الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة عشرة
سيرة عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه
-
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد ..
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر.
كان رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرًا، واستشهد يوم أُحد، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله كلمه كفاحًا - أي من غير واسطة -.
إنه عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري السلمي، والد جابر الصحابي المشهور.
قال ابن سعد: «كان عبد الله أول من قُتل يوم أُحد، وكان أحمر، أصلع، ليس بالطويل»
(1)
.
(1)
. الطبقات الكبرى (3/ 424).
وقد كانت لعبد الله بن عمرو مواقف عظيمة تدل على فضله وبذله ونصرته لهذا الدين، روى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث طويل، وقال صلى الله عليه وسلم في آخره:«جَزَى اللَّهُ الأَنْصَارَ عَنَّا خَيْرًا، وَلَا سِيَّمَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ»
(1)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، جِيءَ بِأَبِي مُسَجًّى
(2)
، وَقَدْ مُثِّلَ
(3)
بِهِ، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ، فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَرَفَعَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَوْ أَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ أَوْ صَائِحَةٍ، فَقَال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ هَذِهِ؟» فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو- أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو فَقَالَ: «وَلِمَ تَبْكِي؟ فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ»
(4)
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه؛ لأن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يُبكى عليه،
(1)
. صحيح ابن حبان برقم 6981، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 461.
(2)
. أي مغطى. انظر النهاية (2/ 310).
(3)
. مُثل: بضم الميم وكسر الثاء، ومثل بالقتيل إذا قطع أطرافه أو أنفه أو أذنه .. ونحو ذلك. انظر النهاية (4/ 251).
(4)
. صحيح البخاري برقم 1293، وصحيح مسلم برقم 2471.
بل يفرح له بما صار إليه»
(1)
.
وروى والترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله عز وجل قال: «يَا جَابِرُ مَالِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَعِيَالًا، فَقَالَ:«أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، وَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ مَا شِئْتَ أُعْطِيكَ، قَالَ: تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلُ فِيكَ، فَقَالَ تبارك وتعالى: لَا، إِنِّي أَقْسَمْتُ بِيَمِينٍ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ» يَعْنِي الدُّنْيَا. ونزلت هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]
(2)
.
وروى النسائي في سننه من حديث جابر رضي الله عنه قال: لَمَّا أُصِيْبَ أَبِي وَخَالِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءتْ أُمِّي بِهِمَا قَدْ عَرَضَتْهُمَا عَلَى نَاقَةٍ، فَأَقْبَلَتْ بِهِمَا إِلَى المَدِيْنَةِ. فَنَادَى مُنَادٍ: ادْفِنُوا القَتْلَى فِي مَصَارِعِهِم، فَرُدَّا حَتَّى دُفِنَا فِي مَصَارِعِهِمَا
(3)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن
(1)
. فتح الباري (3/ 116).
(2)
. صحيح ابن حبان برقم 6983، وسنن الترمذي برقم 3010، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي برقم 2408، وكتاب التوحيد لابن خزيمة (2/ 890) واللفظ له، والزيادة في آخر الحديث للترمذي، ورواه الإمام أحمد في مسنده (23/ 163) برقم 11488 مختصرًا، وقال محققوه: إسناده حسن.
(3)
. برقم 2005 وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز ص 25.
عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أُحد أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على الشهداء الذين قُتلوا يومئذ، فقال:«زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنِّي قَدْ شَهِدْتُ عَلَيْهِمْ» ، فَكَانَ يُدْفَنُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ وَيُسْأَلُ: أَيُّهُمْ كَانَ أَقْرَأَ لِلْقُرْآنِ فَيُقَدِّمُونَهُ. قَالَ جَابِرٌ: فَدُفِنَ أَبِي وَعَمِّي يَوْمَئِذٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ
(1)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أُحد: «لَا تُغَسِّلُوهُمْ، فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ - أَوْ كُلَّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(2)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال: لما حضر أُحد دعاني أبي من الليل فقال: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ
(3)
.
قال ابن حجر رحمه الله: «وهذا يخالف في الظاهر ما وقع في الموطأ
(1)
. (39/ 64 - 65) برقم 23660، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط البخاري.
(2)
. (22/ 97) برقم 14189، وقال محققوه: حديث صحيح.
(3)
. برقم 1351.
عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبرهما وكانا في قبر واحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أُحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة. وقد جمع بينهما ابن عبدالبر بتعدد القصة، وفيه نظر؛ لأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر، وفي حديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة، فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد، وقد ذكر ابن إسحاق في المغازي فقال: حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم، فجئنا فأخرجناهما - يعني عمرو وعبد الله - وعليهما بردتان قد غطى بهما وجوههما، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيًا كأنهما دفنا بالأمس. وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر
(1)
.
ومن فوائد الحديث:
«1 - الإرشاد إلى بر الأولاد بالآباء خصوصًا بعد الوفاة.
2 -
وفيه الاستعانة على ذلك بإخبارهم بمكانتهم من القلب.
(1)
. فتح الباري (3/ 216).
3 -
وفيه قوة إيمان عبد الله رضي الله عنه المذكورة لاستثنائه النبي صلى الله عليه وسلم ممن جعل ولده أعز عليه منهم.
4 -
وفيه كرامته بوقوع الأمر على ما ظن، وكرامته بكون الأرض لم تبل جسده مع لبثه فيها، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة.
5 -
وفيه فضيلة لجابر رضي الله عنه لعمله بوصية أبيه بعد موته في قضاء دينه»
(1)
.
فروى البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: أن أباه توفي وعليه دين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إِنَّ أَبِي تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَلَيْسَ عِنْدِي إِلَّا مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ، وَلَا يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ سِنِينَ مَا عَلَيْهِ، فَانْطَلِقْ مَعِي لِكَيْ لَا يُفْحِشَ عَلَيَّ الغُرَمَاءُ، فَمَشَى حَوْلَ بَيْدَرٍ مِنْ بَيَادِرِ التَّمْرِ فَدَعَا، ثَمَّ آخَرَ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:«انْزِعُوهُ» ، فَأَوْفَاهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ
(2)
.
وفي رواية في صحيح البخاري: وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ
(3)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. فتح الباري (3/ 217).
(2)
. برقم 3580.
(3)
. برقم 2127.