المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلمة الخامسة والأربعون:سورة الغاشية - الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة - جـ ١٢

[أمين الشقاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الكلمة الأولىشرح حديث: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»

- ‌الكلمة الثانيةقصة نبي الله هود عليه السلام

- ‌الكلمة الثالثةبعض الفوائد من قصة نبي الله هود عليه السلام

- ‌الكلمة الرابعةقصة نبي الله صالح عليه السلام

- ‌الكلمة الخامسةفوائد من قصة نبي الله صالح عليه السلام

- ‌الكلمة السادسةقصة سحرة فرعون لعنه الله

- ‌الكلمة السابعةفوائد من قصة إسلام سحرة فرعون

- ‌الكلمة الثامنةشروط الزكاة

- ‌الكلمة التاسعةزكاة عروض التجارة

- ‌الكلمة العاشرةشرح حديث: «اجتنبوا السبع الموبقات»

- ‌الكلمة الحادية عشرةالمساحة في أخلاق الناس

- ‌الوقفة الأولى:

- ‌الوقفة الثانية: هل يمكن الوصول إلى أعلى المراتب

- ‌الوقفة الثالثة: بعض الفوائد المراد الحصول عليها من هذه الكلمة:

- ‌الوقفة الرابعة:

- ‌الكلمة الثانية عشرةبعض وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

- ‌الكلمة الثالثة عشرةالبسملة ومواضعها (رقم (1))

- ‌الكلمة الرابعة عشرةالبسملة ومواضعها (رقم (2))

- ‌الكلمة الخامسة عشرةالتولة والتمائم

- ‌الكلمة السادسة عشرةالرقى

- ‌الكلمة السابعة عشرةسيرة عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه

- ‌الكلمة الثامنة عشرةمن محاسن الدين الإسلامي

- ‌الكلمة التاسعة عشرةأهل الزكاة

- ‌الكلمة العشرونمن حكمِ الزكاة والأموالُ التي تجب فيها

- ‌الكلمة الواحدة والعشرونتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع صغار المسلمين

- ‌الكلمة الثانية والعشرونتأملات في قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74]

- ‌الكلمة الثالثة والعشرونشرح حديث: «حفت الجنة بالمكاره»

- ‌الكلمة الرابعة والعشرونوصايا لرجال الأمن

- ‌الكلمة الخامسة والعشرونتأملات في قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}

- ‌الكلمة السادسة والعشرونتأملات في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)} [الأحزاب: 28]

- ‌الكلمة السابعة والعشرونشرح اسم الله: «العليم»

- ‌الكلمة الثامنة والعشرونتأملات في سورة القدر

- ‌الكلمة التاسعة والعشرونالنذر وأحكامه

- ‌شروط صحة النذر ولزومه:

- ‌أنواع النذر وحكم كل نوع:

- ‌الكلمة الثلاثونالأيمان وأقسامها

- ‌شروط وجوب كفارة اليمين:

- ‌الاستثناء في اليمين:

- ‌نقض اليمين والحنث فيها:

- ‌صور لبعض الأيمان الجائزة والممنوعة:

- ‌ومن الأيمان الممنوعة:

- ‌مسائل في الأيمان:

- ‌الكلمة الواحدة والثلاثونحقوق العمال والتحذير من ظلمهم

- ‌الكلمة الثانية والثلاثونالقتل الخطأ وأحكامه

- ‌يترتب على قتل الخطأ حكمان:

- ‌الكلمة الثالثة والثلاثونمقتطفات من سيرة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌الكلمة الرابعة والثلاثونمقتطفات من سيرة فاطمة بنت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الكلمة الخامسة والثلاثونشرح حديث سيد الاستغفار

- ‌الكلمة السادسة والثلاثون:السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح: رقم (1)

- ‌المقصد الأول (الذرية):

- ‌المقصد الثاني: (الخدمة):

- ‌المقصد الثالث: (المتعة)

- ‌الكلمة السابعة والثلاثون:السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح: رقم (2)

- ‌الكلمة الثامنة والثلاثون:السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح رقم (3)

- ‌الكلمة التاسعة والثلاثون:السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (4)

- ‌أعقل نساء العرب:

- ‌الكلمة الأربعون:أسباب السعادةوالنجاح في فهم مقاصد النكاح: رقم (5)

- ‌الكلمة الواحدة والأربعون:السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح: رقم (6)

- ‌الكلمة الثانية والأربعون:السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح: رقم (7)

- ‌مقدار ما تستحقه المرأة من النفقة:

- ‌آداب سؤال المرأة لزوجها النفقة:

- ‌الكلمة الثالثة والأربعون:وقفات مع سورة التكوير (1)

- ‌الكلمة الرابعة والأربعون:سورة التكوير رقم (2)

- ‌الكلمة الخامسة والأربعون:سورة الغاشية

- ‌الكلمة السادسة والأربعون:فوائد من سورة الغاشية

- ‌الكلمة السابعة والأربعون:تأملات في سورة الأعلى

- ‌الكلمة الثامنة والأربعون:فوائد من سورة الأعلى

- ‌الكلمة التاسعة والأربعون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك)

- ‌وصايا لقمان الحكيم عليه السلام

- ‌‌‌الكلمة الخمسون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (بر الوالدين)

- ‌الكلمة الخمسون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (بر الوالدين)

- ‌الكلمة الواحدة والخمسون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (مراقبة الله، وإقامة الصلاة)

- ‌الكلمة الثانية والخمسون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

- ‌الكلمة الثالثة والخمسون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (الصبر على الأذى في سبيل الله)

- ‌الكلمة الرابعة والخمسون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (الأمر بالتواضع والنهي عن التكبر)

- ‌الكلمة الخامسة والخمسون:وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه:(التوسط في الأمور)

- ‌الكلمة السادسة والخمسون:(ولاية الله)

- ‌والناس في الولاية على درجات ثلاثة:

- ‌الكلمة السابعة والخمسون:(المروءة)

- ‌«درجات المروءة:

- ‌حقوق المروءة وشروطها:

- ‌من فوائد المروءة:

- ‌الكلمة الثامنة والخمسون:من فضائل الحمد

- ‌الكلمة التاسعة والخمسون:المواضع التي يشرع فيها الحمد

- ‌الكلمة الستون:شرح اسم الله: «العظيم»

- ‌ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:

- ‌الكلمة الواحدة والستون:شرح اسم الله: «الجبار»

- ‌الكلمة الثانية والستون:شرح اسم الله: «الستير»

- ‌من آثار الإيمان بهذا الاسم (الستير):

- ‌الكلمة الثالثة والستون:شرح اسم الله: «الملك المالك المليك»

- ‌الكلمة الرابعة والستون:شرح اسم الله: «القوي المتين»

- ‌الكلمة الخامسة والستون:وقفات مع قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}

- ‌(أ) امتثال الأمر:

- ‌(ب) التفويض إلى الله:

- ‌(ج) تفريغ القلب من الشواغل:

- ‌الكلمة السادسة والستون:غزوة تبوك أو العسرة

- ‌الكلمة السابعة والستون:دروس وعبر من غزوة تبوك

- ‌الكلمة الثامنة والستون:مقتطفات من سيرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

- ‌الكلمة التاسعة والستون:مقتطفات من سيرة سعيد بن زيد رضي الله عنه

- ‌الكلمة السبعون:شرح حديث: «من نفس عن مؤمن كربة» الحديث

الفصل: ‌الكلمة الخامسة والأربعون:سورة الغاشية

‌الكلمة الخامسة والأربعون:

سورة الغاشية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد ..

قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} .

روى مسلم في صحيحه من حديث الضحاك بن قيس أنه كتب إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه يسأله: أي شيء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة سوى سورة الجمعة؟ فقال: كان يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ

ص: 351

حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}

(1)

.

قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، أي: أليس قد بلغك حديث الغاشية. وأصل الغاشية الداهية العظيمة، والمراد القيامة لأنها تغشى الناس جميعًا أي تغمرهم بأهوالها وشدائدها، والاستفهام هنا للتقرير والتهويل والتشويق والتنبيه إلى أن هذا من الأحاديث العظيمة التي ينبغي أن يتحدث بها.

في هذه السورة يذكر تعالى أحوال يوم القيامة، وما فيها من الأهوال الطامة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، فأخبر عن وصف كلا الفريقين.

فقال في وصف أهل النار: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)} أي وجوه الكفار والمنافقين يوم القيامة ذليلة، كما قال تعالى:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} وكنى بالوجوه عن أصحابها لظهور آثار الذل عليها.

قوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} عاملة عملًا يكون به النصب وهو التعب، قال العلماء: وذلك أنهم يكلفون يوم

(1)

. برقم 878.

ص: 352

القيامة بجر السلاسل والأغلال والخوض في نار جهنم كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة لأنه عمل عذاب وعقاب. وليس المعنى كما قال بعضهم أن المراد بها الكفار الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وذلك لأن الله قيد هذا بقوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي يومئذ تأتي الغاشية وهذا لا يكون إلا يوم القيامة.

قوله تعالى: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)} أي تدخل في نار جهنم والنار الحامية التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا.

قوله تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)} أي هذه الوجوه حين تطلب السقيا تسقى من عين حارة بلغت أناها، أي غايتها في الحرارة، كما قال تعالى:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [سورة الرحمن، آية رقم: 44]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [سورة الكهف، آية رقم: 29].

قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)} والضريع نبات لا تقربه الدواب لخبثه وسوء عاقبته.

قوله تعالى: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)} أي لا فائدة فيه

ص: 353

فلا ينفع البدن ولا يدفع غائلة الجوع، والمراد أن من طعام أهل النار نبتًا يشبه الضريع في عدم نفعه وغنائه، وإن لم يكن مثله في حقيقته كما هو الشأن في سائر حقائق الآخرة مع حقائق الدنيا، بل هو طعام غاية في الخبث وفي سوء تجرعه.

والقصد في الآية التأكيد فهو إضافي، أي: نسبي، بدليل أنه جاء في القرآن أن من طعام أهل النار الغسلين والزقوم ويحتمل أن المعذبين على طبقات والعذاب ألوان، فمنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، لكل باب منهم جزء مقسوم نسأل الله النجاة بمنه.

قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)} أي بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره ينعم يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها.

قوله تعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)} أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور والفرح.

قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} العلو ضد السفول، ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السموات السبع والأرضون ولا يبقى إلا الجنة والنار فهي عالية وأعلاها ووسطها الفردوس

ص: 354

الذي فوقه عرش الرحمن سبحانه.

قوله تعالى: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)} أي لا تسمع في هذه الجنة قولة لاغية أو نفسًا لاغية بل كل ما فيها جد، كل ما فيها تسبيح وتحميد، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، أي أنه لا يشق عليهم فهم دائمًا في ذكر الله عز وجل وتسبيح وأنس وسرور، يأتي بعضهم إلى بعض، ويزور بعضهم بعضًا في حبور لا نظير له.

قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)} أي تجري حيث أراد أهلها لا تحتاج إلى حفر ساقية، ولا إقامة أخدود، كما قال ابن القيم رحمه الله:

أَنْهَارُهَا فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ

سُبْحَانَ مُمْسِكِهَا عَنِ الفَيَضَانِ

قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)} السرر جمع سرير وهي المجالس المرتفعة في ذاتها وبما عليها من الفرش اللينة الوطيئة يجلسون عليها يتفكهون هم وأزواجهم من الحور العين في ظلال على الأرائك متكئون.

قوله تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)} يعني ليست مرفوعة عنهم بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة الخمر والماء والعسل واللبن. والأكواب جمع كوب وهو الكوز الذي لا عروة له فهو صالح للشرب من كل جهة.

ص: 355

قوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)} أي وسائد من الحرير والإستبرق وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله قد صفت للجلوس والاتكاء عليها، وقد أُريحوا أن يضعوها أو يصفوها بأنفسهم.

قوله تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} أي بسط كثيرة فاخرة جمع زربية، ومبثوثة أي مبسوطة ومفرقة في كل مكان من مجالسهم وهذا من كمال النعيم والرفاهية - نسأل الله أن يجعلنا من أهلها - ولا تظن أن هذه النمارق وهذه الأكواب، وهذه السرر وهذه الزرابي لا تظن أنها تشبه ما في الدنيا، لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الآخرة ونعلم حقيقته، لكنها لا تشبهه لقول الله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [سورة السجدة، آية رقم: 17]، إنما الأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:«ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط» . فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا لكنه فرق بين هذا وهذا.

قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} بعد ذكر القيامة ومصير الأشقياء والسعداء انتقل السياق إلى توبيخ المعرضين عن الإيمان وعن النظر في آيات الله الدالة على توحيده وقدرته على البعث، ذكر منها أربع آيات: خلق الإبل،

ص: 356

ورفع السماء، ونصب الجبال، وبسط الأرض.

ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتذكير بآيات الله الكونية وآياته الشرعية، وما تضمنته من الوعد والوعيد، وأخبره أن هذه هي وظيفته صلى الله عليه وسلم، وختمت السورة بأن إليه سبحانه المآب، وعليه الحساب.

قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} أي أفلا ينظرون بأبصارهم نظر تفكر واعتبار، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، إلى الإبل وهو الحيوان المعروف، كيف خلقت هذا الخلق البديع العجيب في عظم جسمها وشدة قوتها بحيث تحمل عليها الأحمال وهي باركة ثم تقوم بيسر، وهي آية في الصبر على الجوع والعطش أيامًا، وترعى كل نبات، كثيرة المنافع، بحيث يشرب لبنها ويؤكل لحمها، ويلبس من وبرها، وتنقاد للكبير والصغير وهي أنفس أموال العرب.

قوله تعالى: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)} بلا عمد، وما زينت به من النجوم والشمس والقمر.

قوله تعالى: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)} أي جعلت منتصبة على وجه الأرض نصبًا ثابتًا، فصارت لها كالأوتاد ويلوذ بها الناس، ويتخذون منها بيوتًا.

قوله تعالى: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} أي بسطت

ص: 357

ومهدت حتى صارت صالحة للمشي عليها، وإقامة المساكن فوقها، وهذا لا ينافي كونها كروية لأنها واسعة وسطحها مختلف ارتفاعًا وانخفاضًا.

فإنهم لو نظروا إلى كل ذلك نظر اعتبار وتفكر، لأيقنوا أن الله الذي خلقها قادر على بعثهم بعد الموت للحساب والجزاء، وخصت هذه الأربعة بالذكر لأنهم يشاهدونها دائمًا بأعينهم، وابتدئ بالإبل لأنها والله أعلم أشد ملابسة لهم من غيرها، والاستفهام في قوله «كيف» في المواضع الأربعة للتعجب والتعظيم، ولما ذكر الله الأدلة على التوحيد والقدرة على البعث أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتذكير.

قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} أي إذا كان الأمر ما علمت فذكر أي: عظهم وداوم على التذكير ولا تيأس، فإن وظيفتك التذكير فقط، ولست هاديًا لهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.

قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} أي ليست عليهم بمسلط، أي لست بذي سلطة فتجبرهم على الإيمان بل لله الولاية عليهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [سورة ق، آية رقم: 45]، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرتُ أن أقاتلَ النَّاسَ

ص: 358

حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللّهِ» ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} »

(1)

.

قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)} الاستثناء منقطع أي لكن من أعرض عن الإيمان وأصر على كفره.

قوله تعالى: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} أي عذاب النار، ووصفه بالأكبر لأنه قد بلغ الغاية في الشدة، وكل عذاب نالهم في الدنيا فهو دونه.

قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)} أي رجوعهم بعد الموت إلينا لا إلى غيرنا.

قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} أي يوم القيامة، فنحاسبهم على كفرهم لا بد من ذلك كما تقتضيه الحكمة، وتدل عليه صيغة الوجوب على في قوله تعالى:{عَلَيْنَا} فهو عهد أخذه على نفسه ولن يخلفه كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [سورة الحجر، آية رقم: 92]، وقال تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [سورة الصافات، آية رقم: 24]، روى مسلم في صحيحه من حديث

(1)

. صحيح البخاري رقم (25)، وصحيح مسلم برقم (21) واللفظ له.

ص: 359

عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»

(1)

.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1)

. صحيح البخاري برقم (6539)، وصحيح مسلم برقم (1016) واللفظ له، تفسير جزء عم وأحكامه للشيخ عبد الرحمن البراك (ص 163)، تفسير ابن كثير رحمه الله (14/ 329 - 336)، تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 1251 - 1253، تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص 175 - 189).

ص: 360