الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الخامسة والخمسون:
وصايا لقمان الحكيم عليه السلام لابنه:
(التوسط في الأمور)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد ..
الوصية العاشرة والحادية عشرة: من وصايا لقمان الحكيم لابنه أن يتوسط في أموره وأحواله، قال تعالى فيما حكاه عنه وهو يخاطب ابنه:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [سورة لقمان، آية: 19].
وقد جاء في التنزيل المبارك الأمر بالتوسط في أكثر من آية، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [سورة الإسراء: آية: 110]، وقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} [سورة الإسراء، آية: 29]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [سورة الفرقان، آية: 67].
روى البخاري ومسلم في صيحيحيما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارْبَعُوا علَى أَنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ»
(1)
.
ومن فوائد هاتين الوصيتين:
1 -
أن التوسط في الأمور هو الطريق المستقيم الذي يحبه الله تعالى، كما دلت على ذلك الآيات السابقة وغيرها.
2 -
قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} قال مجاهد: أقبح الأصوات، وهذا التشبيه يدل على كراهة رفع الصوت من غير حاجة لقوله صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ»
(2)
.
وقد جاء التمثيل بالحمار في سياق التقبيح لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [سورة الجمعة، آية رقم: 5].
3 -
روى مسلم في حديث طويل، من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: فَيَجِيءُ -يعني النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ اليَقْظَانَ
(3)
.
(1)
. صحيح البخاري برقم (4205)، وصحيح مسلم برقم (2704).
(2)
جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (6975)، وصحيح مسلم برقم (1622).
(3)
. برقم (2055).
4 -
القصد في المشي هو الذي ليس بالبطيء المثبط ولا بالسريع المفرط، بل عدلًا وسطًا بين هذا وهذا دالًّا على القوة والنشاط، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل في مشيه.
روى الامام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا مَشَى مَشَى مُجْتَمِعًا
(1)
، لَيْسَ فِيهِ كَسَلٌ
(2)
.
قال المناوي رحمه الله: «ومع سرعة مشيه كان على غاية من الهون والتأني وعدم العجلة، فكان يمشي على هينته ويقطع ما يقطع بالجهد بغير جهد»
(3)
.
وروى البغوي رحمه الله في شرح السنة بسنده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: «كاَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفِّيًا؛ كَأَنَّمَا يَنْحَطُ مِنْ صَبَبٍ»
(4)
.
وروي عن علي: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ
(5)
.
(1)
. قوله: مجتمعًا، قال ابن الأثير: أي شديد الحركة قويَّ الأعضاء، غير مُسْتَرْخٍ في المَشْي. النهاية (1/ 297).
(2)
. (5/ 160) برقم (3033)، وقال محققوه: صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح.
(3)
. فيض القدير (5/ 248).
(4)
. (12/ 319) برقم (3353)، وقال البغوي: هذا حديث صحيح.
(5)
(12/ 319) وقال محققوه: رواه الترمذي وأبو داود وأحمد من حديث لقيط: فلم ينشب أن جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتقلع يتكفأ، وسنده صحيح.
قال البغوي رحمه الله: قوله تكفِّيًا: أي تمايل إلى قدام، كما تتكفأ السفينة في جريها، وقوله «تقلع» أي كان قوي المشية يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنًا بقوة لا كمن يمشي اختيالًا، ويقارب خطاه تنعمًا
(1)
.
5 -
من مواضع المشي التي جاء فيها التوجيه النبوي: المشي إلى الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم:«إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»
(2)
.
6 -
الوصية باستحباب القصد في المشي وخفض الصوت إنما ذلك بالأحوال التي لا حاجة فيها بالإسراع في المشي أو رفع الصوت، فإذا جاءت الحاجة إلى ذلك لم يكن مكروهًا ولا منكرًا، وقد وردت النصوص بذلك. وهذه إشارة إلى بعض النصوص، قال تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [سورة القصص، آية رقم: 20]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة، آية رقم: 9]، وقد فسر بعض أهل العلم السعي هنا
(1)
شرح السنة (12/ 320).
(2)
. صحيح البخاري برقم (636)، وصحيح مسلم برقم (602) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بالمشي القصد.
وثبت في أحاديث كثيرة أن السنة في السعي بين الصفا والمروة أن يسرع بين العلمين، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قال: خَرَجتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعضِ أَسفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَم أَحمِل اللَّحمَ، وَلَم أَبدُن، فَقَالَ لِلنَّاسِ:«تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي:«تَعَالَي حَتَّى أُسَابِقَكِ» ، فَسَابَقتُهُ فَسَبَقتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلتُ اللَّحمَ وَبَدُنتُ وَنَسِيتُ، خَرَجتُ مَعَهُ فِي بَعضِ أَسفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ:«تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ:«تَعَالَي حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقتُهُ فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ:«هَذِهِ بِتِلكَ»
(1)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خَرَجْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ بِالأُولَى، وَكَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْعَى بِذِي قَرَدَ، قَالَ: فَلَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ، قَالَ: فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ: يَا صَبَاحَاهْ، قَالَ: فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ المَدِينَةِ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوا يَسْتَقُونَ مِنَ المَاءِ، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبْلِي، وَكُنْتُ رَامِيًا، وأقول:
(1)
. (43/ 313) برقم (26277)، وقال محققوه: إسناده جيد.
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعْ
وَاليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَعْ
وَأَرْتَجِزُ، حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ اللِّقَاحَ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً، قَالَ: وَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ حَمَيْتُ القَوْمَ المَاءَ وَهُمْ عِطَاشٌ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمُ السَّاعَةَ، فَقَالَ:«يَا ابْنَ الأَكْوَع! مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ»
(1)
.
أما عن الصوت فمن المواضع التي لا يكره فيها رفع الصوت بل يكون مستحبًّا أو واجبًا رفع الصوت بالأذان، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري عن أبيه أنه أخبره: أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ، وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وروى مسلم في صحيحه في غزوة حنين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس رضي الله عنه: «أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» ، فَقَالَ عَبَّاسٌ- وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى
(1)
. صحيح البخاري برقم (4194)، وصحيح مسلم برقم (1806).
(2)
. رقم (3296).
أَوْلَادِهَا
(1)
.
وروى البخاري ومسلم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ:«يَا صَبَاحَاهْ» ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ
(2)
…
الحديث
وكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ:«صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ»
(3)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. صحيح مسلم برقم (1775).
(2)
. صحيح البخاري برقم (4801)، وصحيح مسلم برقم (208).
(3)
. صحيح مسلم برقم (867) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما.