الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الخامسة والأربعون:
سورة الغاشية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد ..
روى مسلم في صحيحه من حديث الضحاك بن قيس أنه كتب إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه يسأله: أي شيء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة سوى سورة الجمعة؟ فقال: كان يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}
(1)
.
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، أي: أليس قد بلغك حديث الغاشية. وأصل الغاشية الداهية العظيمة، والمراد القيامة لأنها تغشى الناس جميعًا أي تغمرهم بأهوالها وشدائدها، والاستفهام هنا للتقرير والتهويل والتشويق والتنبيه إلى أن هذا من الأحاديث العظيمة التي ينبغي أن يتحدث بها.
في هذه السورة يذكر تعالى أحوال يوم القيامة، وما فيها من الأهوال الطامة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، فأخبر عن وصف كلا الفريقين.
فقال في وصف أهل النار: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)} أي وجوه الكفار والمنافقين يوم القيامة ذليلة، كما قال تعالى:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} وكنى بالوجوه عن أصحابها لظهور آثار الذل عليها.
قوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} عاملة عملًا يكون به النصب وهو التعب، قال العلماء: وذلك أنهم يكلفون يوم
(1)
. برقم 878.
القيامة بجر السلاسل والأغلال والخوض في نار جهنم كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة لأنه عمل عذاب وعقاب. وليس المعنى كما قال بعضهم أن المراد بها الكفار الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وذلك لأن الله قيد هذا بقوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي يومئذ تأتي الغاشية وهذا لا يكون إلا يوم القيامة.
قوله تعالى: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)} أي تدخل في نار جهنم والنار الحامية التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا.
قوله تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)} أي هذه الوجوه حين تطلب السقيا تسقى من عين حارة بلغت أناها، أي غايتها في الحرارة، كما قال تعالى:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [سورة الرحمن، آية رقم: 44]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [سورة الكهف، آية رقم: 29].
قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)} والضريع نبات لا تقربه الدواب لخبثه وسوء عاقبته.
قوله تعالى: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)} أي لا فائدة فيه
فلا ينفع البدن ولا يدفع غائلة الجوع، والمراد أن من طعام أهل النار نبتًا يشبه الضريع في عدم نفعه وغنائه، وإن لم يكن مثله في حقيقته كما هو الشأن في سائر حقائق الآخرة مع حقائق الدنيا، بل هو طعام غاية في الخبث وفي سوء تجرعه.
والقصد في الآية التأكيد فهو إضافي، أي: نسبي، بدليل أنه جاء في القرآن أن من طعام أهل النار الغسلين والزقوم ويحتمل أن المعذبين على طبقات والعذاب ألوان، فمنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، لكل باب منهم جزء مقسوم نسأل الله النجاة بمنه.
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)} أي بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره ينعم يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها.
قوله تعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)} أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور والفرح.
قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} العلو ضد السفول، ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السموات السبع والأرضون ولا يبقى إلا الجنة والنار فهي عالية وأعلاها ووسطها الفردوس
الذي فوقه عرش الرحمن سبحانه.
قوله تعالى: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)} أي لا تسمع في هذه الجنة قولة لاغية أو نفسًا لاغية بل كل ما فيها جد، كل ما فيها تسبيح وتحميد، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، أي أنه لا يشق عليهم فهم دائمًا في ذكر الله عز وجل وتسبيح وأنس وسرور، يأتي بعضهم إلى بعض، ويزور بعضهم بعضًا في حبور لا نظير له.
قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)} أي تجري حيث أراد أهلها لا تحتاج إلى حفر ساقية، ولا إقامة أخدود، كما قال ابن القيم رحمه الله:
أَنْهَارُهَا فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ
سُبْحَانَ مُمْسِكِهَا عَنِ الفَيَضَانِ
قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)} السرر جمع سرير وهي المجالس المرتفعة في ذاتها وبما عليها من الفرش اللينة الوطيئة يجلسون عليها يتفكهون هم وأزواجهم من الحور العين في ظلال على الأرائك متكئون.
قوله تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)} يعني ليست مرفوعة عنهم بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة الخمر والماء والعسل واللبن. والأكواب جمع كوب وهو الكوز الذي لا عروة له فهو صالح للشرب من كل جهة.
قوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)} أي وسائد من الحرير والإستبرق وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله قد صفت للجلوس والاتكاء عليها، وقد أُريحوا أن يضعوها أو يصفوها بأنفسهم.
قوله تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} أي بسط كثيرة فاخرة جمع زربية، ومبثوثة أي مبسوطة ومفرقة في كل مكان من مجالسهم وهذا من كمال النعيم والرفاهية - نسأل الله أن يجعلنا من أهلها - ولا تظن أن هذه النمارق وهذه الأكواب، وهذه السرر وهذه الزرابي لا تظن أنها تشبه ما في الدنيا، لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الآخرة ونعلم حقيقته، لكنها لا تشبهه لقول الله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [سورة السجدة، آية رقم: 17]، إنما الأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:«ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط» . فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا لكنه فرق بين هذا وهذا.
قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} بعد ذكر القيامة ومصير الأشقياء والسعداء انتقل السياق إلى توبيخ المعرضين عن الإيمان وعن النظر في آيات الله الدالة على توحيده وقدرته على البعث، ذكر منها أربع آيات: خلق الإبل،
ورفع السماء، ونصب الجبال، وبسط الأرض.
ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتذكير بآيات الله الكونية وآياته الشرعية، وما تضمنته من الوعد والوعيد، وأخبره أن هذه هي وظيفته صلى الله عليه وسلم، وختمت السورة بأن إليه سبحانه المآب، وعليه الحساب.
قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} أي أفلا ينظرون بأبصارهم نظر تفكر واعتبار، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، إلى الإبل وهو الحيوان المعروف، كيف خلقت هذا الخلق البديع العجيب في عظم جسمها وشدة قوتها بحيث تحمل عليها الأحمال وهي باركة ثم تقوم بيسر، وهي آية في الصبر على الجوع والعطش أيامًا، وترعى كل نبات، كثيرة المنافع، بحيث يشرب لبنها ويؤكل لحمها، ويلبس من وبرها، وتنقاد للكبير والصغير وهي أنفس أموال العرب.
قوله تعالى: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)} بلا عمد، وما زينت به من النجوم والشمس والقمر.
قوله تعالى: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)} أي جعلت منتصبة على وجه الأرض نصبًا ثابتًا، فصارت لها كالأوتاد ويلوذ بها الناس، ويتخذون منها بيوتًا.
قوله تعالى: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} أي بسطت
ومهدت حتى صارت صالحة للمشي عليها، وإقامة المساكن فوقها، وهذا لا ينافي كونها كروية لأنها واسعة وسطحها مختلف ارتفاعًا وانخفاضًا.
فإنهم لو نظروا إلى كل ذلك نظر اعتبار وتفكر، لأيقنوا أن الله الذي خلقها قادر على بعثهم بعد الموت للحساب والجزاء، وخصت هذه الأربعة بالذكر لأنهم يشاهدونها دائمًا بأعينهم، وابتدئ بالإبل لأنها والله أعلم أشد ملابسة لهم من غيرها، والاستفهام في قوله «كيف» في المواضع الأربعة للتعجب والتعظيم، ولما ذكر الله الأدلة على التوحيد والقدرة على البعث أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتذكير.
قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} أي إذا كان الأمر ما علمت فذكر أي: عظهم وداوم على التذكير ولا تيأس، فإن وظيفتك التذكير فقط، ولست هاديًا لهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} أي ليست عليهم بمسلط، أي لست بذي سلطة فتجبرهم على الإيمان بل لله الولاية عليهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [سورة ق، آية رقم: 45]، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرتُ أن أقاتلَ النَّاسَ
حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللّهِ» ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} »
(1)
.
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)} الاستثناء منقطع أي لكن من أعرض عن الإيمان وأصر على كفره.
قوله تعالى: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} أي عذاب النار، ووصفه بالأكبر لأنه قد بلغ الغاية في الشدة، وكل عذاب نالهم في الدنيا فهو دونه.
قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)} أي رجوعهم بعد الموت إلينا لا إلى غيرنا.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} أي يوم القيامة، فنحاسبهم على كفرهم لا بد من ذلك كما تقتضيه الحكمة، وتدل عليه صيغة الوجوب على في قوله تعالى:{عَلَيْنَا} فهو عهد أخذه على نفسه ولن يخلفه كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [سورة الحجر، آية رقم: 92]، وقال تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [سورة الصافات، آية رقم: 24]، روى مسلم في صحيحه من حديث
(1)
. صحيح البخاري رقم (25)، وصحيح مسلم برقم (21) واللفظ له.
عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. صحيح البخاري برقم (6539)، وصحيح مسلم برقم (1016) واللفظ له، تفسير جزء عم وأحكامه للشيخ عبد الرحمن البراك (ص 163)، تفسير ابن كثير رحمه الله (14/ 329 - 336)، تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 1251 - 1253، تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص 175 - 189).