الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا البيت مما أكثر تضمينه قديما وحديثا، ولا أدري لمن هو، وفيه عكس التشبيه: إذ ليس السامع أرقى حالا من الرائي، وبه يتم غرض الشاعر الذي استدل لأجله.
ومن شعره قوله:
زار وَهْنا مُرنَّحَ الأعْطافِ
…
بعد أن كان مائلاً للْخلافِ
كم على صُدْغِه ورَاٍح لَماهُ
…
رُحْتُ سكرانَ سالِفٍ وسُلافِ
صَدَّ ظُلما ولم يكن ليَ ذنْبٌ
…
غيرُ دمعٍ أذاع ما هو خافِ
أيها العاذِل الجَهولُ تأمَّلْ
…
في مُحيَّاه ثم قُلْ بخِلافِ
ومما رأيته منسوبا إليه، ولا أتحققه:
أُنادي إذا نام الهَجِيع تأسُّفاً
…
وقلبيَ من بين الضلوعِ كَلِيمُ
هنيئاً لطَرْفٍ فيك لا يعرِف الكرَى
…
وتَبّاً لقلبٍ ليس فيك يَهِيمُ
ومن رباعياته قوله:
إن جُزْتَ بحيِّ مُنْيتي حيِّيهِ
…
واُخْبِرْهُ من المحبِّ ما يُرْضيهِ
إن زار فقد حَيِيتُ في زَوْرِته
…
أو صَدَّ فإن مُهْجتِي تَفْدِيهِ
بيت المحبي بيت أبي وجدي، ومنبت عرق محتدى ومجدي.
ارتضعت دره واغتذيت، وإلى فضله انتسبت واعتزيت.
والمجد ما افتخرت به العرب من القدم.
وإنِّي من العرب الأقْدمين
…
وقد مات من قبْل خَلْقِي الكَرَمْ
وفي كرَم العِرْق بالمَنْبِت الطيِّب، عَوْن على أثْمار تروّتْ بالعارض الصيب.
فأنا إذا افتخرت هزتني أريحية الطرب، ونافست بآباء تملكني عند ذكرهم حمية العرب.
أولئك آبائي فجْئني بمثلِهمْ
…
إذا جمعتْنا يا جريرُ المَجامِعُ
فأول من سكن منهم الشام، وشام من بارق إقبالها ما شام:
القاضي محب الدين
فضاهى بغزارة علومه أنهارها، وأخجل بمنثوره ومنظومه أزهارها.
بماذا أصفه وأحليه، وأي منقبة من الجلالة أوليه وأطراف القلم بنعوته لا تحيط، حتى ينزح بمناقير العصافير البحر المحيط.
إمام أئمة الفنون، المستخرج من بحار البلاغة درها المكنون.
فكان بالشام علمها الذي يهتدي به المهتدى، ومقتفاها الذي يقتدي به المقتدى.
فتدانت به القلوب المتباعدة، وتلاقت الآمال المتواعدة.
فما ولدت أرحام الأرض من حفال الأزهار والنبات، التي أرضعتها الخضراء بدر أخلاف الأمطار وهي في حجر الصبا وحضانة النسمات.
ألطف من شمائله التي عطرت أردان الصبا، وأعادت للقلب نشوة الصبا فصبا.
ولم يزل يحلى الليالي العواطل، وتدين لسقيه السحب الهواطل.
ويبدع في آثاره صدورا وأعجازا، ويطلع رسائله مملوءةً بلاغة وإعجازا.
حتى رداه الردى، وعداه الحمام من ذلك المدى.
فأنار الله مثواه، وجعل الجنة مأواه.
فخلفه ثلاثة فتيان ألف المجد بينهم، فإن قلت أين الحسن فانظر أيهم.
فالأوسط من مرض الشعر في عافية، لكنه قعد على طريق القافية.
وأما الكبير، وهو:
عبد اللطيف
فعظيم الأرومة، ورونق المزية المرومة.
أنبت خطيها وشيجه، وقوم أغصانها تخريجه.
يفترع الهضاب ببعد همة، ويصيب الأغراض بمسدد سهمه.
أصيل الرأي والحجزم، مليُّ التدبير والعزم.
ضاعف الله لهة نعما يتقبلها، ما زال يوفى على ماضيها مستقبلها.
بهمة ترى الدنيا هبات مقسومة، ونقطة من نقط الدائرة موهومة.
وفكرٍ يغرف منبحر، وعنده يصغر عمرو بن بحر.
فوصفه واسع المجال، ومثله قليلٌ في الرجال.
أسس وبنى، وعطف أعنة المدح وثنى.
وله أشعار كما اتسقت اللآلي، وسفرت وجوه حسان عن ضوئها المتلالي.
أتيت منهال بما تكتب بدائعه على الأحداق، وتتنافس كلمه الأطواق في الأعناق.
فمنه قوله من قصيدة مستهلها:
هي الدار حيَّ عهدَها مدمعِي الجارِي
…
عفَتْ غير سُحْمٍ ماثلاتٍ وأحْجارِ
رسومٌ مَحاها كلُّ سافٍ وهاطلٍ
…
فهُنَّ كجسمي أو غوامضِ أسرارِي
أقمْنا حَيارَي سائرين فلم نجدْ
…
مُجِيباً سوى دمعٍ مع البَيْنِ مِدْرارِ
ولا عجبٌ لو أصبح الدمعُ حائراً
…
كقلبِك في تلك المعاهد يا جارِي
معاهدُ لا أدري أمِن طِيبِ تُربْها
…
نسيمُ الصبَّاحيَّتْ أم العنْبَرُ الدَّارِي
وقفْنا بها حتى لِطُول وُقوفنا
…
تخيَّلتُ أنَّا قد خُلِقْنا من الدَّارِ
أذَلْنا مَصُونات الدموع برَبْعها
…
ولمَّا نَجِدْ من سَكْبنا الدمعَ من زَارِ
خلَتْ بعد ما كانت مَناخاً لراكبٍ
…
ومَلعَبَ أتْرابٍ ومَجْمعَ سُمَّارِ
ومَرْتعَ غزْلانٍ ترى الصِّيد صَيْدَها
…
فقُل في غزالٍ يْصرعُ الأسَدَ الضارِي
وعصرِ تَصاب قد فُجعتُ بفَقْدِه
…
وماضي شبابٍ رحتُ من حَلْيِه عارِي
لِئن قصُرتْ أيامُه فلَشدّ ما
…
تولَّت وأبْقت طولَ بَثِّ وتَذْكارِ
ألا في أمانِ الله عصرٌ لفَقْدِه
…
من العيش والَّلذاتِ قلَّمتُ أظفْارِي
وقلتُ لِداعِي الغيِّ نَكِّبْ فطالَما
…
لغير رِضَى الرحمن أشْغلتُ أفكارِي
وقوله، من قصيدة أخرى، يمتدح بها أستاذه محمد بن محمد بن إلياس، المعروف بابن جوي، مفتي السلطنة:
عوَّضتَ معروفاً عن الياَسِ
…
يا خادماً باب ابن إلْياِس
فاصْغَ لما أشرحُ من حالةٍ
…
أسمُو بها ما بين أجناسِي
خدمتُ مفتى العصر وهْو الحَيَا
…
فلم يدَع بِرِّى وإيناسِي
وصرتُ في خدمتِه ناعماً
…
في نعمةٍ تُسدَى بلا باِس
لا اعرف الهمَّ ولا أشتِكي
…
خَطْباُ بَلَى قلبي بوَسْواِس
فسَيْبُه سيلٌ إذا رُمتَه
…
ومجدُه كالشامخ الراسِي
إن كسَر الدهرُ فؤادَ امْرئٍ
…
تراه بالجَبْرِ هو الآسِي
إن رُمْتَ تدْري بالنَّدَى سَحَّةُ
…
فصَوْبُه مَعْ مَرِّ أنفاسِي
أما ترى رِقَّةَ مدْحي له
…
تُغْنيك عن دَنٍّ وعن طاِس
قد أمر الفتحُ بأمرِ عُلًى
…
أجبْتُه طوعاً على راسِي
قل لبنِي الدنيَا ألا هكذا
…
فليصنْعِ الناسُ مع الناِس
البيت الأخير مضمن، من ثلاثة أبيات للفتح بن أبي حصينة.
ولها قصة، وذلك ما ذكر أنه امتدح نصر بن صالح بحلب، فقال له: تمن.
فقال له: أتمنى أن أكون أميراً بحلب.
فجعله أميراً، وخوطب بالأمير وقربه نصر، وصار يحضر في مجلسه في جمل الأمراء.
ثم وهبه أرضاً بحلب، قبلي حمام الواساني، فعمرها دارا، وزخرفها، وقرنصها، وأتم بناءها، وكمل زخارفها، ونقش على دائر الدرابزين قوله:
دارٌ بنيْناها وعشْنا بها
…
في نعمةٍ من آلِ مِرْداسِ
قومٌ مَحَوْا بُؤْسي ولم يتركوا
…
علىَّ للأيام من باِس
قل لبني الدنيا ألا هكذا
…
فليصْنع الناسُ مع الناسِ
فلما انتهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح.
فما أكل الطعام، ورأى الدار، وحسنها، وحسن بنائها ونقوشها، وقرأ الأبيات؛ فقال: يا أمير المؤنين، كم خسرت على هذه؟ فقال: والله يا مولانا ما للملوك علم، بل هذا الرجل ولى عمارتها.
فلما حضر المعمار، قال له: كم لحقكم غرامة على هذا البناء؟ فقال له المعمار: غرمنا عليها ألفي دينار مصرية.
فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية، وثوب أطلس، وعمامةً مذهبةً، وحصاناً أبلق، بطوق ذهب، وسرج ذهب، ودفع ذلك إلى الأمير الفتح، وقال له:
قُلْ لبني الدنيا ألا هكذا
…
فليصْنع الناس مع الناس
وقد ضمن هذا البيت القاضي شهاب الدين بن حجر، في مدح البدر الدماميني، فأحسن جدا حيث قال:
نسيتُ أن أمدح بدرَ العُلَى
…
فلم يدعْ بِرِّى وإيناسِي
قُل لبني الدنيا ألا هكذا
…
فلْيصنعِ الناسُ مع الناسِ
وله يصف منتزها في الروم، بالقرب من أق بابا:
حللت بالرُّوم دَوْحا هاج أشْجاني
…
حَنَى علىَّ بخيْراتٍ وإحسانِ
حوَى مع الأُنْس ما يُسلِى اللبيبَ به
…
عن ادِّكارِ شَآمٍ أو خُراسانِ
مَجامرُ الزَّهر في أرجائه نفَحْت
…
والوُرْق قد صدَحتْ فيه بأفْنانِ