المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الأقضية وما يتعلَّق بها أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام - أسهل المدارك «شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك» - جـ ٣

[الكشناوي، أبو بكر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الحَجْرِ والصُّلْح والحَمَالة والحَوالة

- ‌فَصْلٌفي التفليس

- ‌فَصْلٌفي الصلح وأحكامه

- ‌خاتمة:

- ‌فَصْلٌفي بيان ما يتعلَّق بأحكام الحَمَالة والكَفَالة والزَّعَامة والضمان

- ‌فَصْلٌفي الحَوَالة

- ‌كتاب العارية والوديعة

- ‌فَصْلٌفي الوديعة

- ‌كتاب الشفعة والقسمة

- ‌فَصْلٌفي القسمة

- ‌كتاب الإحياء والارتفاق والغصب والاستحقاق

- ‌فَصْلٌفي الارتفاق

- ‌فَصْلٌفي الغصب

- ‌فَصْلٌفيما يلزم الإنسان من المواسات في بعض الحالات

- ‌فَصْلٌفي الإستحقاق وأحكامه

- ‌كتاب اللقطة

- ‌فَصْلٌفي التقاط المنبوذ وأحكامه

- ‌كتاب الإقرار والهبة والصدقة والعُمْرَى والرقبي

- ‌فَصْلٌفي الهبة

- ‌فَصْلٌفي الصدقة

- ‌فَصْلٌفي العمرى

- ‌فَصْلٌفي الرقبى

- ‌كتاب الوقف

- ‌فَصْلٌفي بيان قِصاص الأطراف

- ‌فَصْلٌفي الدَّية

- ‌فَصْلٌفي الأعضاء

- ‌فَصْلٌفي القَسَامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌فَصْلٌفي الزاني والزانية

- ‌فَصُلٌفي القذف

- ‌فَصْلٌفي الخمر وأحكامها

- ‌فَصْلْفي السارق

- ‌فَصْلٌفي الحد

- ‌تنبيه:

- ‌كتاب الأقضية

- ‌فَصْلٌفي الغائب

- ‌فَصْلٌفي الشهادة

- ‌فَصْلٌفي التنازع

- ‌كتاب العتق والولاء والكتابة والتدبير والاستيلاء

- ‌فَصْلٌفي الولاء

- ‌فَصْلٌفي الكتابة

- ‌فَصْلٌفي التدبير والمدبر

- ‌فَصْلٌفي أم الولد

- ‌كتاب الوصايا

- ‌كتاب المواريث

- ‌فَصْلٌفي الجد

- ‌فَصْلٌفي الفرائض

- ‌فَصْلٌفي المناسخة

- ‌فَصْلٌفي الخنثى

- ‌فَصْلٌفي الميراث

- ‌فَصْلٌفي التركة

- ‌كتاب جامع

- ‌فَصْلٌفي المسابقة

- ‌خاتمة

- ‌تنبيه

الفصل: ‌ ‌كتاب الأقضية وما يتعلَّق بها أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام

‌كتاب الأقضية

وما يتعلَّق بها

أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام القضاء بين الخصام، والجمع الأقضية والقضايا، ومعنى القضاء ف ياللغة الحكم والإلزامي، وبمعنى الفصل نحو قضى القاضي بين الخصمين أي فصل بينهما، وله معانٍ كثيرة. وأمَّا معناه شرعًا فهو حكم حاكم أو محكم بأمر ثبت عنده كدَيْنٍ وحُبْسٍ وقَتْلٍ وجَرْحٍ وضَرْبٍ وسَبًّ وتَرْكِ صلاة ونحوها وقذف وشرب وزناً وسرقة وغصب وعدالة وضدها وذكورة وأنوثة وموت وحياة وجنون وعقل وشفه ورشد وصغر وكبر ونكاح وإطلاق ونحو ذلك ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه على حضسَبِ ما تقتضيه الحال من الرفع له اهـ. الدردير بحذف. وأمّّا القاضي فهو الحاكم المنفذ أحكام الشريعة، ولا يستحق هذا المنصب شرعًا إلَاّ من توافرت فيه شروط أربعة على الاختصار: وهو كونه ذكرًا عادلاً فطنًا فقيهًا بأصول الفقه وبما يحكم به ولو بالتقليد. قال خليل: أهل القضاء عَدءلٌ ذَكَرٌ فَطِنٌ مجتهد إن وجد وإلَاّ فأمثل مقلَّد اهـ. قال ابن رشد: القضاء خصال مشترطة في صحة الولاية وهي: أن يكون ذكرًا حرًا مسلمًا بالغًا عاقلاً واحدًا فهذه ستُّ خِصال لا يصحُّ أن يولّى القضاء إلَاّ من اجتمعت فيه، لكن قال مالك: لا أرى الخصال تجتمع اليوم في أحد، فإن اجتمع فيه خصلتان العلم والورع رأيت أن يولَى. قال ابن حبيب: إن لم يكن ورعًا عالمًا فورع عاقل؛ فبالعقل يسْأل وبالورع يقف اهـ. وأمَّا حكم ولاية القضاء فهي فَرْضُ كفاية، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله:"الْقَضَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إلَاّ أَنْ يَتَعَيَّنَ فَلَا يَجُوزُ الامْتِنَاعُ" يعني كماف ي القوانين: القضاء هو فَرْضُ كفاية، ويجب على الإمام أن ينصب للناس قاضيًا، ومن أبى عن الولاية أجبره عليها، ولا ينبغي لأحد أن يطلب القضاء، وإن دعى إليه فالأولى له الامتناع؛ لأن القضاء بلية يعسر الخلاص منها إلَاّ إذا تعيَّ علهي فيجب عليه الدخول

ص: 194

فيه، وذلك إذا لم يكن في جهته من يصلح للقضاء غيره اهـ. قال ابن فرحون في تبصرة الحكام: واعلم: أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد فإنَّما هي في حق قضاة الجور العلماء أو الجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم، ففي هذين الصنفين جاء الوعيد. وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم:"من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين"، فقد أورده أكثر الناس في معرض التحذير من القضاء.

وقلا بعض أهل العلم: هذا الحديث دليل على شرف القضاء وعظيم منزلته، وأن المتولي له مجاهد لنفسه وهواه، وهو دليل على فضيلة من قضى بالحقّ؛ إذ جعله ذبيح الحقّ امتحانًا لتعظم له المثوبة امتنانصا؛ فالقاضي لما استسلم لحكم الله، وصبر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتها، فلم تأخذه في اللَّه تعالى لومة لائم حتى قادهم إلى مر الحقّ وكلمة العدل، وكفّهم عن دواعي الهوى والعِناد جعل ذبيح الحق للَّه، وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة. وقد ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل ومعقل بن يسار رضي اللهعنهم القضاء فنِعْم الذابح ونِعْم المذبوح. فالتحذير الوارد من الشرع إنَّما هو عن الظلم لا القضاء؛ فإن الجور في الأحكام واتباع الهوى فيه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر؛ قال اللَّه تعالى: وأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15]. وقال صلى اللهعليه وسلم: "إن أعتى الناس على اللَّه وأبغض الناس إلى الله وأبعد النسا من اللَّه رجل ولاه اللَّه من أمر أمة محمد شيئًا لم يعدل بينهم". وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة" قاض عمل بالحقّ في قضائه فهو في الجنة، وقاض علم الحقّ فخان متعمدًا فذلك في النار، وقاضٍ قضى بغير عِلْم واستحيا أن يقول: إني لا أعلَم فهو في النار. وفي رواية عند النسائي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القضاة ثلاثة: اثنان ف يالنار وواحد في الجنة" رجل عرف الحق فقضى به في الجنة، ورجل عرف الحقّ فلم يقضِ به وجار في الحكم فهو في النارن ورجل لم يعرف الحقّ فقضى للناس

ص: 195

على جهل فهو في النار اهـ. فصحَّ أن ذلك كله في الجائر العالم والجاهل الذي لم يؤذن له في الدخول في القضاء، وأمَّا من اجتهد في الحقّ على علم فأخطأ فقد قال عليه الصلاة والسلام:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلَهُ أجران، وإن أخطأ فلَهُ أجْر".

قال رحمه الله تعالى: "وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حُرَّا ذَكَرًا مُكَلَّفًا سَمِيعًا بَصيرًا كَتِبًا فَطِنًا مُتَيَقظًا وَرِعًا عَدْلاً مُجْتَهِدًا فإن عُدِم جَازَ الْمُقَلَّدُ" يعني أنه عد شروط القضاء اثنا عشر الأول: أن يكون القاضي مسلمًا، فلا يصحُّ كونه كافرًا، ولو طرأ عليه الكفر انعزل فوراً. الثاني: أن يكون حرًّا على المشهور. قال القرطبي في شرح مسلم في كتاب الإمارة وقد نصّ أصحاب مالك على أن القاضي لابدّ أن يكون حرًّا وأمير الجيش والحرب في معناه؛ فإنها مناصب دينية يتعلَّ بها تنفيذ أحكام شرعية فلا يصح لها العبد؛ لأنه ناقص بالرَّق محجور عليه لا يستقل بنفسه أحكام شرعية فلا يصلح لها العبد؛ لأنه ناقص بالرَّق محجور عليه لا يستقل بنفسه ومسلوب أهلية الشهادة والتنفيذ ولا يصلح للقضاء ولا للإمارة، وأظن جمهور علماء المسلمين على ذلك. انتهى كلام القرطبي. الثالث: من شروط القاضي أن يكون ذكرًا، فال يصحُّ أن يكون امرأة. الرابع: أن يكون مكلَّفًا، فلا يصحُّ أن يكون صبيًا ولا مجنونًا. الخامس والسادس: أن يكون سميعًا بصيرًا، قال الدردير: ويجب ان يكون الحاكم سميعًا بصيرًا متكلمًا، وجب عزل أعمى أو أصم أو أبكم ولو طرأ عليه بعد توليته. السابع: أن يكون كاتبًا، قال النفراوي: والذي لا يكتب كالأعمى لا تجوز توليته ولو كان عالمًا وتجوز توليته للفتوى. والثامن والتاسع: أن يكون فطنًا يوجب الإقرار أو الإنكار وتناقض الكلام؛ فالفطنة جودة الذهن وقوة إدراكه لمعاني الكلام، والمتيقظ هو غير المتغفل بمعنى المتنبه. العاشر: أن يكون ورعًا، فغير الورع لا ينبغي أن يكون أهلاً للقضاء. الحادي عشر: أن يكون عادلأن قال الدردير: شرط القضاء عدالة أي كونه عدلاً أي عدل شهادة ولو عتيقًا عند الجمهور،

ص: 196

والعدالة تستلزم الإسلام والبلوغ والعقل والحرية وعدم الفسق، فلا يصحُّ أن يكون ضد هذه المستلزمات؛ لأن كل واحد منها مشروطة في أوصاف القاضي كما هو معلوم. اهـ. بتوضيح. الثاني عشر: أن يكون مجتهدًا ولو مجتهد المذهب وهو الذي يقدر على إقامة الأدلة في مذهب إمامه، أو مجتهد الفتوى وهو الذي يقدر على الترجيح، وقال بعضهم: إن العدالة والاجتهاد ليسا بشرط الصحة في القضاء بل قالوا: فقط. قلت: والأصحُّ أنهماواجبان شرطًا في صحة الحكم كما في النفراوي وغيره؛ لأنه قسم شروط القضاء على ثلاثة أقسام: قسم واجب على جهة الشرطية وقسم واجب لا على جهة لشرطية، وقسم مستحبّ، قال: فالواجب على جهة الشرطية كونه عدلاً ذكرًا فطنًا مجتهدًا إن وجد وإلَاّ ف أمثل مقلد، ويبج عليه العمل بمشهور مذهب إمامه، فراجعه إن شئت. قد عقد ابن جزي في قوانينه بابًا في صفات لقاضي وأدابه فجعل فيه نوعين: واجبة ومستحبة، فالواجبة عشر والمستحبة خمس عشرة، وجعل أيضًا عشرين أدبًا مخصوصة له بحالة القضاء، وبيَّن جميع ذلك على التفصيل فراجعه إن شئت. وذكر بعض ذلك العلاّمة المدقق ابن العاصم الأندلسي في أرجوزته المسمّاة بتحفة الحكام بقوله:

مُنْفَّفٌ بالشَّرع للأحْكَامِ

لَهُ نِيَبَةٌ عَنِ الإمَام

واستُحْسِنَتْ فِي حَقَّهِ الجَزَالَهَ

وشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالْعَدالَهَ

وأن يكون ذَكَرًا حُرًّا سلِمْ

مِنْ فَقد رُؤْيَةٍ وسَمْع وكَلِمْ

ويُسْتَحَبُّ العِلْمُ فيهِ الوَرَعْ

مَعْ كَوْنِهِ الأصُولَ لِلفِقْهِ جَمَعْ

وَحَيْثُ لاقٍ للقَضَاءِ يَقْعُدُ

وَفِي البِلَاد يُسْتَحَبُّ المَسْجِدُ اهـ.

انظر شراح هذه الأبيات الخمسة للعلامة علي بن عبد السلام التسولي وشرح العلاّمة محمد التاودي وشرح العلاّمة محمد محمد بن أحمد بن محمد المشهور بمياره

الفاسي وكذا شرحها العلامة ابن رحال المعداني وغيرهم من شراح هذه الأرجوزة المباركة المشهورة، وفي تلك الشروح ما تقرُّ به العيون؛ لأنهم

ص: 197

قد وضحوا وبيَّنوا غاية البيان في تلك المسائل، فجزاهم الله عن المسلمين خير جزاء.

قال رحمه الله تعالى: "وَلْيَكُنْ شَدِيدًا فِي دِينِهِ ذَا أَنَاة في حُكْمِهِ يَسْتَشِيرُ الْعُلَمَاءَ وَيَسْتَبْطِنُ مِنْ أَهْلِ الدَّينِ وَالأَمَانَةِ مَنْ يَعْرِفُ أَحْوالَ الشّثهُودِ وَاْخُصُوم وَمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنَ أَحْوَالِ النَّاسِ وَلَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِلَاّ فِي الْعَدْلِ وَالْجَرحِ وَهُوَ فيمَا عَدَاهُمَا شَاهِدٌ" يعني يندب أن يكون القاضي متمسكًا بأمر دينه، مشددصا فيه غير متساهل به، قوي الهمم والنهوض، وأن يكون ذا أناةٍ أي ذا تأخير وتأنَّ في إجراء الأمور غير متعجل في حكمه، وأن يكون مستشيرًا لأهل العلم، ويأخذ بقولهم فيما أراد تنفيذه من الأحكام إذا رأى في ذلك صوابًا. قال خليل: وأحضر العلماءَ أو شاورهم. وأن تكون بطانته ثقة مأمونة من أهل الدَّين والأمانة، وكونهم يعرفون أحوال الشهود والخصوم ليأتوه بخبر ما لا يطَّلع علهي من أحوال الناس، ولا يحكم بِعلْمِه إلَاّ ما عَلِمَه منالعدالة أو الجرحة فقط وهو فيما عداهما شاهد. قال مالك في المدوَّنة: ومن الناس من لا يسأل عنهم وما تطلب منهم التزكية لعدالتهم عند القاضي. قال خليل: ولا يستند لعلمه إلَاّ في التعديل والجرح كالشهرة بذلك أو إقرار الخصم بالعدالة اهـ. فاعلَم أنه إذا علم القاضي بعدالة شاهد أو جرحه بفتح الجيم فإنه يستند لِعِلْمِه، وكذا الشهرة بذلك إلَاّ أن يعلم القاضي منه خلاف ما اشتهر. شهد المزني عند القاضي بكار فقال له: من أنت؟ فقال المزني: صاحب الشافعي فقال القضاي: الاسم اسم عدل ومن يشهد أنك المزني؟ فقال الحاضرون: هو المزني فحكم بشهادته، فقال المزني: سترني القاضي ستره اللَّه تعالى.

قال رحمه الله تعالى: "وَإِذَا نَسِيَ حُكْمًا فَقَامَتْ بِهِ بَيَّنَةُ عِلْمِهِ أَوْ وَجَدَهُ في قِمَطْرِهِ بِخَطهِ أَنْفَذَهُ" قوله: أو وجده في قِمَطْره، القِمَطْر: هو ما يُصان فيه الكتب، والجمع قماطر كما في المصباح. فالمعنى كما قال خليل: وإن شهدا بحكم نسيه أو أنكره أمضه. قال الخرشي: يعني أن القاضي إذا حكم ثم ادَّعى نسيانه أو أنكره من أصله

ص: 198

وقال: ما حكمت به ثم شهد به عليه شاهدان فإنه يجب عليه إمضاؤه عند مالك، وهو الأصح عند ابن الحاجب سواء كان القاضي عزل ثم ولي أم لا اهـ. بتوضيح من حاشية الخرشي ومن إكليل.

قال رحمه الله تعالى: "وَلْيَجْلِسْ بِمَوْضِع يَصِلُ إِلَيْهِ الدَّنئُ وَالشرِيفُ وَالْقَوِيُّ وَالضَّعيفُ وَالْحَائِضُ" يعني أن القاضي ينبغي أن يكون موضع جلوسه بحيث يصل

إليه كل مدَّع سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، مسلمًا أو كافرًا. قال ابن العاصم:

وَحَيْثُ لَاقٍ للْقَضَاءِ يُقْعدُ

ولَفِي الْبِلَادِ يُسْتَحَبُّ الْمَسْجِدُ اهـ.

قال شارح هذا البيت: القعود بالمسجد هو المروي عن مالك في المدوَّنة، ونصّه القضاء ف يالمسجد من الحقَّ وهو من الأمر القديم؛ لانه قد يرضى فيه بالدون من المسجد وتصل إليه المرة والضعيف. وروى ابن حبيب: يجلس برحابه وهو أحسن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم". قال ابن جزي في القوانين: وجلوسه في المسجد من الأمر القديم. واستحبَّ بعض العلماء أن يجلس خارج المسجد ليصل إليه الحائض والنفساء واليهود والنصارى والجُنُب اهـ. انظره في البهجة وغيرها. قال ابن مرزوق: ومنع الشافعي وابن المسَّيب وعمر بن عبد العزيز القضاء في المسجد، وكرهه آخرون، وإليه مال أهل المذهب من الأندلسيين. قيل: والأقرب ما مال إليه الآخرون. قُلْتُ: ولهذا كانوا يبنون محلات القضاء والمحاكم والمدارس في وسط البلدان أو قرب المساجد خارجًا عنها؛ ليحصل المقصود لكل مدَّع وطالب واللَّه أعلَم بالصواب.

قال رحمه الله تعالى: "وَلا يَحْكُمُ حَتَّى يَسْمَعَ تَمَامَ الدَّعْوَى وَالْبَيَّنَةِ وَيَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَلْ لَكَ مَدْفَعٌ" يعني لا يحكم القاضي على أحد من الخصام حتى يسمع

ص: 199

تمام الدعوى من المدَّعى، وإذا فرغ سأل القاضي المدَّعى عليه فيما ادَّعى فيه خصمه من الحق، فإن أقرَّ به كما ادَّعى عليه فلا إشكال، المدَّعى عليه فيما ادَّعى فيه خصمه من الحق، فإن أقرَّ به كما ادَّعى عليه فلا إشكال، وإن أنكر فعلى الطالب البيَّنة لإثبت حقّه. قال النفراوي في الفواكه: وبعد فراغ الدعوى يأمر القاضي المدَّعى عليه بالجواب، فإن أقرَّ بما ادَّعى به علهي يأمر القاضي الشهود الحاضرين عنده بالشهادة عليه، وكتابة الإقرار خوف جحده، وإن أنكر أمر القاضي المدَّعى بإقامة البيَّنة عليه، فإن أقامها سمعها وأعذر للمدَّعى عليه فيها بأن يقول له: هل عندك من يجرح تلك البيَّنة؟ فإن أقام بيَّنة تشهد بجرحتها أمره بغيرها، وإن عجز عن إقامة اليَّنة فإن طلب تحليف المدعى عليه فله تحليفه بعد إثبات الخلطة، وإن لم يجب لا بالإقرار ولا بإنكار بل سكت أو قال: لا أخصامه فإن الحاكم يحبسه ويؤدبه على عدم جوابه. قال خليل: وإن لم يجب حُبِسَ وأدَّب أي بالضرب بما يراه الحاكم حتى يقرَّ أو ينكر ثم يحكم عليه بعد ذلك بلا يمين من المدَّعي؛ لأن اليمين فرع الجواب وهذا لم يجب. قال ابن الموّاز: ويعد هذا إقراراً منه بالحقّ اهـ.

وقال رحمه اللَّه تعالى: "لَا فِي حَالَةٍ يّذْهَلُ فِيهَا كالْغضَب" يعني أ، القاضي لا ينبغي أن يقضي في حالة الذهول. قال ابن فرحوم فيما يتعلَّق بمجلس القاضي

ممَّا ينبيغي أن يتوقّاه من الأمور: منهما ألَاّ يجلس للحكم على حال توشيش من جوع أو شبع أو غضب أو همّ؛ لأن الغضب يسرع مع الجوع والفهم ينطفئ مع الشبع والقلب يشتغل مع الهمّ، فمهما عرض له ذلك لم يجلس للقضاء، وإن عرض له ي المجلس انصرف اهـ. قال خليل: ولا يَحْكُمن ما يُدهشُ عن الفكر ومضى. قال الخرشي: إن القاضي لا يَحْكُم مع ما يدهش عن تمام فِكْرِه، أي يُكْرَه له ذلك لا عن أصل الفكر وإلَاّ حَرُم عليه الحُكْم، وبعبارة: أي يُكْرَه للقاضي أن يحْكُمَ مع ما يدهش عن تمام فِكْرِه كالحزن والحقن والغضب واللقس وهو ضيق النفس، وإذا وقع ونزل مضى، والمفتي

ص: 200

مثله اهـ. ونَقَلَ الموّاق عن ابن عرفة: لا يجلس للقضاء وهو على صفة يُخاف بها ألَاّ يأتي بالقضية صوابًا، وإن نزل به في قضائه ترك كالغضب والضجر والهمّ والجوع والعطش والحقن، وإن أخذ من الطعام فوق ما يكفيه لم يجلس، وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" اهـ.

قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلَهُ الاسْتِعَانَةُ بِمَنْ يُخَفَّفُ عَنْهُ النَّظَرَ فِي الأَحْبَاس وَالْوَصَايَا وَأْمْوَالِ الأَيْتَامِ" يعني للقاضي أن يستعين بثقة ممَّن يخفَّف عنه القيام بالنظر في الأمور كالأحبَاس والوصايا وأموال الأيتام وكالعقود الأنكحة وغير ذلك. قال العلاّمة ابن فرحون في تبصرته: وأمَّا الولاية الجزئية المستفادة من القضاء كمتولي العقود والفسوخ في الأنكحة فقط والمتولي للنظر فيما يتعلَّق بالأيتام فيفوّض إليه في ذلك النقض والإبرام على ما يراه من الأوضاع الشرعية، فهذه الولاية شعبة من ولاية القضاء، فينفذ حكمه فيما فوَّض إليه، ولا ينفذ له حكم فيما عدا ذلك. وفيها أيضًا: مسألة: قال ابن رشد: ويجوز للقاضي أن يستخلف نائبًا على النظر في المناكح وما يضاف إليها من فرض النفقات وعلى الحِبسة النظر في الأحباس، ولا يحتاج في شيئ من ذلك إلى إذْن الخليفة اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "وَيُسَوَّوي بَيْنَ الْخُصُومِ وَيُقَدَّمُ الأَسْبَقَ فَإِنِ استَوَوْا فَبِالْقُرْعَةش" يعني أنّ القاضي يبج لعيه أن يسوّي بين الخصمَيْن أو الخصوم وأن يقدَّم الأسبق، وذلك في الجلوس والقيام والكلام ورفع الصوت عليهماولو كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا، ويجعل نظره وفِكْرَه لهما على حدصّ سواء. قال خليل: وليسوَّ بين الخصمَيْن وإن مسلمًا وكافرًا، وقدّم المسافر وما يُخْشى فواته ثم السابق، قال: وإن بحقَّيْن بلا طول ثم أقرع. قال شارحه: يعني إذا تداعى عند القاضي المسافرون وغيرهم وتزاحموا على التقدُّم فإن المسافر يقدَّم على غيره وجوبًا، يريد: ولو كان غيره سابقًا عليه

ص: 201

ما لم يحصل للمقيم ضَرَرٌ بسبب تقديم المسافر عليه، فإن حصل الضرر فإنه يُصار إلى القُرْعة، وكذلك يقدّم الذي يُخشى [153]

* * *

فواته إذا قُدَّم غيره عليه، فإن لم يعلم السابق منهما بل استويا في السبقية بأن حضرا معًا أو مرتبَيْن إلَاّ أن الأول لم يَعْلَم فإنه يُصار إلى القُرْعة، وصِفَتُها أن تُكْتَبَ أسماؤهم في رِقاع وتُخْلط فَمَن خرج اسمه قُدَّم على غيره اهـ. بحذف.

قال رحمه الله تعالى: "فَإِنْ تَعَدَّى أَحَدُهُما أَوْ قَالَ مَا يُكْرَهُ فَالأَدبُ أَمْثَلُ مِنَ العَفْوِ وَلَا يَغْضَبُ لِقَوْلِهِ اتَّق اللَّهَ: يعني كما قال خليل: وتأديب مَنْ أساء عليه إلَاّ في مث لاتق اللَّه في أمري فليُرْفَقْ به. قال ابن الحاجب: ويجب عليه أن يؤدَّ أحد الخصمَيْن إذا اساء على الآخر، وينبغي ذلك أيضًا إذا أساء على الحاكم. وأمَّا إن قال له: اتقِ اللَّه فلا ينبغي أن يغضب. قال ابن عبد الحكم: إن قال للقاضي: اتق الله فلا ينبغي أن يضيق لذلك، ولا يكترث عليه وليثبت، ويجيبه جوابًا ليّنًا يقول له: رزقني اللَّه تقواه وما أمرتَ إلَاّ بخير ومِنْ تقوى اللَّهِ أن نأخذ منك الحقّ إذا بان، ولا يظهر بذلك غضبًا اهـ. قال في المدوَّنة: ومَنْ آذى مسلمًا أُدَّب. قال ابن ناجي: ظاهره وإن لم يحضر المؤذَى؛ فإن القاضي يؤدَيه إذا كان ذلك بحضرته وهو كذلك، وكون القاضي لا يحكم بعِلْمِه فيما كان بمجلسه إنَّما هو في الأموال وأمَّا هذا فيحكم اهـ. وتقدَّم في التعزيزات أنه إذا شتم أحد الخصمَيْن صاحبه زجره الحاكم. وقال خليل أيضًا عاطفًا على ما يوجب التعزيز: ومَنْ أساء على خصمه أو مُفتٍ أو شاهد لا بشهدتَ بباطل كلخصمه كذِبْتَ. قال شارحه، يعني أن القاضي يجب عليه أن يؤدَّب مَنْ أساء على مَنْ ذكر إن وقعت الإساءة بين يديه من أحد الخصمَيْن على الآخر كيا ظالم يا فاجر أو على المفتي أو الشهود كتفترون عليّ وتشهدون عليّ لا أدري أكلَّم مَنْ، فإنه يعزره لأن وظيفة القاضي أنه مرصد لخلاص الأعراض، كما أنه مرصد لخلاص الأموال، ولا يحتاج فيما ذكر لبيَّنة بل يستند إلى عِلْمِه لتوقير مجلس الشرع، والحقُّ حينئذٍ للَّه لا يَحِلُّ القاضي تَرْكَه اهـ. باختصار.

ص: 202

قال رحمه اللَّه تعالى: "فَإنْ لَمْ يَعْرِفُ لُغَتَهُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُتَرْجِمُ لَهُ عَدْلَانِ وَرَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَوَّاز إِجْزَاءَ الْوَاحِدِ" يعني ،عن لم يعرف القاضي لغة أحد الخصمَ

يْن أو كِليهما فإنه يترجم له عدلان. والترجمان بالنون مثلَّث التاء: هو الذي يخبر الحاكم بمعنى لغة الخصم ويخبر الخصم بمعنى كلام القاضي عند اختلاف اللغة، ويكفي الواحد إن رتَّبه القاضي، وأمَّا غير المرتَّب بأن أتى به أحد الخصمَيْن أو طلبه القاضي للتبليغ فلا بدّ فيه من التعدُّد؛ لأنه صار كالشاهد. وقيل: لابُدَّ من تعدُّده ولو رُتَّب، وكذا المحلَّف الذي يحَلَّف الخصم عند توجُّه اليمين عليه يكفي فيه الواحد. قال خليل: والمترجم كالمحلَّلأن أي فيكفي الواحد فيهما ولابُدَّ من العدالة فيهما اهـ. الدرديري انظر الموّاق.

قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلاض يَحْلِفُ حَتَّى تَثْبُتَ بَيْنَهُمَا الْخُلْطَةُ إلَاّ أَنْ يَكُنَا غَرِيبَينِ" يعني كما في الموطَّأ عن مالك بغسناده أنّ عمر بن عبد العزيز إذا جاءه الرجل يدّعِي على الرجل حقًا نظر: فإن كان بينهما مخالطة أو ملابسة أحْلِفَ الذي ادُّعِيَ عليه، وإن لم يكن شيئ من ذلك لم يُحَلَّفهُ. قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا: أنّه مَنِ ادَّعَى على رجل بدَعْوى نظر، فغ، كانت بينهمامخالطة أو ملابسة أُحلِفَ المدَّعى عليه، فإن حَلَفَ بَطَلَ ذلك الحُّ عنه، وإن أبى أن يضحْلِفَ وردّ اليمين على المدّعِي فحَلَفَ طالب الحَّ أخذ حقَّهُ اهـ. قال في الرسالة: والبيَّنة على المدَّعى وليمين على مَنْ أنكر، ولا يعين حتى تثبت الخُلْطة أو الظَّنَّة، كذلك قضى حكّام أهل المدينة. وقوله: إلَاّ أن يكونا غريبَيْن إشارة إلى أنّ دعوى الغريبين لا تشْتَرطُ إثبات الخُلْطة. انظر نظائر هذه المسألة في النفراوي عند قوله مصنَّفه: أو الظنة.

قال رحمه الله تعالى: وَلَيْسَ لَلُ وَلَا لِغَيْرِهِ نَقْضُ حُكْمٍ إلَاّ أَنْ يُخَاِفَ قَاطِعًا أَوْ يَكُونَ جَوْرًا وَلَا يَحْكُمُ وَعِنْدَه شَكٌّ أَوْ تَرَدُّدٌ" يعني أن القاضي ليس له ولا

ص: 203

لغيره أن ينقض الحُكْم، سواء كان حُكْمَه أو حُكْمَ غيره، إلَاّ أن يخالف نَصًّا قاطعًا أو يكون جورًا صريحًا فيجب عليه نَقْضُه هو أو غيره مِمَّن وُلَّيَ بعده. قال ابن جزي في القوانين: الفصل الرابع في نَقْضِ القضاء: إذا أصاب الحكم لم يُنْقَضْ حُكْمُه أصلأن وإن أخطأ فذلك على أربعة أوجه: الأول: أن يَحْكُمَ بِما يخالف الكتاب أو السنّة أو الإجماع، فينقض هو حُكْمَ نفسه بذلك، وينقضه القاضي الوالي بعهد، ويلحق بذلك الحُكْم بالقول الشاذ، الثاني: أن يَحْكُمَ بالظنّ والتخمين من غير معرفة ولا اجتهاد فينقضه أيضًا هو ومَنْ يلي بعده. الثالث: أن يَحْكُمَ بعد الاجتهاد ثم يتبيَّن له الصواب ف خِلاف ما حَكَمَ به فلا ينقضه مَنْ وُلَّيَ بعده، واختُلِفَ هل ينقضه هو أم لا؟ الرابع: أن يقصد الحكم بمذهب فيذهل ويَحْكُمَ بغيره من المذاهب فيفسخه هو ولا يفسخه غيره. اهـ. القوانين. فراجع تبصرة الحكّام لابن فرحون في ما يلحق بالركن الثاني من بيان ما يُنْقَضُ فيه قضاء القاضي وثلاثة فصول بعده تفقف فيها على جميع أقوال أئمّة المذهب المتعلَّقة بهذا الباب إن شاء اللَّه واللَّه الموفَّق للصواب.

قال رحمه اللَّه تعالى: "وَاتَّفَقَ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ عَلَى أنَّ قَضَاء الْفُسُوخ وَنضقْلَ الأَمْلَاكِ حُكْمٌ فَلَوْ رلُفِعَ إِلَيْهِ أمْرٌ مُخْتَلَفٌ فيهِ كَنِكَاح عُقِدَ بِغَيْر وَلِيَّ مَثَلاً فَأَقَرَّهُ قَال ابْنُ الْقَاسِمخ: هُوَ كالْحُكْم وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَيْسَ بِحُكْم وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَاّ مَجَرَّدُ قَوْلِهِ لا أُجِيزُهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ فُسِخَ فَلَيْسً بِحُكْمٍ" وفي نسخة: من غير قَصدِ فَسْخ وهي الاصح. فالمعنى: أنه اتفق علماء المذهبّ على أن قضاء الفسوخ من العقود والبيع ونَقْل الأملاك وما شابَهَ ذلك حُكْمٌ، قال خليل عاطفًا على ما هو حُكْمٌ ممَّا

دلذَ على الإلزام الذي يرفع به الخلاف: ونضقْلُ مِلكٍ وفَسخُ عَقدٍ وتَقَرُّرُ نكاح بلا وَلِي حُكْمٌ لا لا أُجِيزُهُ أو أُفتي. قال الموّاق وابن شاس: ما قضى به الحاكم من نَقْل الأملاك وفَسْخِ العقود ونحو ذلك فلا شكَّ في كونه حُكْمًا، فأمَّا إن لم يكن تأثير القاضي

ص: 204

في الحوادث أكثر من إقرارها لَما رُفِعَتْ إليه، مثل أن يُرْفَعَ إليه نِكاح امرأة زوجَّت نفسها بغير وَلِيًّ فأقرَّه وأجازه ثم عُزِلَ وجاء غيره فهذا ممَّا اختُلِفَ فيه. فقال ابن القاسم: طريقه طريق الحُكْم، وإمضاؤه والإقرار عليه كالحْكْم بإجازته، ولا سبيل إلى نقضه واختاره ابن محرز. قال في تبصرة ابن فرحون: اعلَم أنّ القاضي إذا حَكَمَ بفسخ نِكاح أو بَيْعٍ أو إجارة وشبه ذلك لموجب من موجبات الفسخ فذلك في مسألة مختَلَفٌ فيها ومثار الخلاف فيها اجتهادي، أي ليس فيهانصٌ جليٌّ يمْنَعُ من الاجتهاد؛ فإنّ حُكْمَ الحاكم لا يتعدّى ذلك الفسخ. وأمَّا ما يتبع ذلك منالأحكام والعوارض فذلك القاضي بالنسبة إليه كالمفتي، وكذلك لو حدثت قضية أخرى مثل القضية التي حُكِمَ فيها بالفسخ في ولاية ذلك القاضي ولم تُرْفَع إليه رُفِعَتْ إليه ولم ينظر فيها حتى عزل أو مات فإنها تحتاج إلى إنشاء نظر آخر من القاضي الأوّل أو من القاضي الثاني، ولايكون حْكْم القاضي الأوّل متناولاً إلَاّ لما باشره بالحْكْم؛ وسبب ذلك أن حْكْمَ القاضي لا يتعلَّ إلا بالجزئيات دون الكليات؛ لأن معظم ما ينظر القاضي فيه يحتاج إلى بيَّنة، والبيَّنة إنَّما تشهد بِما رأته أو شافهته وذلك أمْرٌ جزئي. هذا هو غالب ما تشهد به البيَّنةويَحْكُمُ القضة به.

فرع: إذا ثبت ما قرَّرْناه فإن القاضي إذا فَسَخَ نِكاحًا بين زوجَيْن بسبب أن أحدهما رضع أُمّ الآخر وهو كبير فالفسخ ثابت لا ينقضه أحد، ولكنه إن تزوَّجها بعد ذلك فَرُفِعَ أمرُهما إلى غيره مِمَّن وَلِيَ بعده لم يمنعه ذلك الفسخ أن يجتهد ويبيحها له، إن أدّاه اجتهاده إلى أنّ رضاع الكبير لا ينسر الحُرْمة، وكذا لو رفع إليه نفسهوتغير اجتهاده فَلَهُ أن يبيحها له.

فرع: وكذا مَنْ تزوّضج امرأة في عدَّتها ورُفِعَ ذلك إلى قاض مالكي، فإنه يرى مع الفسخ تأبيد التحريم، ومع هذا فإن حْكْمَه لا يتعدّى الفسخ، فإذا تزوَّجها بعد ذلك

ص: 205

ورُفِعَ أمْرُهما إلى قاض آخر لا يرى تأبيد التحريم لم يكن القضاء الأول مانعًا من أن يبيحها له ويكون الحُكْمُ في حَّ المرأتَيْن في هذا الفرع والذي قبله حُكْمَ امرأتَيْن لم يتقدَّم عليهما حُكْم.

فرع: وكذلك لو جمع رجل في عَقْدٍ واحد بين النكاح والبيع أو بني النكاح والإجارة، ورُفِعَ ذلك إلى قاضٍ مالكي فحَكَمَ بالفسخ على مشهور المذهب لرأي

رىه أو لتقليده ابن القاسم في ذلك، ثم تزوّضج ذلك الرجل تلك المرأة بعينها على ذلك الوجه الفاسد الذي حَكَمَ القاضي بفَسْخِهِ بينهما فرُفِعَ أمْرُهما إلى القاضي الأو أو إلى قاضٍ غيره فن حْكْمَ القاضي الأول لا يتناولفس اد هذا الفعل الثاني بل إذا أدّى نظر القاضي نظر الثاني إلى خلاف ما أدّى إيه اجتهاد الأول إمّا من إمضاء النكاح أوالبيع مطلَقًا أو بِرَرْطِ أن يبقى للبَضْع ربع دينار مضاه. انتها ما نَقَلَه ابن فرحون من كلام القرافي في فصل بعد هذا؛ لأنه عقد فيه المواضع التي تصرُّفات الحكّام فيها ليست بحكم ولغيرهم من الحكام تغييرها والنظر فيها وهي أنواع كبيرة، وجعل فيها عشرين نوعًا فارغَبْ في مطالعة تلك الأنواع.

ثم قال رحمه اللَّه تعالى: "وضلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْوَالِي بِخِلَافِ الْقَاضِي يَسْتَنِيبُ فَإنَّهُ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَعَزْلِهِ وَطُرُوَّ فِسْقِقِ وَقَالَ أصْبَغُ: لَا يَنْعَزِلُ بَلْ يَجِبُ عَزْلُه: يعني لا ينعزل القاضي بموت الوالي. وأمَّا نائب القاضي فغنه ينعزل بموت القاضي أو عَزْلِهِ، قال خليل: وانعزل بموته لا هو بموت الأمير ولو الخليفة، قال ابن عبدالسلام: وعندي أن ما قالوه من انعزال نائب القاضي بموت القاضي صحيح، إن كان القاضي استنابه بمقتضى الولاية، على القول بأن له ذلك وأمَّا إن استناب رجلاً معيَّنًا بإذن الإمام الأمير أو الخليفة فينبغي ألَاّ ينعزل ذلك النائب بموت القاضي، ولو أذِن له في النيابة إذْناًا مطلَقًا فاختار القاضي رجلاً ففي انعزاله بموت القاضي نظر. اهـ. نَقَلَه الحطاب. وفي تبصرة ابن فرحون: أمَّا

ص: 206

إذا مات الخليفة أو الأمير فلا ينعزل مَنْ قدّضماه للقضاء، لأن ذلك كان منهما نظرًا للمسلمين ليس لهما فيه حظ، ولا يعزله إلَاّ الخليةف الثاني أو الأمير الثاني اهـ. قال الدردير: ثم إن الخليفة إذا ولي مستوفيًا للشروط لا يجوز عزله إذا تغيَّر وَصْفُه، كأن طرأ عليه الفِسق وُلم الناس، بخلاف غيره من قاضٍ ووالٍ، وكذا الوصيّ بعد موت الموصي، ولا يجوز تعدُّد الخليفة إلَاّ إذا اتسعتوبَعْدَتِ الأقطار، ثم قال بعد كلام طويل: والحاصل أن الخليفة أو غيره إذا استخلف قاضيًا أو غيره لم ينعزل المولى بموت مَن ولاّه، إلَاّ خليفة القاضي إذا ولاّه القاضي بجهة بَعْدَت، لاتساع عَمَلِه فإنه ينعزل بموت القاضي الذي ولاه. هذا حاصل كلامهم فتأمَّله. وأمَّ إذا عزله مَنْ ولاّه فإنه ينعزل قَطْعًا، إلَاّ الخليفة فلا يُعْزَل إن أزيل وَصْفُه إذا ولي مستجمعًا لشروطها، ومحل ما لم يكفر وإلَاّ وَجَبَ عَزْلُه كما تقدَّم اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "وَإِذَا اشْتَكاهُ النَّاسُ نَظرَ الوَالي فَإِنْ كَانَ صًالِحًا ظَاهِرَ العَدَالَةِ أَقَرَّه وَإلِلَاّ عَزلَهُ إِلاّ ألَلاّ يَجِدَ غَيْرَهُ" يعني إذا كثر الناس باشتكاء القاضي نظر

الحاكم الذي ولاّه للقضاء فإن كان على الحقَّ ولاصواب أقرّه، وإن كان على الجور والباطل عَزَلَ، كما في ضياء الحكّام نَقْلاً عن تبصرة ابن فرحون. قال: وإذا شُكِيَ للإمام جورُ القضاة أو قاضي الجماعةجور نوابه، فعلى كلًّ أن يسأل الثقاب عنهم إذا لم تُعْرَف أحوالهم، فإن ظهر أهم على طريق الاستقامة أبقاهم وإلَاّ عَزَلَهم. واختُلِفَ فيمَن اشتهر بالعدالة هل يُعْزَل بالشكوى، قاله أصبغ أولأن قاله مطرف. ومَنْ خرج من العدالة عُزِلَ مطلَقًا، ومَنْ شُكَّ فيه عَزَلَه إن وَجَدَ له، وإلَاّ كشف عن حاله، بأن يبعث إلى رجال يوثق بهم من أهل بلده يسألهمعنه سرًّا، فإن صدقوا ما قيل عَزَله ونظر في أقضيته فمَا وافق الحقَّ أمضاه، وما خالفه فَسَخَه، وإن قالوا: لا نعلم إلَاّ خيرًا أبقاه ونظر في أقضيته كما تقدَّم اهـ.

ص: 207

قال رحمه الله تعالى: "وَحُكْمُهُ لاّ يُغَيَّرُ الْبَائِنَ فَلَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرَّمُ حَلَالاً" يعني أن حُكْمَ القاضي لا يَحِلُّ حرامًا ولا يحرَّم حلالاً. قال خليل، ورفع الخلاف لا أحلَّ حرامًا. قال الدردير: وحاصله: أن حُكْمَه صحيح في ظاهر الحال إلَاّ أنه يلزم عليه في الباطن فِعْلُ الحرام. فحُكْمُه المذكور لا يَحِلُّ ذلك الحرام، كما لو ادَّعى إنسان على رجل بَدَيْن دعوى باطلة وأقام عليها بيَّنة زور فطلب الحاكم من المدَّعى عليه تجريحها فلم يقدر على تجريحها فَحَكَمَ له به فالحُكْمُ صحيح في الظاهر، ولكن لا يَحِلُّ للمدَّعى أخْذُ ذلك الدَّيْن ف يالواقع، وكذا إذا لم يَقُمْ ببيَّنة فطلب الحاكم من المدَّعى عليه اليمين فردَّها على المدَّعى فَحَلف، وكذا لو ادَّعى على امرأة بأنها زوجته وهو يَعْلَم بأنها ليست بزوجة له ،اقام على ذلك بيَّنة زور، فطلب الحاكم منها تجريحها فعجزت فَحَكَمَ له بها فلا يجوز له وَطْؤها؛ لِعِلْمِه بأنها ليست بزوجته وإن كان كُكْمُه صحيحًا في ظاهر الحال. وقال الحنفية: يجوز له وطْؤها، وكذا إذا طلَّ رجل زوجته طلاقًا بائنًا فرفعته للحاكم وعجزت عن إقامة البيَّنة الشرعية فَحَكَمَ له بالزوجية وعدم الطلاق لم يَحِلَّ له وَطْؤها في الباطن؛ لعِلْمِه بأنه طلَّقها، وكذا لو كان لرجل على آخر دَيْن ثم وفاه إيّاه بدون بيَّنة فطلبه عند القاضي فقال: وَفَيْتُه لك فطلب منه القاضي البيَّنة على الوفاء فعجز وحَلَفَ المدَّعي أنه لم يوفِهِ فحَكَمَ الحاكم له بالدَّيْن فلا يَحِلُّ للمدَّعى أخْذُه ثانية في نفس الأمر. فالمراد بقوله: لا أحلَّ حرامًا، بالنسبة للمحكوم له. والحاصل: أن ماباطنه مخالف لظاهره بحيث لو اطلع الحاكم على باطنه لم يَحْكُمْ فحُكْمُ الحاكم في هذا يرفع الخلاف ولا يَحِلُّ الحرام. اهـ. بحذف وطرفه من حاشية الصاوي. وقال ابن جزي: حُكْمُ القاضي في الظاهر لا يَحِلُّ حرامًا في نفس الأمر ولا يحرَّم حلالأن خلافًا لأبي حنيفة في عَقْدِ النكاح وحِلَّه. وأجمعوا في الأموال اهـ. وقول خليل:

ورَفْعُ الخلاف، إلخ، أي حُكْمُ الحاكم العَدْل يرفع الخلاف الواقع بين العلماء في المسألة، وكذا غير

ص: 208

العَدْل إن كان عالِمًا وحَكَمَ صوابًا فإنه يرفع الخلاف ولا ينقض، وكذا المحكم، والمراد بأنه يرفع الخلاف أي في خصوص ما حَكَمَ به، كما إذا حَكَمَ المالكي بفَسْخِ النكاح فليس للحنفي تصحيحه، أو حَكَم الحنفي بصِحَّته فليس للمالكي نَقْضُه، مثال ذلك: كما إذا عَقَدَ رجل على امرأة مبتوتة ونيَّته التحليل لِمَن أبانها ورَفَعَ للقاضي المالكي وحَكَمَ بفَسْخِ النكاح فليس للقاضي الحنفي تصحيحه إذا عَمِمَ بحْكْم القاضي المالكي بفَسْخِه، وكذلك عكسه، أي كما إذا ثبت صِحّة هذا العد وحَكَمَ به القاضي الحنفي، أي حَكَمَ بصِحّة عقد مَنْ نيّضته التحليل فحُكْمُه رافع للخلاف، فليس للقاضي المالكي نَقْضُه بعد عِلْمِه بصِحّة الحُكْم فيه عند الحنفي. هذا معنى كلامه: ورفع الخلاف لا أحَلَّ حرامًا، وإليه أشار الدردير بقوله: والمراد أنه يرفع الخلاف في خصوص ما حَكَمَ به، فإذا حَكَمَ بفَسْخِ عقد أو صِحّته لكونه يرى ذلك لم يججُزْ لقاضٍ غيره يرى خلافه، ولا له نَقْضه، ولا يجوز لمفتٍ عَلِمَ بحُكْمِه أن يفتي بخلافه، وإذا حَكَم حاكم بصحة عقد لكونه يراه وحَكَمَ آخر بفساد مثله لكونه يراه صار كلٌّ منهما كالمجمع عليه في خصوص ما وقع الحُكْمُ به، ولا يجوز لأحد نَقْضُه ولا له، قال عمر رضي الله عنه في الحمارية: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي ولم ينقض حُكْمُه الأوّل. اهـ. باختصار. فراجِعْه إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: "وَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ وَيَلْزَمُ مَا حُكِمَ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ قَاضي الْبَلَد" يعني أنه يجوز للخصمَيْن أن يتفقا ويرفعا أمْرَهما إلى رجل فقيه يجعلانه حَكَمًا إذا رضيا بِما يَحْكُمُ عليهما في أمور مخصوصة بشروط مذكورة في كُتُب المذهب. قال في المدوَّنة وغيرها: لو أن رجلَيْن حَكَّما بينهما رجلاً فحَكَمَ بينهما أمضاه القاضي ولا يردُّه إلَاّ ألا أن يكون جورًا بيَّنًا اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك: وجاز تحكيم عدْلٍ غير خصم وجاهل ي مالٍ وجُرح لا حَدًّ وقتل ولعانٍ وولاءِ ونسبٍ وطلاقٍ وفسخ وعتقٍ ورُشدٍ وسفهٍ وأمر

ص: 209