الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثامنة والستون:
مقتطفات من سيرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
-:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد ..
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نقتبس من سيرته الدروس والعبر. هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أهل الشورى وأحد السابقين البدريين، وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام، إنه عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة ابن كلاب القرشي الزهري أبو محمد واسم أمه صفية ويقال- الصفاء، حكاه ابن منده، ويقال: الشفاء، وهي زهرية أيضًا أبوها عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، حكاه أبو عمر. ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وأخرج الزبير بن بكار من طريق سهلة بنت عاصم قالت: كان عبد الرحمن بن عوف أبيض أعين
(1)
أهدب
(1)
أعين إذا كان ضخم العين واسعها، اللسان (ع ى ن).
أهدب: رجل أهدب طويل أشفار العين، اللسان (ق ن ي).
أقنى: القنا في الأنف، طوله ودقة أرنبته مع حدب في وسطه، اللسان (ق ن ى).
الأشفار، أقنى، له جمة أسفل من أُذنيه، أعنق ضخم الكتفين.
قال إبراهيم بن سعد عن أبيه: كان طويلًا أبيض، مشربًا حمرة حسن الوجه، رقيق البشرة لا يخضب، وروى زيد البكائي عن ابن إسحاق قال: كان ساقط الثنيتين، أهتم، أعسر، أعرج، أصيب يوم أُحد فهُتِم، وجرح عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج، قال عثمان: ما يستطيع أحد أن يعتد على هذا الشيخ فضلًا في الهجرتين جميعًا، ولقد كانت لهذه الصحابي الجليل مواقف عظيمة تدل على بذله ونصرته لهذا الدين.
فمن ذلك أنه رضي الله عنه أسلم قديمًا قبل دخول دار الأرقم، وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا وسائر المشاهد، وكان اسمه عبد الكعبة، ويقال عبد عمرو فغيره النبي صلى الله عليه وسلم. وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فروى البخاري في صحيحه من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أُطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يومًا وبه أثر صفرة، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: «مَهْيَمْ؟» ، قال: تزوجت، قال: «كَمْ
سُقْتَ إِلَيْهَا؟»، قال: نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب، شك إبراهيم
(1)
.
وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى دومة الجندل وأذن له أن يتزوج بنت ملكهم الأصبغ بن ثعلبة الكلبي ففتح عليه، فتزوجها وهي تماضر أم ابنه أبي سلمة، وعن عمرو بن وهب الثقفي قال: كنا مع المغيرة بن شعبة فسئل: هل أم النبي صلى الله عليه وسلم أحد من هذه الأمة غير أبي بكر، فقال: نعم، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه وعمامته وأنه صلى خلف عبدالرحمن بن عوف وأنا معه ركعة من الصبح، وقضينا الركعة التي سُبِقْنا
(2)
.
قال معمر عن الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة. وقيل أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا.
ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، وأنه من أهل بدر الذين قيل لهم:«اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةَ - أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»
(3)
.
(1)
صحيح مسلم برقم (3780).
(2)
الحديث أخرجه مسلم برقم (421).
(3)
صحيح البخاري برقم (3983)، وصحيح مسلم برقم (2494) من حديث علي رضي الله عنه.
ومن أهل هذه الآية: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} .
روى الإمام أحمد في مسنده والطحاوي في مشكل الآثار: أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضًا له من عثمان بن عفان بأربعين ألف دينار فقسمها في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين، قال المسور: فدخلت على عائشة رضي الله عنها بنصيبها من ذلك فقالت: من أرسل بهذا؟ قلت: عبد الرحمن، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلَّا الصَّابِرُونَ» ، سَقى اللَّهُ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوفٍ مِن سَلْسَبِيلِ الجنَّةِ
(1)
.
وروى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي مِنْ بَعْدِيِ» ، قال قريش: فحدثني محمد بن عمرو بن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أباه وصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بعده بأربعين ألف دينار
(2)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث شقيق قال: دخل عبد
(1)
مسند الإمام أحمد من حديث أم بكر بنت المسور (41/ 247 - 248)، برقم (24724)، وقال محققوه: حديث حسن، ومشكل الآثار للطحاوي برقم (24724).
(2)
(4/ 369) برقم (5410)، وحسن الحديث الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (4/ 461 - 462) برقم (1845).
الرحمن بن عوف رضي الله عنه على أم سلمة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين إني أخشى أن أكون قد هلكت، إني من أكثر قريش مالًا، بعت أرضًا لي بأربعين ألف دينار، فقالت: أنفق يا بني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ لَا يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أُفَارِقَهُ» ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَتَاهَا، فَقَالَ: بِاللَّهِ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا، وَلَنْ أُبَرِّئَ أَحَدًا بَعْدَكَ
(1)
. قال أنس رضي الله عنه: رأيت عبد الرحمن بن عوف، قُسِم لكل امرأة من نسائه بعد موته مئة ألف.
ومن أفضل أعمال عبد الرحمن رضي الله عنه عزله نفسه من الأمر وقت الشورى واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان محابيًا فيها لأخذها لنفسه أو ولّاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص.
قال إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده، سمع عليًّا يقول يوم مات عبد الرحمن بن عوف: اذهب يا ابن عوف! فقد أدركت صفوها وسبقت رنقها، الرنق - الكدر. ولكن رضي الله عنه مع كثرة ماله كان يخشى على نفسه من أن يكون انفتاح الدنيا استدراجًا من الله له وهذا من تواضعه وتقواه، فروى البخاري في صحيحه من
(1)
(44/ 291) برقم (26694)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
حديث سعد بن إبراهيم عن أبيه: أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة، إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه - وأُراه قال: وقُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط- أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام
(1)
.
ومما يدل على فضله ومكانته ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما شيء، فسبه خالد - وفي رواية أنه قال له: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا
(2)
بها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»
(3)
، وفي رواية:«لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ - أو مِثْلَ الجِبَالِ - ذَهْبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ»
(4)
.
(1)
برقم (4045).
(2)
مسند الإمام أحمد (21/ 319) برقم (13812)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات، رجال الشيخين غير أحمد بن عبدالملك الحراني، روى له النسائي وابن ماجه.
(3)
صحيح البخاري برقم (3673)، وصحيح مسلم برقم (2541).
(4)
مسند الإمام أحمد (21/ 319) برقم (13812)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات.
ومما يدل على علمه وفقهه أن عمر رضي الله عنه رجع لحديثه في سرع ولم يدخل الشام من أجل الطاعون، عندما أخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي خفي على جمع من الصحابة، وهو في الصحيحين
(1)
.
ورجع إليه كذلك عمر في أخذ الجزية من المجوس، وهو في البخاري
(2)
، وقال عنه عمر: عبد الرحمن سيد من سادات المسلمين.
قال طلحة بن عبد الله بن عوف: كان أهل المدينة عيالًا على عبد الرحمن بن عوف، ثلث يقرضهم، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثًا.
قال إبراهيم بن عبد الرحمن: غُشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه حتى ظنوا أنه قد فاضت نفسه، حتى قاموا من عنده وجللوه، فأفاق يكبر، فكبر أهل البيت، ثم قال لهم: غُشي علي آنفًا؟ قالوا: نعم، قال: صدقتم! انطلق بي في غشيتي رجلان أجد فيهما شدة وفظاظة، فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين، فانطلقا بي حتى لقيا رجلًا، قال: أين تذهبان بهذا؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين، فقال: ارجعا فإنه من الذين كتب لهم السعادة والمغفرة وهم في بطون أمهاتهم، وإنه
(1)
صحيح البخاري برقم (6973)، وصحيح مسلم برقم (2219).
(2)
صحيح البخاري برقم (3156).
سيمتع به بنوه إلى ما شاء الله، فعاش بعد ذلك شهرًا.
وذكر البخاري في تاريخه من طريق الزهري قال: أوصى عبد الرحمن بن عوف لكل من شهد بدرًا بأربعمائة دينار فكانوا مائة رجل.
قال أبو عمر بن عبدالبر: كان مجدودًا في التجارة، خلف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومئة فرس، وكان يزرع بالجرف
(1)
على عشرين ناضحًا.
قال الذهبي رحمه الله: هذا هو الغني الشاكر، وأويس فقير صابر، وأبو ذر أو أبو عبيدة زاهد عفيف، وقد مات سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة اثنين وهو الأشهر وعاش اثنين وسبعين سنة، وقيل خمسًا وسبعين وقيل ثمانية وسبعين، قال ابن حجر: والأول أثبت، ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان ويقال الزبير بن العوام
(2)
.
رضي الله عن عبد الرحمن بن عوف، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام.
(2)
سير أعلام النبلاء (1/ 68 - 92)، والإصابه في تمييز الصحابة (6/ 543 - 549).