الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثالث لابن نباتة.
والخامس، والسدس للبهاء زهير.
والسابع للقرافي.
والثامن لابن الجوزي.
دَوْر
بما بِعطْفيْكَ من تيهٍ ومن صَلَفِ
…
تلافَ مُضناكَ قد أشفى على التَّلَفِ
فالموتُ إن عضَّتِ الأجفانُ أو فُتِحتْ
…
يا أكحلَ الطَّرفِ أو يا أزرق الطَّرفِ
لِسائلِ الدَّمعِ صِرتُ ناهِرْ
…
وسِرْتَ والقدُّ منكَ خاطِر
تدري الطَّعينَ وصدرُ الرُّمحِ لم يَصِلِ
…
ما خاب من سأل الحاجاتِ بالأسَلِ
الأولان، والرابع لابن الوردي.
والثالث لابن نباتة.
والاثنان من موشح.
والآخران للشريف.
ومن مشهور شعر العصفوري قوله، في غلام يلعب بتفاحة:
بتفاحةٍ في الخدِّ وكَّل لحظَهُ
…
ليحفظَها من ناظِري أن يؤُودَهَا
سها فهوتْ من خدِّه فهو دائِماً
…
يُردِّدُها في كفِّه ليُعيدها
وقد سبقه إلى هذا أبو تمَّام غالب الحجَّام، في قوله:
عاينتُه وبخدِّه تفاحةٌ
…
قدْ ألبِسَتْ من وجنتيهِ بُرْدَهَا
يرمِي بِها في وجهِهِ ويظنُّها
…
من خدِّه سقطتْ فيبغِي ردَّهَا
وقوله في وصف جدول ماء:
لنا جدولٌ صَقَلَتْه الشَّمالُ
…
كما صقلَ القَيْنُ صافي الأثَرْ
جرى ذهباً في أوانِ الأصِيل
…
كما قدْ جَرى فِضَّةً في السَّحَرْ
وقوله في فوَّارة ماء:
وفوَّارةٍ للماء تحسَبْ أنَّها
…
قضيبُ لُجَين فوقه عِقدُ جوهرِ
تُقابِلُها شمسُ الأصيلِ فتغْتدِي
…
أناظيم شَذْرٍ خيطُه سِلكُ مرمَرِ
وتعطفُها ريحُ الشَّمالِ كأنَّها
…
قوام رَدَاحٍ في قِباءٍ مُعصفَرِ
ومن موشَّحاته قوله:
أيها المُمتنع الأوْ
…
صافِ عن إدراكِ مُدْرِكْ
أفلا يُمكنُ أن تجْ
…
علني هِميانَ خَصرِكْ
يومَ أحظَى بِتلاقيكْ
وبكاساتِي أُساقِيكْ
وبأشواقِي أُلاقيكْ
مَرتِعي بين تراقِيْ
…
كَ ورُمَّاناتِ صدرِكْ
أجتَني سوسَنَ صُدغَيْ
…
كَ ونوَّارةَ ثغرِكْ
فحياتِي يوْمَ ألقاكْ
يومَ أستنشِق رَيَّاكْ
وتعاطِيني حُمَيَّاكْ
وأرى شمسَ محيَّا
…
كَ بدَتْ في ليلِ شَعرِكْ
فهنا أنظِمُ دُرَّ اللَّ
…
ثْمِ في لبَّاتِ نَحْرِكْ
أهصرُ العِطفَ وأضْمُمْ
وأُفدِّيكَ وألثِمْ
آخِذاً بالجيبِ والْكُمْ
وأجيلُ الخمسَ من يُمنا
…
يَ في جَونةِ عِطرِكْ
وأهُزُّ الغُصُنَ المُثْ
…
مِرْ من أعطافِ هصرِكْ
وله في القهوة:
سوداءُ مثلُ المسكِ لا كالنِّقْسِ
…
وجامُها الأصفرُ مثلُ الوَرْسِ
جالبةٌ للأنسِ بعد الأنسِ
…
حلَّتْ حُلول زُحلٍ في الشَّمسِ
وله في شريف تعذَّر:
طلعَ العذارُ بِخدِّ أهيفَ سيِّدٍ
…
أحسِنْ بخضرةِ نبتِهِ ورِياشِهِ
فمن الحياءِ تخالُه متلثِّماً
…
أبداً بأول طيَّةٍ من شاشِهِ
وله في حامل شمعة:
وافَى وفي راحتهِ شمعه
…
لها على وجنتِه لمعَهْ
فخلتُه البدرَ وفي كفِّه
…
بهرامُ والمنزِلَةُ الهنعَهْ
وله:
له لسانٌ مُفرِط كذِبُهْ
…
كأنَّه مِقوَلُ صوَّاغْ
ووجهُه أقبحُ ما في الورَى
…
كأنَّه راحةُ صبَّاغْ
راحة صبَّاغ: يضرب مثلاً لما يستقبح، ويشبه به ما لا يستنظف.
وله:
له كلَّ حينٍ على معتفيهِ
…
إذا أمَّهُ نعمةٌ سابِغهْ
كأنَّ يداً ملَّكتْهُ الرِّقابا
…
يدُ الباهليِّ على النَّابِغهْ
وله من قصيدة، مستهلها:
أُغاِلُ منه الجَفنَ أكحلَ أوْطفَا
…
وأهصِر منه القَدَّ أسمرَ أهيفا
وأقطِف منه وردةَ الخدِّ غضَّةً
…
وأرشِف منه خمرةَ الثغرِ قرقَفَا
ويعجِبني أنِّي أُقبِّل لحظَهُ
…
ولم أرَ قبلي من يقبِّل مُرهفَا
أُفدِّيه معسولاً قوتَ قلبي تطفُّلاً
…
وألتاذُ بالأقدامِ منه تلطُّفَا
بِسورِ عقيقٍ صان لؤلؤَ ثغرِه
…
ومدَّ عليهِ بالزَّبرجَدِ رفرفَا
أقام عليه حَيَّةَ الشَّعر حارساً
…
وزرفْنَهُ بالصُّدغِ كنزاً مكلَّفَا
أُعدِّد أشجاني إليه إذا صحا
…
وأُسهِر أجفاني عليه إذا غفَا
وأُوقظه أن لا يسوءَ مِزاجُه
…
فأحسَب أني قد هززتُ مُثقَّفا
نظرتٌ إليه نظرةً فتلهَّفتْ
…
عليه حشاً لا تستطيعُ تلَهُّفَا
فصعَّد ما لو قابل الدمعَ ما طفَا
…
وقطَّر ما لو سامتَ الوجدَ لانْطفَا
فقِستُ بدُرِّ الدَّمعِ لُؤلؤَ تغرِه
…
فلم أدرِ أيًّا كان أصفَى وأصلفَا
ولم أرَ بدراً قبلَه ظلَّ كاملاً
…
ولا شمسَ حُسنٍ قبله لن تُّكسَّفا
وله وهو مما يُستعذَب:
سألته في ثغرِه قبلةً
…
فقال ما أبردَ هذا السُّؤالْ
ما مرَّ غلا وحلا وصلُهُ
…
لو كانَ من يسمحُ لي بالوِصالْ
عطَّلني من وصلِه بالجفَا
…
والحمدُ لله على كلِّ حالْ
ابن نباتة المصري:
حَلُّوا بعقدِ الحسنِ أجيادهمْ
…
وحاوَلوا صبرِيَ حتَّى استحالْ
فآهِ من عاطلِ صبرٍ مضَى
…
والحمدُ لله على كلِّ حالْ
وله في ساقي قهوة:
ساقٍ يفوقُ السُّقاةَ كلَّهمُ
…
بالأدبِ السَّابريِّ والحِكمهْ
يبيتُ يسقيكَ من لطافتهِ
…
في جامدِ النُّورِ ذائبَ الظُّلمةْ
وله من قصيدة مدح بها ابن الحسام المفتي، وكلها غرر؛ فلذا أثبتُّها برمتها:
نِظامُ سلوك القطْر في إبَرِ المُزْنِ
…
تخيطُ قميصَ النَّهرِ من ورقِ الغصنِ
وقدحُ زنادِ الرَّعدِ في راحةِ الصَّبا
…
يؤجِّجُ نارَ البرقِ في فحمةِ الدَّجنِ
ورشفُ رُضابِ الطَّلِّ من أكؤسِ الرُّبَى
…
يُرنِّحُ عِطفَ الغصنِ لا قرقفُ الدَّنِّ
وتزريرُ حبيبِ الشَّمسِ يؤذنُ بالحيا
…
لما قامَ غصنُ البانِ منحسِرَ الرُّدنِ
وخطُّ عِذارِ النَّهرِ أشكلَ رسمُهُ
…
فأعربتِ الورقاءُ عنهُ بلا لَحنِ
وتنكيسُ رأس الغصنِ في الرَّوضِ مشعرٌ
…
بإصغائهِ مستملياً كلما تعني
وتقطيبُ ثغرِ الزَّهرِ يضحكُ بالندى
…
كما ضحكتْ تلكَ الطيورُ بلا سنِّي
وقد نُصبتْ للنَّوءِ في الجوِّ خيمةٌ
…
تكنَّفتِ الأقطارَ من ناصعِ القطنِ
وهبْ صباً أحيتْ مواتاُ من الربى
…
كأن هبَّ إسرافيلُ ينفخُ في القرنِ
إذا سلَّ سيفُ البرقِ من جفنِ مزنةٍ
…
أسالَ دموعَ القطرِ من ذلك الجفنِ
ودونَ عُقاب الجوِّ إن عنَّ ضوءُهُ
…
أطار غرابَ اللَّيلِ عن سحبٍ دكنِ
تخالُ عنانَ اللَّوحِ بحراً ملجَّجاً
…
على متنه تلكَ السَّحائبُ كالسُّفنِ
وللنَّوءِ قوسٌ أوترِ الجوَّ متنهُ
…
نبالَ سناً ريشتْ بأجنحةِ المزنِ
موشَّى الحنايا دبَّجتهُ شياتهُ
…
كما دبَّجَ الطَّاووس قادمهُ المحني
كان قد أتى فصلُ الرَّبيع تخالهُ
…
أصالةَ معنًى رامهُ رائقُ الذِّهنِ
كأن قد تهادى الغصنُ في عذباتهِ
…
كما اهتزَّ تحتَ الخزِّ قامةُ ذي حسنِ
وإلا كما اهتزَّتْ يراعةُ سيِّدي
…
بما أثمرتْ بالمنِّ والأمنِ واليمنِ
عمادُ ذوي الفُتيا وعصمةُ أهلها
…
وحصنهمُ أكرمْ بذلك من حصنِ
له السُّمعةُ الحسناءُ في المدنِ والقرى
…
ومعدلةُ القسطاسِ في الإنسِ والجنِّ
إذا ظنَّ منه الرفدَ يوماً مؤمِّلٌ
…
أبا كرماً أن يبدل الظَّنِّ بالظَّنِّ
جزاني جزاهُ الله خيرَ جزائهِ
…
وبوَّأهُ قصوى مكارمهِ عنِّي
وعلمني نظمَ الأناشيدِ فضلهُ
…
وقد كانَ شعري قبلُ أبردَ من صِنِّ
وإنِّي مهما غبتُ عنه لمجهدٌ
…
بإمداحِ ما تحوي مناقبهُ ذهني
أواصِل ذِكراهُ مساءً وغدوةً
…
وشكرُ الَّذي أسدى إليَّ من المنِّ
مثابتهُ أمني ومثواهُ كعبتِي
…
وفي بابِه حجِّي وعقونُهُ رُكنِي
ومن أنا يستدعِيهِ بالكُتبِ مثلُهُ
…
أجلْ هذه واللهِ فاتِحةُ اليُمنِ
أطعْتُ ولكنِّي اشتغلْتُ وأينَ لي
…
ويقبُحُ من مثلِي أطعْتُ ولكنِّي
وهل أنا إلا عبدُهُ القِنُّ أقتضِي
…
جميع الَّذي يقتضِيهِ في عبدِه القِنِّ
وقد جِئتُه من بعدِ لأيٍ مهنِّياً
…
به رمضانَ العامِ تهنَئةَ المُثنِي
أزُفُّ إلى عليائِه كلَّ غادةٍ
…
تجوسُ حِمى الآذانِ منه بلا إذنِ
تقيهِ من البأساءِ في الدِّينِ والعُلا
…
وفي النَّفسِ والأهلينَ والمالِ والإبنِ
دُعاءٌ إذا ظُنَّ القبولُ فإنَّني
…
أحقِّقُ أنَّ اللهَ يقبلُهُ منِّي
ومن إنشائه ما كتبه لبعض الأدباء بدمشق، جواباً عن كتاب: المحبة وما أدراكْ، والعلاقة وياما هناكْ.
إلطافٌ كله ألطاف، وإتحافٌ فضله غير خافْ، وقطافٌ جناها لطافٌ، ونطاف تمرِع المرابع والمصطاف.
تطلق من لسان الألكن، وتغلق مقول المصقعْ الألسنْ.
وتلين العريكة، وتهين ذي الأريكة الوريكة.
وتذهب بذي الطِّباع السَّليمة، إلى طمأنينةٍ خليقة وسلالةٍ شكيمة.
والحُبُّ أوَّلُ ما يكونُ لجاجَةً
…
فإذا تمكَّنَ صارَ شغلاً شاغِلا
شمسٌ لها مطلعان، وسهمٌ له موقعان، وجهةٌ لها قبلتان، وقضيَّةٌ لها نتيجتان، عقدُها لازمٌ من الطَّرفين.
والمجد روضه مريع، ودهره ربيع.
ورده صاف، أشتى أو صافْ.
ليله كلُّه سحرْ، وغسقه جميعه قمرْ.
عيشه عيش السلاطينْ، وطيشه طيش الشياطينْ.
وأنينه أنين الشَّاكين الباكين، وحنينه حنين المتباكين المساكينْ.
ليس لمسكينِ الهوَى راحِمٌ
…
ولا لمقتولِ الهوَى من يدِي
وهو والملك سوا، لولا النَّوى.
وهو والعروش سيَّان، لولا اللَّيانْ.
ينقضي دهره في أين وأنَّى، وكيف وعسى، وحتى ومتى، ولو ولولا، وأيَّان وبينا.
وبينا تفِي بالوعدِ أهلكُ إنَّ لي
…
فؤاداً عَجولاً والوِصالُ على مهلِ
وقته هنَا، بتساويف المُنى.
ويومه عيدٌ، بأمانِيِّ المواعيد.
إن برقتْ بارقة، ظنَّها وارِقة.
أو خفقتْ خافقة، خالِها صادِقة.
وإن صبَّ صبا، مالَ وصبَا.
وإن ساجعٌ عنَّ حنَّ، وإن عنَّى مغنٍ اهتزَّ وارجحَنْ.
كمَا انتفضَ العُصفورُ بلَّلهُ القطرُ
ويلمِّه، ما أهمِّهْ.
ويا عولةَ أبيهِ، ما أكثر تغابيهِ.
يرقبُ سهيلا في اللَّيل، ويعثر للويل بالذَّيل.
يأخذ الوصال بالمثاقيل، ويعطي درَّ دمعه بالمكيل.
وهو إذا جاد باكي العيون، مجنونٌ كالجواد المعيون.
مشغوفٌ، كالبعير المأنوف.
إن تهدَّد هاد، وإن ردَّ أراد، ومتى قيد انقاد، وأيَّا ما ارتدَّ راد وارتاد.
فلا معين فيه إلا به، ولا مفرَّ منه إلا إليه.
وكيما تكون تطبُّعاً أو طِباعاً، تكون نظراً أو سماعاً.
فالنَّظرية، دارتُها قمريَّة.
والسَّماعيَّة، دائِرتها طَماعيَّة.
ومن لي بأن ينقلب السَّمعُ نظراً، كما تحوَّل الخُبرُ خبراً.
وقد ورد أعزَّك الله كتابك البعيد الوصف، البديع الرصف.
ففضضتُ صدفةً وثيقةً عن درٍّ مكنون، وحظيتُ منه أبكارَ عرائس منتقبةً كالجوهر المصون.
وشفيت الغليل من ميماتِ ثغوره، وصاداتِ عيونه.
وسرَّحتُ طِرفَ طَرفي في رياضه، وأوردتُ عقيلة عقلي في زلال حياضه.
وجست خلاله، وتفيأتُ ظلاله، وأكثرت إكرامه وإجلاله.
حتى لاحت لي غرَّة الدُّرة، وشمت مخِيلة الخميلة، ولمعت بارقة الشَّارقة.
فيا لك من درٍّ يكال ويتَّزن، ومن حسن ألفاظٍ يزان ولا يزن.
فحفظ الله من نظَّم سلكه وأحسن تألفه، وأبقى ملكته التي وطَّدت في الآداب ملكه، ورحم من خلفه.
وقد تطَّفل المحب بهذه العجالة على جنابه، فليغضِ عليه طرف حلمه، وليجرِ في التَّرسُّل على سننه ورسمه.
السيد أحمد بن علي الصَّفُّوري حسيبٌ طرَّز كمَّ الأحساب، ونسيبٌ باهت بنسبته الأنساب.
محلُّه سرُّ المطلوب، وقرارة محبَّته حبَّة القلوب.
من سراةٍ أنوفهم شم، ووجوههم غر، وعزَّتهم قعساء، ونسبهم حر.
لهم القدر الأغلى، وشرفهم الشَّرف الأعلى.
وهو ممن تأثَّل مجده في بحبوحة ذلك الشَّرف، وتبوَّأ من السِّيادة أسنى الغرف.
مرتويةً أفياؤه بماء النبوَّة، متأرِّجةً أرجاؤه بعبير الفتوَّة.
مع مهارةٍ في العلوم، ومحاضرةٍ مستفزةٍ للحلوم.
وأخلاقٍ صقلها الكرم الوضَّاح، وطبيعةٍ شغف بها الكمال الفضَّاح.
وله أدبٌ تردَّى بالبراعة وتوشَّح، وشعرٌ استعدَّ للقبول التامِّ وترشَّح.
فمنه قوله:
أيا ربِّ قد مكَّنتَ في القلوبِ حبَّهُ
…
وحكَّمتهُ في الصبِّ بالقولِ والفعلِ
وألهمتهُ الإعراضَ عنِّي ولم تدعْ
…
لقلبيَ صبراً عنه في الهجرِ والوصلِ
فألهمهُ إحساناً إليَّ فليس لي
…
سوى لُطفكَ المعهودِ إن لم تكنْ تُسلي
وإلا فسوِّ الحبَّ بيني وبينهُ
…
فإنَّك يا مولايَ توصفُ بالعدلِ
وهذا أسلوب لطيف، وهو نقل أسلوب من الكلام إلى آخر تظرُّفاً، كاستعماله في الغزل ما عهد وروده في الدعاء والمناجاة.
كقول صدر الدين بن الوكيل:
يا ربِّ جَفني قد جفاهُ هجوعهُ
…
والوجدُ يعصي مهجتي ويطيعهُ
يا ربِّ قلبي قد تصدَّعَ بالهوى
…
فإلى متى هذا البعادُ يروعهُ
يا ربِّ بدرُ الحيِّ غابَ عن الحمى
…
فمتى أراهُ وفي القبابِ طلوعهُ
يا ربِّ في الأظعانِ سارَ فؤادهُ
…
يا ليته لو كان سار جميعهُ
يا ربِّ لا أدعُ البكا في حبِّهمْ
…
من بعدهمْ جهدُ المقلِّ دموعهُ
يا ربِّ عذِّبْ في الهوى من ساءني
…
بمقالهِ أحلى الهوى ممنوعهُ
يا ربِّ هذا بينه وبعادهُ
…
فمتى يكونُ إيابهُ ورجوعهُ
ومثله استعمال الغزل على طراز الأوامر السُّلطانيَّة، كقول الشاب الظريف:
أعزَّ الله أنصارَ العيونِ
…
وخلَّدَ مُلكَ هاتيكَ الجفونِ
وأسبغَ ظلَّ ذاكَ الشَّعرِ يوماً
…
على قدٍّ به هيفُ الغصونِ
وللسيد أحمد، كما رأيته بخطه:
إذا أنتَ لم تقربْ يناجيكَ خاطري
…
وإن تدنُ منِّي فالجوارحُ أعينُ
لأنَّكَ مطلوبي على كلِّ حالةٍ
…
وإن أكُ مختاراً فرؤياكَ أحسنُ
ورأى حكمةً تؤثر عن الإمام محمد بن الحنفية، وهي: ليس بحكيمٍ من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له فرجاً، ومن الضيق مخرجاً.
فنظمها في قوله:
إذا أنت لم تقدرْ على تركِ عشرةٍ
…
لذي شوكةٍ فانصحْ وعاملهُ بالرِّفقِ
ولا تضجرنْ من ضيقِ ما قد لقيتهُ
…
عسى فرجٌ يأتيكَ من خالقِ الخلْقِ
وكتب إلى صديقٍ له يعتذر عن وعدٍ لم يوفِّه:
أيا من فضلهُ والجودُ سارا
…
مسيرَ النَّيِّرينِ بلا معارضْ
وعدتكَ سيِّدي والوعدُ دينٌ
…
ولكن ما سلمتُ من العوارضْ
السيد محمد بن علي، المعروف بالقدسي فرعٌ من شجرةٍ طيِّبة المنابت، ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثَّوابت، تسامت بنسبة النُّبوَّة معاليها، واخضرَّت بماء الرسالة أعاليها.
فكأنما كُسيت من سندس الجنَّات، فشفَّت عنها مرآة الزَّمان بأحسن الحسنات.
وهذا السيد وإن قاربت رحلته من السنين المائة، فذكره مخلَّدٌ في ألسنة الجيل بعد الجيل والفئة بعد الفئة.
تتحاسد على رقة طبعه الطِّباع، كما تتحاسد على رباعه المقدَّسة الرِّباع.
فروض فضله ممرِع خصيب، وله في الأدب الغضِّ أوفى حظٍّ ونصيب.
إلا أنه في آخره غلبت عليه سوداؤه، فبلغ من نفسه ما كان يتوقَّع أن يبلغه أعداؤه.
فمن شعره، قوله في هجاء الشمس بن المنقار، لما تعصَّب على الداودي، ومنعه التحديث:
منعْتَ ابن داوُدَ الحديثَ بجلِّقٍ
…
وما مثلهُ في الشَّامِ والله من قارِ
وتزعُمُ حصرَ العلمِ فيكَ بجلِّقٍ
…
فتنقرُ أهلَ العلمِ فيها بمنقارِ
سيأتيكَ من ربِّي بلاءٌ وفي غدٍ
…
ستلقى بوجهٍ يا ابن منقارَ من قارِ
وحكى البوريني أنه صحبه إلى منين، في يوم أديمه مطرزٌ، ونديمه في مجلس أنسه معزز.
فحلوا في روضٍ نسام، يضحك عن زهرٍ بسام.
أصائله متوافقة مع أسحاره، وشمسه لا ترى إلا من فرج أشجاره.
بين ماءٍ يتدفق، وهواءٍ عن المسك يتقتَّق.
وبينهم حديثٌ أحلى من الشهد في الفم، وألذُّ من قبل الغيد عند الضَّم.
فلما دنا وقت الظِّهيرة، ولفح حرُّ الهجيرة.
انفرد السيد في مكان، ليأخذ من القيلولة حظًّا بقدر الإمكان.
فخاطبه البوريني:
بحقِّكَ خلِّي لا تُضعْ فرصةَ المنى
…
وبادرْ إلى هذا الغديرِ المسلسلِ
وإن لم تجد زهرَ الرِّياضِ فإنَّنا
…
نريكَ زهوراً من كلامٍ مرتَّلِ
فنشط من ذلك المقيل، نشاط مالك إلى أخيه عقيل.
ثم كتب في وصف المجلس بيتين:
على غديرٍ جلسنا في مفاوضةٍ
…
ودوحهُ قامَ من سوقٍ على ساقِ
فخلتُ أغصانَ ذاك الدَّوحِ باكيةً
…
تريدُ تكتُب ما نُملي بأوراقِ
فخاطبه البوريني:
جلسنا بروضٍ فيه زهرانِ أُسقيا
…
بماءِ افتكارٍ والمياهِ الدَّوافقِ
فمن زهرٍ يُبديه روضُ كلامنا
…
ومن زهرٍ يبديه روضُ الحدائقِ
ولما رجعوا من منين، مروا على التل، فأقاموا بها يومهم يروون الأبصار من روضة المبتل، ثم فارقوها، فكتب السيد إلى البوريني يداعبه:
أيا روضةَ الآدابِ والفضلِ والحجا
…
ومن فاقَ في جمعِ الكمالِ على الكلِّ
تُرى هل يعودُ الدَّهرُ يوماً بجمعنا
…
فنرقى كما شاءَ الفؤادُ على التَّلِّ
فراجعه بقوله:
أيا سيِّدَ الساداتِ يا من بنانهُ
…
تضيفُ الورى بالجودِ في زمن المحلِ
إذا ساعدَ الحظُّ السَّعيدُ فإنَّنا
…
نطلُّ على الوادي ونرقى على التَّلِّ
وكان بدمشق خطيبٌ يعرف بابن يونس، أعرج أعوج، كما قال الفاضل: قامت العصا بيده مكان رجله، وقلَّت أعواد الأغصان من أجله.
وكان متَّهماً في الاعتقاد، لا يزال يرميه سهم الانتقاد.
وكان من جهله يتعرَّض للفتيا، ويعدُّ نفسه أثقب القوم رأيا.
فكتب يوماً على حكمٍ لقاضٍ: إنه باطل، ومن حلْي الحقيقة عاطل.
فأحضره القاضي في مجلسٍ غاص، جمع بين عالمٍ وخاص.
ثم أفسد ما قاله، وما أهمله من التِّعزيز ولا أقاله.
فكتب بعض القوم فيه رسالة أوسع فيها المقال، وقرَّظ عليها علماء ذلك العصر، ومنهم السيد فقال: وقفت على هذه الرسالة، التي سارت بسيرتها الرُّكبان، وتناقلها أكابر الفضلاء في هذا الزمان.
فوجدتها غريبة المثال، معربةً عن قائلها بأن لسان الحال أفصح من لسان المقال.
قد تضمَّنت ما انطوى عليه هذا الغمر من القبائح، وما انتشر منه في هذا العمر القصير من الفضائح.
فإنه قد مشى على غير الاستقامة، حسًّا ومعنًى، وأنشد قول القائل في ذلك المعنى:
من يستقمْ يُحرمْ مناهُ ومن يزغْ
…
يختصُّ بالإسعافِ والتَّمكينِ
انظرْ إلى الألفِ استقامَ ففاتهُ
…
عجمٌ وفازَ به اعوجاج النُّونِ
تصدَّر للفتيا مع أنه أجهل من توما الحكيم، وأنصفه حمار ابن حجيج فركبه في الليل البهيم.
قد فتح فاه بجهله، وصدَّر فتياه بقوله: الحمد لله سبحانه، والشكر له تعالى شانه.
ولم يميز في السَّجعتين بين الفاعل والمفعول، فكأنه اشتغل بباب البدل مع حبه فحصل له هذا الذُّهول.
لأنه رأى في كتب النُّحاة المهذَّبة، أن الفاعل على ما أسند إليه فعله، فظنَّه بهذه المرتبة.
ولو سئل لأبرز من ضميره هذا الخاطر، وحلف بأبي حمزة أن هذا هو الظَّاهر.
لا يستوي معربٌ فينا وذو لحنٍ
…
هل تستوي البغلةُ العرجاءُ والفرسُ
وطالما عرج على درج المنبر، وجعل أمرده أمامه، ولولا النَّقيَّة لجعله إمامه.
وما تلفَّت على المنبر يميناً وشمالاً، إلا ليقتنص ظبياً أو يصيد غزالا.
وإذا ترنَّم وأظهر الخشوع، واهتزَّ لغير طربٍ وأجرى الدُّموع.
فلأجل مليح رآه عند المحراب، ولم يستطع أن يشافهه بالخطاب.
أو ليخدع بعض الحضَّار، من الأتقياء الأخيار.
فأنشدتُه ارتجالاً، وأنفاسي تتصعَّد، ومهجتي بنار الكمد تتوقد:
أفاضلَ جلَّقٍ أين العلومُ
…
وأين الدِّين مات فلا يقومُ
يُجاهركمْ خطيبكمُ بفسقٍ
…
ويُفتي فيكمُ توما الحكيمُ
وما أراه ارتقى هذه المكانة، إلا بالرشوة والتزوير والخيانة.
وما كفاه أخذه التَّدريس بالتدليس، وخوضه في الفتن التي فاق فيها على إبليس.
حتى دخل على العلماء من غير باب، وردَّ أقوالهم بغير صواب.
تراهُ مُعدًّا للخلافِ كأنَّهُ
…
بردٍّ على أهلِ الصَّوابِ موكَّلُ
فيا أيها المجتري، والغمر المفتري.
أراك قد سوَّل لك زعمك الفاسد، وصوَّر لك فكرك الكاسد.
أن الله قبض العلماء ولم يبق منهم أحد، واتخذ الناس رؤساء جهَّالاً في كل بلد.
فتضلَّ الناس كما ضللت وتعدَّيت، وتنفق بضاعتك الكاسدة بقولك أفتيت.
قولوا لأعرجَ جاهلٍ مُتكبِّرٍ
…
قد جاءَ يطلبُ رفعةً وتقدُّما
دعْ ما ترومُ فإنَّ حظَّكَ عندنا
…
تحت الحضيضِ ولو عرجتَ إلى السَّما
كلا، إن أمرك مما يدل على جهلك المركَّب، وعدم فهمك الذي هو من ذاك أعجب.
إنك ترى دمشق مشحونةً بالأفاضل، الذين ليس لهم في الدهر من مماثل.
وهم مشغولون بالعلوم وتحريرها، وتنقيح المسائل وتقريرها.
وأنت تغالط بنفسك، وتدخلها مع غير أبناء جنسك.
وتترفَّع على من لا يرتضيك لتقبيل رجله، ولا يراك أهلاً لخدمة نعله.
دع الفخر فلست من فرسان هذا الميدان، ولا أنت ممن أحرز قصب السبق يوم الرهان.
وما لك شيخٌ في العلوم والتدريس، سوى أبي مرة اللَّعين إبليس.
فما زلت تسلك في مسالكه، وتقع في مهاوي مهالكه.
حتى أنشد لسان حالك، في قبيح سيرتك وخبث أفعالك:
وكنتُ فتًى في جندِ إبليسَ فارتقى
…
بي الحالُ حتى صارَ إبليسُ من جندي
فلو عشتُ يوماً كنتُ أحسنُ بَعدهُ
…
طرائقَ فسقٍ ليس يحسنها بعدي
ولما تبيَّن أمرك طردك حضرة المولى وأقصاك، وحجب سمعه عن تُرَّهاتك وما أدناك.
فتضاعف له الدُّعاء من سائر الورى، وترادف له الشُّكر من أهل المدائن والقرى.
فالله يمدُّ أطناب دولته السَّعيدة، ويديم صولته الشَّديدة.
بمحمدٍ وآله، ومن سلك على منواله.
حفيده السيد محمد بن علي هو الحفيد السيِّد، صاحب القريض الجيد.
له الطلاقة الهادرة، والبداهة الغريبة النَّادرة.
أدركته وقد شاخ، لكن جمر عزمه ما باخ.
ورماه وهن العظم، بكلال الخاطر عن النَّظم.
إلا أن له في مصادمة الشدائد قوَّةً نفسيَّة، هي أحرى بأن تُمدَّها قوَّةٌ قُدسيَّة.
فهو في حلِّه وترحاله، وخصبه من الآمال وإمحاله.
لا يقرُّ له قرار، ولا ينجلي له سرار.
كأنَّ له عزماً لا يرى بدًّا من إمضائه، ودَيناً في ذمَّة الأيام لا ينثني عن اقتضائه.
وربَّما نال في بعض الوثبات، ما يجدِّد العزائم والرَّغبات.
حتى جاء من العمر على أوفاه، واقتصَّ من مداه الطَّويل واستوفاه.
وقد أثبتُّ من شعره ما كسا أعطافه بروداً مُخضرَّة، وصيَّره في الإشراق للشمس ضرَّة.
فمن ذلك قوله في قصيدة، مطلعها:
يا نسمةً نَسمتْ حبيبي
…
وتمسَّكتْ منهُ بطيبِ
وغدا يُحرِّكُ لُطفها
…
أعطافَ باناتِ الكثيبِ
تمشي وتسحبُ ذَيلها
…
قبل العيونِ على القلوبِ
إن جُزتِ وادي جِلَّقٍ
…
وحللْتِ بالرَّوضِ الرَّحيبِ
ونظرتِ أقمارَ الحمى
…
ومررتِ بالظَّبيِ الرَّبيبِ
ورأيتِ من لفتاتهِ
…
ما منهُ أشجانُ الكثيبِ
وصدفتِ مُتلفَ مهجتي
…
يزورُّ باللحظِ الغضوبِ
يرمي سهامَ لحاظهِ
…
فترى النُدوبَ على النُّدوبِ
يرنو فلا يُخطي الحشا
…
ويلاهُ من سهمٍ مصيبِ
أو جزتِ أرضَ النَّيرب
…
ينِ مع الصَّباحِ أو المغيبِ
ودخلتِ جامعها الشَّري
…
فَ مُقامَ أرباب القلوبِ
ورأيتِ بالشَّرفينِ ما
…
يدعو المحبَّ إلى الحبيبِ
وسمعتِ بُلبلها ينادِ
…
ينا بحيَّ على الطروبِ
ونظرتِ وَرقاها تجسُّ
…
العودَ بالكف الخضيبِ
أو ضعتِ بالمرجِ النَّض
…
يرِ قفي القليلَ وعرِّضي بي
واقري التَّحيَّة أهلهُ
…
عنِّي وبالتَّذكارِ نوبي
واستنطقي بالدُّفِّ ثمَّ
…
الجُنكِ أنواع الضُّروبِ
ثم الثمي الخلخالَ في
…
شوقِ الغصونِ مع الكعوبِ
فسقى دمشقَ وما حوتْ
…
من أنهرٍ مثلُ الضَّريبِ
فلبانياس ورقمهِ
…
نقشٌ على كفِّ رطيبِ
وببَردهِ بردى يزي
…
لُ لجينهُ صدأ القلوبِ
قنواتها برحيقها ال
…
مختومِ فضيِّ الصَّبيبِ
ويخور ثوراها فير
…
وي الحرثَ من تلك الشُّعوبِ
كم وجنةٍ من عقربا
…
فيها بدا أخفى دبيبِ
ويزيدُ دمعي إن ذكر
…
تُ يزيدَ سحًّا بالنُّقوبِ
ما جئتِ داعيةَ الهوى
…
إلا وداراني رقيبي
وإذا ذكرتِ مقاسمَ اللَّ
…
ذَّاتِ لا تنسيْ نصيبي
يا نفسُ مالي إن ذكر
…
تُ سوى دمشقٍ لا تُجيبي
أصفَتْك خالص ودِّها
…
وحمتكِ من مسِّ اللَّغوبِ
ومن مقاطيعه قوله:
جذبتُ بمغناطيسِ لحْظيّ خالهُ
…
فصارَ لجفني ناظراً وعلاجا
ومذْ خفتُ من عينِ المُراقبِ أنبتتْ
…
دموعُ زفيري للجفونِ سياجا
وله من قصيدة، أولها:
أما آنَ أن تُقضى لقلبي وعودهُ
…
ويورقُ من غصنِ الأحبَّةِ عودهُ
فقد شفَّهُ داءٌ من الصَّدِّ مُتلفٌ
…
وليس له غيرُ الضَّنى من يعودهُ
وما حال مشتاقٍ تناءتْ ديارهُ
…
وأحبابهُ مُضنى الفؤادِ عميدهُ
يراقبُ من دورِ النَّسيمِ إرادةً
…
فإن جاءهُ يذكي الجوى ويزيدهُ
حكى النَّجمَ بين السُّحبِ يبدو ويختفي
…
إذا سال أجفاناً وثار وقودهُ
ولو كان يسعى للزَّمانِ ممكَّناً
…
لسارَ ولكن أثقلتهُ قيودهُ
ومن أخرى:
سلوا الجُؤْذُرَ الفتَّاك بالمُقلةِ المرضى
…
أبا للَّحظِ أم بالقدِّ أحرمني الغمضا
فإن كان غيري حبُّه شابه سوى
…
فإنِّي امرؤٌ حبِّي له لم يزل محضا
أرى حبَّ غيري سنَّةً ومحبَّتي
…
يقيناً على هجرانهِ لم تزل فرضا
لقد طال بي ليلُ الصَّبابة والمنى
…
فهل لي من وصلٍ به مهجتي ترضى
وبي ساخطٌ أمَّا هواهُ فمالكٌ
…
من المهجةِ المقروحةِ الكُلَّ والبعضا
وله من أخرى، مستهلها:
سواكَ بقلبيَ لم يحلُلِ
…
وغيرُ مديحكَ لم يحلُ لي
وغيركَ عند انعقادِ الأمورِ
…
إذا اشتدَّتِ الحالُ لم يحللِ
قصدتكَ سعياً على ضامرٍ
…
حكاني نحولا ولم ينحُلِ
يكادُ يسابقُ برقَ السَّما
…
ولولا وجودُك لم يعجلِ
وجرَّدتُ من خاطري صاحباً
…
لشكوى الزَّمانِ وما تمَّ لي
أعاطيهِ كأسَ الهوى مُترعاً
…
شكاةً فألقاهُ لم يملَ لي
وصحبٍ بجلَّقَ خلَّفْتهمْ
…
سواهمْ بقلبيَ لم ينزلِ
وخضتُ بدمعيَ مذ فارقوا
…
وبالصدِّ منزلُ قلبي بلي
فقلتُ لجاري عُيوني قفا
…
لذكرى حبيبٍ مع المنزلِ
وفتَّانةٍ سمتُها وُصلةً
…
فأصْمَتْ بناظرها مقلتي
بقدٍّ تُرنِّحهُ ذابلاً
…
وخدٍّ به الوردُ لم يذبلِ
مهاةٌ من الحورِ في ثغرها
…
رحيقٌ من الرَّائقِ السَّلسلِ
لخَتمِ الجمالِ به شامةٌ
…
تهيجُ البلابلَ كالبلبلِ
تحرَّشَ طرفي بألحاظها
…
وكان من العشقِ في معزلِ
فآبتْ بمُهجتهِ للحمى
…
أسيرَ ظبا طرفها الأكحلِ
وقدَّت شراكَ دُجى شَعرها
…
فصادتْ لطائرِ دمعي ولي
وله من أخرى، أولها:
من سامعٌ لشكايةِ المظلومِ
…
من يومِ أصمتهُ ظباءُ الرُّومِ
هذا بلفتته وذا بعيونه
…
يرنو وذاك بخَصره المهضومِ
من حين صرَمني بصارم لحظهِ
…
ورعى فؤادي مثل ظبي صريمِ
أُنسيتُ أهوائي وعفتُ لذائذي
…
وبه غرامي كان صاحِ غريمي
منها:
لولا حلاواتُ الوعودِ وصدقُها
…
ما سرَّ موسى موعدُ التَّكليمِ
والشُّهبُ لا يأتي الكمالُ لبدرِها
…
إلا بُعيدَ النقصِ للتَّتميمِ
والسُّمرُ لا تُخطى إذا ما ثقِّفتْ
…
بيديْ خبيرٍ بالصِّعادِ عليمِ
والمرءُ لا عارٌ عليه إذا تحا
…
ربتْ الجدودُ وخُطَّةُ التَّعظيمِ
محمد الجوخي نبيه نبيل، ما إلى استيفاء صفاته سبيل.
له الحيا المنهل، والمحيَّا المستهلّ.
والبشرة النَّيِّرة، والأفعال الخيِّرة.
وهو مع انتعاشه، وسلامة أسباب معاشه.
بعيد الهمِّ في توفير الهمَّة، مستعملٌ للأهمِّ في الأمور المهمَّة.
مدُّه بلا جزر، وفضله غير نزر.
لم يؤت جمعه من قلَّة، إلا أن شعره دون قُلَّة.
فمنه قوله، وكتب به في صدر رسالة لبعض أحبابه:
وما شوقُ ظمآنِ الفؤادِ رمتْ به
…
صروفُ اللَّيالي في ملمَّعةٍ قفرِ
شكى من لظى نارين ضُمَّتْ عليهما
…
أضالِعُه نارَ الهجيرِ مع الهجرِ
يُروِّي غليلَ الأرضِ من فيضِ دمعه
…
وليس له جهدٌ إلى غللِ الصَّدرِ
إلى عارضٍ من مزنةٍ عطفتْ به
…
نسيمُ صبا الأحباب من حيثُ لا يدري
بأبرحَ من شوقي لرؤيتك التي
…
أعدُّ لَعمري أنها لذَّةُ العُمرِ
ولده أبو اللُّطف ماجد تكوَّن عنصره من معدن اللُّطف، وغازلت عيون أشعاره الجفون الوطف.
رَبا مَقضِيَّ الأرب، معانق الحظوة والطرب.
تزهو به أربعٌ وأدواح، وتنثر على مراده أنفسٌ وأرواح.
إلا أنه احتضر وهو صغير السن فتِيُّه، واهتُصر وهو رطب الغصن طريُّه.
وله شعرٌ من ماء الشباب مرتوي، إلا أنه كبا كورةِ الثِّمار، منها فجٌّ، ومنها مستوي.
فمنه قوله:
بعيشكمُ أهلَ الصَّبابة والصِّبا
…
أقلْباً رأيتمْ مثل قلبي مُعذَّبا
فلم أرَ لي في محنةِ الحبِّ مُنجداً
…
ولم أستطعْ من فيضِ دمعي تحجُّبا
وقد صرتُ من حرِّ الفراقِ بحيثُ لو
…
يشاهدُ حالي كلُّ واشٍ تعجَّبا
فيا ليت من أهواهُ في الليلِ زائري
…
فمثلي معنًّى صار في حبِّه هبا
سألتُ الذي قد قدَّر البُعدَ بيننا
…
سيجمعنا يوماً يكونُ له نبا
وقوله:
قلبٌ تقلَّبَ في قليبِ محبَّةٍ
…
حتى القرارِ ولم يقرَّ وجيبهُ
متردِّدٌ بين المنيَّةِ والمنى
…
متودد خلَاّ حلا تعذيبهُ
لم يبرَ من حُبٍّ برى أعضاءهُ
…
إذ عَمَّ غَمَّ هو الصَّبا وصبيبهُ
حاكى معينُ العينِ عيناً إذ جرى
…
وعقيبَ ذا وادي العقيق يُجيبهُ
بل رامَ أن لو ريمُ رامةَ زارهُ
…
ضيفاً يزورُ الطَّيفَ يطْفَ لهيبهُ
وأصابَ لمَّا أن صبا الأوصابِ صُبَّ
…
تْ فوقه ورمى أصابَ مصيبهُ
أنفاسهُ نبراسهُ في ليلهِ
…
أو هلَّ هجرٌ ما علاه مشيبهُ
قد شابَ فوْداهُ وشبَّ فؤادهُ
…
مذ طال حين شبا بهِ تشبيبهُ
من بعدِ بُعدٍ يصطلي في نارهِ
…
لم يسلُ أصلاً لو سلاهُ حبيبهُ
وكتب إليه محمد الحادي الصَّيداوي، يطلب منه شدًّا:
يا أبا اللُّطفِ إنَّ لُطفكمْ
…
ليس يُحصى بكثرةِ العدِّ
شُدَّ وسطي بما ترى كرماً
…
ولا تُماطل فكثرةُ الشَّدِّ
فسيَّر له ما طلب، وكتب معه:
مقصدُ ذا العبد من تفضُّلكمْ
…
من غيرِ مَنٍّ قبولُ ذا الشَّدِّ
قد سدتَ فضلاً وشدتَ كلَّ علاً
…
وقد شدَدتَ القلوبَ بالودِّ
تاج الدين بن أحمد المحاسني هو لمفرق الرِّياسة تاج، ولراية السماحة عقيلة نتاج.
رحل مراراً إلى القاهرة مهاجراً، واعتمدها في طلب العلم تاجراً.
ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب، ويملأ من بضائعه ونفائسه وعاءٍ غير سرب.
فما رجع حتى خوَّله الله كمال محاسنه ومحاسن كماله، وأمدَّ جمال رونقه ورونق جماله.
فأقام له الذِّكر المستطاب، والثَّناء الذي ملأ الوطاب.
وهو في الأدب وأنواعه، جامعٌ لإبداعه وإيداعه.
وله كلماتٌ تنشئ الزَّخارف، وتتعلَّم منها النَّقد الصَّيارف.
وقد أوردت من شعره، ما يغالي في سعره.
فمنه ما كتبه في صدر رسالةٍ من مصر إلى ابنه محمد:
أبداً إليكَ تشوُّقي يتزايدُ
…
ولديكَ من صدقِ المحبَّةِ شاهدُ
وأليَّةً إنَّ البعادَ لمتلفي
…
إن دامَ ما يُبدي النَّوى وأكابدُ
كم ذا أعلِّلُ حرَّ قلبي بالمنى
…
فيعيدهُ من طولِ نَأيكَ عائدُ
جار الزَّمانُ عليَّ في أحكامهِ
…
ولطالما شكتِ الزَّمانَ أساودُ
فيه نقد، إذ الأساود جمع أسود، وهو العظيم من الحيَّات، وليست من عظم القدر بمثابة أن يُلتفت إلى شكايتها من الزمان، وكأنه ظنَّ أن الأساود جمع أسد، وليس كذلك.
والدهرُ حاولَ أن يصدِّع شملنا
…
فامتدَّ منهُ للتَّفرُّقِ ساعدُ
يا ليت شعري هل يرقُّ وطالما
…
ألفيْته لأُلِي الكمال يعاندُ
أشكوكَ للمولى الذي ألطافهُ
…
تُزري الخطوبَ إذا أتتْ وتساعدُ
وله:
يا أحبَّايَ والمحبُّ ذكورٌ
…
هل لأيامِ وصلِنا من رجوعِ
وترى العينُ منكمُ جمعَ شملٍ
…
مثلما كان حالةَ التَّوديعِ
وأهدى إلى بعض العلماء سجادة، وكتب معها:
مولاي قد أهديتُ سجَّادةً
…
هديةٌ من بعضِ إنعامكمْ
فلتقبلوها إذ مُرادي بأن
…
تنوبَ في تقبيلِ أقدامكمْ
مثله للشهاب، وقد أهدى منديلاً:
بعثتُ إليك يا أقصى الأماني
…
بمنديلٍ فإن يُقبلْ لديكا
فليس بضاعةً تُهدى ولكن
…
بعثتُ به يُقبِّلُ لي يديكا
ولابن نباتة، وقد أهدى سجادة:
إنَّ سَجَّادتي الحقيقة قدراً
…
لم يفُتها في بابكَ التَّعظيمُ
شرُفَتْ إذ سعتْ إليكَ وأمستْ
…
وعليها الصَّلاةُ والتَّسليمُ
وقال بمصر، يتشوَّق إلى دمشق:
منذُ فارقتُ جِلِّقاً ورُباها
…
لم يزُر مقلتي لذيذُ كراها
وبسكانها الأحبَّةِ عندي
…
فرطُ شوقٍ يكادُ لا يتناهى
فسقى الله ربعها كُلَّ غيثٍ
…
وحمى الله أهلها وحماها
ولهذا الرئيس أبناء كأسنان المشط في التساوي، إذا عُدّت محاسن غيرهم فهي بالنِّسبة إليهم مساوي.
ذكرت منهم كوكبين لاحا في سمائه، وبلَّغهم الله شهرة الكمال، مُعوَّذين بأسمائه.
ولده عبد الرحيم هو من أولاده الكبير، الفائح ثناه بالعنبر والعبير.
نشأ في حجره، وشذا بين سحر القول وفجره.
فهو شابٌّ تدفَّق شؤبوبُ براعته، وتفتَّق عن زهر الربيع روض يراعته.
فأمطر وما استبرق، وأثمر وما استورق.
فللَّه، ما أتمَّ شمائله، وأنمَّ بأنوار المحاسن خمائله.
بحظٍّ من الكمال وافر، ووجهٍ من الجمال سافر.
إلى همَّةٍ أنارت مطلعه، وضمَّت على الشَّغف بالأدب أضلعه.
لكنه لم يلمحه الناظر، حتى قصف قصفة الغصن الناضر.
وقد رأيت له شعراً في صحف الإحسان وثبت، وبلغني أنه أطلعه ونبت، ووجهه قد همَّ أن ينبت أو نبت.
فأثبتُّ منه ما تستحسنه استحسان خطِّ العذار، وتستطيبه استطابة مناجاة محبَّين بعتب واعتذار.
فمنه قوله في الغزل:
ملَّتِ العذَّالُ عن عذلي وما
…
ملّ جفناكِ من الفتك بقلبي
لو رآكِ النَّاسُ بالعينِ التي
…
أنا رائيك بها ما ازداد كربي
واستراح القلبُ من عذلهمُ
…
إنَّ طول العذلِ داءٌ للمحبِّ
بل ولو كان بهم مثلُ الذي
…
بفؤادي لم يمتْ شخصٌ بنَحبِ
ويستحسن له قوله:
تطاولتِ الخمرُ اختباراً لِعقْلنا
…
فقالتْ لنا إنِّي كجفنيهِ أُسكرُ
فبادرها الإنكارُ منَّا لقولها
…
على أنَّنا والله بالحقِّ نُنكرُ
فرقَّتَ لَنعفو واستحتْ فلأجل ذا
…
نرى وجهها يبدو لنا وهو أحمرُ
على ذكر استحياء الخمر، تذكرت لطيفة، وهي: أن بعض الظرفاء كان يشرب الخمر سرًّا، وكان والده يمنعه، وما زال أبوه يترصده إلى أن لقيه يوماً، ومعه زجاجة خمر، فقال: ما هذا؟ قال: لبن.
قال: اللَّبن أبيض، وهذا أحمر! قال: صدقتَ، لما رآك خجِل واحمرّ، وقبَّح الله من لا يستحي. فخجل، وانصرف، وخلَاّه.
وقوله:
أسيرُ وقلبِي عندكُم لستُ عالِماً
…
بما فيه هاتِيكَ اللَّواحِظُ تَصنعُ
وما زِلتُ مشتاقاً لِطيْفِ خيالِكم
…
وإِنِّي من الدُّنيا بذلكَ أقنعُ
وقوله:
قالَ العذولُ دَعِ الذي في حُبِّهِ
…
عيناكَ قدْ سمحتْ بدمعٍ هامِعِ
فأجبتُه إن كنتَ لستَ بناظِرٍ
…
هذا الغزالَ فلستُ منك بسامِعِ
وقوله:
لي فؤادٌ على المودَّةِ باقِ
…
لم يزِغْ عن تذكُّرِ الميثاقِ
غيرَ أنَّ البُعادَ جارَ عليه
…
فبراهُ ولم يدَعْ منه باقي
وجفونٌ جفَتْ لذيذ كراهة
…
واسْتفاضتْ بمدمعٍ غيداقِ
كلَّما طالَ عهدُها طالَ منها
…
مدمعٌ يرتَقي وليسَ براقِ
إنَّ درًّا أودعتموهُ بأُذني
…
درَّ مذْ بنتُمُ من الآماقِ
وهذا معنًى مشهور. وله:
يا من نأى متجبِّراً يا جاني
…
صيَّرتني متحيِّراً في شانِي
هلَاّ وقدْ أبعدْتني وقلَيتَني
…
أرسلتَ طيفكَ في الكرَى يلقانِي
أمْطرتَ منِّي عَبرةً هي عِبرةٌ
…
فضحتَ هوًى متستِّراً بجنانِي
هذه الأبيات فيها التوشيح.
قال ابن الأثير في المثل السائر: وهو أن يبنيَ الشاعر أبياته على بحرين مختلفين، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعراً مستقيماً، من بحرٍ آخر، على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح.
وكذلك يجري الأمرُ في الفقرتين من الكلام المنثور، فإن كل فقرة منها تصاغ من سجعتين، وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلاً، وليس من الحسن في شيء، واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور. انتهى.
وتسميته له بالتوشيح مخالف لما عليه أصحاب البديعيات؛ فإنهم يسمُّونه التَّشريع، إلا ابن أبي الإصبع؛ فإنه سنَّاه الالتزام، وأراد بذلك مطابقة التَّورية للمسمى. والاصطلاح لا مشاحَّة فيه.
ولده محمد الخطيب لوذعيٌّ فضائله لا تتناهى، وبمحاسنه تتجمل الأوقات وتتباهى.
إذا قام على منبر المسجد الجامع، تمنَّت الجوارح أن تكون كلُّها مسامع.
وهو لكلِّ عينٍ تراه حبيب، ولسان الدَّهر بمحاسنه خطيب.
تنشر في كل وادٍ مدائحه، كما تشكر في كلِّ نادٍ منائحه.
وتهتزُّ أعواد المنابر باسمهِ
…
فهلْ ذَكِّرتْ أيَّامها وهي أغصانُ
فضائل الدنيا في ذاته محصورة، وأسباب العليا في جنابه مقصورة.
وله آثار أقلامٌ كأنَّها في محاريب رقِّه المنشور، قناديل ليلٍ قيِّدتْ بسلاسل السطور.
أدركتُه وسور محاسنه تتلى، وصور فضائله في مرايا المحامد تجلى.
ثم أدركه الأجل، فوضِع على الأعواد، ووُدِّع من القلب بالسُّويداء ومنه النَّاظرُ بالسَّواد.
فاستوحش الجامع لبعده، وتبدَّلت معالمه من بعده.
حتى اشتعلت مصابيحه بنار مصابه، وتقوَّس لفرقة ذاك الصَّدر ظهر محرابه.
وقد ذكرت من شعره ما ينفح عن زهر معانيه، وينبعث في حسن الأسلوب عن غرض معانيه.
فمن ذلك قوله من نبويَّةٍ، مطلعها:
تذكَّر من أسماءَ ربعاً ومعهدا
…
فعنَّ له وجدٌ أقامَ وأقعدا
وأطْلقَ من عينيهِ سُحبَ مدامِعٍ
…
حكتْ فوق خدَّيهِ الجُمانَ المنضَّدا
بعيدٌ عن الأحبابِ دانٍ بقلبهِ
…
يهيمُ إذا ما ساجعُ الدَّوحِ غرَّدا
متى وعدتْ آمالُه الوصْلَ مرةً
…
ألمَّ بِها داعِي المِطالِ ففنَّدَا
أمَا وهوًى بينَ الجوارحِ كامنٍ
…
به الصَّبُّ مجدودٌ وإن كانَ ذا جدَا
لئِنْ زارني طيفُ الأحبَّةِ مرةً
…
وأوطأْتُه خدًّا ووسدْتُه يدَا
غفرتُ ذُنوبَ الدَّهرِ من بعدِ ما سطَا
…
وسالمْتُ صِلَّ الدَّهرِ من بعدِ ما عدَا
وعدتُ إلى رُشدِي بمدحِي محمَّداً
…
نبيَّ الهُدى والعوْدُ ما زالَ أحمدا
وقوله:
وتنفُّسِي الصُّعداءَ ليسَ شِكايةً
…
ممَّا قضتْهُ سوابِقُ الأفكارِ
لكن بقلبِي جُملةٌ تفصيلُها
…
صعبٌ لدى العُقلاءِ والأحرارِ
فجعلتُ موضِع كلِّ ذلك أنَّةً
…
ضمِنتْ مُرادِي من عطاءِ البارِي
ومن ملحه موشَّحه الذي عارض به موشح بنت العرندس الشيعي، ومطلعه:
أهواهُ مُهفهفاً من الولدانِ
…
ساجِي الحدقِ
قدْ فرَّ من الجِنانِ من رضوانِ
…
تحت الغسَقِ
من ريقته سكرتُ لا من راحِي
كمْ جدَّدَ لي رحيقُها أفراحِي
كمْ أسكرنِي بخمرِها يا صاحِ
كمْ أرَّقنِي بطرفِه الوسنانِ
…
حتَّى الفلقِ
لو عاملَه بعدلِه ذا الجانِ
…
أطفَا حُرقي
من باهرِ حسنهِ يغارُ القمرُ
في روْضِ جمالِهِ يحارُ النَّظرُ
قدْ عزَّ لديّ إن بدَا المصطبَرُ
ما اهتزَّ يميل ميلةَ الأغصانِ
…
للمعتَنِقِ
إلَاّ وأتاحَ للمحبِّ العانِي
…
كلَّ القلقِ
يا ويحَ محِبِّه إذا ما خطرَا
كالبدرِ يلوحُ في الدَّياجِي سَحَرا
إن أقضِ ولمْ يقضِ لقلبي وطَرَا
فالويلُ إذاً لمغرمٍ ولهانِ
…
في الحُبِّ شَقِي
قدْ حمِّل في العِشقِ من الهِجرانِ
…
ما لمْ يطِقِ
القدُّ رشيقٌ مثلَ خوطِ البانِ
واللَّحظُ كسيفِ الهندِ في الأجفانِ
والخالُ شقيقُ المِسكِ في الألْوانِ
والخدُّ مورَّدٌ أسيلٌ قانِي
…
شِبهُ الشَّفقِ
والعارِضُ قدْ سُلسِلَ كالرَّيحانِ
…
للوردِ يقِي
يا عاذلُ لو أبْصرتَ من أهواهُ
ناديتَ تباركَ الذي سوَّاهُ
قد أحسنَ خلقهُ وقدْ نمَّاهُ
إذْ كمَّله وخصَّ بالنُّقصانِ
…
بدرَ الأُفقِ
قدْ أفرَغهُ في قالبِ الإحسانِ
…
زاكِي الخُلُقِ
الصَّبرُ على لُقياهُ مثلُ الصَّبرِ
والقلبُ غدا من هجرِهِ في جمْرِ
ما ألْطفهُ في وصلِهِ والهجْرِ
لم ألقَ له في حسنِهِ من ثانِي
…
حُلوِ المَلَقِ
ما واصلَ بعدَ بُعدِه أجفانِي
…
غيرُ الأرقِ
ومطلع الموشح الذي عرضه، هو هذا:
ما رنَّحتِ الصَّبا غصونَ البانِ
…
بين الورَقِ
إلَاّ وشجَا الهوى فؤادي العاني
…
نارَ الحُرقِ
ما هبَّ صبالنحوك القلبُ صبالاقى وصبا
يا بدرَ سماسما على بدرِ سماللناسِ سَبا
صِلني فعسىتنالُ منِّي ذَهباعقلي ذهبا
والقلبُ منِّي موقدُ النِّيرانِ
…
نامي القلقِ
والناظرُ قد أسال من أجفاني
…
ماءَ الغَدقِ
وللمحاسني من قصيدة:
أيا مربعاً عهدي به وهو آهلُ
…
سقاكَ من الغيثِ المُلثِّ هواطلُ
لكَ الله من رَبعٍ تفيَّأتُ ظلَّهُ
…
وواصلني فيه الحسانُ العواطلُ
ألفتُ به نشوانَ من خمرةِ الصِّبا
…
تفوق الصَّبا في اللُّطفِ منه الشمائلُ
إذا ما تثنَّى فهو غصنٌ وإن بدا
…
له تسجدُ الأقمارُ وهي كواملُ
أغنُّ غضيضَ الطَّرفِ يرنو فأنثَني
…
وفي القلبِ من تلكَ اللِّحاظِ ذوابلُ
أقام بقلبي منه حبٌّ مبرِّحٌ
…
وما القلبُ إلا للغرامِ منازلُ
وخضتُ بحارَ العشقِ حيرانَ تائهاً
…
وما لبحارِ العشقِ ويلاه ساحلُ
وما كنتُ أدري يا ابنةَ القومِ ما الهوى
…
وهل يعرفُ الإنسانُ مالا ينازلُ
رضيتُ بأن أقضي قتيلَ يدِ الهوى
…
إذا كان يُرضي الحبَّ ما أنا فاعلُ
رعى الله أياماً تقضَّتْ بحاجرٍ
…
إذ العيشُ غضٌّ والحبيبُ مواصلُ
زمانٌ به غصنُ الشَّبيبةِ يانعٌ
…
يرفُّ وطرفُ الدهرِ وسْنانُ غافلُ
وحيَّى على رغمِ الوُشاةِ ليالِياً
…
أطعتُ الهوى لمَّا عَصَاني العواذِلُ
ليالِيَ لا ريحانةُ العِشقِ صوَّحَتْ
…
ولا رنَّقتْ عن واردِيه المناهِلُ
أيا برقُ سلْ عن زَفرَتِي ساكِنَ الغضَا
…
ويا غيثُ سلْ عن مدمعِي وهو سائِلُ
ويا بانةَ الوادِي تشفَّعتُ بالصَّبا
…
لديكِ هل الرَّكبُ اليمانيُّ قافِلُ
ويا ظبياتِ القاعِ لولاكِ لمْ أبتْ
…
وفي القلبِ من هُجرِ الوُشاةِ شواغِلُ
ويا نسمةَ الأحبابِ هل فيكِ نفحةٌ
…
يحيَّى بها صبٌّ شجتْهُ بلابِلُ
تُرى يسمحُ الدَّهرُ الخَؤونُ بأوبةٍ
…
وأُمنِيَّتي منْهُ غرورٌ وباطِلُ
فمَا كانَ منهُ صادِقاً كان كاذِباً
…
وما كانَ منهُ مخْصِباً فهوَ ماحِلُ
لحَى اللهُ دهْراً أثقَلَتْني صُروفُه
…
يُذيبُ الرَّواسِي بعضُ ما أنا حامِلُ
فيا دهْرُ قدْ برَّحْتني وتركْتني
…
تراميْنَ بي منكَ الضُّحى والأصائِلُ
وأشْمتَّ بالأعداءَ حتَّى تيقَّنوا
…
بأنِّي لا عونٌ لديَّ يحاوِلُ
وهلْ أختَشِي دهْراً وبدرُ مآرِبي
…
بدَا وهْو مذْ يمَّمتُ أحمدَ كامِلُ
وله:
قسماً بالعفافِ في الحبِّ عمَّا
…
يُغضِبُ اللهَ من كِلا الطَّرفينِ
لمْ يُغيِّر ما بيننا البُعدُ إلا
…
أنَّ طيبَ الرُّقادِ فارقَ عينِي
أحمد بن محمد، المعروف بابن المنقار هو من عرف بكرم الشيمة، من منذ تنصَّل من المشيمة.
فجاء كما شاءت الظنون، متحقِّقاً بجميع الفنون.
وأعاد رسماً من بيته دثر، ونظم شملاً كان قد انتثر.
وما استعار مجدا، ولا أضافَ إلى جدِّه جدَّا.
ثم دخل الروم، فحظِي من الأمانيِّ بما يروم.
متفيِّئاً من النشوة وارفها، وملتحفاً من الصَّبوة مطارفها.
فأذهلته لذة لدَدِه، عما كان بصدده.
وعبثتْ به السوداء من عيون ظباها، والضُّعفاء من الجفون التي سقيت بماء السِّحر ظُباها.
فآل أمره إلى جنون أضرَّ عقله، واقتضى إلى وطنه الأصليِّ نقله.
فحلَّه وجيدُه مطوَّق بطوق، وهو محمولٌ على أدهم لا يجهده سوقٌ ولا شوق.
وبقيَ على تلك الحالة، وقد غيَّر الدَّهر سمته وأحاله.
إلى أن فارق دنياه، وخلص من قيد الحياة.
وقرأت بخط البوريني، أنه زاره، وحيَّا بفم الوجد مزاره.
وهو في تلك السلسلة، وأحاديث حاله عنه مسلسلة.
وهو يظنُّ أن ماء رويَّته جمد، وشرر ذكائه بالكلِّية خمد.
فلما لمحه، لم يدع ملحه.
قال: فأومأ إلى حالته، وأودعني بيتي الوداعي، ثم خلَاّني أجيب سائل دمعي وأنا الدَّاعي.
والبيتان هما:
إذا رأيْتَ عارِضاً مُسلسَلاً
…
في وجنةٍ كجنَّةٍ يا عاذِلي
فاعلمْ يقيناً أنَّنا من أمَّةٍ
…
تُقادُ للجَنَّةِ بالسَّلاسِلِ
وهذه نبذة من شعره أيام إفاقته، وهو يتَّخِذ شهب السَّماء من رفاقته.
فمن ذلك قوله من قصيدة:
أتَى ينْثَنِي كاللُّدنِ بلْ قدُّهُ أسْمى
…
غزالٌ بفعلِ الجِفنِ يُلهِيكَ عنْ أسمَا
فريدُ جمالٍ جامعُ اللُّطفِ جُؤْذُرٌ
…
أمينُ كمالٍ أهْيَفٌ أحْورٌ ألْمَى
إذا ما بدَا أو ماسَ تِيهاً وإن رنَا
…
ترى البدرَ منهُ والمُثَقَفَ والسَّهمَا
له مقلةٌ سيَّافةٌ غِمدُها الحشا
…
ونبَّالةٌ قلبي لأسهُمِها مَرمَى
تجسَّم من لطفٍ وظرْفٍ أما ترَى
…
تَغيُّره لمَّا تخيَّلْتَه وَهْما
هذا من قول بعضهم:
نظرتُ إليهِ نظرةً فتحيَّرتْ
…
بدائِعُ فكرِي في بَديعِ صِفاتِهِ
فأوْحى إليه الطَّرفُ أنِّي أُحِبُّهُ
…
فأثَّرَ ذاك الوهمُ في وجناتِهِ
وأبلغ منه قول النَّظَّام:
توهَّمه طرفِي فآلَمَ خَدَّهُ
…
فصارَ مكانَ الوهمِ من نَظرِي أثْرُ
ومرَّ بفكرِي خاطِراً فجرَحْتُهُ
…
ولمْ أرَ خلقاً قطُّ يجرحُه الفِكْرُ
ولخالد الكاتب:
لوْ لحظَتْهُ العيونُ مُدمِنَةً
…
لذابَ من رِقَّةٍ فلم يجدِ
وللمنقاري من قصيدة، مطلعها:
قلْبي بِنيرانِ المحَبَّةِ مُصطَلِمْ
…
خوفَ الفِراقِ لمن به حالِي عُلِمْ
منها:
يا ويحَهُ من جَوْرِ ظَبْيٍ أهيَفٍ
…
سُلطانِ حُسْنٍ منه صبٌّ ما سَلِمْ
قد حجَّبَتْهُ من الأسِنَّةِ مُقلةٌ
…
غزلَتْ فحاكَتْ للورَى ثوبَ السَّقَمْ
جيدُ الغزالةِ منه إلَاّ أنَّها
…
لمْ تحكِهِ نوراً إذا هو قد بَسَمْ
فيه استخدام، وقد يقع كثيراً في لفظ الغزالة بهذين المعنيين.
وانتقد بما قاله الصفدي في شرح لاميَّة العجم: إنه لم يسمع إلا بمعنى الشمس في أول النهار إلى الارتفاع، وأما في مؤنث الغزال فلا يقال غزال، بل ظبية.
وقد غلَّطوا الحريري في قوله: فلما ذرَّ قرنُ الغزالة طمر طُمور الغزالة.
وقالوا: لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس، فإذا أرادوا تأنيث الغزال، قالوا: الظَّبية.
وقد ردَّ هذا الدماميني في حاشيته، وأورد له شواهد.
واعتمده الشِّهاب الخفاجي في شفاء الغليل، حيث قال: غزالة مؤنث الغزال، واسمٌ للشمس مطلقاً، أو في وقت شروقها.
قال التبريزي: سمِّيت بذلك لأنها تطلع في غزالة النهار، أي أوَّله.
وقال المعرِّي: سمِّيت بها، لأنها تمدُّ الشُّعاع ما هو كالغزْل، فهي مشدَّدة في الأصل، خُفِّفَتْ.
وقال فيه:
الرَّدْنُ والغَزْل للغوانِي
…
خُلقانِ عُدَّا من الجزالَهْ
والشَّمسُ غَزَّالةٌ ولكنْ
…
خُفِّفَتْ الزَّايُ في الغزالهْ
عبد اللطيف الجابي هذا الأديب تميَّز بنفسه، وتخيَّر من جنسه.
فزاحم الكواكب بالمناكب، وقد نسجت دهراً على اسمه العناكب.
وظهر كاسياً من مطمورة الخفا، وما كان خلَاّه في القبر إلا الحفا.
وعزم لا يتخلَّى ولا يستريح، ولا يسكن إلى راحةٍ بل يقلع كل ريح.
فاتحاً عينيه إلى كلِّ مطلب بأقدام هائمٍ مستبق، كأنه صورةٌ ممثَّلةٌ ناظرها الدَّهر غير منطبق.
فهو من القوم الذين أنفقوا عمرهم تملُّقاً وتجملاًّ، واصطلحوا على أن سمُّوا تجرُّع السَّمِّ تحمُّلاً.
وكان له في النَّظم أوفر نصيب، إلا أنه يخطئ تارةً وتارةً يصيب.
وقد رأيت أشعاره في سفينةٍ عامَ في بحرها وهام، وأودعها من خطِّ الملائكة ما لا يفهم إلا بمَلَك الإلهام.
فلم يقع اختياري إلا على أبياتٍ تأنَّقتُ في استخراجِها، وهاهي كما نُظِمت اللآلي في أدراجها:
ما كانَ يخطُرُ قطُّ في أوْهامي
…
أنَّ الأُسُودَ مصائِدُ الآرامِ
مما ينبغي أن ينبَّه عليه ما ذكره المبَرِّد في كامله أن الآرام مهموزُ ما بعد الرَّاء واحدُها رِئم، مثل بئر وآبار، فإذا لم تهمز فهي الأعلام، واحدها أرم، وهي العلامات في الطَّريق.
قِفْ حيثُ فوَّقَتِ اللِّحاظُ سِهامَها
…
وانظُر لِمرمِيٍّ هناكَ ورامِ
وسَلِ الأمانَ فكم خَلِيٍّ فارغٍ
…
أمسى قتيلَ محبَّةٍ وغَرامِ
للهِ ما بالقلبِ والأحشاءِ منْ
…
حُزْنٍ وما بالجسمِ من أسْقامِ
ومدامِعٌ تَهْمي فيَحرِقُ لَذْعُها
…
خدِّي ومن يقوَى لِلذْعِ هوامِ
وبمُهْجَتِي البدرُ الَّذي وجَنَاتُه
…
وعِذارُه كالوردِ والنَّمامِ
القاتل الآلاف من عشَّاقِهِ
…
عمْداً بلا حرج ولا آثامِ
إنْ لم يكنْ بمحدَّدٍ ومُثَقَّلٍ
…
فبِسحرِ ألفاظٍ وسِحرِ كلامِ
باللَّحظِ منه غَنِيتُ عن زَهرٍ وعن
…
خمرٍ فمِنه نرْجِسي ومُدامي
في خَدِّهِ لامٌ تجُرُّ إلى الهوى
…
فالقلبُ مجرورٌ بتلكَ اللَاّمِ
ظَبْيٌ من الأتراكِ مُرعاهُ الحَشَا
…
والمورِدُ العذبُ العزِيزُ الهَامي
عرَفَ المُرادَ من الدُّموعِ فلم يزلْ
…
يَرنو لِعاشقِهِ بِطرْفٍ ظامِي
محمود المجتهد مجتهد المذهب الكلامِيّ، يقوِّم منه ما اختل، ويصحِّح من تراكيبه التي دخلها الجهل المركَّب ما اعتل.
بسانٍ ينقِّي الكُلف، إلا أنه كلِف بتلك الكُلف.
وهو في تقييده وضبطه، وحلِّه لتشبُّك الغرض وربطه.
في حدٍّ لا يأتي عليه تحديد، ولا يعبِّر عنه لسانٌ حديد.
وله حديثٌ يُزري عذوبةً بالرُّضاب، وتحلُّمٌ يستخفُّ راسية الهِضاب.
فلذا هو بطيبِ العشرة مذكور، وبألسنة الظُّرفاء محمودٌ ومشكور.
والرَّغبات إليه نازعة، وعلى معاشرته متنازعة.
تستدعي إيثاره وإدناه، وتملأُ بماء النَّعيم إناه.
وهو لا يؤثر الرَّجعة، إلا إذا اسْتَمرَعَ النُّجعة.
وإذا حضر ارتمى قبل الاقتداح شرارُه، وفرَى قبلَ الانتضاء غُرارُه.
ولا يقرع منادمه على فراقه سنَّ النَّدم، حتى يمتلئَ طرباً من الفرقِ إلى القدم.
وقد رأيت له أشعاراً، أكثرها في ذمِّ الزَّمان، وقد رماه في مطالبه بسهام الحرمان.
فمنه قوله:
ألِفَ الزَّمانُ مساءتِي وبِعادي
…
ورمَى بسهمِ البَيْنِ عينَ فُؤادِي
فألِفتُ ما ألِفَ الزَّمانُ وما أرَى
…
إلا تنغُّصَ عيشتِي وكَسادِي
والذُّلُّ في أبوابِ من لا يرْعوِي
…
حال الفقير وسُؤْدد الأوْغادِ
وقوله معارضاً أبيات الحريري، في المقامة الثامنة والأربعين، وهي:
عِشْ بالخِداعِ فأنتَ في
…
دهرٍ بَنوهُ كأُسدِ بيشَهْ
وأدِرْ قناةَ المَكرِ حتَّى
…
تستَدِيرَ رحَى المعيشَهْ
وصِدِ النُّسورَ فإن تعذَّ
…
رَ صيدُها فاقنع بريشَهْ
واجنِ الثِّمارَ فان تَفُتْ
…
كَ فَرَضِّ نفسكَ بالحَشيشَهْ
وأرِحْ فُؤادكَ إنْ نبَا
…
دهرٌ من الفِكَر المُطيشَهْ
فتَغايرُ الأحداثِ يُؤ
…
ذِنُ باسْتِحالةِ كلِّ عِيشَهْ
وأبياته هي هذه:
قال الدِّمشقيُّ الذي
…
كَرُّ النَّوائبِ حَصَّ ريشَهْ
كيفَ الخِداعُ ودهرُنا
…
أبناهُ صادوا أُسْدَ بيشَهْ
وقناة مكري ى تدو
…
رُ فتسْتديرَ رَحى المُعيشَهْ
والطَّيرُ في أفقِ السَّما
…
ءِ فكيفَ أبلغُ منهُ ريشَهْ
ورِياضُ آمالِي جفَاها الْ
…
خِصْبُ حتَّى لا حشِيشَهْ
ومَعيشتِي ضَنْكاءُ في
…
بلَدِي استحالَتْ كلُّ عِيشَهْ
وله:
ومن البليَّة أن ترَى ما لا يُرى
…
وترومَ بذلَ المجدِ من غيرِ المَلِي
وتبيعَ مخزونَ العلومِ لجاهلٍ
…
وتجودَ بالعلياءِ عند الأرذَلِ
وتزين من درِّ الخطابِ فرائِداً
…
قد شِنتَها بِخطابِ من لمْ يعقِلِ
أُوَّاهُ من نكدِ الزَّمانِ وجَوْرِهِ
…
وترفُّع الأنذالِ والمُتسَّفِلِ
ومن الرَّزيَّةِ لا ترَى من مُنْصِفٍ
…
أوْ مُسْعِفٍ إلا وبالأهوَا مَلِي
وَالَهْفَ قلبي من زمانٍ شأنُهُ
…
رَمْيُ الأفاضلِ بالعناءِ المُعْضَلِ
وتعزُّزِ الوغدِ اللَّئيمِ أخِي الأذَى
…
وتذلُّلِ العزِّ الكريمِ المأمَلِ
فاضَ اللِّئامُ وغاضَ كلُّ مُمَنَّعٍ
…
وسطَا بِسطوِ البأسِ كلُّ مُجَهَّلِ
وتوزَّعتْ نُوَبُ النَّوائبِ وانثنَى
…
فيها الكِرامُ بِذِلَّةٍ وتملمُلِ
وارتاحَ منها كلُّ خَبٍّ جاحدٍ
…
وبها رَقَى العلياء كلُّ مُعلِّلِ
محمد بن تقيِّ الدين الزُّهيرِيِّ زهرة الأدب ونزهته، وخلسة الحظِّ ونهزته.
ومن تخمَّرت طينته بماء اللَّباقة، فأفرغن جِسماً في قالب اللَّياقة.
أدركته وقدُّه من الهرم يرتعش، لكن بمنادمته الرُّوح تنتعش.
وسمعتهم يقولون: إنه في ريعان غضارته، كان محسود الغصن الفَيْنان في نضارته.
ثم مَحَا سِنُّه محاسِنه، ولكن يعزُّ على ذي لسَنٍ أن يلاسِنه.
وعهدت أبي بوَّأهُ الله دار رضوانه، يميِّزه بالفضل عن أخدانه وإخوانه.
ويقول: هو تامُّ في آلته، لو أن قلبه متماسكٌ متمالكٌ، كاملٌ في حالته، إلا أن مدد صبرِه متفانٌ متهالك.
وقد رأيت له شعراً قذف به بحر طبعه، فذكرت منه ما يدلُّ على فضله دلالة الماء على صفاء نبعه.
فمنه قوله:
إذا زرتَ الصَّديقَ الشَّهرَ يوماً
…
يرى إكرامَ مثواكَ الثَّوابا
وإن كرَّرته يوماً فيوماً
…
ولم تحُزِ السَّلامَ ولا الخِطابَا
فإنَّكَ أُبْتَ للطَّاغي مآباً
…
جزاءً لا عطاءَ ولا حِسابَا
وقوله:
صدِيقُكَ إن تزُرهُ بِصدقِ وُدٍّ
…
فقلٍّلْ من زِيارتِكَ الزِّيارهْ
فزُرْ غَبًّا إذاً تزدادُ حُبًّا
…
وخفِّفْ فالزِّيارة قيل غارَهْ
هذا الباب، مما حرَّض فيه أولو الألباب، والحديث المذكور فيه دستور العمل بين الأحباب.
وفي عقده جمعٌ كثير، في نظِيم لهم ونثِير.
فمن ذلك:
إذا شئتَ أنْ تُقْلَى فزُرْ متواتِراً
…
وإن شئتَ أن تزدادَ حبًّا فزُرْ غَبَّا
ومنه: الزيارة زيادةٌ في الصَّداقة، وقلتها أمانٌ من الملالة، وكثرتها سببٌ للقطيعة، وكلُّ كثير عدوُّ الطَّبيعة، وما أحسنَ ما قال صاحِب الشَّريعة:" زُّرْ غَبًّا تزدد حُبًّا ".
ومن هذا الباب قول الآخر:
عليكَ بإقلالِ الزِّيارة إنَّها
…
إذا كثُرتْ كانتْ إلى الهجرِ مسلَكَا
فإني رأيتُ القَطْر يسأَمُ دائِماً
…
ويُسأَلُ بالأيدِي إذا هوَ أمسَكَا
وقوله:
أقلِل زِيارَتك الصَّدي
…
قَ تكون كالثَّوبِ استجَدَّهْ
إنَّ الصَّديق يُمِلُّهُ
…
أن لا يزال يراك عنْدَهْ
وقول أبي تمَّام:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ
…
لِديباجَتَيْهِ فاغترب تتجدَّدِ
فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زِيدتْ محَبَّةً
…
على النَّاسِ إذ ليستْ عليهم بسرمَدِ
وكان للبهاء السنجاري صاحبٌ، وكان بينهما مودةً أكيدة، واجتماع كثير، ثم جرى في بعض الأيام عتاب، وانقطع ذلك الصاحب عنه، فسيَّر إليه يطلبه؛ لانقطاعه، فكتب إليه بيتي الحريري، اللَّذين في المُقامة الخامسة عشرة:
لا تزُرْ من تُحِبُّ في كلِّ شهرٍ
…
غيرَ يومٍ ولا تزِدْهُ عليهِ
فاجتلاءُ الهِلالِ في الشَّهرِ يومٍ
…
ثمَّ لا تنظُرُ العيونُ إليهِ
فكتب إليه البهاء من نظمه:
إذا حقَّقتَ من خِلٍّ وِدادا
…
فزُرهُ ولا تخف منه مَلالا
وكُّن كالشَّمسِ تطلُع كلَّ يومٍ
…
ولا تكُ في زيارتِهِ هِلالا
قلت: هذا قليل، والكثير يدعو في الزِّيارة إلى التَّقليل.
وللزُّهيري:
ألا رُبَّ من تحنو عليه تلطُّفاً
…
ويُعجبكَ القولُ الذي منه صادرُ
وإن تختبرْ منه طويَّته إذاً
…
وناشدْتها ساءتكَ منه الضَّمائرُ
فلا تغتررْ في لينِ قولٍ وتأمننْ
…
إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ
فما الصِّلُّ إلا ليِّنُ اللَّمسِ ظاهراً
…
وباطنُه سمٌّ ومنه التَّحاذرُ
ألمَّ في هذه الأبيات بقول عبد الحق الحجازي:
ألا رُبَّ من تحنو عليه ولو ترى
…
طويَّتهُ ساءتكَ منه الضَّمائرُ
فلا تأمنن خلاًّ ولا تغتررْ به
…
إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ
وقوله: فما الصِّلُّ إلا من قول بعض البلغاء، الدنيا كالحية ليِّنٌ مسُّها، قاتلٌ سمُّها.
ومن فصول الصاحب: مسُّ السيف ليِّن، ولكن حدُّه خشن، ومسُّ الحية ليِّنٌ ونابها أخشن.
ومن نوادر ابن الجزَري، قوله من قصيدة:
ولئنْ خبرْتَ بني الزَّمانِ وخِسَّةُ ال
…
آباءِ تُنتجُ خِسَّة الأبناءِ
إيَّاكَ تركنُ منهمُ لمماذقٍ
…
يُبدي الوفاءَ ولاتَ حين وفاءِ
وتجنَّبنْ من لينِ ملمسِ عطفه
…
فالعضبُ يصدأُ متنهُ بالماءِ
وللحصري في هذا المعنى:
كم من خليلٍ عندي شهدهُ
…
حتى بلوتُ المرَّ من أخلاقهِ
كالملحِ يُحسبُ سكَّراً في لونهِ
…
ومجسِّه ويحولُ عندَ مذاقهِ
وللزُّهيري:
يا من تلبَّس في الفخارِ بلُبسهِ
…
والجهلُ منه مركَّبٌ من لُبسهِ
الفضلُ عند المرءِ يكسيه سناً
…
وسناؤه يكسيه رونقَ حسنهِ
لا تزدري برثيتِ خلقة ثوبهِ
…
عند التنفُّسِ في الكلام لنفسهِ
من كان من نوعِ الكمالِ مُكمَّلاً
…
نال الغنى من فضلهِ مع جنسهِ
وله:
يا من إليَّ قد وشى
…
بنقلِ سوءٍ ولغا
مذمَّتي سمعتُها
…
من الذي قد بلَّغا
في المثل: مبلِّغ السوء كباغيه.
وقيل أيضاً: " ما غاظك إلا من بلغك "، " وسبَّك من بلَّغك السَّبَّا " و " المبلِّغ أحد الشَّاتمين ".
وراوية الهجاء أحد الهاجين، والسامع للغيبة أحد المغتابين.
وله:
إنَّما القاضي لمُستثقلٌ
…
في اللفظِ يا صاحِ مع المعنى
يظهرُ فيه النَّصبُ من جرِّه
…
وحظُّه في السم كالمعنى
أورد هذين البيتين في شرحه على لامية ابن الوردي، عند قوله:
إنَّ للنَّقصِ والاستثقالِ في
…
لفظةِ القاضي لَوَعظاً ومثلْ
أمين الدين بن هلال الصالحي أحد الشُّهود العدول، لكنه عن الخير من العدول.
فهو إن لم يكن في دين الصابي، فقد نزع بسلبه الأعراض منزع المتصابِي.
فكم حرٍّ مدحه ثم ثلبه، وكم عرضٍ كساه ثم سلبه.
فهو شاعرٌ تنمُّ أفكاره عن أسرار العيوب، وكاتب يرشحُ بمداد قلمه ذنوب الذُّنوب.
إلا أنَّ كلِمه وقلمه لم يرميا قطُّ بكلال أو ملال، وإذا كتب أو أنشأ أراك يد ابن هلال، تنقل عن فم ابن هلال.
فمن أهاجيه قوله في بعض الأدباء:
يخوضُ بعِرضٍ من غدا عارَ دهرِهِ
…
ومن هو أدنَى من سجاحٍ وأكذَبُ
ومن أقعدتْهُ همَّةُ المجدِ والعُلا
…
وطارتْ بهِ للخِزيِ عنقاءُ مُغرِبُ
ومن كانَ في عهدِ الحداثةِ ناقةً
…
يُقادُ إلى أردَى الأنامِ ويُركبُ
وقدْ كانَ قصدِي أن أبيِّنَ وصفهُ
…
ولكن إهمالُ القبائِحِ أنسَبُ
ومما ينسب إليه من المجون الذي يزري بسلافة الزَّرجون، أنه دخل على الرئيس أبي السُّعود بن الكاتب، فأنشده بديهاً:
يا من بهِ رقَّ شِعري
…
وجالَ في الفِكرِ وصفُهْ
قدْ مزَّقَ الدَّهرُ شاشي
…
والقصدُ شاشٌ ألفُّهْ
من هذا، وهو أحسن ما سمعت في طلب حلَّةٍ قول الشِّهاب:
حالِي يستنجِزُ الأماني
…
ويطرُدُ الخُلفَ من وعودِهْ
وحلَّتي كلُّها عيونٌ
…
ترنُو إلى مجدِهِ وجودِهَ
وكان بينه وبين عبد الحق الحجازي عهودٌ موثَّقة، ومودِّة كمائمها عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر معتَّقة.
ثم انقطع أمين الدين، فكتب إليه يستعطفه:
طالَتِ الأشواقُ وازدادَ العَنا
…
وتمادَى الهجرُ فيما بينَنَا
فامنحوا القُربَ محِبًّا مخلِصاً
…
فلعلَّ القُربَ يشفي ما بِنا
ليسَ في هذا عليكُم كلفةٌ
…
إنَّما نطلبُ شيئاً هيِّنَا
فراجعه بقوله:
أنا في البعدِ وفي القربِ أنا
…
ليسَ في الحالينِ لي عنكُم غِنى
أفضلُ الأشياءِ عندِي حبُّكم
…
وهو في وَسْطِ فؤادِي مكِّنَا
لكنِ الأيَّامَ أشكوها لكُم
…
جوْرُها قد أورَثَ الجِسمَ الضَّنى
وكان هو أحد الشُّهود بالمحكمة الكبرى، فنظر يوماً إلى قضاتها وشهودها وهو منهم، ثم قال:
قالت لنا الكُبرى أمَا
…
آنَ لكُم ما توعدونْ
قضاتُنا أربعةٌ
…
لكنَّهم لا يعلمونْ
شهودُنا عِدَّتهمْ
…
تسعةُ رهطٍ يُفسِدونْ
والكتخُدا والتَّرجُمَا
…
نُ في الجَّحيمِ خالِدونْ
وله يهجو عنَّه ولي الدين:
إذا رأيتَ وليَّ الدِّينِ مفتكِراً
…
منكِّساً رأسهُ إنسانُه ساهِي
فذاكَ من أجلِ دُنيا لا لآخرةٍ
…
خوفاً من الفقرِ لا خوفاً من اللهِ
عبد الكريم الطاراني كاتب قسمة، ومن اتخذ المعيشة من الموت قسمه.
وما بالك بمن يجوب فناء كلِّ حي، ويتمنى فناء كلِّ حي.
فهو طير الشُّوم، والتطير به فرخ التَّطير بالبوم.
وله نزعاتٌ في الخُلق والخَلق، هي قذًى في العين، وشجاً في الحلق.
ينعجن بطينة الإساءة، وتعمُّ في العالم منه المساءة.
فمه ممزوجٌ بصابْ، وقلمه ساطورٌ في يد قصَّاب.
فلهذا رُميَ برفضه، ومقِتَ باعتزاله ونقضه.
وهو شيخٌ من بقايا أول الزَّمان، يعدُّ فرخاً عنده نثر لقمان.
أكل الدَّهر عليه وشرب، لكن وعاه من الآداب غير سرِبْ.
وله شعرٌ ليس له في الكثرة منتَهى، إلا أنَّه أبردُ من أمردٍ لا يُشتهى.
فممَّا وصلني من مرغوبه، قوله:
أشكو إلى اللهِ من زمانٍ
…
قدْ ماتَ فيهِ ذوو الصِّلاتِ
وكلُّ من كانَ ذا وفاءٍ
…
مضَى إلى اللهِ بالوفاةِ
وقوله، في تضمين مثل مشهور:
هذه الدُّنيا بلاءٌ وعنَا
…
وهمومٌ تُسقِمُ الجِسمَ الصَّحيحْ
أيُّ شيءٍ يبتغي منها الفَتَى
…
وهي دارٌ ما عليها مُسْتريحْ
ومثله لبعضهم:
كلَّما أشكو صباباتِ الهَوَى
…
لم أصادِف غيرَ ذي قلبٍ جريحْ
يشتكِي لي مثلَما أشكو لهُ
…
يا لعُمرِي ما عليها مُسْتريحْ
قلت: طابُ الرَّاحة في الدُّنيا محال، وتلك دعوى دليلها على جميع الورى محال.
وقد أعي على الأخباريِّين والنَّقلة، أن يجدوا مستريحاً إلا من لا عقل له.
قال رشيد الدين الوطواط، في أمثاله: أنا أقول: من لا عقل له في المستراح موضع النَّجاسة.
ونظمه الشِّهاب في قوله:
ما يبتَغي من دهرِهِ عاقلٌ
…
وما يرجِّي منهُ أهلُ الصَّلاحْ
ورزقُ دُنيانا لجهَّالِها
…
وجنَّةُ الخُلدِ لبلهٍ مِراحْ
من لا لهُ عقلٌ ولا فطنةٌ
…
في المثلِ المشهورِ قالوا اسْتراحْ
وإنَّما الدُّنيا لهُم منزِلٌ
…
من لا لهُ عقلٌ بهِ مسْتراحْ
وقوله: وجنَّة الخلد لبلهٍ مِراح إشارة إلى الحديث، " أكثر أهل الجنَّة البُلُهْ " يريد: الأكياس في أمر الآخرة، البله في أمر الدنيا.
ويقولون في بقر الجنة: البله؛ لأنَّها لا ترمح ولا تنطح، ولضدِّهِ: بقر سقر.
وللطبراني، ويخرج منه اسم عمر بطريق التَّعمية:
أفدِي غزالاً بقلبِي
…
ما زال يرشُق نبلا
وعنه ما مالَ يوماً
…
للغيرِ حاشَا وكلَاّ
وعزَّ صبرِيَ لمَّا
…
بالعينِ مرَّ محلَّى
وقعد إلى جانبه غلامٌ، والقمر في ليل التَّمام، فقال له: انظر البدر أمامك. فقال له: أمامِي على أيِّ حالة. فخجل لما قاله.
فأنشده بديهاً:
وذي قوامٍ رشيقٍ
…
دنَا لبدرِ التَّمامِ
فقالَ والثَّغرُ منهُ
…
حالٍ بحسنِ ابْتِسامِ
غدا أمامَكَ بدرٌ
…
فقلتَ بدرِي أمامِي
وكتب إلى الإمام يوسف الفتحي، وقد وعده بعود:
مولايَ كمالَ بهجةِ الأيَّامِ
…
قدْ أخجلَ جودُكَ الرَّبابَ الهامِي
أنعُمْ لمُحِبِّكَ الكريمِ عجلاً
…
بالعودِ تفُزْ بِبَثِّ شكرِي النَّامِي
فبعث إليه بحصَّة منه، وراجعه بقوله:
يا جوهرةً يتيمةً بالشَّام
…
سفَّهَتْ بها مقالةُ النَّظَّامِ
قسمتُكَ في بقيَّةِ العودِ على
…
أن ليسَ لكُم في الفضلِ من قسَّامِ
وقوله:
لا تجزعنَّ إذا نابَتْكَ نائِبةٌ
…
فسوفَ تُلقَى قريرَ العينِ جزْلانَا
فالبدرُ بعد محاقِ الجِرمِ تبصرُهُ
…
قدْ اكْتسى النورَ بالتَّكميل وازدانَا
وهو من قول ابن السَّاعاتي:
لا تجزعنَّ لأمرٍ سوفَ تُدرِكُهُ
…
فليس في كلِّ حينٍ ينجحُ الأملُ
والبدرُ في كلِّ شهرٍ لا لمنْقَصَةٍ
…
به يصيرُ هِلالاً ثم يكتملُ
محمد بن زين العابدين الجوهري هو من جوهرٍ منتقى، وما فوق مرقاته مرتقى.
وآباؤه بتجارة الجوهر مشهورون، وبكلِّ ثناءٍ في الألسنة مذكورون.
وهو لك يكن يحترف بالصِّناعة، أو يتَّجر بهذه البضاعة.
بل كان مستغنياً عن جواهر الأحجار بجواهر الكلام، ومكتفياً عن جامد العسجد والنُّضار بالذَّائب من رشحات الدُّوِيّ والأقلام.
وله أشعار نثر في أرض الذَّهب جُمانها، وأطلع من سِلك السُّطور ياقوتَها وبهرمانَها.
فمما ينسب من صِحاحِها للجوهري، ويروى من تهذيب مفرداتها عن الأزهري قوله:
باكِر رياضَ النَّيربين وماسِها
…
وانظُر إلى الأزهارِ في أجناسِها
ما بينَ زنْبقَها الأنيق ووردِها
…
وبديعِ نرجِسِها الغَضيضَ وآسِهَا
وترنُّمِ الأطيارِ فوقَ غُصونِها
…
تروِي لطيفَ اللَّحنِ عن عبَّاسِهَا
جمعتْ كعانِي اللُّطفِ في ألحانِها
…
وبيانِ منطِقها وحُسنِ جِناسِهَا
تُغنيكَ عن صوتِ المثَانِي عنْدمَا
…
تشدو بِرَوْنقِها على جلَاّسِهَا
فترَى الغُصونَ لِما بِها من نشوةٍ
…
تهوِي إليكَ من السُّرورِ براسِهَا
طافَ الغديرُ بِها فأثمَرَ فرْعُها
…
وغدا يُخَبِّرُنا بأصلِ غِراسِهَا
وسرَتْ بها ريحُ الصَّبَا فتأرَّجَتْ
…
جُلَساؤها بالطِّيبِ من أنفاسِهَا
فانهضْ نَدِيمي نصطَبِحُ في ظِلِّها
…
ودَعِ المناصِبَ في الزَّمانِ لِناسِهَا
وأجِلْ لِحاظَ العينِ في أرجائِها
…
واجْلِ القلوبَ الصُّدْيَ من وسواسِهَا
واسْتخلِ باللَّذاتِ بين رِياضِها
…
واسْتَجْلِ بِكراً أُفرِغَتْ في كاسِهَا
عذراءُ واقَعَها المِزاجُ فأنْتَجَتْ
…
أطفالَ دُرٍّ لم تُشَنْ بِنِفاسِهَا
شمسٌ تُريكَ سَناً إذا ما أُغرِبتْ
…
في فيكَ أوْلتكَ القُوَى بِشماسِهَا
تَذَرُ الذَّليلَ عَزِيزَ قومٍ في الورَى
…
بلطيفِ مَسْراها وشدَّةِ باسِهَا
من كفِّ مُعتدِلِ القوامِ إذا مشَى
…
بينَ الغُصونِ قضَى على ميَّاسِهَا
أو ماسَ في أهلِ البَهَا ضُرِبَتْ له
…
أخماسُها بالقهرِ في أسداسِهَا
ما جيدُ غِزلانِ الصَّريمِ إذا انْثَنَى
…
وإذا رَنَا ما لحظُ ريمِ كِناسِهَا
للعينِ فيه تَفَكُّهٌ لكنْ إذا
…
بصُرتْ بِه غابتْ جميعُ حواسِهَا
قمْ يا حبيبي لا برِحْتَ مُمَتَّعاً
…
داوِ القلوبَ من السِّقامِ وآسِهَا
واسْمحْ وآنِسْ باللِّقا يا منْيَتِي
…
ما زالتِ الأيَّامُ في إينَاسِهَا
وقوله:
بالَّذي أودَعَ لحظيْ
…
كَ حبيبَ القلبِ حَتْفَا
وسقَانِي منْهُما
…
كأساً سريعَ السُّكرِ صِرفَا
وحَبَا خَدَّكَ ورداً
…
وحَبَا شكْلَك ظرْفَا
جُدْ على صَبٍّ كئِيبٍ
…
ذِي أُوارٍ ليسَ يُطفَا
ولمحمد الحرفوشي من هذا الأسلوب:
بالَّذي أنشاكَ فردَا
…
وكسَا خَدَّيكَ وردَا
والَّذي أعطاكَ حُسْناً
…
فاتَ أهلَ الحُسنِ حَدَّا
والَّذي أوْلَى فُؤادِي
…
مِنكَ إعراضاً وصَدَّا
صِلْ مُعَنًى فيكَ يقضِي اللِّ
…
يْلَ تسهيداً ووَجدَا
وهذا على أسلوب أبيات عبد المحسن الصُّوري المشهورة، وهي:
بالَّذي ألهَمَ تَعْذِي
…
بِي ثناياكَ العِذابَا
والَّذي ألبَسَ خَدَّيْ
…
كَ مِن الوردِ نِقابَا
والَّذي صَيَّرَ حَظِّي
…
منكَ هجراً واجتِنابَا
يا غَزَالاً صادَ باللَّحْ
…
ظِ فُؤادِي فأَصابَا
ما الَّذي قالَتْهُ عَيْنَا
…
كَ لقلبي فأجابَا
محمد بن حسين، المعروف بابن عين الملك، بالقاق لعوبٌ بأطراف الكلام، مُفوِّقٌ لسهام الأقلام.
يستفيد من القطا فضل هداية، وهو في اللوم أضلُّ من ابن داية.
زيُّه غريب، وكلُّه أسود غربيب.
أوحش حالاً من الليل، وأكثر انفراداً من سهيل.
طالما جاب السَّباسب أردية، وخاض النَّوائب أودية.
متنقِّلاً من بقعة إلى بقعة، وطائراً من رقعة إلى رقعة.
حتى حصَّ جناحه الكبر، ووقف من سوء بخته على يقين الخبر.
هناك كرّ على وكر عشيرته وحاميته، ومعشَّش قاذفته بهُجرها وراميته.
وقد رأيته وشعره شاب، لكن شِعرَه ما شاب، وهو في الشِّعر نصيب الوقت، وحاله حاله في الإقصاء والمقت.
ومناظيمه لا تخلو من ألفاظٍ عذاب، إلا أهاجيه فإنها سوط عذاب.
وقد بلغني أشياء منها، عارضتْني لكثرة فحشها فأعرضت عنها.
وأما غيرها من لوامعه فما أوردته أوردته، وإذا استهجنتُ شيئاً إليه رددته.
فإني كفوَّارة الماء، لا أقبل إلا السَّيَّال الرقيق، وغيري كالمنخل، يمسك النُّخالة ويخرج الدقيق.
فمن شعره قوله في دولاب ماء:
ودولابِ روضٍ قد شجانا أنينُه
…
وحرَّك منَّا لوعةً ضِمنَها حبُّ
ولكنَّه في بحرِ عشقٍ جهالةٍ
…
يدورُ على قلبٍ وليس له قلبُ
وقوله، من قصيدة مطلعها:
سقى الخُزامَى باللَّوى والأقاحْ
…
من عارضٍ أبلجَ سجْلِ النَّواحْ
حتَّى تراها وهي مُخضلَّةٌ
…
تغصُّ ريَّا بالزُّلالِ القُراحْ
معاهدٌ للأنسِ كانت وهلْ
…
لي وقفةٌ بين جنوبِ البطاحْ
أيَّام في قوسِ الصِّبا مَنزعٌ
…
وللملاهي غدوة لا رواحْ
والظَّبيةُ الأدماءُ لي منيةٌ
…
وحبَّذا مرضى العيون الصحاحْ
لم أنس يومَ الطَّلحِ إذ ودَّعتْ
…
وأدمتِ القلبَ بغير الجراحْ
يا وقفةً لم يُبقِ فيها النَّوى
…
إلا ظنوناً ليس فيها نجاحْ
يا قلبُ حدْ بي عن طريقِ الهوى
…
ففي مناجاةِ المعالي ارتياحْ
قالرَّاحُ والراحةُ ذلُّ الفتى
…
والعزُّ في شربِ ضريب اللِّقاحْ
القاضي إبراهيم الغزَّالي فتى مداعبةٍ ومجون، طبعه بالخلاعة معجون.
إذا تكلم ببنت شفة، تعدُّ من غيره سفه.
لا يستفزُّه قيلٌ ولا قال، وكل عثرةٍ منه تقال.
وله جامعيَّة بنانٍ وبيان، وهو فيها سفينة نوحٍ أو جامع سفيان.
إلا أنه كان في شعره متخلِّفاً، وعن أهل طبقته متخلفاً.
لأنه ينبو عن السهل القريب، ولا يستعمل إلا المتنافر الغريب.
وربما ندرت له أبياتٌ في مرام، فكانت كرميةٍ من غير رام.
أستغفر الله، نعم هو في هجائه، مجيدٌ ولو بازدراء حجائه، لعوبٌ حتى بيأسه ورجائه.
يطلع هزله جدًّا، ويرهف حديدته حدًّا.
فمما استخرجته من حلوه وحامضه، وصرَّحت فيه بأمر واضحه وغامضه. قوله:
يا من ملكوا جوانحي مع لبِّي
…
ما اعتدتُ شكايةً فحالي يُنبي
لا زلتُ مشاهداً بحالي تلفاً
…
إن كان سواكمْ ثوى في قلبي
ومن أهاجيه، قوله في إسماعيل بن جمال الدين الجُرشي:
بالله قلْ لغليظِ الطَّبعِ عنِّيَ ما
…
أنكرتَه من فلانٍ كي ترى عجبا
فلم تجد غير أنِّي لم أنِكهُ لما
…
قد عفتهُ منه قدماً كان ذا سببا
ولو أجشِّمه أيْري وأمنحهُ
…
إياهُ ما عدَّ لي ذنباً وما رقبا
لكنَّني الآن أكوي قرحَ فقحتهِ
…
بنارِ أيري وأرقى عنده الرُّتبا
أكلِّفُ النَّفس تغييراً لمذهبها
…
قبلي كثيرٌ لهذا الأمرِ قد ذهبا
لا سامحَ الله مأبوناً يكلِّفني
…
لغيرِ طبعي ويبغي غاسقاً وقبا
وله في والد إسماعيل المذكور، وكان مؤذِّناً يؤذي الآذان:
إنَّ الجمالَ الجُرشي
…
مثلُ المغنِّي القُرشي
يَودُّ من يسمعهُ
…
لو ابتلي بالطَّرشِ
المغني القُرشي معروف بقبح الصوت، وفيه يقول المُهلَّبي:
إذا غنَّانيَ القُرشي
…
دعوتُ الله بالطَّرشِ
وإن أبصرتُ طلعتهُ
…
فوالَهفي على العمشِ
ولابن العميد فيه:
إذا غنَّانيَ القُرشي يوماً
…
وعنَّاني برؤيتهِ وضربِهْ
وددتُ لو أنَّ أذني مثل عيني
…
هناكَ وأنَّ عيني مثلُ قلبهْ
الشيء بالشيء يذكر، والمناسبة حقُّها لا ينكر.
ذكرت هنا فصلاً قلته في مغنٍّ بارد النغمة: جمعني وفلاناً المغني مجلسٌ فاستقريَّت مكرهاً، وسمعت ورأيت مكرها. فقلت: قبَّحه الله من مغنٍّ سماع صوته غمٌّ، كيف ولفظ غم في نغمه مدغم؟ فإذا أدَّى آذى، وإذا غنى عنَّى.
لا مرحباً بمغنٍّ
…
طوى المسرَّةَ عنَّا
قال النَّدامى جميعاً
…
لما تغنَّى تعنَّى
يا ليته ما تغنَّى
…
يا ليته مات عنَّا
فما أحقُّه بقول بعض الكبراء، وقد غنى مغنٍّ فقيل له: كيف ترى؟
ويحسبُ النُّدمانُ في حلقهِ
…
دجاجةً يخنقها ثعلبُ
وقيل لآخر ما قيل لهذا، فقال:
وكأنَّ جُرذانَ المحلَّةِ كلَّها
…
في حلقه يقرضنَ خبزاً يابسا
غير أني اختبرته اختبار عارفٍ أريب، فرأيته في صنعة الضَّرب ماله ضريب.
فضربه أوقع من الضريب والضرب، وإن كان غناه كالضرب على الركب.
فبالجملة يستحقُّ على ضربه غناه، ويستوجب ضربه على غناه.
فمن ابتليَ به فلا يدعه يفتح فاه، إلا وهو نازلٌ بالصَّفع على قفاه.
وللغزَّالي، والبيت الأخير مضمَّن:
أضحى التصبُّرُ حبله مقطوعا
…
لمَّا رأيتُ معذِّبي ممنوعا
وحديث وجدي مُسنداً ومُعنعناً
…
أمسى لديه معلَّلاً موضوعا
وفقدتُ قلبي عنده وأظنُّه
…
لبليَّتي قد ساء فيه صنيعا
فغدوتُ أنشدُ واللَّهيبُ بمهجتي
…
والبينُ جرَّعني الأسى تجريعا
بالله يا أهلَ الهوى وبحقِّه
…
لا زال قدرُكم به مرفوعا
قولوا لمن سلبَ الفؤادَ مصحَّحاً
…
يمنُنْ عليَّ بردِّه مصدوعا
وله من الرباعيات:
القلبُ إلى سواكمُ ما مالا
…
والدَّمعُ لغيرِ بعدكمْ ما سالا
إن كان حسودنا أتاكمْ ووشى
…
بالله بِلُطفكمْ دعوا ما قالا
القاضي عمر الدُّويكي هو في الفلك، منوِّر الحلك.
بمرأى يشفُّ أحسن الشُّفوف، حلية لحيته كالقطن المندوف.
وقد أُلبست المهابة إهابه، فلو رآه الأسد الوارد في غابه لهابه.
وقد كحلتني الأيام بطلعته، فوقفت على صبغته وصفته.
ورأيت شخصاً مروَّق الشِّيم، تنفح أخلاقه عن الزَّهر بعد الدِّيَم.
وله أشعار نظمها دراريَّ في أسلاك، وأطلع منها كواكب سابحةً في أفلاك.
فمنها قوله من قصيدةٍ، مطلعها:
جازتْ عليَّ تهزُّ في أردانِ
…
هيفاءَ رمحُ قوامها أرداني
تُركيَّة الألحاظِ لمَّا أن رنتْ
…
نحوي بصارمِ ناعسٍ أصماني
غرْثى الوشاحِ ترنَّحتْ أعطافُها
…
من ذا الذي عن حُبها ينهاني
في خدِّها الورديِّ نارٌ أضرمتْ
…
فعجبتُ للجنَّاتِ في النِّيرانِ
لما انثنتْ تختالُ في حللِ البَها
…
سجدتْ لقامتها غصونُ البانِ
جارتْ على ضَعفي بعادلِ قدِّها
…
عجباً فهل ضدَّانِ يجتمعانِ
لولا جعيدَ الشَّعرِ مع فرقٍ لها
…
ما كان لي ليلٌ وصبحٌ ثانِي
قسماً بطلعتها ولفتةِ جِيدها
…
وبثغرها وبقدِّها الرَّيانِ
وبنونِ حاجبها وروضةِ خدِّها
…
وبلطفها وبحسنها الفتَّانِ
لم أنسَها لما أتتْ بملابسٍ
…
قد طرِّزتْ بمحاسنِ الإحسانِ
وافتْ وثوبُ اللَّيلِ أسبل سترهُ
…
حتى غدا كالثَّوبِ للعريانِ
هذا التشبيه عارٍ من لطف المعنى، وما أحقُّه أن يشبَّه بتشبيه الماء بالماء.
فضَممتُها ورشفتُ بردَ الثَّغرِ كي
…
أُطفي بذلك حرقةَ الأشجانِ
باتتْ تعاطيني كؤوسَ حديثها
…
وتُشَنِّفُ الأسماعَ بالألحانِ
بتنا على رغمِ الحسودِ بغبطةٍ
…
وبفرحةٍ ومسرَّةٍ وأمانِ
حتَّى دنا الفجرُ المنيرُ فراعني
…
شيبٌ برأسِ اللَّيلِ نحوي دانِ
قلت: هذا شعر دعاني إلى إيراده صدق العهد، والعناية بالود الذي هو خلقي من حين لفظني المهد.
أبو بكر، المعروف بغصين البان ما لقِّب بالغصين إلا لنضرة نمائه، ورقَّة طبعه الذي يكاد يقطر من كثرة مائه.
وهو المعنيُّ بكثرة الموشَّحات، التي يتغنَّى بها في كل حضرة، والمطلع منها ما يستغني به مشاهدة الشكل الحسن عن الماء والخضرة.
وليس يحضرني من شعره إلا ما تراه، وتتمايل به طرباً كالغصن يتمايل للصَّبا عند مسراه.
فمن ذلك قوله، ويخرج منه اسم داود بطريق التعمية:
رنا فأثبتَ سهماً من لواحِظهِ
…
في مُهجتي ذو قوامٍ يافعٍ نضرِ
وراحَ يسحبُ ذيلَ العجبِ مُلتفتاً
…
في تيههِ ومضى والقلبُ في خطرِ
وقوله في اسم رمضان:
وشادنٍ من بني الأتراكِ مُعتدلٍ
…
وافى وفِي وجههِ خالٌ لمن رَمقا
له عِذارٌ بنارِ الخدِّ مُمتزِجٌ
…
قد هِمتُ فيه ولا عارٌ لمن عشِقا
عمر بن محمد، المعروف بابن الصُّغَيِّر خليفة أبي بكر العمري وحليفه، وزميله في التَّعارض بالقريض وأليفه.
ومن اغترف من محلِّ غرفه، وهبّ عاطر الأنفاس بعرفه.
والنَّسيم يطيب إذا مرَّ بروضٍ أنضر، ومن صحب العطار لا يخلو من أن يتعطَّر.
وهو في الشعر مكثر مجيد، ومحلِّي نحرٍ للأدب وجيد.
إلا أنه أعربت محاسنه عن ناطقٍ مُعرِب، وطارت بأغلب أشعاره عنقاء مُغرب.
فمما بلغني من شعره. قوله معمِّياً باسم خالد:
مذْ رقَّ ماءٌ للجمالِ بوجنةٍ
…
كالوردِ في الأغصانِ كلَّلهُ النَّدى
وتمثَّلتْ أهدابنا فيه فظنُّ
…
وهُ والعذارَ ولا عذارَ به بدا
وهذا المعنى متداول من قول بعضهم:
أعِدْ نظراً فما في الخدِّ نبتٌ
…
حماهُ الله من ريبِ المنونِ
ولكن رقَّ ماءُ الحسنِ حتَّى
…
أراكَ خيالَ أهدابِ الجفونِ
وزاد الأمير المنجكي، وأحسن في قوله:
لمَّا صفتْ مرآةُ وجهكَ أيقنتْ
…
أهوايَ أنِّي عُدتُ فيه خَيالا
فحسبتُ أهدابي بخدِّكَ عارضاً
…
وظننتُ إنساني بخدِّكَ خَالا
وللمترجم، ويخرج منه اسم علوان:
فديتُ حبيباً زارني بعد صدِّه
…
ومن ريقهَ واللَّحظِِ حيَّى بقرْقَفِ
سقاني ثلاثاً يا خليلي وإنَّها
…
شفاءٌ لذي سُقمٍ وراحةُ مُدنفِ
وله، ويخرج منه اسم سليمان:
رأى عاذلي مُنيتي ري في
…
إزارٍ فحيَّد عن نَهجها
وقد لام في مثلِ عشقي لها
…
وما شاهدَ الخالَ في وجهها
ومما نسبه البديعي إليه، وأظنُّه مغصوباً عليه، قوله:
أفدي الذي دخلَ الحمَّامَ مُتَّزراُ
…
بأسودٍ وبليلِ الشَّعرِ مُلتحفا
دقُّوا بطاساتهمْ لمَّا رأوهُ بدا
…
توهُّماً أنَّ بدرَ التمِّ قد كُسفا
وهذا تخيل حسن، أجاد فيه وأحسن.
وأصله ما اشتهر في بلاد العجم أن القمر إذا خسف يضربون على النُّحاس، حتى يرتفع الصَّوت زاعمين بذلك أنه يكون سبباً لجلاء الخسوف، وظهور الضوء، هكذا قاله بعض الأدباء.
والذي ثبت في أصله ما نقله غير واحدٍ، أن هُلاكو ملك التتار، لما قبض على النصير الطوسي، وأمر بقتله لإخباره ببعض المغيَّبات.
فقال له النَّصير: في الليلة الفلانية في الوقت الفلاني يخسف القمر.
فقال هُلاكو: احبسوه، إن صدق أطلقناه وأحسنَّا إليه، وإن كذب قتلناه.
فحبس إلى الليلة المذكورة، فخسف القمر خسوفاً بالغاً.
واتفق أن هُلاكو غلب عليه السُّكر تلك الليلة، فنام، ولم يجسر أحد على إنباهه.
فقيل للنصير ذلك. فقال: إن لم ير القمر بعينيه، وإلا فأصبح مقتولاً لا محالة.
وفكر ساعةً، ثم قال للمغل: دقُّوا على الطاسات، وإلا يذهب قمركم إلى يوم القيامة.
فشرع كلُّ واحدٍ يدقُّ على طاسته، فعظمت الغوغاء، فانتبه هُلاكو بهذه الحيلة، ورأى القمر قد خسف، فصدقه، وبقي ذلك إلى يومنا.
ومن اللطائف أن أديباً من العجم، وقد خفي عني اسمه واستعجم.
كان صحبته أميرٌ كبير، في روضٍ يتفتَّق عن عبير.
وبه بركة ما، أصفى من ريقة ألمى.
يحفُّها طائفةٌ من الغلمان، هذبت باللطف طباعها، وتركت بحكم صورها الجميلة في الأجسام الصقيلة انطباعها.
وفيهم فتًى زائد الاشتهار، كالبدر إلا أنه يبقى على ضوء النهار.
فحيَّاهما بجامه، ووقف يثير شَجوَها برقَّته وانسجامه.
والبركة قد انعكست فيها تلك الصور الظَّواهر، فتخالها نجوماً وهو بينها القمر الزاهر.
فخامرت الأديب من خياله سورة، وتخيل أن البدر يهديه نوره.
ففطن الأمير للأمر الذي وضح، وحرك الماء بقضيبٍ فانمحى الخيال الذي فضح.
فدقَّ ذلك الأديب على طاسٍ حتى روى غلَّة الصدر، فسأله الأمير عن سرِّ ذلك، فقال: هذه عادتنا إذا خسف البدر.
وأبدع من ذلك وأطرب، ما حكاه العمري شيخ الأدب.
أنه كان بدمشق في بيت قهوة، مُقيماً لرسم حظٍّ ونشوة.
وإلى جانبه أديبٌ يأنس الفكر بآدابه، ويتعلق الظَّرف بأهدابه.
وبينهما حديثٌ يفاوح زهر الربى، ويطارح نغم حمام الأيك مطرباً.
إذا ببدرٍ حسن فارق فلكه، وسقط لا يدري أيَّ مسلكٍ سلكه.
حتى إذا دنا منهما وقف واستوقف، واختلس الألباب جذباً إليه وما توقف.
فطفقا يسرحان في محاسنه المعابي ويجيلان الألفاظ، وبحكم الهوى يمدان الأيدي ويشيران بالألحاظ.
فما رددا وجهاً ولا عطفا، ولا جنيا ورداً بالَّلحظ ولا قطفا.
حتى غشيهما شخصٌ مهول المنظر في ذاته، إذا رأى الطَّرف شخصه، أحال الله بينه وبين لذَّاته.
فحال بينهما وبين ذلك البدر التمام، وحجبه عنهما كما يحجب البدر الغمام.
فقال ذلك النديم: هذا خسوف عسى الله يُؤذن بزواله، ونسأله أن يدفع عنا عقبى مصائبه وأهواله.
ثم نظر إلى ذلك الشخص وقد كشف رأسه، فإذا هو أقرع كأنما رأسه طاسه.
فقال العمري: الآن تم التخيُّل من كل جهة.
ثم أخذ القلم، وكتب على البديهة.
حبس البدرُ أقرعٌ عن عيوني
…
فغدا الطَّرفُ خاسئاً مطروفا
فتناولتُ رأسهُ لِصفاعٍ
…
بنعالي، وصنتُ عنه الكُفوفا
قال لي اللَاّئمونَ كُفَّ فنا
…
ديتُ دعوني وأقصروا التعنيفا
عادةُ البدرِ ينجلي ليلةَ ال
…
خسفِ بدقِّ النُّحاس دقاًّ عنيفا
وتراءيتْ طاسةٌ فجعلتُ الصَّ
…
فعَ دقاًّ فكان عذراً لطيفا
أحمد بن محمد الصفدي، إمام الدَّرويشيَّة صفد، وإن كانت صدف هذه الدُّرة، فقد طلعت في جهة دمشق منها غرة، وأحسن بها من غرة.
وبالتنقل ترتقي ذوات الأصداف إلى الأعناق، ويعلو تراب الأحجار إلى نور الأحداق.
وهذا الأديب ممن صحبته دهراً، واختبرت خلائقه سرأ وجهراً.
فلم أر مثله رجلاً مأمون الصحبة، ميمون النفس والمحبة.
حلمه هضبةٌ لا تستخفُّها الخدع، وعلمه علامةٌ لا تستفزُّها البدع.
إن هززته لمكرمة ارجحنَّ، أو ذكَّرته بحسن عهدٍ حنّ.
فكنت أتوارد معه على مفاكهة إذا جليت فما الرَّاح والتُّفاح، وإذا ذكرت فما ريحان الأصداغ إذا فاح.
وهو من مكثري شعراء العصر ومجيديهم، وإن لم يكن من مكثريهم بالعوائد ومجتديهم.
ليس لأحدٍ منهم عشر شعره، إلا أنه منفقٌ منه على قدر سعره.
وقد أطلعني على ديوانه المنتخب، الذي ضمنه نخب النخب.
فجردت منه ما يعبق عبقة المسك الفتيت، ويفوه عن ثغرٍ ألمى معسول الرُّضاب شتيب.
فمنه قوله، في الغزل:
راح يثني عِطفه مرحا
…
أيُّ صبٍّ من هواه صحا
مفردٌ في الحسنِ ليس له
…
من شبيهٍ فاق شمسَ ضُحى
ينجلي في ليلِ طُرَّته
…
منه مسكُ الخال قد نفحا
خدَّه وردٌ ومقلتُه
…
نرجسٌ يسقي النُّهى قدحَا
مهجتي في حبِّه تَلِفتْ
…
واصطباري في الهوى نزحا
ما رأينا مثله قمراً
…
بالبَها يختال متَّشِحا
قام يسقي الراح من يده
…
ضاحكاً مستبشراً فرِحا
لو له بدرُ السما لمَحا
…
في ليالي تِمِّه لمحا
كلما أشكو له ترحاً
…
في هواه زادني ترحا
هذه روحي به ذهبتْ
…
صَبوةً والدمعُ قد سفَحَا
وعيونِي النومُ حارَبَهَا
…
بعد هِجرانٍ وما اصْطلحَا
واتَّفق له بعد ما أسنّ، أنه خلع الرَّسن، وأزاح عن جفنه الوسن.
فعشق غلاماً يدعى بربَاح هام به هيمان الوليد، وثبت ثبات الحجر الصَّليد.
فشاع فيه تولُّهُه، وما أقْصر حبُّه عن تنزُّهُه.
وقد علم أن الإذاعة، أول طبقات الإضاعة.
ولما ثار عدوه، ولم يصف رواحه وغدوُّه.
أقلع عن صبوته، واحتبى من التخلٍّي بحبوته.
واتَّخذ الفراغ سميرا، ولم يشف للسَّلوة ضميرا.
فما قاله في أيام لهوه، يتشاغل به عن فراغه وسهوه:
راق وقتُ نعِمْتَ صباحَا
…
فأدِر لي من خمرِ عينيك راحَا
عاطِنيها سُلافةً من حديثٍ
…
تُطرِب السمعَ في الرِّياض انْشِراحَا
وأعِد لي حديثَ كلِّ حديثٍ
…
ذاك لا شكَّ يُنعش الأرواحَا
صاحِ طابَ الزَّمانُ فاجْنِ جنَى الْور
…
دِ من الشَّادِن الأغنٍّ مِزاحَا
واترُكِ الشغلَ واشتغلْ بحبيبٍ
…
علَّ تلقى من الزَّمان رَباحَا
وكتبت إليه أيام ارتباطه، ونشاطه بالصَّبوة واغتباطه.
وقد شلني ما شغله، ورأيت الرَّأي في أن أنصاع له: مولاي الأعلى، وسندِي الأغلى.
قد رُميت بسهمٍ أنت به مُصاب، وشربتُ بكأسٍ أنت بها متجرِّع صاب.
ولم أدرِ كيف فرَّطت، ولا في أي حتفٍ تورَّطت.
غير أن المقدور كائن، والحين لا شكَّ حائن.
وسبب ذلك لمحة، أعقبت محنةً في محنة.
من قمرٍ بزغ من فلك المربَّع، لم يزد على العشر غير أربع.
لو نظرَ الوجهَ منه منهزِمٌ
…
يتبعُه ألفُ فارسٍ وقفَا
شدَّ بند نطاقه، فحلَّ عزائم عشَّاقه.
يحسد القلب طرفه إذا لمحه بناظره، ويكاتم سرَّه حتى ليَصونه عن أن يمُرَّ بخاطره.
وإذا أهدى السلام لسليمه، ولَّى بلبِّه عن تسليمه.
فعندما لمحته، استلمحته.
وأنشدت:
ولم أنسَ لا أُنسِيتَ وقْفةَ حائرٍ
…
نشدْتُ بها ما ضلَّ من شارِد الحبِّ
رميتُ بعيني رَميةً سمحتْ به
…
فلم أثنِها إلا ومجروحُها قلبِي
سجيَّةُ خاطِر، في التعرُّض مخاطِر.
ولم أعرف له مكانا، ولا ظننتُ له إمكانا.
حتى لقيتُه عندك مائلا، ولبدر أُفقِك مماثلا.
فقلت ههنا تسكَب العبرات، وتُنال على ما يُرضي الربَّ المبرَّات.
ووعدتَ باجتماع ثانيا، ولم أعهدكَ في أمري وانِيا.
فقلت عسى يلاحظ سعد، فيستنجز وعد.
ويعدِل زمان، فيُؤخذ أمان.
وقد زادت العلَّة، ولم تنفع الغُلَّة.
فما بالك تمطِل مع الغنى، وتُحوِج طامع، ومرائي راءٍ، ومُستمَع سامِع.
أيحنُّ سيِّدي من فرطة لسان، ومذمَّة إنسان.
وهو المشهود بديانته، المحامي على عفَّته وصيانته.
وإن تورَّط متورِّط، ورمى بنفسه مفرِّط.
فيوشك أن ترميه جهنم بشرارها، وأن ترجمه الملائكة بأحجارها.
وأما أنا فلي معك حالٌ ما حال، وطُروق السُّلُوِّ إليه أمرٌ محال.
فأنا حافظ ولائك، الشاكر لآلائك.
فتجدني حيث تنجدني، وتعهدني على أبَرِّ ما تعتقدني.
ومن غزلياته التي جرَّدتها من شعره، قوله من قصيدة، أولها.
تذكَّر للأحباب رَبْعاً ومعهدَا
…
أسيرُ غرامٍ قد أقام وأقعدَا
واطلق سُحْبَ الدمع من مُقلةٍ غدتْ
…
قريحةَ جَفنٍ دمعُها تنضَّدَا
أيرجو حياةً بعد بُعدِ أحبَّةٍ
…
وأنَّى بها والهجرُ أورده الرَّدَى
يهيم اشتياقاً للحبيب فلا يرى
…
سوى من أطالَ اللَّومَ فيه وفنَّدَا
أما رحمةٌ للمستهامِ من الذي
…
عَذابي بع عذبٌ وقتْلي تعمَّدَا
غزالٌ غزَا قلبي بنُبلِ لِحاظِه
…
وأضرم أحشائي بهجرٍ توقَّدَا
نأى والأماني طامعاتٌ لقُربِه
…
ولم ألقَ يوماً للأمانيِّ منْجِدَا
أطالَ سَقامِي بالفؤادِ صُدودُه
…
ومقلتُه ترمي الجريح مدَى المَدَى
جميلُ المحيَّا يُخجِل البدرَ وجهُه
…
وبالحسنِ ما بين الأنامِ تفرَّدَا
يُّحجِّب عني الطيفَ كيمَا يزورني
…
وكيف يزور الطَّيفُ شخصاً مُسَهَّدَا
رعى اللهُ هاتيكَ اللطافةَ والبَهَا
…
وحيَّى محيَّا جيشَ صبرِيَ شرَّدَا
رشاً صاد بالأصداغِ قلبَ متيَّمٍ
…
وأورده بحرَ الهوان وأجْهَدَا
فمن مُسعِدي ممن هواه بمُهْجتي
…
ألمَّ وأبْدَى الفتْكَ فيَّ إذ بدَا
بديعُ صفاتِ الحسنِ أحورُ طرفُه
…
يُرينا إذا ما صال سيفاً مُهنَّدَا
بروحيَ أفدِي من أنا اليوم عبدُه
…
وأنَّى لروحي أن تكون له الفِدَا
وقوله من أخرى، أولها:
أمِطِ اللِّثامَ عن الجبينِ المُزهرِ
…
واسْفُرْ عن الوجهِ الأغرِّ المُقْمِرِ
وامْنحْ عيوني نظرةً أحيَى بها
…
فلقد فقدتُ تجلُّدِي وتصبُّرِي
عجباً لقلبي كم يُقاسِي ذِلَّةً
…
والذلُّ لَذَّ له بغير تضجُّرِ
وعلى مَ هذا الجسم يحمل للأذى
…
وغدَا نحيلاً لا يُرى بالمنظرِ
حسُنتْ شمائلُك الجميلةُ كلُّها
…
وبدا لعيني منك ما لم يُنْكَرِ
سرقتْ غصونُ البانِ منك تمايلاً
…
فلذاكَ قد قُطِعتْ وحُقَّ لِمُفترِي
يا فائق الحورِ الحسان بوجهِه
…
وجمالِ عُرَّتِه المَصونِ المُبهِرِ
قسماً بوجهك وهو شمسٌ أشرقتْ
…
وبما بفيكَ من الرُّضابِ المُسكِرِ
لا حلْتُ عن مُرِّ الهوى ما دمتَ في
…
قَيدِ الحياةِ ولو بُعثْتُ لمحْشرِ
وقوله من أخرى، مستهلها:
صاد قلبي بلحظهِ قمرُ
…
في محيَّاه حارتِ الفكرُ
غصنُ بانٍ يزينه مَيسٌ
…
ما لِذي الُّلبِّ عنه مصطبرُ
إن تثنَّى بلين قامته
…
خِلْتَ منَّا القلوبَ تنفطرُ
ذو دلالٍ يُريك منطقه اللِّي
…
نَ لكنَّ قلبه حجرُ
يتهادى بتيهِ مشيتهِ
…
رافِلاً بالجمال يستترُ
بهجةٌ تُدهشُ المحبَّ عن التِّي
…
هِ فيها ويحجبُ البصرُ
ظبْيُ إنسٍ لثغره أرجٌ
…
طيِّبُ النَّشرِ عرفهُ عَطِرُ
فوَّق السهمَ من لواحظه
…
لفؤادي فأمرهُ خطرُ
لا حياةٌ لعاشقيه ولا
…
جبرُ قلبٍ لديه ينتظرُ
تنقضي مدَّةُ الحياةِ ولا
…
لمحبِّيه ينقضي وطرُ
ملكٌ جائرٌ بدولته
…
قد سطا من جفونه الحذرُ
سمهريُّ القوامِ ذو غَيَدٍ
…
أدعجُ اللحظِ زانه الحوَرُ
فائقُ الحسنِ لا نظير له
…
ورد خدَّيه باهرٌ نضرُ
ذو جمالٍ يجلُّ عن شَبَهٍ
…
في معانيه يرتع النظرُ
كلُّ وقتٍ أذوب فيه جوًى
…
آهِ ذاك القضاءُ والقدرُ
ليت شعري أراه يُنعشنِي
…
بلقاهُ ويحسن السَّمرُ
وكتب إليَّ وأنا بالروم، في صدر رسالة قوله:
من لصبٍّ أودى به الإحتراقُ
…
وبأحشائه أضرَّ الفِراقُ
جعلته يدُ الغرامِ أسيراً
…
دمعُه من عيونه دفَّاقُ
يا لقومي قد صاد قلبي غزالٌ
…
من بني التُّركِ بندُه خفَّاقُ
سمهريُّ القوامِ فاترُ لحظٍ
…
أيُّ قلبٍ إليه ليس يساقُ
قام يسطو بمقلةٍ في البرايا
…
والبرايا لحسنه عشَّاقُ
حبُّه حلَّ في الفؤاد كحبِّي
…
لكريمٍ نواله دفَّاقُ
سيدٌ ساد بالكمال قديماً
…
ليس تُحصى صفاته الأوراقُ
عالمٌ فاضلٌ إمامٌ همامٌ
…
بحرُ علمٍ جادت له الأخلاقُ
واحدُ الدهرِ في المعالي فريدٌ
…
ماجدٌ في مقالهِ مصداقُ
إن قلبي ومهجتي وفؤادي
…
وجميعي لذاته أشواقُ
دام في المجدِ راقياً لمعالٍ
…
ما تعالت شمسٌ لها إشراقُ
فكتبت إليه جواباً، وصدَّرته بقولي:
كيف تُنبي عن شوقيَ الأوراقُ
…
وهي مثلي جميعها أشواقُ
ضاق عن حصر ما نلاقي نطاقُ ال
…
وُسعِ فيمن فراقه لا يطاقُ
روضُ فضلٍ ألفاظه زاهراتٌ
…
بعثتْ طيبَ عرفها الأخلاقُ
فسقى عهدَ ودِّه الخصيبَ رق
…
راقُ الغوادي ودمعي الدفَّاقُ
حيث كنَّا وللزمانِ انعطافٌ
…
وائتلافٌ ما بيننا واعتلاقُ
وبدورٍ كواملٍ ليس إلا
…
في الخصورِ الرِّقاقِ منها محاقُ
أشرقتني بالدمعِ مذ غرَّبتني
…
لا لأمرٍ بل شأنها الإشراقُ
يا رفيقي ولا أقول رفيقي
…
لسِوى من طباعُه الإرفاقُ
كن نصيري على البعادِ فحسبي
…
منه مالا تقوى له العشَّاقُ
فلأنتَ المعينُ إن عنَّ خطبٌ
…
وإليك الحديثُ منه يساقُ
وابقَ واسلمْ ما حنَّ إلفٌ لإلفٍ
…
ودنا نحوَ حبِّه مشتاقُ
وكنت وأنا بالروم وردَها، فأنشدته قصيدة مدحت بها الشريف أحمد بن زيد، مطلعها:
يجوبُ الأرضَ من طلب الكمالا
…
ومن صحب القَنا بلغ السُّؤالا
فعارضها بقصيدة في مدح الشريف المذكور، وأنشدنيها، فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله، في غزلها:
تسربَل من مهابتِه جلالا
…
وأشرق وجهُه الباهي جمالا
وأصبح رافلاً في لا زوردٍ
…
يتيه على محبِّيه دلالا
وماس بقامة غصناً رطيباً
…
وأرسل من لواحظهِ نبالا
رقيقُ الخصر ذو طرفٍ كحيلٍ
…
لعمرُ أبيك يأبى الإكتحالا
جَنيُّ الورد في خدَّيه أضحى
…
وحارسُه النَّجاشي صار خالا
ترقرق فيه ماءُ الحسن حتى
…
ترى ناسُوتَه ماءً زُلالا
وأنشدني قوله:
إذا عانقتُ من أهواهُ يوماً
…
وكان القصدُ تقبيلاً بفيهِ
ملكتُ عنانَ نفسي عن هواها
…
وإن تكُ كلَّ وقتٍ تشتهيهِ
ولما مات، قلت أرثيه:
لهفي على الصَّفديِّ فردُ الدهرِ من
…
لعُلاه كفُّ المكرُمات تشيرُ
طودُ الفضائلِ دكَّه حكم القضا
…
فالأرضُ من أقصى التُّخوم تمورُ
فانظر تجد عجباً وقد ساروا به
…
جبلاً غدا فوق الرجالِ يسيرُ
هذا المعنى مما تداولته الشعراء، ولكن لم يقصدوا ما قصدته من الإشارة لعظم الجثة فإنَّ قصدهم ليس إلا التوصيف بالحلم.
فمنهم المتنبي في قوله:
ما كنتُ آمل قبل نعشِكَ أن أرى
…
رضوَى على أيدي الرجال يسيرُ
وابن المعتز في قوله:
قد ذهب الناسُ ومات الكمالْ
…
وصاح صرفُ الدهر أين الرِّجالْ
هذا أبو العباس في نعشه
…
قوموا انظروا كيف تسيرُ الجبالْ
وأصله قول النابغة الذبياني:
يقولون حصنٌ ثم تأبَى نفوسُهم
…
فكيف بحصنٍ والجبالٌ جنوحُ
وقد أبدع الشهاب في قوله:
قيامةٌ قامتْ بموتِ الذي
…
بِموتِه ماتَ النَّدى والكمالْ
فإن شَككْتُم فانظروا نعشَه
…
وشاهدوا كيف تسير الجبالْ
زين الدين بن أحمد البُصرَوِي هو لِذات الأدب زين، وبه ينجلي عن القلب كلُّ رَين.
وكان صحيبي من منذ سنين، ولا أعدُّه في العِشرة إلا من المحسنين.
مثابتُه عندي مثابَة الروض العاطر، ومحلُّه من وُدِّي محلُّ القلب والخاطر.
أذكره فأرتاح ارتياحة القضُب المُلْد، وأتذكَّره فأشتاق إلى النعيم وجنَّة الخلد.
وهو من لُطف الذات، وشفوف الخِصال المستلذَّات.
ممن تتحاسد عليه الأسماع والعيون، ويُشترى يوم وصلِه بنومِ الجفون.
وقد فقدتُه أولاً فقْدَ غُربة، ثم غيَّبتْه الغُربة غيبة تُربة.
فانقطعتْ عني بموته إمدادات المواد والمَوات، وهيهات هيهات أن يُتدارك ذلك الفوات.
فرحم الله تلك الروح اللطيفة، ولا برحت سحائب الغفران بقبره مُطيفة.
فممَّا بلغني من شعره، ما كتبه إلى شيخنا المرحوم إبراهيم الخِياري المدني، وقد أهدى إليه فُسْتقا:
لما تركتُ القلبَ عندكُم
…
وغدوتُ مشغوفاً بكم صَبَّا
وخشِيتُ أن تخفَى مكانتُه
…
صيَّرتُ ما يُهْدَى لكم قلبَا
فأجابه بقوله:
لما علِمتَ القلبَ عندكُم
…
أهديتَ لي من لُطفِك القلبَا
أكْرِم به من زائرٍ وافَى
…
أطْفَا اللَّهيبَ ورنَّح الصَّبَّا
ومنزع البصروي ما كتبه جدِّي العلامة القاضي مُحب الدين، إلى الأستاذ محمد البكري، وقد أهداه شيئاً من قلب الفستق:
لما تملَّك قلبي حبُّكم فغدا
…
مُجرِّداً منه قلباً رقَّ واستَعْرا
حرَّرتُه فغدا طوعاً لخدمتِكمْ
…
مُحرَّراً خادماً وافاك مُعتذِرَا
فعامِلوه بِجَبْرِ حيث جاءكُم
…
مجرَّداً بمزيدِ الحبِّ منكسِرَا
يقبِّل اليد الشريفة، ويلثم الراحة اللطيفة.
ويُنهي إلى الحضرة عظَّم الله شأنها، وصانها عمَّا شانها.
أنه أهديَ ما يناسب إهداؤه لأرباب القلوب، ويلائم إرساله لأصحاب الغيوب.
فقدَّم العبدُ رجلاً وأخَّر أخرى، في أن يُهديَ لجنابكم الشريف منه قَدْرا.
علماً بأنه شيءٌ حقير، لا يوازي مقامكم الخطير، وقد توارى بالحجاب، حيث وافاكم وهو حسير.
وما مَثَل من يُهدي مثلَه إلى ذلك الجَناب، إلا كالبحر يُمطِره السَّحاب.
ثم إنه تهجَّم بإهداء هذا القدر اليسير، فإن وقع في حيِّز القبول انجبَر القلب الكسير.
وكتب البصروي إلى الخياري أيضاً:
يا نسيماً من ربوةِ الشام سارِ
…
عُجْ على طَيْبَةٍ أجلِّ الديار
وتحمَّل منِّي سلامَ مَشوقٍ
…
لحبيب المهيمنِ المختارِ
ولأصحابِه الكِرامِ أُولِي المجْ
…
دِ خصوصاً أمينهِ في الغارِ
ولِقوْمٍ قد خيَّموا في ذَراهُ
…
قد حباهُم مولاهُم بالجِوارِ
سِيَّما الأروَعُ المهذَّب من حا
…
زَ كمالاً ما إن له من مُجارِ
فرْعُ دَوْحِ العُلى وأصلُ المعالي
…
نَجْلُ شيخِ الورى الأجَلَّ الخِيارِي
زُرْهُ تُبصِر لديه كلَّ جليلٍ
…
من علومٍ ورائقِ الأشعارِ
وحديثٍ ألذَّ من نظرةِ المعْ
…
شوقِ وافَى في غفْلةِ السُّمَّارِ
وسجايَا كَنكْهِ المِسْك والنَّد
…
م ووردِ الرياض غِبَّ القِطارِ
وكتب إليه أيضاً في صدر كتاب:
يُقبِّلُ الأرضَ حَماها الذي
…
ألْثَمها أفواهَ أهلِ العُلى
عبدٌ إذا كاتبْتَه ثانيا
…
يزْداد رِقًّا لكم أَوْ وَلا
هكذا نسبهما إليه الخياري في رحلته، وهما للبدر الغزِّي، تمثَّل بهما، وقد راجعه عنهما بقوله:
يا أيُّها المولى الذي ربُّه
…
خَوَّله من مَنِّه الأفضَلا
كاتبْتَ عبداً ذا وفاءٍ لكمْ
…
ما اختارَ تحريراً ولا أمَّلا
أقرَّ بالرِّقِّ لكم أوَّلاً
…
والآن إذْ كاتبْته بالوَلا
وأنشدني من لفظه لنفسه، ويخرج منه اسم سليم، بطريق التَّعمية:
ولائِمٍ لامَ على
…
ترْكِي طِلاً كالعندَمِ
فقلتُ حسبِي قهوةٌ
…
لي في الثَّنايا والفَمِ
وقد تعارض مع بعض المتأخِّرين في هذا العمل، في قوله:
إذا عدم السَّاقي الشَّرابَ ولم يجدْ
…
شرباً به قلبِي يطيبُ ويطرَبُ
فبيت ثناياهُ ومبسَمِهِنَّ لي
…
شرابٌ من القَطرِ المُذابِ وأعذَبُ
وخاطبته في بعض قدماته من سفر:
قُدومُك زينَ الدين يا خيرَ قادِمٍ
…
به ابْتهَج النادِي وضاءتْ قِبابُهُ
فلا موطِنٌ إلا احْتوتْه مسرَّةٌ
…
ولا كَمَدٌ إلا وأُغلِق بابُهُ
أحمد بن يحيى الأكرمي الصالحي سيخٌ هرِم، يحدِّث عن سيل العَرِم.