الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرُّؤْيَةِ أَيْ يَظُنُّ ظَنَّا غَالِبًا قَرِيبًا مِنْ الْيَقِينِ حَتَّى لَوْ كَانَ شَاكًّا أَوْ أَكْثَرَ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ إذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يُرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرُبَتْ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَالثَّانِي أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْأَدَاءَ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَالْخَامِسُ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وَهَذَا إذَا أَفْطَرَ وَهُوَ يَظُنُّ ظَنًّا غَالِبًا أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرُبَتْ أَمَّا إذَا كَانَ شَاكًّا فِي الْغُرُوبِ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَكَلَ حَيْثُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَلَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِلْفِطْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَاكًّا فِي الْغُرُوبِ فَأَفْطَرَ فَإِنَّ إفْطَارَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ فَكَانَ مُتَيَقِّنًا لِلنَّهَارِ شَاكًّا فِي اللَّيْلِ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَافْتَرَقَا.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إقَامَةَ السُّنَّةِ لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ سُنَّةٌ
وَاعْلَمْ أَنَّ السُّحُورَ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ عليه السلام «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً» السُّحُورُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي وَقْتِ السَّحَرِ وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ وَفِي الْحَدِيثِ إضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ فَإِنَّ فِي أَكْلِ السُّحُورِ بَرَكَةً وَالْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ زِيَادَةُ الْقُوَّةِ فِي أَدَاءِ الصَّوْمِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَيْلُ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِأَكْلِ السُّحُورِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ وَعَمَلِهِ بِمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلُ السُّحُورِ» .
(قَوْلُهُ وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ لَمْ يُفْطِرْ) فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُفْطِرُ سِرًّا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِمْ وَالْأَضْحَى كَالْفِطْرِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ التَّوَسُّعُ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا غَيْرَ مَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ عِبَادَةٍ فَيُحْتَاطُ فِيهَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ قَالَ فِي الْفَتَاوَى يُشْتَرَطُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الدِّينِيِّ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ) فِي هِلَالِ الْفِطْرِ (إلَّا شَهَادَةُ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
[بَابُ الِاعْتِكَافِ]
(بَابُ الِاعْتِكَافِ) أَخَّرَهُ عَنْ الصَّوْمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُهُ وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ طَبْعًا فَكَذَلِكَ وَضْعًا كَمَا قُدِّمَتْ الطَّهَارَةُ عَلَى الصَّلَاةِ وَمَحَاسِنُ الِاعْتِكَافِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ فِيهِ تَسْلِيمَ الْمُعْتَكِفِ كُلِّيَّتَهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ لِطَلَبِ الزُّلْفَى وَتَبْعِيدَ النَّفْسِ عَنْ شُغْلِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ عَمَّا يَسْتَوْجِبُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْقُرْبَى وَلِهَذَا كُرِهَ إحْضَارُ السِّلَعِ فِي الْمَسْجِدِ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَيْضًا اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ وَالصَّائِمُ ضَيْفُ اللَّهِ فَالْأَلْيَقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَالِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعُكُوفِ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ وَالْحَبْسُ وَالْمَنْعُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] أَيْ مَمْنُوعًا عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَهُوَ الْحَرَمُ مَوْضِعُ نَحْرِهِ وَفِي الشَّرْع هُوَ اللَّبْثُ وَالْقَرَارُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ نِيَّةِ الِاعْتِكَافِ قَالَ رحمه الله (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) يَعْنِي فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ أَمَّا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه السلام وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ قَالَ الزُّهْرِيُّ يَا عَجَبًا لِلنَّاسِ تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ الصَّوْمُ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِيهِ تَفْرِيغُ الْقَلْبِ وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى بَارِئِهَا وَالتَّحَصُّنُ بِحِصْنٍ حَصِينٍ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ) يَعْنِي مَسْجِدَ الْجَمَاعَةِ وَاللَّبْثُ بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُكْثُ.
(قَوْلُهُ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّ
وُجُودَهُ بِهِ وَأَمَّا الصَّوْمُ فَشَرْطُهُ وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَالصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ عليه السلام «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ» فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقَلُّهُ سَاعَةً فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كُلُّهَا بِإِمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ مَعْلُومٍ وَأَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ مَأْمَنُ الْخَلْقِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمَنْزِلُ الرَّحْمَةِ ثُمَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي كَثُرَ جَمَاعَتُهَا فَكُلُّ مَسْجِدٍ كَثُرَتْ جَمَاعَتُهُ فَهُوَ أَفْضَلُ وَالِاعْتِكَافُ ضَرْبَانِ وَاجِبٌ وَنَفْلٌ فَالنَّفَلُ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا بِقَدْرِ مَا أَقَامَ فَإِذَا خَرَجَ انْتَهَى اعْتِكَافُهُ وَالْوَاجِبُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الصَّوْمِ.
(قَوْلُهُ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ الْوَطْءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَهُوَ حَرَامٌ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ أَيْضًا. قِيلَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَلِهَذَا قَالَ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ.
(قَوْلُهُ وَاللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ) لِأَنَّهُمَا مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ فَحَرُمَا عَلَيْهِ إذْ الْوَطْءُ مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ كَمَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ.
فَإِنْ قِيلَ لَمْ حَرُمَتْ الْقُبْلَةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ دُونَ الصَّائِمِ قِيلَ لِأَنَّ الْجِمَاعَ فِي الِاعْتِكَافِ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الْقُرْآنِ صَرِيحًا فَحُرِّمَتْ دَوَاعِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْجِمَاعِ فِيهِ دَلَالَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] لَمَّا خَصَّ اللَّيْلَ بِالْحِلِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ بِالنَّهَارِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ التَّقْبِيلُ وَاللَّمْسُ لَا يَحْرُمُ بِالصَّوْمِ وَيَحْرُمُ بِالِاعْتِكَافِ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ بِحَرَامٍ فِي بَابِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَيْلًا وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ إذَا ثَبَتَتْ بِالنَّهْيِ تَعَدَّتْ الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي كَحُرْمَةِ الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ وَمُشْتَرِي الْجَارِيَةِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة: 197] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَبِقَوْلِهِ عليه السلام «أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» وَإِذَا ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْوَطْءِ بِالْأَمْرِ لَا تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَحَالَةِ الصَّوْمِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ فِيهِمَا بِالْأَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] بَعْدَ ذِكْرِ الْمُفَطِّرَاتِ الثَّلَاثِ فَإِنْ قَبَّلَ الْمُعْتَكِفُ أَوْ لَمَسَ وَلَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ أَنْزَلَ فَسَدَ وَإِنْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) وَهِيَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَجْلِهَا وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطَّهُورِ فَإِنْ مَكَثَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْمُكْثُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَفِي نِصْفِ يَوْمٍ رِوَايَتَانِ وَكَذَا إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً لِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَعِنْدَهُمَا لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْخُرُوجِ عَفْوٌ لِلضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ رُكْنُ الِاعْتِكَافِ هُوَ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجُ ضِدُّهُ فَيَكُونُ مُفَوِّتًا رُكْنَ الْعِبَادَةِ فَالْكَثِيرُ فِيهِ وَالْقَلِيلُ سَوَاءٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَدَثِ فِي الطَّهَارَةِ (قَوْلُهُ أَوْ الْجُمُعَةُ) لِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قُلْنَا الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ.
فَإِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ تَسْقُطُ بِأَعْذَارٍ كَثِيرَةٍ مِنْ السَّفَرِ وَالرِّقِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ بِهَذَا الْعُذْرِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ الْجُمُعَةُ لِصِيَانَةِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ دُونَهَا وُجُوبًا لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالنَّذْرِ
وَالْجُمُعَةُ وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُسْقِطَهُ بِإِيجَابِهِ بِنَذْرِهِ وَقَوْلُهُ أَوْ الْجُمُعَةُ يَخْرُجُ إلَيْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتِّ رَكَعَاتٍ فَالْأَرْبَعُ سُنَّةٌ وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَيَمْكُثُ بَعْدَهَا مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي أَرْبَعًا فَإِنْ مَكَثَ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ فِيهِ لَا يَفْسُدُ وَيُكْرَهُ وَإِنَّمَا لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِاعْتِكَافِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمُّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَخْرُجُ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَيْضًا وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَلَا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذَا كَانَ مَعَهَا غَيْرُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ الْخُرُوجُ بِمِقْدَارِ الدَّفْنِ وَعَلَى هَذَا إذَا دُعِيَ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُدَّعِي مَنْ يَقْطَعُ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ غَيْرُهُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ بِمِقْدَارِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَخْرُج فَإِنْ خَرَجَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ هُوَ الْمُعْتَكِفُ فَصَعِدَ الْمَنَارَةَ لِلْأَذَانِ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَلَوْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ كُرْهًا فَدَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْخُرُوجِ فَصَارَ عَفْوًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَكِفًا إذْ الْمُعْتَكَفُ مَسْجِدٌ تُصَلِّي فِيهِ الْجَمَاعَةُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْمَهْدُومِ فَكَانَ عُذْرًا فِي التَّحَوُّلِ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَلَوْ كَانَ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ بَيْتُ صَدِيقٍ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيْتَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْضِيَ إلَى الْبَعِيدِ فَإِنْ مَضَى بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وَيَأْكُلُ الْمُعْتَكِفُ وَيَنَامُ فِي مُعْتَكَفِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ
(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ) يَعْنِي مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُنَزَّهٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ لِلتِّجَارَةِ فَمَكْرُوهٌ لَلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُعْتَكِفَ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهَةِ وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ أَشْغَالُ الدُّنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ كَتَحْبِيلِ الْقَعَائِدِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالتَّعْلِيمِ إنْ كَانَ يَعْمَلُهُ بِأُجْرَةٍ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ أَوْ يَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَسْجِدِ وَيَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُرَاجِعَ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ) هَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُعْتَكِفَ وَغَيْرَهُ إلَّا أَنَّهُ فِي الْمُعْتَكِفِ أَشَدُّ.
(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) يَعْنِي صَمْتًا يَعْتَقِدُهُ عِبَادَةً كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي شَرِيعَتِنَا أَمَّا الصَّمْتُ عَنْ مَعَاصِي اللِّسَانِ فَمِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ وَلَكِنْ لَا يَفْسُدْ صَوْمُهُ إذَا كَانَ نَاسِيًا وَالْفَرْقُ أَنَّ حَالَةَ الِاعْتِكَافِ مُذَكِّرَةٌ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى الْإِحْرَامِ فَإِنَّ هَيْئَةَ الْمُحْرِمِينَ مُذَكِّرَةٌ وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى أَنَّهُ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ أَيَّامٍ لِيَحْتَرِزَ مِمَّا إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَإِنَّ اللَّيْلَةَ لَا تَدْخُلُ فَإِنَّهُ إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَعْتَكِفُ يَوْمَهُ وَيَصُومُهُ وَيَخْرُجُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَإِنْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمَانِهِ بِلَيْلَتَيْهِمَا وَيَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ غَرُبَتْ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَدْ وَفَّى بِنَذْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَدْخُلُ اللَّيْلَةَ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ وَفِي دُخُولِ اللَّيْلَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْمُثَنَّى حُكْمَ الْجَمْعِ قَوْلُهُ عليه السلام «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَمَّا إذَا نَوَى اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ دُونَ لَيْلَتَيْهِمَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَلَوْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالصَّوْمِ وَإِنْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ