الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السادسة
قصة سحرة فرعون لعنه الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد ..
«يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله، وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله، واستكباره عن اتباعها، وقوله لموسى: إن هذا الذي جئت به سحر ونحن نعارضك بمثله، ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم، ومكان معلوم، وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام، أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس، ولهذا قال:{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} أي من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس فيكون الحق
أظهر وأجلى، ولم يطلب أن يكون ذلك ليلًا في ظلام، كيما يروج عليهم محالًا وباطلًا، بل طلب أن يكون نهارًا جهرة؛ لأنه على بصيرة من ربه، ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه، وإن رغمت أنوف القِبْط.
يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب، فجمع من كان ببلاده من السحرة، وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة، محترفين، في فنهم غاية، فجُمعوا له من كل بلد، ومن كل مكان، فاجتمع منهم خلقٌ كثير وجمٌّ غفير، فقيل: كانوا ثمانين ألفًا، قاله محمد بن كعب، وقيل: سبعين ألفًا، قاله القاسم بن أبي بزة، وقال السُّدي: بضعة وثلاثين ألفًا، وعن أبي أمامة: تسعة عشر ألفًا. وقال محمد بن إسحاق: خمسة عشر ألفًا. وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفًا، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: كانوا سبعين رجلًا.
وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل مصر عن
بكرة أبيهم؛ وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم، فخرجوا وهم يقولون:{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40]. وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعظهم وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل، الذي فيه معارضة لآيات الله وحُججه، فقال:{وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)} [سورة طه:61 - 62] قيل: معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم؛ فقائل يقول: هذا كلام نبي وليس بساحر، وقائل منهم يقول: بل هو ساحر، فالله أعلم. وأسروا التناجي بهذا وغيره:{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} يقولون: إن هذا وأخاه هارون ساحران عليمان، مُتقنان لهذه الصناعة، ومرادهما أن يجتمع الناس عليهما، ويصولان على الملك وحاشيته، ويستأصلاكم عن آخركم، ويستأمرا عليكم بهذه الصناعة:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا، ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبُهتان، وهيهات، كذبت والله الظنون، وأخطأت الآراء، أنَّى يُعارض البهتان والسحر والهذيان خوارق العادات، التي أجراها الديَّان على يدي عبده الكليم ورسوله الكريم، المؤيد بالبرهان الذي يبهر الأبصار، وتحار
فيه العقول والأذهان، وقولهم {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} أي جميع ما عندكم، {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه: 60 - 64] أي جملة واحدة، ثم حض بعضهم بعضًا على التقدم في هذا المقام؛ لأن فرعون كان قد وعدهم ومنّاهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.
قال تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه: 65 - 69]. لما اصطف السحرة ووقف موسى وهارون عليهما السلام تُجاههم قالوا له: إما أن تُلقي قبلنا، وإما أن نُلقي قبلك. قال: بل ألقوا أنتم، وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي، فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابًا يُخيل للرائي أنها تسعى باختيارها، وإنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون:{بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44].
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقال تعالى:{قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)} [سورة طه:66 - 67] أي خاف
على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم قبل أن يُلقي ما في يده، فإنه لا يضع شيئًا قبل أن يؤمر، فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه:68 - 69] فعند ذلك ألقى موسى عصاه، قال الله تعالى:{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)} [يونس: 81 - 82]، وقال تعالى:{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45]، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف: 118 - 122].
وذلك أن موسى عليه السلام لما تقدم وألقاها، صارت حية عظيمة ذات قوائم - فيما ذكره غير واحد من علماء السلف - وعُنق عظيم، وشكل هائل مزعج، بحيث إن الناس انحازوا منها، وهربوا سراعًا، وتأخروا عن مكانها، وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي، فجعلت تلقفه واحدًا واحدًا في أسرع ما يكون من الحركة والناس ينظرون إليها، ويتعجبون منها، وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم، واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم، ولا يدخل تحت صناعاتهم
وأشغالهم، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر، ولا شعبذة، ولا محال ولا خيال، ولا زور ولا بهتان ولا ضلال، بل حقٌ لا يقدر عليه إلا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق، وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة، وأنارها بما خلق فيها من الهُدى، وأزاح عنها القسوة، وأنابوا إلى ربهم، وخروا له ساجدين، وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى:{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف:121 - 122].
قال سعيد بن جُبير، وعكرمة، والقاسم بن أبي بزة، والأوزاعي، وغيرهم: لما سجد السحرة، رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تُهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم، ولهذا لم
يلتفتوا إلى تهويل فرعون، وتهديده ووعيده، وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا، وأشهروا ذكر موسى وهارون في الناس على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك، ورأى أمرًا بهره، وأعمى بصيرته وبصره، وكان فيه كيد ومكر وخداع، وصنعةٌ بليغة في الصد عن سبيل الله، فقال مخاطبًا للسحرة بحضرة الناس:{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي، ثم تهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، وكذب فأبعد، قائلًا:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وقال في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123] وهذا الذي قاله من البهتان الذي يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان، بل لا يروج مثله على الصبيان؛ فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يومًا من الدهر، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم واجتباهم من كل فج عميق ووادٍ سحيق، ومن حواضر بلاد مصر والأطراف، ومن المدن والأرياف.
والمقصود أن فرعون كذب وافترى، وكفر غاية الكفر في قوله:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وأتى ببهتان يعلمه الناس في قوله: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ}، وقوله:{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} يعني: يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي على جذوع النخل؛ لأنها أعلى وأشهر {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} يعني في الدنيا {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات، والدلائل القاطعات {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قيل: معطوف، وقيل: قسم {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي: فافعل ما قدرت عليه، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: إنما حُكمك علينا في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة، صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رُسله {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب {وَأَبْقَى} أي: وأدوم من هذه الدار الفانية، وفي الآية الأخرى:{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)} [الشعراء: 50 - 51] أي: ما اجترمناه من المآثم والمحارم {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: من القبط، بموسى وهارون عليهما السلام، وقالوا له أيضًا: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا
جَاءَتْنَا} [الأعراف: 126] أي: ليس لنا عندك ذنب إلا إيمانُنا بما جاءنا به رسولنا، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي: ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد، والسلطان الشديد،
بل الشيطان المريد: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقالوا أيضًا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} يقولون له: فإياك أن تكون منهم، فكان منهم:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} أي: المنازل العالية: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} فاحرص أن تكون منهم، فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تُغالب، ولا تُمانع، وحكم العلي العظيم بأن فرعون - لعنه الله - من أهل الجحيم، ليُباشر العذاب الأليم، يُصب من فوق رأسه الحميم، ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ، وهو المقبوح، الذميم اللئيم:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} .
والظاهر من هذه السياقات أن فرعون لعنه الله، صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعُبيد بن عُمير: كانوا من أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة، ويؤيد هذا قولهم:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ».
(1)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله (2/ 70 - 80) بتصرف واختصار.