتهي إليه محاسن الألفاظ، وترنو معانيه عن غمزات الألحاظ.
وله من الشعر، ما يسخر بالسحر. فلو كان لسواه في حيز الإمكان، استحقَّ أن يصلب عليه الملكان. إلى ظرف ريحانه يرف، وطبع هواه يشف. ومحاضرة مع الراح تتفق، ولا تفترق. وتأتلف، ولا تختلف.
إلا أنه كان عليه للهوى وثبات، لا يرجى له فيها قرارٌ وثبات.
فإذا عارضته رأيت غمرات بواعث طافحة، وجمرات لواعج لافحة. وهموماً على جوانح جوانح، وآلاماً منها في جوارح جوارح.
وكنت عاشرته لأستمطر ديمته، وأختبر في هذا المعرض شيمته. وكان عفَّ عن الصبوة ونسك، وكفَّ عن الشَّهوات وأمسك. ولم يبق فيه إلا بقية، تخلَّت على بيضاء نقية.
فرأيته مغلوب سورة طباعه، وقد استولت النَّفرة على طرف انطباعه. إلمامه فلتة غبي، وإغبانه فترة نبي.
فكنت معه على أحسن فطرة، لم تلحقني في هواه فترة. واختلست منه أوقاتاً كلمة شارق، وخطفة سارق. ونقر العصافير، خوف النواطير. وأنا من منذ فقدته لم أرَ عنه بدلاً، وأعطافي مملوءةٌ به ترنُّماً وجذلاً.
وكان في آخره حج ورجع رفيق زهدٍ وإنابة، فلم يلبث حتى دعاه الدَّاعي الذي لا بدَّ له من إجابة. فيا له من حجٍ وعمرة، ختم بطابع النقاء عمره. والحمد لله الذي أحسن له الاختيار، فقبضه إليه قبض الأخيار.
وقد أوردت من أشعاره التي هي فروع أماليه، ما يحرِّك الجمادات إذا ما تحرك تاليه.
فمن ذلك قوله في الغزل:
خلِّياني ولوعتي ونحيبي
…
ليسَ إلا صابٍ بدمعٍ صبيبِ
وابكِياني فإنَّ من جرحَ اللَّح
…
ظُ قتيلٌ وما له من طبيبِ
أيُّ صبٍّ سمعتما علِقته
…
أعينُ الغيدِ فهو غيرُ سليبِ
بأبي معرِضٌ ألوف نفارٍ
…
ذو اختلاقٍ نفنُّناً للذُّنوبِ
فِعله كلُّه حبائِل فتكٍ
…
قد أعدَّت لصيدِ كلِّ القلوبِ
تتحرَّى مقاتلَ الصَّبِ عينا
…
هُ برشقِ النِّبالِ في التَّصويبِ
ذو وقارٍ أهابه أن أحيِّ
…
يهِ إذا ما بدا بلفظِ حبيبي
فهو لم أدرِ جاهلٌ خبرَ حالي
…
أم يُريني تجاهلاً كمرِيبِ
أبداً دأبه ودأبيَ هذا
…
كلانا في الحالِ غيرُ مصيبِ
ليته لو أقرَّ قلبي على الحبِّ
…
بلا ريبةٍ ووجهٍ قطوبِ
وإذا شاء بعد ذاكَ تَجنَّى
…
لذَّةُ الحبِّ غصَّة التَّعذيبِ
ما يبالي من استهلَّ عليه
…
من سماءِ الغرامِ غيثَ اللَّغوبِ
جابَ كلَّ البلادِ يحسبُ أنَّ ال
…
حظَّ شيءٌ يُعطى لكلِّ غريبِ
وأنشدني قوله في الغزل:
سقتْكَ الغرُّ يا عهدَ الشَّبيبه
…
ترنِّح منك أغصاناً عسيبهْ
وإلا فالنَّواقعُ من جفونِي
…
وإن يكُ لا رواءَ ولا عذوبهْ
فكم لي في ظلالِك من مقيلٍ
…
حسوتُ به الهوى كأساً وكوبهْ
بكلِّ نديِّ جسمٍ كنتُ أظمي النَّ
…
واظِر عنه خشيةَ أن تُذيبهْ
كأنَّ بكلِّ عضوٍ منه بدراً
…
منيراً أو مدبِّجَةً خصيبهْ
وكلِّ مرنَّحِ الأعطافِ يخطو
…
فيكْتسبُ الصَّبا منه هبوبهْ
إذا ما رامَ يبعثُ بي دلالاً
…
يقطِّبُ والرِّضا يمحو قطوبهْ
فمن لكَ بالسَّلامةِ إن تثنَّى
…
وهزَّ قناة عطفيهِ الرَّطيبهْ
وأبلجَ مستديرِ الشَّكلِ أبدتْ
…
به الأصداغُ أشكالاً عجيبهْ
يُريكَ بسيمياءِ الحسنِ روضاً
…
حذاراً منه أن تصلى لهيبهْ
وفاحمَ طرَّةٍ شكراً لأي
…
دي الرُّعونةِ كم بها أمستْ لعوبهْ
تبدِّدُها كذوبِ المسكِ طوراً
…
على غصنٍ تجسَّد من رطوبهْ
وطوراً يظهرُ الشربوشُ منها
…
كأطرافِ البنانِ غدتْ خضيبهْ
وآونةٍ يُري منها زباناً
…
يلوح وكم به كبدٌ سليبهْ
فأنَّى يطرقُ السُّلوان قلباً
…
حمتْه جيوشُ خضراءِ الكتيبهْ
ولا كنواعسٍ أرشقنَ قلبي
…
صوائبَ غادرتْه أخا مصيبهْ
شهرْنا ظُباً وقلنا ألا صبورٌ
…
فكانتْ مهجتي أولى مجيبهْ
لحاها الله أيُّ عناً تلقَّتْ
…
تقمَّص منه جثماني شُحوبهْ
ولم أكُ ألحَها إلا اضطِّراراً
…
فلم تكُ بالذي فعلتْ معيبهْ
هي الأحداق ما مستْكَ إلا
…
وفزْتَ من الشَّهادةِ بالمثوبهْ
جرى قلمُ القضاءِ لنا بهذا
…
ولا يعدو امرؤٌ أبداً نصيبهْ
ومن أهاجيه، التي هي من قسم أفاعيه، قوله في هجاء غلام يباهي بتيهه، ويتلاعب في العالم بتمويهه. فإذا فطن بهوى مغرم، صيَّره هدفاً لكل مغرم.
وكان يرافقه، ولا يوافقه. ويقاربه، لكن يواربه. وهو مغضٍ على قذً، مقيمٌ على أذً. حتى بالغ في هجره، فبلغ نهاية هجره. واتفق للشيخ مجلسٌ رآه فيه يلعب بالنرد، فتعرف إليه، فعامله بالإعراض والرد، فقال:
أنكرتني ذاتُ السِّوارِ الصَّموتِ
…
عجباً ما لعرفتي من ثبوتِ
لا بلِ الغانياتُ يعددنَ من أم
…
سكَ من وصلهنَّ حيًّا كميتِ
ومريدٌ من الغواني وفاءً
…
متدلِّن بشعرةِ العنكبوتِ
لا رعى اللهُ مهجةً علقتْ
…
هنَّ ولا أسعِفتْ بفضلِ القوتِ
خفرتْ هندُ ذمَّتي واستعاضتْ
…
من صدوحِ الرِّياضِ بالعفريتِ
لست أنسى يومي بمجتمعِ اللَّ
…
هوِ وفكري فيها يُجيد نعوتي
إذ بدتْ في غلالةِ التِّيهِ والعج
…
بِ وبُردِ الجلال والجبروتِ
تتهادى في السِّربِ حتى إذا ما
…
وصلتْ حوزتي أرتنيَ موتي
بتغاضٍ مع التفاتٍ إلى الدُّو
…
نِ ومقتٍ ولست بالممقوتِ
ويحها لم تحيِّني بين جمعي
…
لو تحيِّي قلنا لها حيِّيتِ
وتلاهت بالنَّردِ في ذلك المج
…
لسِ خوفَ اتِّهامها بالسُّكوتِ
ثمَّ ولَّتْ وخلَّفتني أعض ال
…
كفَّ مستدركَ القضا بعد فوتِ
هندُ قلِّي من التَّجني فلسنا
…
من يراضيه فضلةٌ من فتيتِ
لستِ لاثنين أو ثلاثٍ فنأسى
…
أن تخصِّي بعضاً وبعضاً تفوتي
أنتِ وقفٌ على العبادِ ومن يط
…
معُ في الوقفِ واجبُ التَّبكيتِ
أتظنِّين أنَّ لي بكِ شغلاً
…
ليَ قلبي إن شئتِ ذا أو أبيتِ
إنَّني عفْتُ بيتَ حسنك مأهو
…
لاً فأنى وما به غيرُ بيتِ
ليس عندي بعد احتقارِكِ قدري
…
لكِ كفؤٌ غير الطَّلاقِ الثَّبوتِ
لا أسوفاً على جمالِك إن بدِّ
…
لَ قبْحاً ومرَّ طعم الشتيتِ
غير أنِّي أسفْتُ أن ضاعَ شعري
…
فيكِ لكنْ ما باختياري حبيتِ
إذ بلائي بمبتلاكِ دعا الفك
…
رَ لأن شادَ فيكِ بعض بيوتِ
آهِ من صحبة العبادِ وآهاً
…
لزمانٍ يمرُّ في تشتيتِ
صدقَ القائلُ السَّلامة في الصَّم
…
تِ كذا الحسنُ في لزوم البيتِ
طالَ ما قد جررتُ ذيل التَّصابي
…
وتناسيتُ غصَّة التفويتِ
لا يظنَّنَ عاقلٌ بيَ ميلاً
…
لمليحٍ مؤانسٍ أو مقوتِ
رفضتْ نفسيَ الهوى خيفةَ الذُّ
…
لِ وأن تبتلى برقِّ فليتِ
وهجرتُ المُدامَ ممَّا يؤدِّي
…
لافتضاح القؤولِ والسِّكِّيتِ
واختلاطٍ بغير مرضيِّ عقلٍ
…
وانطراحٍ مع قربِ ذي تنكيتِ
فإذا ما ادَّكرتُ أيامَ لهوي
…
قلت أيامَ صبوتي لا سقيتِ
لذَّة الحرِّ في اكتسابِ المعالي
…
لاافتراشِ الدُّمى وحسوِ الكميتِ
وله في الغزل:
قاتِلي أنت لا محالَ فأحسِن
…
قِتلة الصَّبِّ سيِّدي بحياتِكْ
أنت في الحلِّ من دمي فأثِبني
…
عنه تعجيل جنَّتي وجناتِكْ
هبكَ أظمأتَ ناظِري فاروِ سمعي
…
بكؤوسِ العتابِ من لفظاتِكْ
إنَّ حُبِّيكَ قيَّد الفكر حتى
…
عزَّ لو رمتُ وصفَ غيرِ صِفاتِكْ
أيُّ ذنبٍ جنيتُه يوجِب الهج
…
رَ ويُجدي الحِرمان من حسناتِكْ
بحياةِ العيونِ جدْ لصريعٍ
…
ما رمى قلبَه سِوى لحظاتِكْ
لا بغيرِ الحديثِ يا حاليَ اللَّف
…
ظِ ومُرِّ المذاقِ في نَفَراتِكُ
أن لحظَيْكَ عذَّباني ولكن
…
ثغرُكَ الجوهريُّ أعذبُ فاتِكْ
ما لجفنيكَ في الخلايقِ تُعزى
…
أوَفي الحسنِ وحَّدوا غيرَ ذاتِكْ
حُسنُكَ الفرد مثل ما فيكَ عشقِي
…
فارْعَ لي نسبتِي لبعضِ سِماتِكْ
من تجنِّيكَ ما برحتُ طريحاً
…
ومُصابي من جفنِكَ المتهاتِكْ
خلِّني يا عذولُ إن بسمعي
…
صمماً لا أعِي إلى فشْراتِكْ
أنا من جادَ بالسُّلوّ لمن لا
…
مَ وبالنَّومِ للعيونِ الفواتِكْ
أنا من قالَ للعذولِ مليَّاً
…
انجُ عنَّا فما لنا في بناتِكْ
يا عيوناً خامرنَ قلبيَ رِفقاً
…
لست أصحو ما عشتُ من سكراتِكْ
ليَ قلبٌ يروي حديثَ سَقامِي
…
وصحيحَ الغرامِ عن كسراتِكْ
فإلى كم تلك الأماني الكذو
…
بات تعنِّي الأطماعَ في ترَّهاتِكْ
كن كما شئتَ إنَّ قلبيَ جلدٌ
…
لركوبِ الأخطارِ في مرضاتِكْ
حلَّه الحبُّ وهو خلوٌ وتكلي
…
فكَ ما لا تطيق نزعُ جِهاتِكْ
ومن غرره البديعة قصيدته الحائية، التي مدح بها آل البيت، وتخلَّص فيها لمدح بعض الأمراء. ومستهلها:
مهبَّ الصَّبا حيَّتكَ غرٌّ طوافِحُ
…
سوافِر بالفيضِ العميمِ سوافِحُ
تتوِّجُ منك الهضْبَ تاجاً كأنَّما
…
حبتْهُ بأنواعِ النُّقوشِ القرائحُ
فإنَّ الصَّبا فوجٌ لها عند من صبا
…
أيادٍ كما شاء الغرامُ وضائحُ
تفتِّحُ أقفالَ القلوبِ كأنَّما
…
سراها لأسرارِ القلوبِ مفاتحُ
وتعبثُ بالأشواقِ تبعثُ ميتها
…
فما هي للأرواحِ إلا مراوحُ
تقدُّ قميصَ السُّحبِ عن منكبِ الفضا
…
سحيراً فتقضي وهيَ نعمَ المصابحُ
مؤدِّيةً أسرارَ عرفٍ تعرَّفت
…
لأهليه في ذاك الأداءِ مصالحُ
قريبةُ عهدٍ من مواطن جيرةٍ
…
مواطئهم في الرَّقمتينِ الجوارحُ
لذلك أرجو أن تهبَّ ندِيَّةً
…
معطَّرةَ الأردانِ مما تصافِحُ
على أن واديها المقدَّسَ في غنًى
…
عن الطِّيبِ مما طيَّبتهُ الضرائِحُ
مشاهِدُ فيها من دمِ الشهداءِ ما
…
يطلُّ منهُ نافجَ المسكِ نافِحُ
معاهدُ لم يحْفظ بها عهدَ أهلِها
…
عصابةُ سوءٍ قد كستْها المفاضِحُ
تعدوْا حدود اللهِ في آلِ أحمدٍ
…
فآلوا بخزيٍ ليس عنه مسامِحُ
ولم يكُ إلا لعنةَ اللهِ كسبُهم
…
بصفةِ خسرٍ خابَ فيها المرابِحُ
ليحرِز سبَّاقُ السَّعادةِ شأْوها
…
ويُمحض للأشقى الشَّقا والفضائِحُ
قضاءٌ له حكمُ الإرادةِ واضِعٌ
…
به جفَّتِ الأقلامُ والأمرُ واضِحُ
ألا عدِّ عمَّا يصدعُ القلبَ ذكرُه
…
ويُذكِي تباريحَ الأسَى منه بارِحُ
وإنِّي وإن موَّهتُ عنه فإنَّني
…
حليفُ جَوًى مما تجنُّ الجوانِحُ
ولكن لنا فيمن مضى أسوةُ الهوى
…
إذا ما ورَى زندٌ من الوجدِ قادِحُ
سقى صيِّبُ الرِّضوانِ أرضاً بنورِها
…
تنير على صاحِي السَّماءِ الصَّحاصِحُ
مراقِدُ مثوى العلمِ والحلمِ والحيا
…
وكلِّ حميدٍ ما اهتدتْهُ المدائِحُ
رياضُ الرِّضى مغنى الغنى منتدى النَّدى
…
جنانُ الجناحيثُ المنى والمنائِحُ
يميناً بهم لولا ممرُّ الصَّبا على
…
مضاجِعهم ما طابَ منها المصافِحُ
هم السَّادة الطُّهرُ الذينَ بحبِّهمْ
…
أدينُ إلهي يومَ يربحُ رابِحُ
وهم عمدتِي في كلِّ كربٍ وعدَّتي
…
إذا ما غزى صبرِي الزَّمانُ المكافِحُ
ولي من سَنا آثارِهم كلَّما دجى
…
عليَّ ظلامُ الموبِقاتِ مصابِحُ
وحاشا جنابَ الأكرمِين يضيعُ من
…
لأعتابِهم قد طوَّحتهُ الطَّوائِحُ
وإنِّي لمن والاهمُ لمحاسِنٌ
…
وإنِّي لمن عاداهمُ لمقابِحُ
ولستُ بمن وافاهمُ المدحَ حقَّه
…
وعذري وقد قصَّرتُ فيهِ لواضِحُ
وإني لفكرٌ أعْقمتْهُ همومهُ
…
وأصمتْهُ أصداءُ الزَّمانِ الفوادِحُ
يقومُ مقاماً تخرسُ الفصَحاءُ عنْ
…
عُلاهُ فكيفَ الأخرسُ المتفاضِحُ
ولكنَّني أرجو المفازَ ولو بأن
…
يُشاعَ مجازاً أنَّني الآلَ مادِحُ
وحسبِي حُبٌّ للنبيِّ وآلهِ
…
ومن قد أحبُّوهُ ولستُ أُكاشِحُ
وممَّا اقتضاني حبَّهم حُبُّ ذي علاً
…
يطارِحُني ذِكراهمُ وأطارِحُ
محبُّ حبيبي موطنٌ لمحبَّتي
…
وإنِّي لهُ خلٌّ صدوقٌ مناصِحُ
هو الأروعُ اللَّيثُ الذي حشو ثوبِه
…
وقارٌ تغُضُّ الطَّرف عنه الملائِحُ
همامٌ يعيدُ الهمَّ رؤيةُ وجهِهِ
…
وليلٌ لوحدانيةِ اللهِ راجِحُ
أغرُّ يُريك النُّجحَ مهما لحظتَهُ
…
أساريرُ منها كوكبُ السَّعدِ لائِحُ
إذا سمعتْ أذنٌ بأوصافِ مجدِهِ
…
تقولُ غلوٌّ بالِغٌ وتسامِحُ
وحتَّى إذا ما عانيتْ منه سبَّحتْ
…
وقالت نعم في قدرةِ اللهِ صالِحُ
رأيتُ علاهُ فامتلأتُ مهابةً
…
ومن يلقَ ليثاً فهو لا غَرْو جامِحُ
وقد ظلتُ لمْ أسطِع جواباً وأنَّ لي
…
لعضبُ لسانٍ تتَّقيهِ الجوارِحُ
كأنَّ مِدادي حينَ أرقمُ مدحَهُ
…
غوالِي الغوانِي والرَّويَّ الرَّوائِحُ
عجِبتُ لأقلامِي سعتْ في مديحِه
…
على رأسِها جرياً بما هو سانِحُ
وقد طالَ ما استنْهضْتُها لِمُلمَّةٍ
…
فأعيتْ طِلابي وهي ثكلَى بوارِحُ
ولا غروَ أن تسعَى لمخدومِها الذي
…
جميعُ مساعِيها لديهِ نواجِحُ
فديتُكَ يا ابن الأكرمينَ ومن بهِ
…
خُزاعةُ لم يرجَع عليها مراجِحُ
حنَانيْكَ إذ كانَ الجيوشُ تهابُ من
…
لقائِكَ فاغذُر عاجِزاً يتكادَحُ
وأيُّ لسانٍ لا يَكَلُّ حديدُهُ
…
لدَى ذَرِبٍ ينبو لديهِ الصَّفائحُ
على أنَّني للشِّعر كنت محارباً
…
ولم ألقَ فيما بيننا من يُصالِحُ
وقد كنتُ أبوابَ القريضِ غلقْتُها
…
إلى أن أتتْها من يديكَ الفواتِحُ
ومن لم يكن في مثلِ مجدِك شاعِراً
…
عصَتْهُ القوافِي واعتصتْهُ الفرائِحُ
ولستُ بمن يختارُ لُبثاً بغيرِ ما
…
مُقامِكَ لولا أفرُخٌ تتصادَحُ
تُسائِلُ عنِّي من يروحُ وتغتدي
…
سُؤالَ شجِيٍّ دمعُهُ يتسافَحُ
وأنت خبيرٌ أنَّ تلك علاقةٌ
…
تسُدُّ على الوحشِ الفضا وهو سارِحُ
ولو كان لي من فارِه الفحلِ مركبٌ
…
أُغادي به مغناكمُ وأُراوِحُ
لما قعدتْ بي عن حماكِم عزيمةٌ
…
ولا اطَّرحتْني من سِواكَ مطارِحُ
ولي نفسُ حرٍّ تأنفُ الذُّلَّ لو أتَى
…
لها بقرابِ الأرضِ مما يشاحِحُ
تألَّفتَها باللُّطفِ حتَّى تألَّفتْ
…
وحنَّت إليكم والدِّيارُ نوازِحُ
وحتَّى إذا وافتْك وافتْ مهذَّباً
…
يُعيدُ رواءَ الدَّهرِ والدَّهرُ كالِحُ
حليماً لدى البأساءِ قُطبَ رحى الوغى
…
رزينَ الحجا لا يزدَهيهِ ممازِحُ
بصيرٌ بتدبيرِ الخُطوبِ كأنَّما
…
ذكاهُ بأعقابِ الأمورِ يصارِحُ
له منطقٌ يستنزِنُ العُصمَ في الرِّضا
…
وفي الباسِ رُسلٌ للمنايا فواضِحُ
فطبْ عمر الثَّاني بسرتِكَ التي
…
بها كلُّ محزونٍ من الجورِ فارِحُ
إليكَ أتتْ رعبوبَةُ الحسنِ غادةٌ
…
لها من بديعِ المكرُماتِ وشائحُ
وبلقيسُ حسنٍ في منصَّةِ عرشِها
…
بلابلُ أفنانِ الفنونِ صوادِحُ
شهودٌ بأنِّي في البلاغةِ واحدٌ
…
كانتْ علاً كلٌّ بمعناه طافِحُ
عسى هزَّةٌ أريحيَّتكَ التي
…
تناشدَها الرُّكبانُ غادٍ وارئِحُ
تعلِّم من جاراكَ في حلبةِ العلى
…
تلقِّيَ وفدِ الفضلِ أنَّى يُصافِحُ
ودُمْ وابقَ واسلمْ غصنَ مجدٍ يهزُّه
…
أغاريدُ مُدَّاحِ العُلى والمدائِحُ
ومن غزلياته الرقيقة، التي هي الخمر على الحقيقة، قوله من قصيدة، مطلعها:
لحظاتٌ لا تحامِي القَوَدا
…
قد تناهبنَّ الحَشا والكبِدا
منها:
يا لِحاظاً نستلذُّ فتْكها
…
لا عدِمنا عضبك المجرَّدا
دونكِ الصَّبرَ احطمي جنودَهُ
…
واجعلي شملَ السُّلوِّ بددَا
وامنعي ورداً ووِرْداً للحَيا
…
والحياةِ ما انجنى أو وردا
يا مهزَّ الغصنِ من عِطفيهِ ملْ
…
واعتدلْ لم تلقَ من قال اعتدى
يا مناطَ القُرطِ من نغنُغِهِ
…
قد تركتَ الظَّبيَ يجري في الكُدى
كيف للظَّبيِ بفرعٍ فاحمٍ
…
زانَ بالتَّصفيفِ جيداً أجيَدا
مذ غدا المِحرابُ من حاجِبه
…
قبلةً خرَّتْ جُفوني سجَّدا
هكذا الحُبُّ وعِزُّ شأْنِهِ
…
صنعَةَ اللهِ تعالى مُوجِدا
مالِكي بالحسنِ والحُسنَى احتكِمْ
…
حقَّ أن تُضحِي لمِثلي سَيِّدا
إنَّ من كنتَ له مولًى فقدْ
…
عاشَ يا مولايَ عيشَ السُّعَدَا
صبَّحَ اللهُ بكلِّ الخيرِ منْ
…
كان مرآكَ لعينيهِ ابتدَا
أنت رُوحي فإذا ما غبتَ عنْ
…
ناظِري فارقَ روحِي الجَسدَا
وله يودع بعض إخوانه:
حيَّاكَ عهدَ الحبيبِ عهدُ
…
أوطفُ جفنِ السَّحابِ وِرْدُ
بعدَك ما جفَّ من جفوني
…
دمعٌ ولم يجْفُهنَّ سُهْدُ
كأنَّما كان للَّيالي
…
دُيونُ بينٍ وحانَ وعدُ
يا ليتَ مذ فرَضتْ بِعاداً
…
سَنَّتْ وَداعاً غداة تبدُو
أستودِعُ الله من جَفاني
…
ضَرورةً وهوَ لي يَوَدُّ
سارَ بقلبي حماهُ ربِّي
…
ولم يقُل كيف بعدُ تغدُو
حداهُ أنَّى انتحَى فلاحٌ
…
وقادَهُ للنَّجاحِ رُشدُ
وما عليهِ بِذاكَ عتبٌ
…
إرادةُ الله لا تُرَدُّ
وله في الغزل:
ما الذي أوجبَ صدَّكْ
…
ولِما أخلفتَ وعدكْ
ألِشُغْلٍ دُنيويٍّ
…
أم عذابِي كانَ قصدكْ
أم دلالٍ أم تجنٍّ
…
أم قرينُ السُّوءِ صَدَّكْ
وعلى أيَّةٍ حالٍ
…
أسعدَ الغُفرانُ جدَّكْ
بالذي ولَاّكَ رِقِّي
…
سيِّدي لا تنسَ عبدَكْ
أنا في قُربٍ وبُعدٍ
…
حافظٌ تالله عهدكْ
وفؤادِي حيثُما منْ
…
تَ وأيمُ الله عِندَك
لطفُكَ المعهودُ خَلَاّ
…
نِي أسيراً لكَ وحدَكْ
هل من الإنصافِ إقصا
…
ءُ الذي ينظِمُ قصدَكْ
حاشَ ألطافَكَ من أنْ
…
تمنعَ الظَّمآنَ وِردَكْ
أنا من شادَ كما شا
…
ءَ التُّقى والصَّونُ وُدَّكْ
كم خلَوْنا والمروءا
…
تُ وَشَتْ بُردِي وبُردكْ
وعفافُ الذَّيلِ قد طوَّ
…
قَ جِيدَ الصَّبِّ زِندَكْ
هكذا نحنُ فظُنَّ ال
…
خيرَ يا سائلُ جُهدَكْ
أنا من يتْبَع غيَّ ال
…
حبِّ فاتبعْ أنت رُشدَكْ
وله:
إليك يا ابن أبي عنِّي نصيحةَ من
…
يدُ التَّجاربِ قامتْ عنه بالأودِ
إيَّاك صحبةَ غير الجنْسِ ما بشَرٌ
…
يقوَى لأنْ يجْمَع الضِّدَّينِ في جسدِ
وله:
حيِّي وجهاً إذا سفرْ
…
أخجلَ الشمسَ والقمرْ
ومُحيًّا له الحيا
…
وخدوداً لها الخفَرْ
وقدوداً إذا انثنتْ
…
ظَلتُ أثني على القدرْ
ومهاً في جفونِها
…
عالِمُ السِّحرِ قد مهرْ
يستفزُّ الحِجابِلا
…
حاجَةٍ لِسوى النَّظرْ
وظِباءً ظِباؤها
…
ليس تُبقي ولا تَذَرْ
غازلتْني بغزوِها
…
ثمَّ ولَّتْ على الأثرْ
ودَّعتني وأودَعتْ
…
جفنِيَ النَّوحَ والسَّهرْ
وتباكتْ وقدْ بكي
…
تُ وعند الهوى الخبرْ
ساجياتِ الجُفونِ لا
…
تتَّخِذنَ البُكا سُتُرْ
لستُ فيكُنَّ لابِساً
…
من غرامي على غِررْ
ليس مَن دمعُهُ حَياً
…
مثلَ من دمعُه حَذَرْ
أينَ دمعُ الدَّلالِ من
…
عَبرةِ الهمِّ والعِبرْ
غيَّرَ الكُحلُ لونَ ذا
…
واستحالتْ بذا الغِيَرْ
ليسَ من قلبُهُ قسَا
…
كالَّذي قلبُه انفطرْ
ليس من باتَ هاجِعاً
…
مثل من نَومَه هَجَرْ
ومن الفرشِ والوَسا
…
ئدِ يُسْتثبتُ الخَبَرْ
وله:
أطالتْ وقالتْ من تصبَّرَ يظفرُ
…
فديتُكِ لكن مدَّةُ العمرِ تقصرُ
ففي كلِّ قُطرٍ غُربةٌ وتستُّتٌ
…
وفي كلِّ عصرٍ حُرقةٌ وتحسُّرُ
يخيَّل لي في كلِّ قفراءَ أنَّما
…
بها الآلُ أشراكُ الهوانِ فأُقصِرُ
أهجِّرُ منها حيثُ تستعِرُ الحصا
…
وتصخبُ حِرباءُ الهجيرِ وتزفِرُ
وحتَّى إذا شمسُ الأصيلِ تقنَّعتْ
…
حِداداً على فقدِ النَّهار أُشمِّرُ
فاختَبِطُ الظَّلماءَ أحسبُ أنَّها
…
مسافةُ خطٍّ بالخُطى تتقصَّرُ
ولو أنَّ لي فيك التِفافَ مودَّةٍ
…
لما كنتُ أطوِي في البلادِ وأنشُرُ
وله:
الأهمَّ الأهمَّ إن كانَ لا بدَّ
…
فإنَّ الزَّمانَ فينا قصيرُ
لا تُضِعْ فرصةَ الحياةِ فما لل
…
عمرِ حيثُ انتهى مداهُ مُعِيرُ
وله:
ألا قلْ لمن أبدى اعتذاراً وقد أبى
…
زِيارتنَا والرَّيبُ في ذلك العُذرِ
عليك أمانُ الله ما دمتَ عندَنا
…
من القتلِ والتَّشليحِ ثمَّ فلا أدري
وله:
إذا كان فقرُ المرءِ يُزري كمالَهُ
…
فتنفِرُ منه الأصدقاءُ بلا عذرِ
فيا ضيعةَ الحُسنى ويا خيبةَ الرَّجا
…
ويا موتَ زرْ إنَّ الحياةَ على خُسرِ
وله:
أسفٌ يردَّدُ بالنفسِ
…
ومدامِعٌ لا تُحتبسْ
وصبابةٌ من وقدِها
…
نارُ الجوانِحِ تُقتبسْ
شوقاً إلى من بعدُهمْ
…
لم يبقِ لي إلا نفسْ
وشتاتُ شملِي عنهمُ
…
قد سلَّ روحي واختلسْ
صبراً لدهرٍ ما ابتسمْ
…
تُ تجلُّداً إلا عبسْ
وله، ويخرج منه اسم إبراهيم بطريق التعمية:
إنَّ رقيباً صدَّ من نعشقهُ
…
عنَّا وآذانا بلا تحاشِي
راحَ بِلا عاقبةٍ محمودةٍ
…
إذ حال بين الماءِ والعِطاشِ
وله:
تولَّى زمانِي بالتَّلاعبِ وانقضى
…
وحبل شبابي بالمشيبِ تنقَّضا
أُراقِبُ لمحاً من سهيلِ مطالبي
…
وأرصدُ برقاً من أمانيَّ أومَضَا
يخيَّلُ لي أنَّ الدُّجى وجهُ باخِلٍ
…
وكفَّ الثُّريَّا للسُّؤالِ تعرَّضا
فآنفُ من نيلِ الغِنى بمذلَّةٍ
…
وألوي عِنانَ القصدِ عنه مفوِّضا
وأعيَ طِلابي من زمانيَ صاحِباً
…
يكون لحالي بالوفاءِ منهِّضا
فأيْقنتُ أنَّ الخلَّ أفقدُ ثالثٍ
…
مع الغولِ والعنقاءِ في قولِ من مضى
وقد صحَّ عندي أنَّما الخلُّ خلَّةٌ
…
أرومُ لها سدَّ الكفافِ مع الرِضا
إذا قطع الإنسانُ أطماعَ نفسِه
…
من النَّاس كان اليأسُ أهنا معوِّضا
هناك يكونُ المرءُ بالله مقبِلاً
…
على شأنِه ما إن يكلُّ له مضا
فذاك الَّذي بالعقلِ صحَّ اتِّصافُه
…
ومن لا فلا والله بالِغ ما قضى
وله:
قبل التغزِّلِ مني فيه كان له
…
بعض التفاتٍ إلى حالي وقد مُنِعا
أمنتُ فيه من الأغيارِ فانتدبتْ
…
للمنعِ بنتُ لساني ليت لو قطعَا
يا ربِّ حتَّى أنا ساعٍ على تلفي
…
ما ذاك إلا لسوءِ الحظِّ قد وُضعا
وله:
أيُّها الغاصبُ قلبي
…
خلِّه منك وديعهْ
لا تكنْ ضامنَ في الغص
…
بِ بإتلافِ القطيعهْ
وله، وقد أجاد:
يا بعيدَ الغورِ من خص
…
رٍ عفا لولا المعاطِفْ
وبعيدَ القرطِ من مَع
…
قِدْ أطرافِ المطارِفْ
أعمودُ الصُّبح ما أطْ
…
لَعْتَ من طوقِ المناشفْ
أم بدا معصمُ كفِّ ال
…
برقِ للأبصارِ خاطفْ
أم طلا ظبيٍ مراعٍ
…
مسرعِ اللَّفتاتِ واجفْ
يا قضيباً من لجينِ اللُّ
…
طفِ نامٍ في حقائفْ
بات يُسْقى صَيِّبَ الدُّ
…
لِّ فأضحى وهو وارفْ
إن عَرى من حُلَلِ ال
…
خَزِّ اكتسى حُللَ اللطائفْ
دارَ هِميانكَ هَيْما
…
ناً لأخبارِ المراشفْ
ولقد طالَ المدى فان
…
عَمْ بإرسالِ السَّوالفْ
قلت: هذا شعر أبهى من إرسال السوالف، وأشهر من ذكر الليالي السوالف.
وله إلى معذرٍ طرزت حاشيتا خديه بالقلم الريحاني، وغرزت صحيفتا وجنتيه بالطراز السبحاني:
هذا طرازُ الملكِ يحلو
…
وله لواءَ الحسنِ يعلو
فنواطقُ الأرواحِ آ
…
ياتِ الصَّبابةِ فيه تتلو
نسخَ العُذارُ بخطِّهِ
…
عذرَ السلوِّ فكيف نسلو
عجباً لجمرٍ منه يصْلى ال
…
قلبَ دبَّ عليه نملُ
ولِعقربٍ من عنبرٍ
…
حامتْ على وردٍ يُطِلُّ
ولِحُمرةٍ فيها تولَّ
…
دَ من حظوظِ الصَّبِّ شكلُ
وحِقاقِ ياقوتٍ علي
…
هِ من الزُّمرُّدِ صيغَ قُفلُ
إنَّ الجمالَ الصَّرفَ مع
…
نًى عن تعلُّقه يجلُّ
أستغفرُ الله العظي
…
مَ توهُّمُ الأفكارِ شغلُ
هذي طلاسِمُ قدرةٍ
…
لِلُجينِ كنزٍ فيه لَعْلُ
بل ظلُّ أهدابٍ شخصْ
…
نَ وفي مرائي الحسنِ صقلُ
فغدا صفاءُ أديمِها
…
لخيالِ ذاك الظِّلِّ يجلو
وله في الغزل:
ملْ فإنِّي لميلكَ المُستميلِ
…
متلَقٍ على مَراحِ القبولِ
وعجيبٌ ميلُ الغصونِ إلى نح
…
وِ مهبِّ الهوى بغيرِ مميلِ
لكنِ الميلُ بانجذابِ هوى النَّفْ
…
سِ أبيُّ الزَّوالِ والتَّحويل
حبَّذا ميلةٌ خلستْ بها القلْ
…
بَ اختلاسَ الشَّمولِ حُرَّ العقولِ
معطفٌ عاطِفٌ وجيدٌ مجادٌ
…
والتفتٌ يسبِي بطرفٍ كحيلِ
وطُلاً واضحٌ ولفظٌ خلوبٌ
…
ينفثُ السِّحرَ في خلالِ المقُولِ
وبروحي إذا تغاضبتْ والمبْ
…
سمُ يفْترُّ عطفٍ ومنعةٌ في نكُولِ
هكذا هكذا تبارَك من أوْ
…
دَعَ في ذا الجمالِ كلَّ جميلِ
وله:
بِروحي الذي أشقى العيونَ ارتِقابهُ
…
وأخرجَ عن حدِّ التَّعادلِ أحوالي
تمثِّلُه الأشواقُ لي فإذا أرى
…
مليحاً على بعدٍ تظنَّاه بَلْبالي
فاقصِدْهُ قصدَ العِطاش توهَّمتْ
…
شراباً فمذ دانته إذ هو بالآلِ
فصرت بحالٍ لو أراهُ حقيقةً
…
نكِرتُ على عيني وكذَّبتُ آمالي
وله بتهنئة بختان:
الغصنُ يُحذَمُ باقتِضابِ فواضلٍ
…
منه لينمو في الرِّياضِ ويَحمِلا
وكذاك أقلامُ الكمالِ لِبريِها
…
تعنو لها سمرُ الرِّماحِ تمثُّلا
والشَّمعُ لا يزهو ويُزهِرُ نورُها
…
حتَّى تَقُصَّ من الذُّبالةِ مُرسَلا
تناول هذا من قول محمد بن قاسم الحلبي، من تهنئته بختانٍ، يقول فيها:
هو الشَّمعُ إن قُطَّ لا غروَ أن
…
أنارتْ به حالكاتُ اللَّيالي
وظُفرٌ بتقليمهِ لا يزالُ
…
أكفُّ المكارمِ منه حوالِ
وتشميرُ ذيلٍ لدى الاستِباقِ
…
لنيلِ الأماني وكسْبِ المعالي
وما لليراعِ إذا لم يقطَّ
…
فضلٌ يُعَدُّ على كلِّ حالِ
ومن بعد بريِ الغصونِ ازدهتْ
…
عليها أسِنَّةُ سمرِ العوالي
وإن كان سبقه في البعض ابن فضل الله، في ختان النَّاصر:
لم يروِّعْ له الختانُ جَناناً
…
مذ أصابَ الحديدُ منه حديدا
مثلما تنقصُ المصابيحُ بالقطِّ
…
فتزدادُ في الضِّياءِ وقودا
وكذلك الصنوبري في قوله:
أرى طُهراً سيثمِرُ بعدُ عرساً
…
كما قد تثمِر الطَّربَ المُدامهْ
وما قلمٌ بمغنٍ عنكَ إلا
…
إذا ما أُلقِيَتَ عنه القُلامهْ
ومن الفصول المطربة في هذا الباب، فصلٌ للقاضي الفاضل: الحمد لله الذي أطلعه بثنيات الكمال، وبلَّغه غايات الجمال، ويسَّره لدرجات الجلال، ونقَّله تنقُّل الهلال، وشذَّبه تشذيب الأغصان، وهذَّبه تهذيب الشُّجعان، وأجرى فيه سُنةً سن لها الحديد، فنقصه للزيادة، واستخلصه للزيادة، ودربه للاصطبار، وأدَّبه للانتصار، وألقى عنه فضلةً في اطراحِها الفضيلة، وقطع عنه علقةً حقُّ مثلها ألا تكون بمثله موصولة.
فلم يزل التَّقليمُ منوِّهاً بالأغصان، ومنبِّهاً للثَّمر الوسنان، ومبشِّراً بالنَّماء، وميسِّراً للنَّشوِ والانتشاء.
ولطرز الريحان مضمِّناً بيت الأمير المنجكي:
عجبتُ من طالِعِ المحبِّ ومن
…
سرعةِ إكذابِ بأسهِ الأملا
إن زارهُ من يحبُّ عن غلطٍ
…
أتاهُ كابوسُ يقظةٍ عجِلا
كأنَّه طارقُ المنونِ فلا
…
حيلةَ في دفعهِ إذا نزَلا
أو الغريمُ الملِحُّ في زمنِ ال
…
عُسرِ أو الدَّاءُ صادفَ الأجَلا
ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ
…
لو زار فيه الحبيبُ ما قُبِلا
يقول إيهٍ وقدْ وجمتُ ومَن
…
ينطقُ أو من يطيقُ محتمِلا
يسألُ ما تشتكي فقلتُ لهُ
…
داءٌ عرانِي فقال لا وصَلا
فقلتُ آمينَ يا مجيبُ أزِلْ
…
ما نشتكيهِ فإن يدمْ قَتَلا
يا ليتَ لو أنَّه استُجيبَ لنا
…
دعوتنا تلك والمكانُ خَلا
لم يحُلْ بل ضاعَ وقتُنا هَدَرَاً
…
وملَّ منَّا الحبيبُ وارتحلا
وله، متغزِّلاً:
أبُنَيَّ لا أُعدِمتُ فضلكْ
…
وأدامَ لي مولايَ ظِلَّكْ
يا جامِعاً شملَ البَها
…
لا فرَّقَ الرَّحمنُ شملكْ
أفدِيكَ لم ترَ في الهوى
…
مثلِي ولا أبصرتُ مِثلكْ
حاشَا طِباعكَ والوفا
…
من أن تَمَلَّ وأن أمَلَّكْ
وكُفِيتَ نزْغاتِ الوُشا
…
ةِ وجلَّ قدرُكْ أن تُزِلَّكْ
كم ذي جمالٍ باهرٍ
…
لم أرضهُ ليديرَ نعلكْ
ومُمَنَّعٍ في الحسنِ لي
…
سَ إلى وصالٍ منه مسلكْ
أمسَى يعرِّضُ نفسهُ
…
ليحلَّ من قلبي محلَّكْ
هيهاتَ ما للرُّوحِ من
…
بدلٍ ولو أوسعتَ بذلكْ
ها أنت روحي ليسَ بُدٌّ
…
منكَ دعْ من شاءَ يهلكْ
بحياةِ ما بيني وبي
…
نكْ لا تُضِعْ يا خِلُّ خِلَّكْ
أسفي على زمنٍ يضي
…
عُ ولم أُشاكِل فيه شكلكْ
عيناكَ قد نصبتْ على
…
كنزِ المحاسنِ منكَ مهلكْ
فبحقِّها لا ترمِ من
…
لحظاتِها لِسواي نبلكْ
إنِّي أغارُ إذا بغي
…
رِ حشاشتي أغمدَتْ نصلكْ
يفديكَ كلِّي لا تملْ
…
لمماذِقٍ في الودِّ كُلَّكْ
وانظر بعينِ العدلِ تع
…
لمْ من هداكَ ومن أضلَّكْ
ومن اجتلاكَ لأجلِ لذَّ
…
ةِ مشتهاهُ ومن أجلَّكْ
قسماً بِمعناك الذي
…
منِّي تملَّكَ ما تملَّكْ
لولاك لم أكُ قائِلاً
…
شعراً قلاهُ القلبُ قبلكْ
فكِّر بكاساتِ الخطو
…
بِ لعلَّ تطمعُ أن يُعِلَّكْ
إنِّي وأحوالُ الشَّبا
…
بِ تحوَّلتْ والدَّلُّ دَلَّكْ
لكنَّ ميلي للجما
…
لِ طبيعةٌ والطَّبعُ أملكْ
ويصوغُ مجهودُ القري
…
حةِ ما حِسابُ الشَّوقِ فذلكْ
إن رمتَ إرجاعَ الفوا
…
ئتِ قال ضيقُ الوقتِ من لكْ
فأقولُ للقلبِ اقتنِعْ
…
بالطَّلِّ لستَ تطولُ وبلكْ
وأبيكَ لو أمليكَ بع
…
ضَ أليمِ ما أخفي أُملَّكْ
لكنَّني أجزتُ خي
…
فةَ أن تقولَ أطلتَ فضلكْ
وبسطتُ عذري في هوا
…
كَ عساكَ تقبلُه وعلَّكْ
وله هذه القصيدة في الغزل، وهي أشهر شعره:
نفسٌ أمانيها تعلِّلها
…
تُعلِّلها تارةً وتُنهلها
ولوعةٌ في الضلُّوعِ أصعبُ ما
…
يُذيبُ صلدَ الحجار أسهلها
غداةَ بانوا فلا وربِّك ما
…
ظننتُني في الرِّكاب أُثقلها
رفقاً بها حاديَ المطيِّ ففي
…
خلبِ فؤادي تدوسُ أرجلها
وفي سبيل الغرام ليَ كبدٌ
…
تبيتُ أيدي النَّوى تململها
تعلةٌ للمنونِ قائدةٌ
…
آخرُها كاذبٌ وأوَّلها
أساورُ النَّجمَ أبتغي قصراً
…
لليلتي والجوى يُطوِّلها
وليتَ ساجي اللِّحاظِ يرحمُ من
…
يبيتُ من أجلهِ يدمِّلها
الله في ذمَّةٍ أضعتَ وفي
…
حشاشةٍ ملَّها معلِّلها
أما وجفنيكَ والفتورِ وما
…
أورثَ جسمي ضنًى مذبَّلها
وأسهمٍ قد أراشها حورٌ
…
تقصدُ حبَّ القلوبِ أنصلها
لمهجتي في هواك تكبرُ أن
…
يصدَّها ما يقولُ عذَّلها
إلى ما تقضي وفي الحشا حرقٌ
…
لا تستطيعُ الجبالُ تحْملها
صبابةٌ إن أردتُ أجملها
…
لديكَ ذلُّ الهوى يُفصِّلها
أوجمُ تالله مذ أراك فقد
…
أعجزُ عن كلمةٍ أحصِّلها
ومنطقي فيك عن فصاحتِه
…
يعودُ سحبانُ وهو باقلُها
وهذه حالةُ الكئيبِ ولوْ
…
جحدتَها ما أظنُّ أجهلها
تركتَني واستعضْتَ عنِّي من
…
أخفُّ ألفاظِه أثاقِلُها
أعدَمني الله في الهوى فِئةً
…
ثناكَ عن وُصلتي تقوُّلُها
هم أشربُوا طبعك القساوةَ هلْ
…
تراكَ يوماً لِلُّطفِ تُبدِلُها
أما عرفتَ العفافَ من دَنِفٍ
…
مداخِلُ السُّوءِ ليس يدخلُها
يأنفُ بالطَّبعِ كلَّ فاحشةٍ
…
مذاهِبُ الشَّرعِ ليس تَقبلُها
غُذي لِبانَ الهوى على صِغرٍ
…
فهو لأهلِ الشُّجونِ موئلُها
إن راحَ يحكي صبابةً خضعتْ
…
لهُ القوافِي ودان مُشكِلُها
يعلِّمُ النَّوحَ كلَّ ساجعةٍ
…
فهو صدى دَوحِها وبُلبُلُّها
ويحَ قلوبِ المتيَّمينَ إذا
…
تصرَّمتْ في الهوى حبائلُها
أفديكَ يا قاتلِي بلا سببٍ
…
قتلةَ مُضناكَ من يحلِّلُها
أصبحتُ شيخَ الغرامِ فيك ويا
…
رِوايةً أدمُعي تسلسِلُها
وفيكَ حلوَ الشبابِ مرَّ ولمْ
…
أفُزْ بأمنيةٍ أُؤَمِّلُها
وفيكَ لَعمرُ الهوى رِضاكَ فإن
…
عزَّ فيها خيبةً أنازِلُها
تالله لو شاهدتْ عيونُكَ ما
…
ألقاهُ سحَّتْ وجادَ وابِلُها
عساكَ تحنو لِمن مطامِعُه
…
عليكَ دونَ الورى معوَّلُها
وكمْ ليالٍ سهِرْتُهُنَّ ولي
…
رامِحُها سامرٌ وأعزلُها
ومِفرَشي وسطَ كلِّ مسْبِعةٍ
…
قتادُها والوِسادُ قنقَلُها
وليسَ إلا هواكَ يؤنِسُني
…
بصورةٍ منكَ لي يُمثِّلُها
أما كفا يا ظَلومُ ما فعلتْ
…
غَزاةُ جفنيكَ لي وغُزَّلُها
ولستُ أشكوكَ بل يَلَذّ لمن
…
تولَّهتْ نفسُه تذلُّلُها
فأنت عندي ولو هدرتَ دمي
…
خَير ولاةِ الورى وأعدَلُها
وإن توارتْ شموسُ حُسنِكَ عن
…
نواظِري فالفؤادُ عاقِلُها
وإن تناءتْ ركائِبي ودنتْ
…
رسائِلي فالرِّياحُ تنقُلُها
فاسلم ولا تكترثْ بحُرقةِ ذي
…
نفسٍ أمانيها تعلِّلُها
وله:
هو الحبُّ أبحاثُهُ مشكلُهُ
…
وكم نظرٍ ضلَّ في مسألَهْ
ومن يستدِّلُّ بغيرِ العفافِ
…
على طرقِ الحبِّ لن يوصلَهْ
وما القلبُ قلبي إن عاقهُ
…
معيقٌ عن الحبِّ أو أشغلَهْ
ولا العمرُ عمرٌ إذا لم يكنْ
…
به الوجدُ آخِرهُ أوَّلَهْ
سقى الله ريعانَ صبوِي بما
…
يرنِّحُ منه غصونَ الولَهْ
وأكثرَ في كلامِ الحسودِ
…
وخيَّبهُ في الذي أمَّلَهْ
يُعيبُ الصَّبابةَ من لا يرى الصَّ
…
بابَة والنُّسكَ غير البلَهْ
ولا عيبَ في الحبِّ إلا نحا
…
فةُ الطَّبعِ والرِّقَّةُ الحاصلَهْ
ومن كانَ عن ذاكَ في معزِلٍ
…
فغيرُ ملومٍ إذا أهملَهْ
وحسبُ المباشِرِ أمراً من ال
…
فضيحةِ فيه بأن يجهلَهْ
ألا حدَّدَ الله نَبلَ الزما
…
نِ ولله راميهِ ما أنبلَهْ
كحيلُ العيونِ مثيرُ الفتونِ
…
دليلُ المَنونِ إلى المقتلَه
وله:
ملكتمْ زمامَ الرُّوحِ ثم قضيتُم
…
برحلةِ جسمي فاسمحوا بِخالِكمْ
عقلتُمْ عُرَى عقلي وقلتم تجاهُلاً
…
كأنَّ به جذباً نعمْ بحبالِكُمْ
وله:
عَنِّي إليكمْ بني هذا الزَّمانِ فقد
…
عاهدتُ قلبي أن لا رامَ وُدُّكُمُ
أباحكُم بيتَ ودٍّ كان تصدِيةً
…
صلاتُكم عندَه فالآنَ صدَّكُمُ
وله، ويخرج منه اسم عمر، وعمرو، بطريق التعمية:
بدْر كستْ شمسُ الطُّلا وجهَهُ
…
حُسناً وأغفى جفنهُ وابتسمْ
فقلتُ نبِّهْ عمراً واعتلِق
…
منه نطاقَ الخصرِ عقداً ونَمْ
قوله: نبِّه عمراً ونمْ هذا كالمثل.
قال ابن مكرم في مختصر الأغاني في ترجمة بشار: كان أبو الوزير مولى عبد القيس من عمال الخرج، وكان عفيفاً بخيلاً، فسأل عمر بن العلاء، وكان جواداً شجاعاً، في رجلٍ، فوهب له مائة ألف درهم.
فدخل أبو الوزير على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عمر بن العلاء خائن.
قال: ومن أين علمت بذلك؟ قال: كلَّمتُه في رجلٍ كان أقصى أملِه ألف درهم، فوهب له مائة ألف درهم.
فضحك المهدي، وقال: كلاكما عمل على شاكلته، أما سمعت قول بشارٍ فيه:
إذا دَهمتْكَ عِظامُ الأمورِ
…
فنبِّه لها عمراً ثمَّ نمْ
فتًى لا يبيتُ على دِمنَةٍ
…
ولا يشربُ الماءَ ألا بدَمْ
وقول أبي العتاهية:
إنَّ المطايا تشتكيكَ لأنَّها
…
قطعتْ إليكَ سباسِباً ورِمالا
فإذا وردنَ بنا وردنَ خفائِفاً
…
وإذا صدرنَ بنا صدرنَ ثِقالا
أوَليس هو الذي يقول أبو العتاهية فيه:
يا ابنَ العلاءِ ويا ابنَ القرْمِ مِرداسِ
…
إني لأُطريكَ في أهلي وجُلَاّسي
حتى إذا قيلَ ما أعطاكَ من نشبٍ
…
أُلفيتُ من عظمِ ما أوليْتَ كالنَّاسي
ثم قال: من اجتمعت ألسن النَّاس على مدحه، كان حقيقاً أن يصدِّقَها بفعله. انتهى.
وله يمتدح الأستاذ محمد بن زين العابدين البكري، بمصر:
بعثتْ له الذِّكرى شجنْ
…
فصبا وحنَّ إلى الوطنْ
دنِفٌ إذا ابتسمَ الخَلِيُّ
…
غشاهُ تعبيسُ الحَزَنْ
قلقُ الرَّكائبِ ما استقرَّ
…
به النَّوى إلا ظَعَنْ
والبينُ أصعبُ ما يرا
…
هُ أخو الشَّدائدِ والمِحَنْ
من مبلِغٍ تلكَ المرا
…
بِعِ والمراتِعِ والدِّمنْ
أشواقِي اللَاّتي زحَمْ
…
نَ الرُّوحَ في مثوى البدَنْ
في ذِمَّةِ اللهِ الَّذي
…
نَ هم فروضِي والسُّنَنْ
بي منهمُ الرَّشأُ الغَضي
…
ضُ الطَّرفِ نهَّابُ الوسَنْ
متناسِقُ الألحاظِ أيًّا
…
ما لحظتَ به فَتَنْ
مُلَحٌ تعلِّمُ عاشِقي
…
هِ به التَّغزُّلَ والفَنَنْ
فكأنَّها من روضِ مَدْ
…
حِ أبي بكرٍ فنَنْ
الضَّاربينَ على الفخا
…
رِ سُرادِقاً من كلِّ فَنّْ
السَّادةِ البيضِ المآ
…
ثِر في العُلا غُرَرِ الزَّمَنْ
ومقلِّدي أعناقَ هـ
…
ذا الخلقِ أطواقَ المِنَنْ
بوراثةٍ نبويَّةٍ
…
كُلاًّ أتتهُ على سنَنْ
حتَّى استقلَّ بها الإما
…
مُ ابنُ الإمام المؤتَمَنْ
قطبُ العلومِ محمدٌ
…
ذو الخلق والخلقِ الحسَنْ
منَّاحُ كلِّ نفيسةٍ
…
في الفضلِ ليسَ لها ثمَنْ
عن فيضِ وهبٍ جلَّ عن
…
كسبِ التَّفهُّم والفِطنْ
طلعتْ بأُفقِ فؤادِهِ
…
شمسُ الغرامِ فلمْ يرِنْ
وغدتْ معرِفهُ تطو
…
فُ على العقولِ ببنتِ دَنّ
وكذلكَ السِّرُّ المصو
…
نُ فويْحَ من فيهِ طعَنْ
يا سيِّدي ولئِن قبِل
…
تَ تعبُّدي فلأفخَرَنْ
عطفاً على قلبِي الكسِي
…
رِ بنظرةٍ فلأَجبرَنْ
إنِّي أنحتُ مطيَّتي
…
بمضيفِ مجدِكَ فاقبلَنْ
مولايَ دعوةُ موثَقٍ
…
بيدِ القطِعةِ مُرتهَنْ
متصبِّرٍ والصَّبرُ أو
…
لى ما تداوَى المُمتحَنْ
لكِن يعايَر بالجِرا
…
حِ مفرِّطٌ ألْقى المِجَنْ
ومدِيحِ علياكُمْ بني الصِّ
…
دِّيقِ جُنَّةُ ذي الشجَنْ
وبحبِّكمْ تُشفَى القلو
…
بُ وتنجلي ظُلَمُ الشِّحَنْ
هذا هو الفخرُ العليُّ
…
وما سِواهُ فممتَهَنْ
من جاءَ يفخرُ عندكُمْ
…
قولوا لهُ أنتَ ابنُ منْ
يا سادةَ النَّاسِ الذي
…
نَ من استعانَ بهم يُعَنْ
قسماً بكم لولا هوا
…
كُمْ في الجوانِحِ قدْ سكَنْ
لم ينتجِ الفكرُ العَقي
…
مُ من القريحَةِ ما اسْتجَنْ
فالفضلُ في إيجادِهِ
…
لكُمُ وإن يقبلْ أُهَنْ
وشعاريَ التَّقصيرُ ل
…
كنِّي قدمتُ بحسنِ ظنْ
أبمدحَتي أوفيكمُ
…
حقَّ الولا هيهاتَ أنْ
لكنَّني أبقى تُمَحَّ
…
ضُ زلَّتي فلعلَّ أنْ
غوثاهُ يا أهل الحفا
…
ظِ العونَ في ضيقِ العطنْ
إن لم ألذْ بجنابكمْ
…
أخطأتُ والله المَظنْ
وإذا سعدتُ بنظرةٍ
…
منكمْ كفتني عنْ وعَنْ
نهجُ الهدايةِ حبُّكمْ
…
من زاغَ عنه قدِ افتتنْ
فعليكمُ سُحبُ الرِّضا
…
ما ضنَّ مشتاقٌ وأنّ
وعلى ضريحٍ ضمَّ جدَّ
…
كمُ شآبيبُ المِننْ
ما الصبحُ جاءَ بنورهِ
…
والليل بالظَّلْماء جنّ
وله من قصيدة:
عاطياني علالةَ الأشجانِ
…
بكؤوسِ الذِّكرى وروضِ الأماني
بأبي أنتما عسى ينفَح الشَّو
…
قُ رسيساً جنَّتْ مطاوي الجنانِ
أوليس العجيبُ والغبنُ عيشُ ال
…
مرءِ عيشَ المشيبِ في العنفوانِ
ما اعتذارُ الفؤادِ للغيدِ والشَّي
…
بُ ينادي عليه بالحرمانِ
حقُّ من يركض الجديدانِ فيه
…
أن يُرى فيهما طليقَ العنانِ
وله مجيباً لمن عاب عليه كتمان الحب، وأثر الشهوة، وقال بأن كتم الحب من الجبن:
ليسَ جُبناً كوني أموِّهُ في الحبِّ
…
واُخفي وأستشين البيانا
غيرَ أني أُجلُّ مالكَ رقِّي
…
أنَّ مثلي يشدو به إعلانا
فإذا ما فخرتُ أفخرُ بالصَّب
…
رِ وألفى لسرِّهِ صوَّانا
وإذا ما شكوتُ فلتكُ شكوا
…
يَ إليه عساهُ أن يتدانى
فشُجاع الهوى الجسورُ على جرْ
…
حِ مُباريه صارماً وسنانا
لا الذي إن تشكَّه بادرةُ الط
…
رفِ تراهُ يقرعُ الأسنانا
أنا من قسَّم الفؤادَ فأعطى
…
منه كُلاًّ كما يليقُ مكانا
ومراحُ الغزالِ فيه مصونٌ
…
عن سواهُ وحقُّه أن يصانا
وله
لا تتركِ الجدَّ في جمع الكمالِ لأنْ
…
بارتْ تجارةُ سوق العقلِ في الزَّمنِ
لا بد أن ترغمَ الجُهَّال حاجتهمْ
…
إلى كمالكَ أن يرضوكَ في الثَّمنِ
وحسْبكَ الله إن لم تلقَ مشترياً
…
عن الغبيِّ بعَرفِ العُرفِ أنت غني
وله:
نفسي لتؤْثرُ أن تفنى بمحنتهمْ
…
لأنَّها لسوَى الأحبابِ لم تكنِ
المرءُ يُرجى لضرٍّ أو لمنفعةٍ
…
وما خُلقتُ لغيرِ الحبِّ والشَّجنِ
وله:
لا تقطعنَّ مودَّةً فلربَّما
…
تحتاجُ من أَقْصيتهُ تُدنيهِ
فالسِّلكُ بعد القطعُ يمكنُ وصلهُ
…
لكنَّ عقدةَ وصلهِ تزريهِ
هذا كثير في الشعر، من قول أبي الفتح المالكي:
من لي بردِّ معاشرٍ
…
كثروا عليَّ فأكثروا
صادقتهمْ وأرى الخرو
…
جَ عن الصداقةِ يعسرُ
كالخطِّ يسهلُ في الطُّرو
…
سِ ومَحوُه يتعذَّرُ
وإذا أردتَ كشطْتهُ
…
لكنَّ ذاك يؤثِّرُ
وقوله أيضاً:
ويمكنُ وصلُ الحبلِ من بعدِ قطعهِ
…
ولكنَّهُ يبقى به أثرُ الرَّبطِ
وللشهاب الخفاجي، من فصل: أنت وإن وصلت بعد القطع حبل المودة، فقد يبقى من أثر ذلك في القلب عقدة.
وله:
يا واصلينَ حبالاً
…
كانت لشدِّ المودَّهْ
لا تقطعوها ببعدٍ
…
قد غيَّرَ الناسُ عهدهْ
فإن تقولوا وصلْنا
…
من بعد ذا القطع شَدَّهْ
يبقى وحقِّكَ فيها
…
من ذلك الوصل عُقدهْ
وله:
وكم لي في طرازِ العمرِ شطحٌ
…
به انقلبَ الزَّمانُ فعاد شحطا
ونسخةُ لوعةٍ صحَّتْ بقلبي
…
فلم ينظر بها الواشونَ كشطا
إبراهيم بن عبد الرحمن السؤالاتي وافر الحظ من البراعة، صائب اللحظ في زخرفة اليراعة.
اكتسب الأدب بكده وجده، وانتهى من القوافي والفقه إلى أقصى حده.
وكان وبعارضه ريحانةٌ شرقت بماء شبابه، ومزجته وجداً وصبابةً بقلوب أحبابه.
وضع عقله في يد الهوى، وتطوح معه في كل مهوى.
فأقام حيناً وله إلى التصابي لجاجة، وما حلي يمينه في مواسم العيش إلا زجاجة.
وله في غضون ذلك موشحات وشحت كل جمع، وشنفت بجواهر كلماتها كل سمع.
ثم تعاورته نوائب جلت فكادت تتجلى، وتوالت عليه مصائب تولت فما أوشكت تتولى.
وانقلبت به المحاسنة، إلى المخاشنة.
وتبدَّلت المجاملة، إلى المحاملة.
فاقلع عن تلك الهنات، ومحا كثيراً من سيِّئاته بحسنات، ولزم الفقه متجِّراً في مسائله، وكان لتحصيل أمانيه من أعظم وسائله.
وقد صحبته والأيام أمالت قناته، وأمر المرض المؤلم مِجنَّاته، فاستحالت صفته، وتقلصت شفته.
لكنها وإن ذبلت خمائله، فلم تزل غضةً شمائله.
وإن تفرَّقت ديمه، فما برحت ملائمة شيمه.
فكنت أتمتع من منادمته الحلوة، بلطائف لها في كل قلبٍ خلوة.
وأخذت عنه من أشعاره ما يبهر الشمس في الشروق، ويتمشَّى تمشِّي الرَّاح السَّلسل في العروق.
وها أنا ذا أورد منه ما يطري ويطرب، ويجعله زاده كل مشرِّقٍ ومغرِّب. فمن ذلك قوله يمدح المولى عارف، المذكور في ديباجة الكتاب:
جَذبَتْ محاسنُك القلوبا
…
حتى غدوتَ لها الحبيبا
وطلعتَ من أُفقِ العُلا
…
بدراً لخُرَّدِهِ خطيبا
ونفثتَ روحاً في النُّفو
…
سِ فكنتَ لها الطَّبيبا
وغدا بقُطرِ نداك روْ
…
ضُ الفضلِ مُخْضَلاً خصيبا
وكسوتَ من حُللِ الرَّبي
…
عِ جِنانه برداً قشيبا
فحدائِقُ الآدابِ من
…
كَ تنفَّستْ مِسكاً وطيبا
وتجاذبتْ فيها نسا
…
ئِمُ لطفِك الغصنَ الرَّطيبا
وغدا يُناغي فوقه ال
…
قمريُّ بلبلها الطَّروبا
وأدرتَ من سلسالِها
…
ما بيننا كأساً وكوبا
وأبحتَ خِلَاّنَ السُّرو
…
رِ من العُلا الصَّدرَ الرحيبا
يا فاضِلاً أنسى العِما
…
دَ بديعه وسما الخصيبا
وجلا على الأسماعِ من
…
أبكارِه عرُباً كعوبا
من للثُّغورِ من الحسا
…
نِ عن المحابرِ أن تنوبا
وخدودهنَّ تكونُ قِر
…
طاساً لراحتِهِ رقيبا
وقدودُهنَّ يراعةٌ
…
من لمسِ أُنملهِ قريبا
ونواظرُ الأحداقِ أن
…
فاساً إذا أنشى نسيبا
مولايَ يا ربَّ الكما
…
لِ ومن غدا الشَّهمَ الأريبا
يا عارِفَ الوقتَ الذي
…
تَخِذَ الفخارَ له نصيبا
أبديتَ بالسِّحرِ الحلا
…
لِ من البيانِ لنا العجيبا
وتلوتَ من آياتِ فض
…
لِكَ ما بهرتَ به اللَّبيبا
وأعدتَ للدَّاعي الوجو
…
دَ وكنتَ سائِله مجيبا
فشموسُه بكَ أشرقتْ
…
من بعدِ أن دنتِ الغروبا
وبعثتَ من فضحَ الرَّبي
…
عَ من البديعِ لنا ضروبا
أشهى إلى الظمْآنِ من
…
فضفاضِ كوثرِهِ ضُروبا
وأرقُّ من مرِّ النَّسي
…
مِ على خمائلِه هبوبا
فطفقتُ يلثمُ مسمعي
…
لِكؤوسِها ثغراً شنيبا
وتقولُ في جنَّاتٍ اسْ
…
طُرُ طِرسِها عينايَ طوبى
لا زلتَ ترقى في الفضا
…
ئِلِ والعُلا الشَّرفا الحَسيبا
وبقيتَ تهدي للنُّفو
…
سِ نفائِساً تجلو الكُروبا
ومن غزلياته، قوله:
حتَّى مَ تُعرِض عن محِبكْ
…
وتصدُّني عن طيبِ قربِكْ
إن دامَ هذا الهجرُ أق
…
ضِي بالمحبَّةِ إي وربِّكْ
يا أيُّها التيَّاه في
…
زهوِ الصِّبا رفقاً بصبِّكْ
ما كنتُ بالسَّالي هوا
…
كَ ولسْتُ بالتَّالي لعتبِكْ
تجنِي عليَّ وتجتنِي
…
ظُلمي وتأخذُني بذنبِكْ
شرَّقْتني بالدَّمعِ مذْ
…
غرَّبتْ عني تحتَ حجبِكْ
أأبيتُ إلى فُرُشِ الضَّنى
…
وتبيتُ ملتهِياً بسربِكْ
يا منيةِ القلبِ الأما
…
نَ فلستُ من أكفاءِ حربِكْ
وقوله:
لا تلمنِي أنا الألوفُ وقدْ
…
مِتُّ غراماً من فقدِ إِلفٍ رقيبِ
هكذا في الرَّقيبِ حالي فقل لي
…
كيفَ حالي وقدْ جفاني حبيبي
وقوله، وهو مما قاله بديهاً:
همُّ المعيشةِ حالَ ما
…
بيني وبينَ حبائِبي
ولربَّما نهضتْ إلى
…
نيلِ العلوِّ مراتِبي
فيفوقُني همُّ المعي
…
شةِ عن جميعِ مطالبِي
فكأنَّني الدُّولابُ أص
…
عدُ للهبوطِ بجانبِي
لو كلِّفَ السَّيفُ المعا
…
شَ نبا بكفِّ الضَّاربِ
وله في الغزل:
إنَّ الغزالَ الذي في طرفِهِ حوَرٌ
…
في مِرشفيهِ سُلافُ الرَّاحِ والحبَبُ
حارتْ لرؤيتِهِ الأبصارُ حينَ بدا
…
غصنُ الجمالِ حلاهُ اللُّطفُ والأدبُ
ما مالَ من هيَفٍ ميَّالُ قامتِه
…
إلا عليهِ فؤادُ الصَّبِّ يضطَربُ
دارتْ إليه قلوبُ العالمينَ فما
…
قلبٌ لغيرِ هواهُ اليومَ ينقلِبُ
وله:
تقمَّصَ ثوبَ اللَاّذِ من فوقِ لؤلؤٌ
…
ورصَّعَ بالدُّرِّ الجمانَ بديدا
وألْبسنِي مِرطَ النُّحولِ مخلَّقاً
…
وأعدمني بردَ الشَّبابِ جديدا
غزالُ كِناسٍ لو رأتْهُ من السَّما
…
كوكِبُها خرَّتْ إليهِ سُجودا
وله:
رِياضٌ سقتْها سحبُ جدواكَ لا ذوتْ
…
ولا برِحتْ بالفضلِ معشِبةً خضرا
ولا برِحتْ رسلُ المحامِدِ والثَّنا
…
إليكَ مدى الأيَّامِ واردةً تترى
وله:
تصبَّرْ ففي اللأواءِ قدْ يُحمدُ الصَّبرُ
…
ولولا صرفُ الدَّهرِ لم يعرفِ الحرُّ
وإنَّ الذي أبلى هوَ العونُ فانتدِبْ
…
جميلَ الرِضا يبقى لكَ الذِّكرُ والأجرُ
وثقْ بالَّذي أعطى ولا تكُ جازعاً
…
فليسَ بحزمٍ أن يروِّعكَ الضُّرُّ
فلا نِعمٌ تبقى ولا نِقمٌ ولا
…
يدومُ كِلا الحالينِ عسرٌ ولا يسرُ
تقلُّبُ هذا الدَّهرِ ليسَ بدائمٍ
…
لديهِ معَ الأيامِ حلوٌ ولا مرُّ
وله:
حتَّى مَ يا ظبيَ النَّقا
…
عنِّي تُحجَّبُ في كِناسكْ
لا تنأَ عن عيني وته
…
جرني قلًى من دونِ ناسكْ
أنا عبدُ رقِّكَ أرتجي
…
كَ وأختشِي سطواتِ باسِكْ
لا تبغِ بالإعراضِ قتْ
…
لي واسقِني بحياةِ راسِكْ
وله:
وحياتهِ وحياتِه
…
إنِّي لرؤيتِهِ كَلِفْ
صنمٌ لبستُ الغيَّ في
…
هِ وقلتُ للرُّشْدِ انصرِفْ
حسنٌ وإن كانَ المُس
…
يءَ لمن بعشقتِه تلِفْ
ما استحسنتْ عيني سِوى
…
حسنٍ ولا قلبي ألِفْ
وكتب إلى بعض الأعيان، يمدحه:
أهديْتني وأجزْتني وبررْتني
…
وشملْتني بالبرِّ والألطافِ
ولئِنْ بشكرِكَ راحَ لفظِي كاسِياً
…
نعماكَ كاسِيةٌ بها أعطافِي
لا بِدعَ إنْ أسديتَ معروفاً فذا
…
لكَ من عوائِدِ سنَّةِ الأسلافِ
ومدح بعض الكبار بقصيدة، فانتقصه، فكتب إليه:
مدحْتُكَ لا رغبةً في نداكَ
…
وإنْ ملَّكَتْهُ الورَى رِقَّها
ولا رهبةً من سَطاكَ الَّذي
…
أذاقَ الأعادِيا ما ذاقَهَا
ولكنْ لمعنًى تراهُ الكِرامُ
…
وذاكَ لأقضي العُلا حقَّها
ومما أنشده لنفسه قوله:
على مَ الصُّدودُ ولا ذنبَ لي
…
وفيمَ التَّجنِّي وصبرِي بَلِي
بمن أوْدعَ السِّحرَ في مقلتيْكَ
…
وحكَّمَ لحْظيْكَ في مقتلِي
دَعِ الصَّدَّ وارفُقْ بمن قلبُه
…
على حرِّ نارِ الغَضا ينْقلِي
إلى اللهِ أشكو أليمَ الجوَى
…
وقلباً بحرِّ الجوَى ممتلِي
لحى اللهُ قلبي الظَّلومَ الَّذي
…
عن النُّصحِ ما انفكَّ من معزِلِ
كليمُ الصَّبابةِ لا ينتهي
…
عنِ الوجدِ في الرشأ الأكحلِ
رثى ليَ في الحبِّ من لامَني
…
ورقَّ الحسودُ وما رقَّ لي
يميناً بهِ حبَّهُ ما سلوتُ
…
ولا مِلتُ عنهُ إلى عُذَّلي
مليحٌ أبى اللهُ إلا هواهُ
…
على رُغمِ أنفِ البليدِ الخلِي
ومن غرامياته قوله:
يا هل ترى لو نظرَ ال
…
غادونَ حالِي رحِموا
أو علِموا ما صنعوا
…
بي من أسايَ ندِموا
يا منْ لوجدِي عَمَروا
…
والصَّبرَ منِّي هدموا
تاللهِ من بعدِكُمُ
…
كلُّ وجودٍ عَدَمُ
وله مضمناً:
واصَلتُ ودَّكَ بالوَفا فقطعْتني
…
ورفعتُ ذِكراكَ في الوَرى فوضعْتني
وزعمتُ أنَّكَ ذو غنًى فأضعتني
…
أبعينِ مُفتقرٍ إليكَ نظرتني
وهذا المصراع من مقطوع يروى للمتنبي، ولم يوجد في ديوانه، وبعده:
....
…
فأهنتَنِي وقذفْتني من حالِقِ
لستَ الملومَ أنا الملومُ لأنَّني
…
أنزلتُ آمالِي بغيرِ الخالِقِ
وله:
عشِقَ المعشوقُ ظبْياً مثلهُ
…
واعتراهُ في هواهُ ولَهُ
كانَ معشوقاً فأمسى عاشِقاً
…
فقضى الحبُّ عليهِ ولَهُ
وله:
بي أغيدٌ تشخصُ الأبصارُ حينَ بدَا
…
في طلعةٍ جَلَّ من بالحسنِ عدَّلها
كأنَّما الحسنُ لمَّا زانَ صورتَهُ
…
قدْ قال للحسنِ كنْ وجهاً فكانَ لهَا
ورأيت بخطه، وقد نسبه إلى نفسه:
في أزرقِ الملبوسِ مرَّ مُعذِّبي
…
متمايِلاً كالغُصنِ في خيْلائِهِ
ورقى دُخَانُ التَّبْغِ غشَّى وجههُ
…
من فيهِ مثلَ الغيْمِ يومَ شِتاتِهِ
وكأنَّهُ لمَّا بدا من شرقِهِ
…
بدرٌ تبدَّى في أديمِ سمائِهِ
سترَ الجمالَ عن العُيونِ مخَافَةً
…
أن لا تكونَ النَّاسُ من قُتَلائِهِ
مثله لبعضهم:
ولمَّا بدَا في أزرَقٍ من قِبائِهِ
…
يَتِيهُ لِفرطِ الحُسنِ في خُيَلائِهِ
خلعتُ عِذارِي ثمَّ صِحْتُ عواذِلي
…
قِفوا وانظُروا بدرَ الدُّجى في سَمائِهِ
قلت: وفي لون السماء للأدباء اختيارات، وذلك بحسب حالاتٍ واعتبارات،؛ فبعضهم يصفه بالزُّرقة، كما وقع لهذين الشاعرين، وقد تبعا أبا عثمان الناجم في قوله، وقد رأى جارية وعليها ثوبٌ أزرق:
ما تعدَّتْ قَبُولُ حين تحلَّتّ
…
شِبهَ زِيٍّ لوجهِها ذِي البَهاءِ
لبِستْ أزرقاً فجاءتْ بوجهٍ
…
يُشبِهُ البدرَ في أديمِ السَّماءِ
وهذا مذهب القدماء، وزرقته عارضةٌ من شعاع الشمس، وهو مائل إلى البياض، كما أن العرق الأبيض إذا جرى فيه الدَّم رُئِيَ لازوردياً، فتولَّدَ من اللونين لونٌ آخر.
وبعضهم من أهل الآثار يجعله أخضر؛ لحديث: ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ أصدقَ من أبي ذَرٍّ.
وبعضهم يجعله لازورديًّا؛ كما قال أبو حفص بن برد، في غلام بدا له في ثوبٍ لازورديٍّ:
لمَّا بدَا في لازورْ
…
دِيِّ الحريرِ وقد بهَرْ
أكبرتُ من فَرطِ الجما
…
لِ وقلتُ ما هذا بَشَرْ
فأجابني لا تُنْكِرَنْ
…
ثوبَ السَّماءِ على القمرْ
وبعضهم يجعله بنفسجيًّا، كما قال ابن المعتز في غلام عليه ديباج حرميّ:
وبنفسجِيّ اللَّونِ قتْ
…
لُ مُحِبِّهِ من رائِه
الآن صِرْتَ البدرَ إذ
…
أُلبسْتَ لونَ سمائِه
أبو بكر العصفوري باهر السمت في النظم والنثر، طائر الصيت في الآفاق بقادمتي النسر.
للمعاني الأبكار مخترع، ولبنات الأفكار مفترع.
وكان خرج من عشه وهو صغير السن، لكنه إذا قدح زنده بالبراعة يرن.
ومن أمثالهم: الديك الفصيح، من البيضة يصيح.
فحلَّ بمصر وأفياء الكرم مساقطه، وحبُّ القلوب ملاقطه.
وأقام يصدح في سرحة المجد، ويفصح في ناديها بلسان الوجد.
وتنصب حبالة الولا، فتقتنصه أشراك العُلى، ولا تضمه إلا أقفاص النُّبلا.
وقد أبدى من أشعاره التي تطرب ترنُّماً ولحنا، وإذا تليت في محفلٍ تضم عليها الجوانح وتحنى.
ما هو لصدور البزاة ينسب، ومن أرقاب الحمام في البذرقة يحسب.
وثمة ألفاظ استعار الروض منها أصناف الملح، وخطوطٌ كأنما فيها لمن يبصر من ريش الطواويس لمح.
وله موشحاتٌ إذا أنشدت كأنما أدار الكأس مديرها، وجاوب المثانيَ والمثالث بَمُّها وزئيرها.
وأغانٍ لم تتنحنح بأمثالها الحناجر، ولم تتقلب لأشباهها الخناصر والبناصر.
وكنت أتمنى لقياه، لأتملى بطلعة محياه.
فصادته قبل وصولي إلى مصر خطاطيف المنون، فعرَّس بفِناء الفنا، وخلَّد عرائس الفنون.
وهذه قطعة من تحائف خاطره، تستدل منها على غائبه بحاضره.
فمنها مقصورته التي بها امتدح الأستاذ محمد البكري.
ومطلعها:
عيذتْ بك الدُّنيا وعيدَ لكَ الهنا
…
واعتدتِ الحِسنى وعُدَّ لك المُنى
عجباً لمن نظرَ الهلالَ وما رأى
…
أن الهلالَ إذا بدوتَ له بدا
شغفاً بطلعتك التي قسماتُها
…
مهما تبدَّتْ تنكسِفْ شمسُ الضُّحى
وبغرَّةٍ قمريَّةٍ في طرَّةٍ
…
سَبَجيَّةٍ كالبدر في غسقِ الدجى
ما البدرُ ما الشَّمسُ المنيرةُ ما الضُّحى
…
ما الظبيُ ما الرشأُ الشُّويدنُ ما الطَّلا
غسقٌ على شفقٍ على قمرٍ على
…
فننٍ على دِعصٍ على قدٍّ علا
مثل الغزالةِ في السماءِ وفي الفلا
…
فَهُما وأنتَ إذا اعتبرتَ سوا سوا
أرأيتَ راتعةَ الفلا أرأيتَ آ
…
لِفةَ العَرا أرأيت شاردة المها
وبصبح وجهٍ إن تبسَّم ثغرهُ
…
يبدو الصباحُ ويحمدُ القوم السُّرى
يا قاتلي من غيرِ ما ذنبٍ ألا
…
تدنو فتبصرَ ما لقيتُ من النَّوى
قلبي تمزَّقَ فيكَ كلَّ ممزَّقٍ
…
أسمعتَ ما قالوه في أيدي سبا
ألِفَ الضَّنى جسمي فلو فارقْته
…
لفنيتُ من أسفٍ على فقدِ الضَّنى
وتعوَّدتْ عيني السُّهادَ فلو غفتْ
…
لرأت خيالَ السُّهدِ في سنَةِ الكَرى
وألِفتُ سمعَ العذلِ حتَّى لو صغتْ
…
أذني لغيرِ العذلِ شقَّيْتُ القبا
وعلمتُ أنَّ الصَّبرَ مرٌّ طعمهُ
…
لكنني عانيتهُ حلوَ الجنى
ونعمتُ بالضِّدَّينِ حتى استقطرتْ
…
عينايَ ماءَ الدَّمعِ من جمرِ الغضا
وسهامُ جفنكَ بعدما ريَّشتها
…
بغِشا الكُلى وسقيتها بدمِ الحشا
هيهاتَ تحسِنُ نزعها من بعدما
…
نبتتْ وأطلعَ غصنها ثمر الهوى
ووحقِّ أشواقي لوجهكَ إنَّ لي
…
زفراتِ وجدٍ لا أروم لها انقِضا
وجوًى تودُّ حشاشتي لو أنَّه
…
كان انطفا ويسوؤها مهما انطفا
وشفاءُ سقمي في لماكَ وليتهُ
…
يشفي غليلي بردُ ذيَّاكَ اللَّمى
ويزيدني قربي إليك حرارةً
…
كالنُّوقِ في البيداءِ يقتلُها الظَّما
يا سلًّم الله المحبة إنها
…
نعشتْ فؤاداً سلَّمتهُ إلى الجوى
يا قاتلي وأنا الفداءُ لقاتلٍ
…
أبداً بغير حديثهِ لا يُشتفى
العينُ بعدكَ ما غفتْ والطَّرفُ بع
…
دكَ ما سها والدَّمعُ بعدك ما رقا
لله جفنٌ تحت وعدِكَ ساهرٌ
…
أملاً يشوبُ المرسلاتِ بهل أتى
حافظْ على صِدقِ العهودِ فإنه
…
مما يدلُّ على المودَّةِ والصَّفا
أتشكُّ أن الصدقَ ينفع أهلَه
…
أولستَ تعرف غيرَ صحبِ المصطفى
ويستحسن له قوله:
في الاشتقاقِ وفي التَّدبيجِ قد نظموا
…
بيتاً له من بديع الحُسنِ لألاءُ
الحُسنُ أحمرُ والتَّحسين أصفر والْ
…
إحسانُ أخضر والحسناءُ بيضاءُ
وقوله:
ليس بِدعاً عتابُ خيرِ البرايا
…
إنما يعتِب الحبيبُ الحبيبا
بل عجيبٌ تقديمُه العفوَ قبل العَ
…
تْبِ حِرصاً عليه أن يسْتريبا
أصل هذا ما ذكره أصحاب السِّير، أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ميت مسجًّى، فكشف عن وجهه الشريف، وقبل بين عينيه، وقال: فديتُ من أقسم الله بتراب قدمه، فقال:" لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلٌّ بهذا البلد "، فديت من قدم الله له العفو قبل العتب، فقال:" عفى الله عنك لم أذنت لهم ".
ومن موشحاته التي أحكم فيها المناسبة والصنعة، قوله:
أخمِدْ بريقِكَ ما أذكيتَ من وهَجِ
…
فما تركتَ فؤاداً فيك غير شجِ
وارحم حشاشةَ صبٍّ فيك قد قُتِلتْ
…
ما بينَ معتركِ الأحداقِ والمهجِ
وعلِّلِ القلبَ بالتَّمنِّي
…
أو فاقتُلِ الصبَّ بالتَّجنِّي