المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب جامع أي هذا كتاب تجتمع فيه أشياء كثيرة وأمور شتى - أسهل المدارك «شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك» - جـ ٣

[الكشناوي، أبو بكر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الحَجْرِ والصُّلْح والحَمَالة والحَوالة

- ‌فَصْلٌفي التفليس

- ‌فَصْلٌفي الصلح وأحكامه

- ‌خاتمة:

- ‌فَصْلٌفي بيان ما يتعلَّق بأحكام الحَمَالة والكَفَالة والزَّعَامة والضمان

- ‌فَصْلٌفي الحَوَالة

- ‌كتاب العارية والوديعة

- ‌فَصْلٌفي الوديعة

- ‌كتاب الشفعة والقسمة

- ‌فَصْلٌفي القسمة

- ‌كتاب الإحياء والارتفاق والغصب والاستحقاق

- ‌فَصْلٌفي الارتفاق

- ‌فَصْلٌفي الغصب

- ‌فَصْلٌفيما يلزم الإنسان من المواسات في بعض الحالات

- ‌فَصْلٌفي الإستحقاق وأحكامه

- ‌كتاب اللقطة

- ‌فَصْلٌفي التقاط المنبوذ وأحكامه

- ‌كتاب الإقرار والهبة والصدقة والعُمْرَى والرقبي

- ‌فَصْلٌفي الهبة

- ‌فَصْلٌفي الصدقة

- ‌فَصْلٌفي العمرى

- ‌فَصْلٌفي الرقبى

- ‌كتاب الوقف

- ‌فَصْلٌفي بيان قِصاص الأطراف

- ‌فَصْلٌفي الدَّية

- ‌فَصْلٌفي الأعضاء

- ‌فَصْلٌفي القَسَامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌فَصْلٌفي الزاني والزانية

- ‌فَصُلٌفي القذف

- ‌فَصْلٌفي الخمر وأحكامها

- ‌فَصْلْفي السارق

- ‌فَصْلٌفي الحد

- ‌تنبيه:

- ‌كتاب الأقضية

- ‌فَصْلٌفي الغائب

- ‌فَصْلٌفي الشهادة

- ‌فَصْلٌفي التنازع

- ‌كتاب العتق والولاء والكتابة والتدبير والاستيلاء

- ‌فَصْلٌفي الولاء

- ‌فَصْلٌفي الكتابة

- ‌فَصْلٌفي التدبير والمدبر

- ‌فَصْلٌفي أم الولد

- ‌كتاب الوصايا

- ‌كتاب المواريث

- ‌فَصْلٌفي الجد

- ‌فَصْلٌفي الفرائض

- ‌فَصْلٌفي المناسخة

- ‌فَصْلٌفي الخنثى

- ‌فَصْلٌفي الميراث

- ‌فَصْلٌفي التركة

- ‌كتاب جامع

- ‌فَصْلٌفي المسابقة

- ‌خاتمة

- ‌تنبيه

الفصل: ‌ ‌كتاب جامع أي هذا كتاب تجتمع فيه أشياء كثيرة وأمور شتى

‌كتاب جامع

أي هذا كتاب تجتمع فيه أشياء كثيرة وأمور شتى متنوعة ولا شك أن هذا الكتاب قد احتوى من العلوم النافعة ما لا ينحصر، وفي ما ينبغي أن يتمسك به من أمور الدين مما لا يوجد مجموعًا في غيره، فيجب على الإنسان امتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لأنه هو يعلم النافع على الحقيقة، بل هو عين التقوى والمقصود بتلك الترجمة، إنه يشتمل على علم وعمل ثم إن العلم المقصود منه العمل ثم إن العمل منه ما يتعلق بالألسنة وهي الأقوال وما يتعلق بالأبدان وبالقلوب وبالأموال وفي كل قسم مأمورات ومنهيات ومنها ما هو في خاصة الإنسان وفيما بينه وبين الناس وسيأتي جميع ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى.

قال رحمه الله تعالى: (جماع الخير كله في تقوى الله واعتزال أشرار الناس)، وفي رواية: رأس الحكمة مخافة الله، فالمعنى أنه أخبر أن التقوى واعتزال أهل الشر نجاة وهو جماع الخير كله، وذلك معنى قول القائل:

خير الصنائع تقوى الله فاتقه

يكفيك في الحشر ما تخشى من الندم

فالنار تحرق من يدنو بجانبها

وإن (1) تباعد عنها فاز بالسلم

ولا شك أن هاتين الخصلتين كل واحدة منهما من المنجيات التي أمر الله تعالى بها في الآيات الكثيرة الصريحة مما لا تعد ولا تحصى والأحاديث الصحيحة. أشار أبو محمد ببعضها في الرسالة بقوله: وجماع آداب الخير وأزمته تتفرع عن أربعة أحاديث: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))، وقوله عليه الصلاة والسلام:((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، وقوله عليه الصلاة والسلام للذي اختصر له في الوصية:((لا تغضب))، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن يحب

(1) وفي نسخة: ومن.

ص: 345

لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه))، وهذه الأحاديث الأربعة جمعت جميع الأخلاق المحمودة كما ذكروا ذلك فتأمل.

قال رحمه الله تعالى: (ومن التقوى النظر في المكاسب وآداب النفس في تحصيل القوت من الحلال فمن كان ماله حرامًا لم تجز معاملته وأكل طعامه وقبول هديته وإن كان مشتبهًا كره والأولى التنزه)، يعني من تقوى الله تعالى أن ينظر المكلف في أمر المعيشة في المكاسب لطعامه وشرابه هو وعياله حتى يكون من الحلال؛ لأن الله أمر بأكل الطيب وهو الحلال لقوله:{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172]، وقوله:{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا} [المؤمنون: 51]، قال بعض المفسرين: نبه سبحانه بتقديم أكل الطيب على العمل الصالح، على أن العمل لا ينتفع به صاحبه إلا بعد إصلاح الرزق باكتسابه من باب الحلال، لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))، وذكر الآيتين المتقدمتين، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له. وفي الترمذي: قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به))، والسحت: الحرام. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: ((لا يقبل الله صلاة من في بطنه حرام))، وعنه أيضًا:((من أكل لقمة من حرام لم يقبل منه عمله أربعين صباحًا))، وفي أخرى:((طلب الحلال واجب على كل مسلم))، ففي جميع ذلك حث على الاجتهاد في القوت وتحصيله من جهة تسكن إليها نفسه بحيث لا يعلم أن للغير فيه حقًا اهـ. قاله النفراوي عند قول صاحب الرسالة: وأمر بأكل الطيب وهو الحلال فلا يحل لك أن تأكل إلا طيبًا. فراجعه إن شئت. وأما قول المصنف: فمن كان ماله حرامًا لم تجز معاملته إلخ. وبيان ذلك كما قال في القوانين:

ص: 346

مسألة في معاملة أصحاب الحرام، وينقسم حالهم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون الحرام قائمًا بعينه عند الغاصب أو السارق أو شبه ذلك، فلا يحل شراؤه منه ولا البيع به إن كان عينًا ولا أكله إن كان طعامًا ولا لبسه إن كان ثوبًا ولا قبول شيء من ذلك هبة ولا أخذه في دين، ومن فعل شيئًا من ذلك فهو كالغاصب. والقسم الثاني: أن يكون الحرام قد فات من يده ولزم ذمته فله ثلاث أحوال:

الأولى: أن يكون الغالب على ماله الحلال، فأجاز ابن القاسم معاملته وحرمها أصبغ.

الثانية: أن يكون الغالب على ماله الحرام فتمنع معاملته على وجه الكراهة عند ابن القاسم، والتحريم عند أصبغ.

والثالثة: أن يكون ماله كله حرامًا، فإن لم يكن له قط مال حلال حرمت معاملته، وإن كان له مال حلال إلا أنه اكتسب من الحرام ما أربى على ماله

واستغرق ذمته فاختلف في جواز معاملته بالجواز، والمنع والتفرقة بين معاملته بعوض فيجوز كالبيع وبين هبته ونحوها فلا يجوز. اهـ. قاله ابن جزي. وفي سراج الإخوان للعارف بالله عثمان بن فودى: فاعلموا يا إخواني أن الحلال هو ما جهل أصله، والحرام ما حقق أنه ملك للغير، والشبهة ما لم يتعين حله ولا حرمته. قال أحمد زروق في مفتاح السداد شرح إرشاد السالك: يعني هذا الكتاب الحلال ما انحلت منه التبعات من حقوق الله وحقوق عباده وهو ما جهل أصله على الصحيح، والشبهة ما لم يتعين حله ولا حرمته اهـ. وينبغي للمكلف أن يسلك سبيل السلف في الورع وهو على ثلاث درجات: ورع عن الحرام وهو واجب، وورع عن الشبهات وهو متأكد وإن لم يجب، وورع عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام وهو فضيلة وهو ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ

ص: 347

لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه))، إلى آخر الحديث، ولذا قال المصنف: والأولى التنزه. اهـ. ابن جزي بتوضيح.

قال رحمه الله تعالى: (ويحرم استعمال أواني النقدين وعلى الرجال لباس الحرير والتحلي بالذهب ومن الفضة بغير الخاتم)، يعني أنه يحرم على المكلف استعمال أواني الذهب وأواني الفضة مطلقًا ما عدا خاتم الفضة قدر الدرهمين فأقل فيجوز مطلقًا سواء للرجال والنساء أو الصبيان إلا في الإحرام فيحرم للرجال فقط كما تقدم في باب الحج، وكذلك يحرم عليه لبس الحرير لما في الصحيحين عن حذيفة عنه عليه الصلاة والسلام قال:((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) اهـ. فراجع كتاب الطهارة في الجزء الأول عند قول المصنف: ويحرم من النقدين، وقد جلبنا هناك نصوص المذهب في هذه المسألة بما فيه غنى مما لا حاجة لنا إلى إعادة البيان هنا.

قال رحمه الله تعالى: (ووليمة العرس مندوبة وإجابتها مستحبة ما لم يكن هناك منكر ويكره لأهل الفضل التسارع إلى الولائم)، يعني أنه يندب لمن تزوج أن يصنع الوليمة لقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن عوف:((أولم ولو بشاة))، والوليمة مندوبة وإجابتها واجبة لمن عين ومستحبة لغير معين ولو لصائم ما لم يكن هناك منكر، وإذا كان فيها منكر أو أمر ممنوع شرعًا كإذاية الحاضر فلا يأتها لا وجوبًا ولا استحبابًا، ويكره لأهل الفضل التسارع إلى الولائم أي كثرة إتيانهم إليها. وفي القوانين:

المسألة الثالثة في الوليمة وهي مأمور بها ومحلها بعد البناء وتجب الإجابة على من دعي إليها، وقيل: تستحب وذلك إذا لم يكن فيها منكر ولا أذى كالزحام وشبهه وهو في الأكل بالخيار ويحضر الصائم فيدعو. قال خليل: وإن صائمًا، وفي الخرشي: يعني

ص: 348

أن الإجابة إلى الوليمة واجبة على من عينه صاحب الوليمة بنفسه أو مندوبة سواء كان المدعو صائمًا أو غير صائم وسواء أكل المفطر أو لم يأكل، وشرط في وجوب الإجابة على من عين بألا يحضر من يتأذى بحضوره، وألا يكون هناك منكر كفرش حرير يجلس عليه أو يستند به، ومما يسقط الإجابة أن يكون قوم يأكلون وعلى رؤوسهم قوم ينظرون إليهم، ومن ذلك أن يخص بها الأغنياء. وفي الحديث:((شر الطعام طعام وليمة يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين، ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله)). رواه الموطأ عن أبي هريرة ورواه البخاري ومسلم عنه مرفوعًا. ومما يسقط الإجابة إحضار التماثيل أي الصور التي لها ظلال قائمة فهي حرام شرعًا ولو كانت على الجدران، بخلاف الرقوم في الثوب فيكون خلاف الأولى أو المكروه، وبخلاف تصوير الأشجار فيجوز ومما يسقط الإجابة أن يكون هناك كلب لا يحل اقتناؤه بل يتأذى به الداخل فيجوز بذلك التخلف عن الإجابة. وأما اللعب الخفيف فلا بأس به، فلا يجوز التخلف عنها لأجله ولو لذي هيئة على الصحيح. أما غير الخفيف ففيه خلاف بين المنع والجواز والكراهة كآلة الملاهي. قال في القوانين: ويستحب الغناء فيها بما يجوز وضرب الدف وهو المدور من وجه واحد كالغربال. وفي المزهر: الجواز والمنع والكراهة وهو المدور من وجهين. وأجاز ابن كنانة البوقات والزمارات التي لا تلهي للشهرة، ويكره نثر السكر واللوز وغيرهما ليتخطفه من حضر الوليمة؛ لأنه من النهب المنهي عنه وأجازه أبو حنيفة اهـ. أما الدخيل وهو غير المدعو فلا يدخل إلا بإذن أو تبعًا لغيره.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ومن آداب المطعم والمشرب أن يسمي الله في ابتدائه ويحمده في انتهائه ويأكل ويشرب بيمينه ومما يليه إلا أن يكون طعامًا مختلفًا أو في أهله ولا يقرن ولا ينفخ في طعامه وشرابه وليرق القذى ويزل الإناء للتنفس ويناول الأيمن فالأيمن)، يعني أنه قد اختلفت العبارات في هذا الباب لكن المعاني

ص: 349

متقاربة والمقصود شيء واحد وإن تنوعت العبارة. قلت: والآداب جمع أدب وهو ما ينبغي أن يفعله الشخص في كل مشروع. والآن نحن نشرع في بيان آداب الأكل والشرب. قال أبو محمد في عبارته لهذا الباب: وإذا أكلت أو شربت فواجب عليك أن تقول: باسم الله وتتناول بيمينك فإذا فرغت فلتقل: الحمد لله، وحسن

أن تعلق يدك قبل مسحها. ومن آداب الأكل أن تجعل بطنك ثلثًا للطعام وثلثًا للشراب ولثلثًا للنفس، وإذا أكلت مع غيرك أكلت مما يليك ولا تأخذ لقمة حتى تفرغ الأخرى ولا تتنفس في الإناء عند شربك ولتبعد القدح عن فيك ثم تعاوده إن شئت، ولا تعب الماء عبًا ولتمصه مصًا وتلوك طعامك وتنعمه مضغًا قبل بلعه وتنظف فاك بعد طعامك، وإن غسلت يدك من الغمر واللبن فحسن، وتخلل ما تعلق بأسنانك من الطعام، ونهى الرسول عليه والصلاة والسلام عن الأكل والشرب بالشمال، وتناول إذا شربت من على يمينك، وينهى عن النفخ في الطعام والشراب والكتاب وعن الشرب في آنية الذهب والفضة، ولا بأس بالشرب قائمًا، ولا ينبغي لمن أكل الكراث والثوم أو البصل نيئًا أن يدخل المسجد، ويكره أن يأكل متكئًا، ويكره الأكل من رأس الثريد، ونهى عن القران في التمر، وقيل: إن ذلك مع الأصحاب الشركاء فيه ولا بأس بذلك مع أهلك أو مع قوم تكون أنت أطعمتهم، ولا بأس في التمر وشبهه أن تجول يدك في الإناء لتأكل ما تريد منه، وليس غسل اليد قبل الطعام من السنة إلا أن يكون بها أذى، وليغسل يده وفاه بعد الطعام من الغمر، وليمضمض فاه من اللبن، وكره غسل اليد بالطعام أو بشيء من القطاني وكذلك بالنخالة وقد اختلف في ذلك اهـ. وعبارة ابن جزي في هذا الباب أنه قال: وآدابهما عشرة.

الأول: تسمية الله عند الابتداء وحمده عند الفراغ.

الثاني: التقليل من الأكل فيجعل ثلثًا للطعام وثلثًا للشراب وثلثًا للنفس.

ص: 350

الثالث: الأكل والشرب باليمين.

الرابع: الأكل مما يليه إلا أن يكون الطعام ألوانًا مختلفة، ورخص ابن رشد أن يأكل من غير ما يليه مع أهله وولده.

الخامس: ألا يأكل متكئًا.

السادس: ألا ينفخ في الطعام ولا في الشراب ولا يتنفس في الإناء.

السابع: أن يوافق من يأكل معه في تصغير اللقم وإطالة المضغ والتمهل في الأكل.

الثامن: أن يغسل يده وفمه من الدسم، وكره مالك تعمد غسل اليد للأكل.

التاسع: ألا يشرب من فم السقاء.

العاشر: ألا يقرن التمر، ويجوز الشرب قائمًا خلافًا لقوم، وإذا كان جماعة فأدير عليهم ماء يشربون فيأخذ بعد الأول الأيمن فالأيمن اهـ. وفي هذه العبارة زيادة البيان كما في عبارة الدردير في أقرب المسالك وهي قوله: سن لآكل وشارب

تسمية، وندب تناول باليمنى كحمد بعد الفراغ ولعق الأصابع مما تعلق بها وغسلها بكأشنان وتخليل ما بالأسنان مما تعلق وتنظيف الفم وتخفيف المعدة والأكل مما يليك إلا نحو فاكهة، وألا يأخذ لقمة إلا بعد بلع ما في فيه وبما عدا الخنصر، ونية حسنة كإقامة البنية، وتنعيم المضغ ومص الماء وإبانة القدح ثم عود مسميًا حامدًا ثلاثًا ومناولة من على اليمين إن كان وكره عبه والنفخ في الطعام والشراب كالكتاب والتنفس في الإناء والتناول باليسرى والاتكاء والافتراش ومن رأس الثريد وغسل اليد بالطعام كالنخالة والقران في كتمر والشره في كل شيء وقد يحرم اهـ. وهذه العبارات كلها متقاربة كما قدمنا ولنقتصر عليها عن جلب الشروح؛ لأن فيها كفاية في هذا الباب.

ثم قال رحمه الله تعالى: (والابتداء بالسلام سنة ورده آكد منه ولا بأس به على القواعد ويجزئ الواحد من الجماعة كالدر)، يعني أن الابتداء بالسلام سنة من سنن

ص: 351

الإسلام والرد منه واجب أوكد من السنة، هذا في الرجال. وأما النساء فلا يسن السلام عليهن خشية الفتنة بالمكالمة بهن، وإن ابتدأن عليك بالسلام فهل يكره الرد أو يندب. الظاهر الندب إن لم يخف منهن الافتتان وإلا حرم عليك الرد، وإليه أشار بعضهم بقوله: أما النساء فيكره على الرجل أن يسلم عليهن. وفي الموطأ: سئل مالك: هل يسلم على المرأة؟ فقال: أما المتجالة فلا أكره، وأما الشابة فلا أحب ذلك. هذا معنى قول المصنف: ولا بأس به أي بالسلام على القواعد أي اللاتي قعدن عن الولادة والحيض والزوج لكبرهن.

قال الباجي في شرح الموطأ: ومعنى ذلك والله أعلم أن المتجالة: الهرمة لا فتنة في كلامها ولا يتسبب به إلى محظور، بخلاف الشابة فإن في مكالمتها فتنة ويتسبب به على المحظور، والسلام عليها يقتضي ردها وذلك من باب المكالمة، وأصل هذا أن السلام شعار الإسلام شرع إفشاؤه عند لقاء كل مسلم ممن عرفت وممن لم تعرف إلا أن يمنع منه ما يخاف من الفتنة والتعريض للفسوق كما منع من الرؤية بمثل ذلك وأمر بالحجاب اهـ. وإذا سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم وكذلك إذا رد واحد منهم. ويسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد، ولا يسلم على أهل الأهواء كالمعتزلة ولا على أهل اللهو حال تلبسهم به، ولا تبدأ أهل الذمة بالسلام وإذا بدؤوكم فرد عليهم بغير واو. وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام، فقل: عليك))، وفي الحديث أيضًا:((لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف))، ويكره تقبيل اليد في السلام إلا لمن ترجى بركته. وصفة السلام المشروع أن يقول: السلام عليكم

بالألف واللام، أو يقول: سلام عليكم بالتنكير، ويقول الراد: وعليكم السلام بالواو والمعرفة أو كما قيل له، ولا بد من الإتيان بميم الجمع ولو كان المسلم عليه واحدًا؛ لأن معه جمعًا من الملائكة. اهـ أبو الحسن بتوضيح. وفي القوانين: والابتداء به سنة على الكفاية ورده واجب على

ص: 352

الكفاية، فلذلك يجزئ الواحد عن الجماعة في الابتداء والرد، ولا يزاد فيه على البركة، ويسلم الراكب على الماشي والصغير على الكبير والقليل على الكثير. فأما الداخل على شخص أو المار عليه فيسلم عليه مطلقًا. ولا يبتدئ اليهود ولا النصارى بالسلام، ومن سلم عليهم لم يحتج أن يستقبلهم خلافًا لابن عمر، وإذا بدؤوا رد عليهم: عليكم بغير واو، وقيل: وعليكم بإثباتها، ولا يسلم على المرأة الشابة بخلاف المتجالة، ولا يسلم على أهل البدع كالخوارج والقدرية وغيرهم، ولا على أهل اللهو حال تلبسهم به، ولا يسن السلام على المصلي، ويكره على من يقضي حاجته، ومن دخل منزله فليسلم على أهله، وإن دخل منزلاً ليس فيه أحد فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين اهـ. ومثله في الرسالة وانظرها إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: (وتشميت العاطس وليعلن بالحمد لله ويخمر وجهه)، يعني أن تشميت العاطس سنة واجبة على الخلاف كما يأتي عن قريب. والتشميت بالشين المعجمة وبالسين المهملة وهو مستحب وكذلك جوابه. وقيل: واجب على الكفاية فيجزئ واحد عن الجماعة، وقيل: على العين، فلا يجزئ أحد عن غيره، وينبغي للعاطس أن يقول: الحمد لله ولمن سمعه أن يشمته وهو أن يقول له: يرحمك الله فيجيبه العاطس بقوله: يغفر الله لنا ولكم أو يهديكم الله ويصلح بالكم، ولا يشمت من لم يحمد الله، وليرفع صوته بالحمد ليسمع فيشمت، ومن توالى عطاسه شمت إلى الثلاثة ولم يشمت فيها بعدها اهـ. قاله ابن جزي بتصريف.

قال رحمه الله تعالى: (ولا يهجر مسلم مسلمًا فوق ثلاث إلا لبدعة وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، يعني كما في القوانين وغيره: أنه لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، والسلام يخرجه عن الهجران، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، ويهجر أهل البدع والفسوق؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان اهـ. وفي الموطأ عن مالك

ص: 353

بإسناده عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) اهـ. وردت الأحاديث بجواز هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة، وأنه يجوز هجرانهم دائمًا، والنهي عن الهجران فوق ثلاث إنما هو لمن هجر أخاه لحظ نفسه ومعاش الدنيا، وأما أهل البدع

ونحوهم فهجرانهم دائم. وما زالت الصحابة والتابعون فمن بعدهم يهجرون من خالف السنة أو من أدخل عليهم من كلامه مفسدة اهـ. نقله الزرقاني في شرح الموطأ عن النووي.

ثم قال رحمه الله تعالى: (والاستئذان ثلاث فإن أذن له وإلا انصرف وليسم نفسه)، يعني كما في الحديث:((الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع))، رواه مالك في الموطأ عن أبي موسى الأشعري. واعلم أنه لا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه. وصفة الاستئذان أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ يستأذن ثلاثًا ولا يزيد على ذلك إلا أن يغلب على ظنه عدم السماع، وإذا استأذن فقيل له: من هذا فليسم نفسه باسمه أو بما يعرف به من الكنية ولا يقول: أنا. وعبارة ابن جزي في القوانين: صفته أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ ثلاثًا، فإن أذن له وإلا انصرف. والاستئذان واجب، فلا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه أجنبيًا كان أو قريبًا، ويستأذن على أمه وعلى أخيه وعلى كل من لا يحل له النظر إلى عورتها، وإذا استأذن فقيل له: من أنت فليسم نفسه أو بما يعرف به ولا يقول: أنا اهـ. قد اتفق المعبرون على أن لفظ أنا مبهم لا يفاد منه شيء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرره ممن أجابه بأنا حين خرج وهو يقول: أنا أنا كأنه منكر له فافهم هذا. كثير من العوام يقولون: أنا بعد الاستئذان وهو غير مفيد في محل طلب الإفادة فتأمل. بتوضيح.

ص: 354

ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا ينظر في منزل قوم وهم لا يشعرون ولا يستمع حديثهم)، يعني أنه لا يجوز لشخص أن ينظر أي أن يطالع منزل قوم وهم في غفلة عنه ولا يشعرون به ولا يحل له أن يستمع كلامهم ولو لم ينقله إلى غيره، والأصل في هذه المسألة ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) اهـ. قال الشارح: قوله: ((لو أعلم أنك تنظر)) الخطاب فيه لرجل اطلع من حجر في دار النبي صلى الله عليه وسلم قيل: هو الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان. فسبب ذلك كما في الصحيحين: اطلع رجل في حجرة من حجر دار النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صلى الله عليه وسلم مدرى وفي رواية بمشقص وفي أخرى: ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك بها رأسه، والمدرى: حديدة يسرح بها الشعر وهي بكسر الميم بالقصر تؤنث وتذكر، ولذلك ورد في بعض روايات هذا الحديث: يحك به رأسه، على التذكير وفي بعضها: يحك بها، على التأنيث، قال:((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))، قوله: ((إنما جعل

)) إلخ، بضم الجيم وكسر العين أي إنما شرع الاستئذان

في الدخول من أجل البصر؛ لئلا يقع على عورة أهل البيت ويطلع على أحوالهم، واستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام:((لطعنت بها في عينك))، أن من خالف ونظر في دار المسلم بدون استئذان لو رماه ذلك المسلم بنحو حصاة فأصاب عينه فعمي أو سرت على نفسه فتلف فهدر. اهـ. بحذف واختصار نقله العلامة حبيب الله الشنقيطي في زاد المسلم. وقال ابن القيم في زاد المعاد: فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن اطلع في بيت رجل بغير إذنه فحذفه بحصاة أو عود ففقأ عينه فلا شيء عليه. ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح))، وفي لفظ فيهما: ((من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فلا دية له ولا

ص: 355

قصاص))، وفيهما أن رجلاً اطلع في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص وجعل يختله ليطعنه. فذهب إلى القول بهذه الحكومة وإلى التي قبلها فقهاء الحديث، منهم الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله، ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك اهـ بحروفه.

والحاصل أنه لا يحل لشخص أن يطلع على أحد إلا بعد إذن وإنذار، ولا يجوز له أن يتعمد استماع كلام أحد لينقله إلى غيره، بل ولو لم ينقله إلى أحد؛ لأن ذلك بدون إذنه ربما يكون ذلك من باب النفاق أو النميمة أو السمعة وكلها من الكبائر.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا يدخل الحمام إلا مستورًا ويكره للنساء إلا لضرورة)، يعني كما في الرسالة، ونصها: ولا يدخل الرجل الحمام إلا بمئزر، ولا تدخله المرأة إلا من علة. قال شارحها: والحمام معروف وهو مذكر باتفاق، ولا يجوز أن تدخله المرأة ولو بمئزر إلا من علة لقوله عليه الصلاة والسلام:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخلن حليلته الحمام))، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام:((ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلها الرجال إلا بإزار وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء))، والظاهر من كلام المصنف صاحب الرسالة: جواز دخوله للرجل بالمئزر ولو لغير علة ولو مع وجود غيره، وأما بغير مئزر مع رؤية من يحرم عليه نظره فلا يجوز وجواز الدخول بالمئزر لا ينافي قول ابن القاسم: ترك دخوله أحسن لاحتمال الانكشاف، ولذا قال شيخه الإمام مالك، رضي الله عنه: والله ما دخوله بصواب، وما ورد من منع دخوله فمحمول على الدخول بغير مئزر مع وجود من لا يحل نظره إليه، ويجوز للمرأة دخوله عند العلة المحوجة إلى دخوله كحيض أو نفاس أو جناة أو مرض مع زوجها، وأما مع امرأة فعورتها معها كعورة الرجل مع الرجل حيث كانت مسلمة اتفاقًا، وأما مع الكافرة فقيل: إن المسلمة معها كالأجنبية

مع

ص: 356

الرجل اتفاقًا. وقال القرطبي وابن عطية في تفسيرهما: إنه لا يحل للمسلمة كشف شيء من بدنها بين يدي الكافرة إلا أن تكون أمتها، ويتفرع على هذا جواز دخولها مع المرأة بشرط ستر ما لا يحل نظر تلك المرأة إليه. قال العلامة الأجهوري: واعلم أن دخوله له شروط جواز كغض البصر وستر العورة واستيفاء الحقوق بإعطاء الواجب وأخذ المعتاد وتغيير ما يقدر عليه من المنكر وألا يمكن الدلاك ولو مملوكه من ذلك عورته وهي ما فوق الركبة إلى جوفه، ولو من فوق حائل؛ لأن الجس أخص من النظر إلا أن تكون زوجته أو أمته. وله آداب: أن يدخله بالتدريج ويخرج منه كذلك، وصب الماء البارد على القدمين عند الخروج منه؛ لأنه أمان من النقرس (1)، وأن يتذكر عذاب جهنم وحالة الموت، ومن الآداب: الدخول مع الاعتدال من حيث الجوع والشبع، فإن دخوله من غير اعتدال فيه ضرر على الداخل لخروجه منه قبل عرقه فيه والإقامة فيه زيادة على الحاجة. اهـ. قاله النفراوي ومثله في القوانين؛ لأنه أتى بشروط عشرة على التفصيل فراجعه إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: (ويحرم حضور مجالس اللهو وأهل المنكر ولينه عنه ويأمر بالمعروف)، يعني أنه لا يحل للمكلف أن يحضر مجالس اللهو وأهل المنكر والمعاصي، لما فيه من الاغتفال عن الله تعالى والميل إلى الهوى وهما ممنوعان شرعًا، وعليه منع المنكر إذا رآه وكان قادًا على ذلك، وأن يأمر بالمعروف إذا كان أهلاً لذلك بقدر الحال والإمكان، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه وهو أضعف الإيمان كما في الحديث. وقد عقد ابن جزي فصلاً في قوانينه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعرفه بقوله: وهو الاحتساب، وأركانه أربعة: المحتسب. والمحتسب فيه. والمحتسب عليه. والاحتساب. فأما المحتسب فله شروط: وهي أن يكون عاقلاً بالغًا مسلمًا قادرًا على

(1) النقرس مرض معروف. انظر المصباح.

ص: 357

الاحتساب عالمًا بما يحتسب فيه، وأن يأمن أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكبر منه مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤول نهيه إلى قتل نفس، وأن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له وأن أمره بالمعروف نافع، وفقد هذا الشرط الأخير يسقط الوجوب فيبقى الجواز والندب، وفقد ما قبله يسقط الجواز. واختلف هل يجوز للفاسق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا؟ وأما المحتسب عليه فكل إنسان سواء كان مكلفًا أو غير مكلف. وأما المحتسب فيه فله شروط: وهي أن يكون منكرًا لا شك فيه، فلا يحتسب فيما هو في محل الاجتهاد والخلاف، وأن يكون موجودًا في الحال، فلا يحتسب فيما مضى لكن يقيم فيه

الحدود أهل الأمر، ولا فيما يستقبل إلا بالوعظ، وأن يكون معلومًا بغير تجسس، فكل من ستر على نفسه وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه. وأما الاحتساب فله مراتب: أعلاها التغيير باليد، فإن لم يقدر على ذلك انتقل إلى اللسان، فإن لم يقدر على ذلك أو خاف عاقبته انتقل إلى الثالثة وهي التغيير بالقلب، ولتغيير اللسان مراتب: وهي النهي والوعظ برفق وذلك أولى ثم التعنيف ثم التشديد اهـ.

قال رحمه الله تعالى: (ويلزم نفسه ترك الغيبة والنميمة)، يعني وجب على الشخص المكلف إلزام نفسه عن ترك الغيبة والنميمة؛ لأنهما خصلتان محرمتان إجماعًا، وحقيقة الغيبة هي ذكرك أخاك في غيبته بما يكره، إن كان فيه ما ذكرت فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما ذكرته فقد بهته كما في الحديث. قال العلامة عبد اللطيف المرداس في عمدة البيان: وقوله: أي مما يحرم على المكلف الغيبة وهي أن يذكر في الإنسان ما يكره أن لو سمعه إن كان ما يكره موجودًا فيه فإن لم يكن موجودًا فهو البهتان إلى أن قال: والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدرون ما الغيبة؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره، فإن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه

ص: 358

ما تقول فقد بهته)). وقوله: والنميمة أي مما يحرم عليه أيضًا النميمة وهي أن يقول: قال فلان فيك كذا وكذا فتحصل بذلك العداوة والفتنة بين المنقول عنه والمنقول إليه. وبالجملة فالغيبة والنميمة خصلتان ذميمتان يقع بهما البغض والفتنة وهما من الكبائر، ويصدق ذلك قوله تعالى:{ولا يغتب بعضكم بعضًا} [الحجرات: 12] الآية، فشبه المغتاب بآكل لحم أخيه وهو مما تكرهه النفوس أشد الكراهة. قال صلى الله عليه وسلم:((كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله))، وقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يدخل الجنة قاطع))، فقيل: ما القاطع؟ فقال: ((هو القاطع بين الناس بالنميمة))، ويجب على من نقلت إليه النميمة أن يكذب الناقل وينهاه عن ذلك المنكر المنهي عنه شرعًا، وألا يظن بأخيه الغائب سوءًا؛ لقوله تعالى:{إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] الآية اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ويستحب عند النوم إغلاق الباب وإطفاء المصباح (1) وإيكاء الإناء)، يعني أنه يستحب لمن أراد النوم إغلاق الأبواب وإطفاء المصابيح وإيكاء الإناء من السقاء وتغطية المواعين؛ لئلا يحصل شيء مما يكره وهو نائم، وكل ذلك من آداب النوم التي ينبغي أن يتحفظها قبل اضطجاعه للنوم،

كما يستحب له أن يتوضأ عند إرادة النوم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة))، ومنها ما أشار إليه رحمه الله تعالى بقوله:(فإذا أخذ مضطجعه اضطجع على شقه الأيمن ويقول: اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت)، وفي رواية: فاغفر لي ما دمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت ربي قني عذابك يوم تبعث عبادك، زاده في الرسالة.

(1) الحديث: ((لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)). راجع شرحه في زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم.

ص: 359

قال رحمه الله تعالى: (ثم يسبح الله عشرًا ويحمده عشرًا ويكبره عشرًا)، وحاصل ما في قرة العيون أنه قال: ومنها أي من آداب النوم أن ينام على شقه الأيمن كما مر، ويضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن وكفه اليسرى على فخذه الأيسر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. ومنها أن يذكر الله تعالى عند النوم حين يأخذ مضجعه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند النوم:(اللهم باسمك وضعت جنبي وباسمك أرفعه اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))، وورد أن من ذكر الله تعالى عند نومه لم يجد الشيطان إليه سبيلاً، ومن لم يذكر الله بات الشيطان يلعب به كيف شاء. وعن علي كرم الله وجهه: من قرأ كل ليلة عند النوم: {وإلهاكم إله واحد} إلى قوله: {يعقلون} [البقرة: 163] لم يتفلت القرآن من صدره. ومنها أن من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم عشر مرات بات في حفظ الله وحرزه. ومنها أن يتوب إلى الله؛ لأن الإنسان إذا تهيأ للنوم فكأنما تهيأ للموت. وفي التوراة: يا ابن آدم كما تنام تموت وكما تستيقظ تبعث. وفي الصحيحين عن حذيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام قال: ((باسمك اللهم أموت وأحيا))، وإذا استيقظ من منامه قال:((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)). وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (فإذا استيقظ قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور). وزاد في رواية: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، يا قوي من للضعيف سواك، يا قدير من للعاجز سواك، يا عزيز من للذليل سواك، يا غني من للفقير سواك، اللهم أغننا بك عمن سواك اهـ. ومما يقوله عليه الصلاة والسلام كلما أصبح وأمسى:((اللهم بك نمسي وبك نحيا وبك نموت))، ويقول في

ص: 360

الصباح: ((وإليك النشور))، وفي المساء:((وإليك المصير))، وهذا الحديث خرجه أصحاب السنن بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: ((اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت))، وإذا أمسى

قال: ((اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير))، كما في النفراوي، وروى مع ذلك: اللهم اجعلني من أعظم عبادك عندك حظًا ونصيبًا في كل خير تقسمه في هذا اليوم وفيما بعده من نور تهدي به أو رحمة تنشرها أو رزق تبسطه أو ضر تكشفه أو ذنب تغفره أو شدة تدفعها أو فتنة تصرفها أو معافاة تمن بها برحمتك إنك على كل شيء قدير. اهـ. وقال العلامة الأقفهسي: إذن هذا المروي حديث، واعلم أن كل ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت اختصاصه به ولم يكن فعله لمجرد بيان الجواز فيطلب منا فعله؛ لأنا مأمورون بالاقتداء به عليه الصلاة والسلام بخلاف ما ثبت اختصاصه به كنكاحه أكثر من أربع فيحرم علينا الاقتداء فيه وبخلاف ما فعله لمجرد الجواز كالاقتصار في الوصوء على غسله في المغسولات مرة واحدة فيكره ذلك لغير العالم كما تقدم اهـ. نقله النفراوي بتوضيح.

ثم انتقل يتكلم على مسائل الرؤيا في المنام فقال رحمه الله تعالى: (فإن رأى في منامه ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ويتفل عن يساره ثلاثًا ويتحول على الشق الآخر)، يعني كما في حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، ومن رأى منكم ما يكره في منامه فإذا استيقظ فليتفل عن يساره ثلاثًا وليقل: اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت في منامي أن يضرني في ديني ودنياي)) اهـ. هذا لفظ الموطأ كما في الرسالة. وفي زاد المعاد للعلامة محمد بن القيم الحنبلي قال: صح عنه صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا يكره منها شيئًا فلينفث عن

ص: 361

يساره وليتعوذ بالله من الشيطان فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدًا، وإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر بها إلا من يحب، ثم قال: وأمر من رأى ما يكرهه أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه وأمره أن يصلي، فأمره بخمسة أشياء: أن ينفث عن يساره، وأن يستعيذ بالله من الشيطان، وألا يخبر بها أحدًا، وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، وأن يقوم يصلي، ومتى فعل ذلك لم تضره الرؤيا المكروهة بل هذا يدفع شرها اهـ. وفي النفراوي: لا يجوز التعبير اعتمادًا على مجرد ما يراه في كتب التفسير، كما لا يجوز الإفتاء بالاعتماد على المسطر في الكتب من غير أخذ عن شيوخ، لاحتمال خفاء قيد في المسألة، والاحتياط لمن رأى ما يحب كتم ما رآه إلا عن حبيب عالم بتأويل الرؤيا، بخلاف من رأى المكروه فإن المطلوب منه بعد قيامه الصلاة والسكوت عن التحديث بما رأى كما في رواية مسلم اهـ. ومثله في أقرب المسالك انظره إن شئت. وفي القوانين: ولا ينبغي أن يعبر الرؤيا إلا عارف بها، وعبارتها على وجوه مختلفة: فمنها مأخوذ من اشتقاق اللفظ ومن قلبه

ومن تصحيفه ومن القرآن ومن الحديث من الشعر ومن الأمثال ومن التشابه في المعنى ومن غير ذلك، وقد تعبر الرؤيا الواحدة لإنسان بوجه ولآخر بوجه حسبما تقتضيه حالهما.

تنبيه: قال صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي))، وفي رواية: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي. رواهما البخاري ومسلم. انظر (1) شرحهما في زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم للعلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه مولاه آمين، وفي الشرح المذكور كفاية لمن أراد البيان في هذين الحديثين.

(1) أي من 180 ص إلى 190 ج 3.

ص: 362

ثم قال رحمه الله تعالى: (ومن الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان)، قال العلامة النفراوي: إن الشيوخ اختلفوا في تفسير الفطرة: فمنهم من فسرها بالسنة القديمة التي اختارها الله لأنبيائه واتفقت عليها الشرائع حتى صارت كأنها أمر جبلي فطروا عليه. ومنهم من فسرها بالخصال التي يتكمل بها الإنسان بحيث يصير بها على أشرف الأوصاف كالختان. ومنهم من فسرها بالدين لقوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 29] وربما يدل على هذا التفسير قوله عليه الصلاة والسلام: ((كل مولود يولد على الفطرة))، الحديث. وهذه الفطرة هي التي أمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام بقوله:{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [البقرة: 124] أي أداهن تامات ولم يفرط منها شيئًا. واختلف العلماء فيها أيضًا على خمسة أقوال كما اختلفوا في عددها. قال الحافظ السيوطي في تفسير الكلمات التي أتمها: هي الأوامر والنواهي التي كلفه بها، قيل: هي مناسك الحج، وقيل: المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الرأس وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء. وقال العلامة الصاوي: قوله بكلمات قيل: هن ثلاثون من شريعتنا: عشرة في براءة وهي التائبون العابدون إلى وبشر المؤمنين. وعشرة في الأحزاب وهي: إن المسلمين والمسلمات إلى قوله: {أعد الله لهم مغفرة} [الأحزاب: 35] الآية. وتسعة في المؤمنون: من أولها إلى أولئك هم الوارثون. وواحدة في سأل وهي: والذين هم بشهاداتهم قائمون. وقيل: هي التكاليف بخدمة البيت، وقيل: ذبح ولده والرمي في النار وهجرته من الشام إلى مكة والنظر في الشمس والقمر والكواكب لإقامة

الحجة على قومه. وبضميمة ما ذكره المفسر تكون أقوالاً خمسة، ولا مانع من إرادة جميعها اهـ. قال ابن جزي في خصال

ص: 363

الفطرة: وهي عشر: خمس في الرأس وهي السواك والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب لا حلقه وإعفاء اللحية إلا أن تطول جدًا فله الأخذ منها. وخمس في الجسد وهي الاستنجاء والختان ونتف الإبطين وحلق العانة وتقليم الأظفار، وعد بعضهم فيها فرق الشعر بدلاً من ذكر السواك وبعضهم والاستحداد كما في رواية أبي هريرة وهي قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط)) رواه الجماعة. وعدها أبو محمد في الرسالة خمسة حيث قال: ومن الفطرة خمس: قص الشارب هو الإطار وهو طرف الشعر المستدير على الشفة لا إخفاؤه والله أعلم وقص الأظفار ونتف الجناحين وحلق العانة ولا بأس بحلق غيرها من شعر الجسد، والختان للرجال سنة والخفاض للنساء مكرمة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعفى اللحية وتوفر ولا تقص. قال مالك: ولا بأس بالأخذ من طولها إذا طالت كثيرًا وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين. اهـ. قوله: والختان يعني أن الختان من خصال الفطرة وهو سنة للرجال كما في الرسالة، وحقيقته إزالة الجلدة الساترة لرأس الذكر، وفي عبارة: الختان اسم لفعل الخاتن وسمي به محل الجلدة التي تقطع وقد كانت تغطي الحشفة. وذلك في حق الصغير حين أمر بالصلاة، ويكره اختتانه يوم السابع عند مالك. أما الكبير فإنه يؤمر باختتان نفسه إن أمكن كمن أسلم بعد البلوغ لحرمة نظر عورة البالغ، فإن تعذر ذلك منه أو يحصل عليه الضرر ترك ويكون به نقص في الدين؛ لأنه تكره إمامته وشهادته. وروى ابن حبيب عدم جواز إمامة وشهادة تاركه عمدًا اختيارًا كما في النفراوي. قال العلامة الصاوي في حاشيته على الجلالين: ورد أن أول من اختتن إبراهيم عليه السلام وهو أول من قص الشارب وأول من قلم الأظفار وأول من رأى الشيب فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال: الوقار، قال: يا رب زدني وقارًا اهـ. أما الخضاب فلم يكن معدودًا في الفطرة، وحكمه الجواز، ويكره صبغ الشعر بالسواد،

ص: 364

قال في الرسالة: ويكره صباغ الشعر بالسواد من غير تحريم، ولا بأس به بالحناء والكتم. وفي القوانين: يجوز صبغ الشعر بالصفرة والحناء والكتم اتفاقًا. واختلف هل الأفضل الصبغ أو تركه؟ وكان من السلف من يفعله ومن يتركه. واختلف في جواز الصبغ بالسواد وكراهته. فقال مالك: ما سمعت فيه شيئًا وغير أحب إليّ، وكرهه قوم، لحديث أبي قحافة: ويكره نتف الشيب، وإن قصد به التلبيس على النساء فهو أشد في المنع قلت: ومثل نتف الشيب تصبيغ الشعر لقصد التدليس فهو محرم كما في المصنف إلا عند الحرب لترهيب الأعداء فيجوز؛ لأن الحرب خداع.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا بأس بالتداوي والرقى والتعوذ بأسماء الله تعالى)، يعني أنه يجوز استعمال الدواء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أباحه وأذن فيه فقال:((ما أنزل الله داء إلا وله دواء علمه من علمه وجهله من جهله فتداووا عباد الله))، وتحمل النقول المخالفة لهذا على حالة الاختيار والجواز على حالة الاضطرار فيتفق النقلان اهـ. النفراوي. وإلى ذلك اشار ابن جزي في القوانين بقوله:

المسألة الثانية: من الناس من اختار التداوي لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء))، ومنهم من اختار تركه توكلاً على الله وتفويضًا إليه وتسليمًا لأمره تبارك وتعالى. وروي ذلك عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وبه أخذ أكثر المتصوفة. وأما الرقى فلا بأس بها بكتاب الله تعالى ولو بآية منه قال تعالى:{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. ويرقى بالفاتحة وآخر ما يرقى به منها: {وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]. ومما يرقى به كثيرًا آيات الشفاء ومحاه بماء النيل وسقاه لمن به مرض مثقل، فإن قدر له الحياة شفاه الله بأسرع وقت، وإن قدر له الموت سكن ألمه وهون عليه الموت وقد جرب مرات كثيرة فصح. وآيات الشفاء ست: الأولى: {ويشف صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14]، الثانية:{وشفاء لما في الصدور} [يونس: 57]، الثالثة: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء

ص: 365

للناس} [النحل: 69]. الرابعة: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. الخامسة: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80]. السادسة: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44] اهـ. النفراوي. وقال ابن جزي في آخر قوانينه: ورد في الحديث الصحيح رقية اللديغ بأم القرآن وأنه برء وقال صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض))، وكان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا قال:((أذهب البأس رب الناس واشف فأنت الشافي شفاء لا يغادر سقمًا)). وأخبر صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام رقاه بهذه الرقية: ((باسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك {ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق: 4، 5]، وكان صلى الله عليه وسلم يعود الحسن والحسين، رضي الله عنهما، فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامات من شر كل شيطان رجيم وهامة ومن شر كل عين لامة ويقول: هكذا كان أبي إبراهيم يعود إسحاق وإسماعيل عليهما السلام. وروينا حديثًا مسلسلاً في قراءة آخر سورة الحشر مع وضع اليد على الرأس وأنها شفاء من كل داء إلا السام والسام هو الموت وقد جربناه مرارًا عديدة فوجدناه حقًا. اهـ. وقد نقل عن القاضي عياض الإجماع على جواز الرقى

بكتاب الله تعالى وعلى منعها بالأسماء الأعجمية. وفي زاد المسلم: وقد تتبعت كتب أهل المذاهب الأربعة متونًا وشروحًا وحواشي فوجدتهم متفقين على جواز الرقية بشروط: أن تكون بكلام الله تعالى أو أسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره بشرطه، وأن يعتقد أن الرقية غير مؤثرة بنفسها بل بتقدير الله عز وجل. وفي الموطأ أن أبا بكر، رضي الله عنه، قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك: كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب ختم سليمان وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. قال الأبي: والعقد عند مالك أشد كراهة لما فيه من مشابهة السحر كأنه تأول النفاثات في العقد. وقال القسطلاني:

ص: 366

قال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله عز وجل وبما يعرف معناه من ذكر الله، قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وذكر الله اهـ، وقال في موضع آخر: وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء المذاهب الأربعة وغيرهم إذا كان على نحو ما سبق من الشروط. فحمل الحروز المشروعة إذا كان مع حسن النية واعتقاد النفع من الله تعالى ببركة آياته وأسمائه جائز باتفاق المذاهب الأربعة وغيرهم. وقد أشار خليل في مختصره لجواز حمل الحرز من القرآن، إذا كان عليه ساتر يقيه وصول الأذى من جلد أو غيره بقوله عاطفًا على ما لا منع في حمله: وحرز بساتر وإن لحائض. أي لا منع في حمل المسلم الصحيح أو المريض للحرز من القرآن بشرطه وإن لامرأة حائض ونفساء أو جنب. وأما الكافر فيمنع حمله للحرز من القرآن؛ لأنه يؤدي إلى امتهانه. ويجوز تعلق الحرز منه على بهيمة لدفع عين أو مرض أو غير ذلك، فجعل الجزء من القرآن حرزًا بشرطه متفق عليه، وفي جعل المصحف الكامل حرزًا قولان: فقيل: لا يجوز لأن الشأن في المصحف الكامل ألا يجعل حرزًا محمولاً على الدوام، وهذا هو الأحسن صونًا للمصحف عن حمله في حالة الحدث. وقيل: يجوز طردًا لحكم الجواز اهـ. وقوله رحمه الله تعالى: والتعوذ بكسر الذال المعجمة مجرور بالباء في التداوي معطوف عليه. والمعنى أن المعاذة جائزة لا بأس بها كالتداوي والرقى قال في الرسالة: ولا بأس بالمعاذة تعلق وفيها القرآن. يعني كما تجوز الرقى بالقرآن تجوز المعاذة وفيها آيات من آي القرآن. وفي المدخل نقلاً عن المأزري: ولا بأس بالتداوي بالنشرة تكتب في ورق أو إناء نظيف سور من القرآن أو بعض سور أو آيات متفرقة من سورة أو سور مثل آيات الشفاء. ثم قال: وما زال الأشياخ من الأكابر رحمة الله عليهم يكتبون الآيات من القرآن والأدعية فيسقونها لمرضاهم ويجدون العافية عليها اهـ. وفي القوانين لابن جزي:

ص: 367

المسألة الخامسة: يجوز تعليق التمائم وهي العوذة التي تعلق على المريض والصبيان وفيها القرآن وذكر الله تعالى إذا خرز عليها جلد، ولا خير في ربطها بالخيوط، هكذا نقل القرافي. ويجوز تعليقها على المريض والصحيح خوفًا من المرض والعين عند الجمهور وقال قوم: لا يعلقها الصحيح. وأما الحروز التي تكتب بخواتم وكتابة غير عربية فلا تجوز لمريض ولا لصحيح؛ لأن ذلك الذي فيها يحتمل أن يكون كفرًا أو سحرًا اهـ. بلفظه. ومن أراد زيادة البيان فيراجع زاد المسلم (1) للعلامة الحافظ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه مولاه، ففيه كفاية واستغناء إن شاء الله تعالى؛ لأنه قد ساق الأحاديث التي وردت في هذا الباب فجزاه الله عن المسلمين خير جزاء.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا تظهر المرأة زينتها لغير محارمها ولا تمشي في ثوب يظهر تكسير أعطافها ولا باس بدخول عبدها المأمون عليها)، يعني لا يجوز للمرأة أن تظهر عورتها الخفيفة إلا لمحارمها، وأما المغلظة فلا تجوز إظهارها إلا لزوجها أو سيدها. قال النفراوي: وحاصل المعنى أنه يحرم على المرأة لبس ما يرى منه أعلى جسدها كثديها أو أليتها بحضرة من لا يحل له النظر إليها، فالواصف هو الذي يحدد العورة، ومثل الواصف: الذي يشف أي يرى منه لون الجسد من كونه أبيض أو أسود. وأما لبس النساء الواصف أو الذي يشف بحضرة من يحل له النظر إليها كزوجها أو سيدها فلا حرج عليها فيه. والدليل في ذلك قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} [النور: 31] الآية. وأما عبدها فحكمه جواز نظره عليها بشرط الأمن. قال في القوانين: ولا يجوز أن تواكل المرأة عبدها إلا إذا كان وغدًا دنيًا يؤمن منه التلذذ بالنساء بخلاف من لا يؤمن ذلك منه. أي فلا يجوز له مواكلتها ولا نظر شيء من عوراتها وإن كان قد

(1) من ص 82 - 88 في ج 4.

ص: 368

استثنوا عبد المرأة. قال النفراوي: ويستثنى من كلام المصنف خلوة المرأة بعبدها. قال خليل: ولعبد بلا شرك ومكاتب وغدين نظر شعر السيدة وبقية أطرافها التي ينظرها محرمها والخلوة بها، وأما عبد زوجها فيجوز بشرطين أن يكون خصيًا وأن يكون قبيح المنظر، وأقول: ينبغي تقييد هذا بالمرأة المشهورة بالدين وإلا فقد تميل المرأة للنصراني الخادم في أسفل الدار اهـ. وما ذكروه من جواز نظر عبدها محمول على الأمن كما قال المصنف رحمه الله تعالى.

ثم قال: (ولا يجاوز ثوب الرجل كعبيه ولا يجره خيلاء)، يعني كما في

الرسالة ونصها: ولا يجر الرجل إزاره بطرًا ولا ثوبه من الخيلاء، وليكن إلى الكعبين فهو أنظف لثوبه وأتقى لربه. وفي موضع آخر: وأزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه. لما ورد في الحديث: أزروة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين قدميه وما سفل عن ذلك ففي النار. وفي شرح الرسالة: يجوز للمرأة أن تجر ثوبها وترخيه ذراعًا لقصد الستر كما في الموطأ، ولا يجوز لها الزيادة على ذلك. ثم قال: وهذا كله حيث لا خف لها ولا جورب اهـ. النفراوي بلفظه. وفي حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا ينظر الله تعالى إلى من جر ثوبه خيلاء))، رواه البخاري ومسلم. ولفظ الثوب شامل سواء كان إزارًا أو رداء أو قميصًا أو جبة أو سراويل أو عمامة كما في أبي داود والنسائي وابن ماجه من رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئًا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، وفي أخرى: فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: ((يرخين شبرًا))، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: ((فيرخين ذراعًا لا يردن عليه)) اهـ.

ص: 369

قال رحمه الله تعالى: (ولا باس بالمصافحة) يعني أن المصافحة حسنة مليحة جميلة لا بأس بها. قال العلامة الدردير: والمصافحة مندوبة على المشهور. وقيل: مكروهة وهو وضع أحد المتلاقيين بطن كفه على بطن كف الآخر إلى آخر السلام أو الكلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تصافحوا يذهب الغل عنكم وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء))، ولخبر: ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا. ولا تجوز مصافحة الرجل المرأة ولو متجالة؛ لأن المباح الرؤية فقط، ولا المسلم الكافر إلا لضرورة. وفي النفراوي: وإنما تحسن المصافحة بين رجلين أو بين امرأتين لا بين رجل وامرأة وإن كانت متجالة، ولا بين مسلم وكافر أو مبتدع. والدليل على حسن المصافحة ما قدمناه من الأحاديث، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: ((لا))، قال: أفيلزمه ويقبله؟ قال: ((لا))، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: ((نعم)). وأفتى بعض العلماء بجواز الانحناء إذا لم يصل إلى حد الركوع الشرعي. اهـ. وفي شرح العزية للعلامة عبد الباقي الزرقاني: المصافحة حسنة أي مستحبة لرجل مع مثله أو لامرأة مع مثلها لا مع رجل ولو لمتجالة؛ لأنها من المباشرة إن لم يكن محرمها، ولا يصافح كافرًا ولا مبتدعًا، لخبر: من صافح مبتدعًا فقد خلع الإيمان عروة عروة، ولا يقبل يد صاحبه ولا يد نفسه. وقال الزرقاني: يقبل كل يد نفسه. ثم ذكر كيفية المصافحة كما تقدم بقوله: والمصافحة وضع الكف على كف أخرى عند التلاقي مع ملازمة لهما قدر ما يفرغ من السلام أو سؤال إن عرض لهما أو كلام، ولا يشد

أحدهما يده على يد صاحبه. وقال بعضهم: يشدها أي ندبًا لكونه يشعر بالمبالغة في المودة، ويكره اختطاف اليد إثر التلاقي. اهـ. انظر زروق على الرسالة.

ثم قال رحمه الله تعالى: (وتكره المعانقة وبوس اليد)، يعني أن المعانقة وبوس اليد كل واحد منهما مكروه. قال العلامة ابن جزي في القوانين: وتكره المعانقة بعد أن ذكر حكم

ص: 370

المصافحة وقال: والمعانقة جعل عنقه على عنق صاحبه، وهي مكروهة عند مالك كما في الرسالة. وإنما كرهها الإمام لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها إلا مع جعفر حين قدومه من الحبشة فاعتنقه عليه الصلاة والسلام وقبله بين عينيه كما في خبر طاوس عن ابن عباس ولم يصحبها عمل من الصحب بعده عليه الصلاة والسلام. اهـ. وأول من فعل المعانقة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، فإنه حين كان بمكة وقدمها ذو القرنين وعلم به عليه الصلاة والسلام قال: ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها خليل الرحمن، فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم فسلم عليه إبراهيم عليه السلام واعتنقه وكان أول من عانق اهـ. النفراوي. قوله: وبوس اليد معطوف على المعانقة، فالمعنى أن بوس اليد أي شدها عند المصافحة مكروه وأجازه بعضهم كما تقدم. قال النفراوي: وفي شد كل واحد يده على يد مصافحه قولان: بالجواز وعدمه، ومثل شد اليد اختطافه عند المصافحة فهو مكروه كما تقدم.

ثم قال رحمه الله تعالى: (وتعظم المساجد وتخلق وتجنب النار والصبيان والمجانين وشهر السلاح ولا يلقى فيها نخامة ولا قلامة ولا قصاصة شعر)، يعني أنه ينبغي للمسلم أن يعظم المساجد؛ لأنها بيوت الله، فإن تعظيمها تعظيم الله تعالى، وتعظيمها يكون بتحسين بنائها وعمارتها بالعبادة. وفي الخبر عن الأوزاعي، رضي الله عنه، قال: خمس كان عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة وابتاع السنة وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله تعالى. اهـ. قال أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه: من أسرج في المسجد سراجًا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام ذلك في المسجد. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: المساجد بيوت الله في الأرض والمصلي فيها زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره اهـ. ومن تعظيم المساجد أن تخلق أي أن يجعل لها خلوق، بأن تطيب بالخلوق تعظيمًا لمكان عبادة الله تعالى قال تعالى:

ص: 371

{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا} [الجن: 18] ومن تعظيمها أن يجنبها النار والصبيان والمجانين وشهر السلاح، لما ورد من النهي في جميع ذلك، ولا يلقى في المسجد قمامة ولا قلامة ولا نخامة ولا قصاصة شعر. وفي الرسالة: ويكره العمل

في المساجد من خياطة ونحوها، ولا يغسل يديه فيه ولا يأكل فيه إلا مثل الشيء الخفيف كالسويق ونحوه، ولا يقص فيه شاربه ولا يقلم فيه أظفاره، وإن قص أو قلم أخذه في ثوبه، ولا يقتل فيه قملة ولا برغوثًا، وارخص في مبيت الغرباء في مساجد البادية. اهـ. قال شارحها: قوله: من خياطة ونحوها كالنسخ للكاتب. وأما ما يقدره أو يضيق على مصل فيحرم؛ لأن المساجد وضعت للعبادة، وأجيزت القراءة والذكر وتعليم العلم تبعًا للصلاة حيث لا يشوش شيء منها على مصل وإلا منع كما يمنع كل ما يقذر من حجامة أو فصادة أو لصلاح النعال العتيقة، ومن المكروه رفع الصوت فيه بالعلم زيادة على المطلوب. قال خليل: وكره أن يبصق بأرضه وتعليم صبي وبيع وشراء وسل سيف وإنشاد ضالة وحتف بميت ورفع صوت كرفعه بعلم ووقيد نار ودخول كخيل لنقل وفرش أو متكأ، ومن المكروه فعله في المسجد الاستياك والقراءة في المصحف قلت: وما ذكره من كراهة الاستياك في المسجد فذلك خيفة خروج الدم من فمه فيحتاج للخروج لغسل ذلك وإلا فلا كراهة في استياكه فيه، وأما كراهته في قراءة المصحف فقد عللوه برفع الصوت، فإن لم يكن فيه رفع الصوت فلا كراهة فتأمل، وأما غرس الشجر أو الزرع فيه فيحرم كما صرح به شراح خليل، كما يحرم حفره والجفن فيه، وما غرس فيه من الأشجار يقطع قال ابن سهل: وهي حلال أي في الأكل للفقير والغني؛ لأن سبيل ذلك كالفيء اهـ. بتوضيح.

وفي القوانين فيما تنزه عنه المساجد قال: وذلك كالبيع وسائر أبواب المكاسب وإنشاد الضالة ورفع الصوت حتى بالعلم والقرآن والبزاق وكفارته دفنه، وإنشاد الشعر إلا ما يجوز شرعًا، وكره سحنون الوضوء فيه ويخفف النوم فيه نهارًا للمقيم والمسافر

ص: 372

والمبيت فيه للغريب، ولا ينبغي أن يتخذ مسكنًا إلا لمن تجرد للعبادة، ويرخص في الأكل اليسير فيه ويمنع منه الصبيان والمجانين من أكل الثوم والبصل ويرخص للنساء الصلاة فيه إذا أمن الفساد، ويكره للشابة الخروج إليه، ولا يتخذ المسجد طريقًا ولا يسل فيه سيف وإنما يفعل فيه ما بني له، ولا يجوز دخول المشرك المسجد وجوزه الشافعي إلا في المسجد الحرام وأبو حنيفة في كل مسجد اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ويندب إلى عيادة المرضى)، يعني أنه يستحب للإنسان أن يعتني بحقوق المرضى بالتفقد في أحوالهم بالعيادة والتمريض. قال ابن جزي في القوانين: فالعيادة مستحبة وفيها ثواب. والتمريض فرض كفاية فيقوم به القريب ثم الصاحب ثم الجار ثم سائر الناس. وفي الحديث: ((ما من رجل يعود مريضًا ممسيًا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح وكان له خريف في

الجنة، ومن أتاه مصبحًا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف في الجنة)) اهـ. رواه أبو داود عن علي، كرم الله وجهه. وفي الرسالة: من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يعوده إذا مرض. قال شارحها: لما في العيادة من ثواب عظيم فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس فإذا يغمس فيها)). ويطلب من الزائر أمور ليحصل له بها كمال الأجر: منها قلة السؤال عن حاله وإظهار الشفقة عليه من ذلك المرض، ومنها قلة الجلوس عنده إلا لحاجة أو يطلب منه ذلك، ومنها الدعاء له، ومنها وضع يده على بعض جسده إلا أن يكون يكره ذلك، ومنها أن يجلس عنده بخشوع من غير نظر في عورة منزله، ومنها أن يبشره بالمثوبات. وأما ما يحصل به كمال أجر المرض من تكفير الذنوب لما ورد من أن الأمراض كفارات للذنوب فهي أن يحافظ على طاعة ربه في مرضه ما استطاع فلا يضيعها بل يأتي بصلاته ولو من جلوس أو اضطجاع بقدر طاقته، وأن يكثر الرجاء ولا يقنط من عفو ربه ولا يكثر الشكوى إلا عند صالح ترتجى

ص: 373

بركة دعائه، وألا ينطق لسانه بالكلام الذي لا ينبغي في حق الباري بل يلاحظ أنه المالك للعباد يفعل فيهم كيف شاء فإن خفف فبمحض فضله وإن شدد فبعدله لا يسأل عما يفعل، وأن يعتقد أن الشافي هو الله ولو كان عنده حكيم يداويه؛ لأن المداوي حقيقة هو الذي خلق المرض، وجواز التداوي لا ينافي التوكل والاعتماد على الله، على القول المعتمد من قول الصوفية وغيرهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعاطى الأسباب للتداوي مع أنه أعظم المتوكلين على الله سبحانه اهـ. النفراوي باختصار.

قال رحمه الله تعالى: (وتشييع الجنائز) هذه الجملة معطوفة على عيادة المرضى فالمعنى أنه يندب للإنسان أن يعتني بتشييع الجنائز؛ لأنه من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يحضر جنازته إذا مات لأجل الصلاة عليه والدفن؛ لأن تجهيز الأموات والقيام بأمورهم من فروض الكفاية كما تقدم، وفي حضور ذلك ثواب عظيم، قال عليه الصلاة والسلام:((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان))، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)). رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه أشار أبو محمد في الرسالة بقوله: وفي الصلاة على الميت قيراط من الأجر وقيراط في حضور دفنه، وذلك في التمثيل مثل جبل أحد ثوابًا كما في رواية مسلم، والمراد: يعظم الثواب وأنه يرجع بنصيب كبير من الأجر كما في زاد المسلم.

قال رحمه الله تعالى: (والسعي في حوائج الإخوان) وهذه الجملة أيضًا

معطوفة على عيادة المرضى، فالمعنى أنه يندب للإنسان أن يعتني بخدمة الإخوان ويقوم بقضاء حوائجهم حضرًا وسفرًا، لما في ذلك من كثرة الثواب وجزيل الأجر. وفي الحديث:((سيد القوم خادمهم)). رواه الخطيب وفي رواية: ((سيد القوم خادمهم وساقيهم آخرهم شربًا)). وفي أخرى: ((سيد القوم في السفر خادمهم فمن سبقهم بخدمة لم يسبقوه بعمل إلا الشهادة)).

ص: 374

وهذه الروايات كلها منقولة من الجامع الصغير بأسانيد مذكورة هناك. قال العلامة المناوي في فيض القدير في معنى الأحاديث المتقدمة: أي ينبغي كون السيد كذلك لما وجب عليه من الإقامة بمصالحهم ورعاية أحوالهم، أو معناه أن من يخدمهم وإن كان أدناهم ظاهرًا فهو في الحقيقة سيدهم لحيازته للثواب. قلت: وعلى كل حال أن من قام بخدمة الإخوان حاز فضلاً وفاز بالثواب، فينبغي للعاقل أن يغتنم ذلك كما فعل بعض الصالحين. قال الغزالي حكاية عن بعضهم: صحب المروزي أبا علي الرباطي فقال أبو علي: أنت الأمير أم أنا؟ قال: أنت، فلم يزل يحمل الزاد على ظهره وأمطرت السماء فقام طول الليل على رأس رفيقه بكساء فكلما قال له: لا تفعل يقول: ألم تسلم الإمارة لي فلم تحكم علي؟! قال: فوددت أني مت ولم أؤمره اهـ. وأنشد في ذلك العلامة البيهقي، رضي الله عنه، فقال:

إذا اجتمع الإخوان كان أذلهم

لإخوانه نفسًا أبر وأفضلا

وما الفضل في أن يؤثر المرء نفسه

ولكن فضل المرء أن يتفضلا

نقله المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير، وتقدم لنا الكلام في شيء من مواساة الإخوان وخدمتهم في الإرفاق فراجعه إن شئت.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ويحرم اللعب بالنرد والشطرنج وجميع آلة القمار)، يعني يحرم على المكلف اللعب بالنرد وهو معروف وكذا بالشطرنج، ومثلهما جميع آلة اللعب التي بها مغالبة بأخذ النقود وغيرها كالقمار، وهي مما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز، وهي من أكل أموال الناس بالباطل، وتقدم لنا في البيوع أنه من المنهي عنه بيع الملاهي وما لا يجوز بيعه شرعًا من آلات القمار وغيرها من الملهيات، فراجع قول المصنف وآلات القمار وما عطف عليه في البيوع، وقد جلبنا هناك نصوص المذهب في هذه المسألة لكنا ذكرنا هناك تحريم بيعها وهنا نذكر تحريم الاستعمال بها. قال شارح العزية العلامة

ص: 375

عبد الباقي الزرقاني عند قول صاحب المتن: ويحرم اللعب بالشطرنج سواء كان اللعب قليلاً أو كثيرًا على جعل أو بلا شيء، وقيل: إن كان بجعل فحرام؛ لأنه من القمار وإلا فمكروه. قلت: المشهور الأول. والقمار هو ما يأخذه الشخص من غيره بسبب

المغالبة عند اللعب بالشطرنج ونحوه وهو حرام. ويكره الجلوس إلى من يلعب بها وكذا السلام عليه حال تلبسه بها كما تقدم. ويحرم اللعب بالطاب. قال النفراوي:

تنبيه: وقع الخلاف في اللعب بالطاب وهو معروف عند العامة وكذا في المنقلة، والذي ذكره بهرام في شرح خليل في الطاب وجعله مثل النرد، وأما المنقلة فاستظهر بعض الشيوخ الكراهة فيها، وكل هذا حيث لا قمار وإلا فالحرمة فيهما من غير نزاع اهـ. قال أبو محمد في الرسالة: ولا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج ولا بأس أن يسلم على من يلعب بها، ويكره الجلوس إلى من يلعب بها والنظر إليهم. قال شارحها قوله: لا يجوز بمعنى يحرم ولو مجانًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه)). وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)) رواه مالك في الموطأ. والنردشير هو النرد. قوله: لا بالشطرنج وما ذكرناه من عدم جواز اللعب بالشطرنج هو الذي ارتضاه الحطاب، فإنه حمل الكراهة الواقعة في كلام بعض على التحريم وهو قول أحمد بن حنبل والشافعي أيضًا حتى قال إمامنا مالك، رضي الله عنه: الشطرنج ألهى من النرد واشر اهـ النفراوي باختصار انظره إن شئت.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا بأس بقتل الوزغ وتستأذن حيات البيوت ثلاثًا فإن بدت بعد قتلها) يعني أن الوزغ يجوز قتلها بل يستحب قتلها في أي محل وجدت، ولا يتوقف على استئذان ولو لم يحصل منها أذية ولا كثرة، لأنه صلى الله عليه وسلم حث ورغب في قتل الوزغة حيث قال: من قتلها في المرة الأولى فله مائة حسنة ومن قتلها في المرة الثانية فله سبعون حسنة وقيل: خمسون، ومن قتلها في الثالثة فله خمس

ص: 376

وعشرون. قال ابن ناجي: هذا لما في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الوزغ وسماه الفويسقة وفيه أيضًا: من قتل وزغة في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك. قال ابن رشد: وكذلك يقتل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله من العقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور اهـ. وفي الرسالة: وجاء فيما ظهر من الحيات بالمدينة أن تؤذن ثلاثًا وإن فعل ذلك في غيرها فهو حسن، ولا تؤذن في الصحراء ويقتل ما ظهر منها، ويكره قتل القمل والبراغيث بالنار، ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها ولو لم تقتل كان أحب إلينا اهـ. قال شارحها قوله: وجاء أي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ظهر من الحيات بالمدينة المنورة وفيما ظهر في بيوتها وأزقتها أن تؤذن ثلاثة من الأيام على جهة الوجوب كما هو مقتضى صيغة الأمر الآتية في الحديث، والدليل على طلب استئذانها ما في الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن

بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه الشيطان)). والاستئذان له ثلاث صيغ:

الأولى: أن يقول: أنشدكن بالعهد الذي أخذه عليكن سليمان ألا تؤذونا.

والثانية: أن يقول لها: يا عبد الله إن كنت مؤمنًا بالله واليوم الآخر وأنت مسلم فلا تظهر لنا خلاف اليوم.

والثالثة: أن يقول لها: أقسم عليك بالله وباليوم الآخر لا تبد لنا ولا تخرج فإن ظهرت لنا قتلناك، وهذه الصيغ كلها واردة في الروايات. وإن فعل ذلك في غير المدينة المنورة من العمران فحسن. فتلخص أن وجوب استئذان الحيات إنما يجب بالمدينة وأما غيرها فيندب في العمران وأما غير العمران فلا يجب ولا يندب. ومحل وجوب الاستئذان غير الأبتر وذي الطفيتين وأما هما فلا يجب استئذانهما ويقتلان من غير استئذان ولو

ص: 377

بالمدينة. وذو الطفيتين هو الذي على ظهره خطان أحدهما أخضر والآخر أزرق. والأبتر هو الصغير الذنب وقيل: هو الأزرق، وإنما أمر بقتل هذين الحيين بغير استئذان لأنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون الأمهات، وأما الحيات التي في الصحراء والأدوية فلا تستأذن لا وجوبًا ولا استحبابًا بل تقتل لبقائها على الأمر بقتلها في قوله عليه الصلاة والسلام:((خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والغراب والحية والفأرة والكلب العقور)) اهـ. النفراوي بحذف. وفي القوانين: المسألة الرابعة في قتل الدواب المؤذية أما الحيات التي في البيوت فتؤذن ثلاثة أيام فإن بدا بعد ذلك قتل. واختلف هل ذلك عام في جميع البيوت أم خاص بالمدينة؟ ولا يؤذن ما يوجد من الحيات في غير البيوت كالصحاري والأودية بل تقتل. وأما الوزغ فيقتل حيثما وجد، وكذلك الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور؛ لأنها الفواسق التي أمر بقتلها في الحل والحرم كذلك الزنبور، وأما النمل والنحل فلا يقتل إلا أن يؤذي، ولا يقتل شيء من الحيوان بالنار اهـ. ولم يتكلم المصنف على قتل الضفادع، وتكلم فيها صاحب الرسالة بقوله: ويكره قتل الضفادع جمع ضفدع بالضاد المعجمة وبالفاء والعين بينهما الدال وهي دويبة أكثر مكثها في الماء وهي أنواع، وفي النفراوي: حيوان معروف يلازم الماء غالبًا، وعلة الكراهية في قتلها ما قيل: من أنها أكثر الحيوانات تسبيحًا حتى قيل: إن صوتها جميعه ذكر؛ ولأنها أطفأت من نار إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثلثيها، وصيغة تسبيحها: سبحان من يسبح له في لجج البحار، سبحان من يسبح له في الأرض القفار، سبحان من يسبح له في رؤوس الجبال، سبحان من يسبح له بكل شفة ولسان، هكذا وجدته بخط بعض

الفضلاء قاله النفراوي. قلت: ليس تسبيح الضفادع بأعجب من تسبيح الجمادات؛ لأن الله سبحانه يسبح له كل شيء من الحيوانات والنبات والأشجار والجبال وجميع الجمادات واليابسات وجميع الرطبيات في البر والبحر في السموات

ص: 378

والأرضين؛ لقوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليمًا غفورًا} [الإسراء: 44] وكان نبي الله داود عليه السلام كثير الذكر والتسبيح، وتسبح معه الجبال والوحوش والطير وغيرها صباحًا ومساء، قال تعالى:{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق} [ص: 38] الآيتين، وفي كتاب الزاهر لأبي عبد الله القرطبي: أن داود عليه السلام قال: لأسبحن الله الليلة تسبيحًا ما سبحه به أحد من خلقه فنادته ضفدعة من ساقية في داره: يا داود تفتخر على الله بتسبيحك وإن لي لسبعين سنة ما جف لساني من ذكر الله تعالى، وإن لي لعشر ليال ما طعمت خضرًا ولا شربت ماء اشتغالاً بكلمتين، فقال: ما هما؟ قالت: يا مسبحًا بكل لسان ومذكورًا بكل مكان، فقال داود في نفسه: وما عسى أن أقول أبلغ من هذا اهـ. وفي رواية البيهقي في شعبه عن أنس بن مالك أنه قال: إن نبي الله داود عليه السلام ظن في نفسه أن أحدًا لم يمدح خالقه بأفضل مما مدحه به فأنزل الله عليه ملكًا وهو قاعد في محرابه والبركة إلى جنبه فقال: يا داود افهم ما تصوت به هذه الضفدعة فأنصت إليها فإذا هي تقول: سبحانك وبحمدك منتهى علمك، فقال له الملك: كيف ترى؟ فقال: والذي جعلني نبيًا إني لم أمدحه بهذا اهـ. وروى ابن عدي حديثًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح)) قاله البيهقي اهـ. ولذلك نهي النبي عن قتلها. وأما حكم أكلها فالمشهور في مذهب المالكية الجواز. قال النفراوي ومثله في العدوي على الرسالة: ومن أراد أكلها فله أكلها بالذكاة إن كانت برية. ومفهومه: أما إن كانت بحرية فلا يحتاج إلى الذكاة بل بما تموت به كخشاش الأرض وجميع البحري. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفًا على المباح: والبري وإن ميتًا أو كلبًا أو خنزيرًا كما مر في الجزء الأول، فظهر لك أن أكل الضفادع جائز بشرط عدم الضرر. قال العلامة عبد الرحمن الجزيري في الفقه في قول المالكية: لا نزاع عندهم في تحريم كل ما يضر،

ص: 379

فلا يجوز أكل الحشرات الضارة قولاً واحدًا، أما إذا اعتاد قوم أكلها ولم تضرهم وقبلتها أنفسهم فالمشهور عندهم أنها لا تحرم اهـ. انظر قول المالكية في الفقه إن شئت والله أعلم. وأما الجراد فالمعروف أنها تؤكل بما تموت به من قطع الرأس والرجلين والأجنحة وغير ذلك مما تموت به كما في المدونة وغيرها من

كُتب المذهب. مما لا خلاف فيه بين أهل المذهب. وقد بسطنا الكلام في الجراد وجلبنا النصوص عند قول المصنف: (والظاهر أنه لا تُؤكَل ميتة الجراد ودود الطعام منفردًا عنه) فراجع كتاب الأطعمة والأشربة إن شئت. وأما النمل والنحل وغيرهما فقد ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن قتل أربع من الدواب: (النملة والنحلة والهدهد والصرد): قال شارح الحديث في غاية المأمول: أما النحلة فإن كانت نحلة العسل فلكثرة فائدتها. وأما النملة والهدهد فلسر علمه الشارع؛ لأن خلقهما لا يخلو من فائدة؛ قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16] فلا يجوز قتل النمل ولا فرق بين صغيرة وكبيرة إلا إذا كثر وصار ضارًا فلا بأس من قتله. والصرف بضم ففتح طائر كبير الرأس يصطاد العصافير وهو أول طائر صام لله تعالى اهـ. وللبيهقي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الخطاطيف. وله أيضًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الرخمة. قلت: قد علمت أن مذهب السادة المالكية لم يحرم شيئًا من الطيور حتى الجلالة إلا الوطواط فإنه مكروه. قال المواق من المدونة: لا بأس بأكل الضفادع وإن ماتت؛ لأنها من صيد الماء وقد تقدم ولو طالت حياته ببر. وقال ابن القاسم في الطير: ولم يكره مالك أكل شيء من الطير كله الرخام والعقبان والنسور والأحدية والغربان وجميع سباع الطير وغير سباعها ما أكل الجيف منها وما لم يأكلها، ولا بأس بأكل الهدهد والخطاف اهـ كما تقدم.

ولما أنهى الكلام على ما احتوى عليه كتاب الجامع من الأشياء الكثيرة المتنوعة

ص: 380