الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جلال الدين السيوطي
حياته
السيوطي عالم جليل، متعدد المواهب، كثير التأليف، بعيد الصيت، طرق مختلف الموضوعات والعلوم، فأجاد فيها وبرز، وكان أحد كبار الموسوعيين في عصره، ونحاول أن نتعرف على السيوطي الإنسان، والسيوطي العالم المؤلف، في شيء من الإيجاز، ذلك لأن الدراسات التي تحدثت عن السيوطي وكتبه كثيرة، لدى القدامى والمحدثين.
اسمه عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق، جلال الدين الخضيري السيوطي، ولد سنة 849 هـ/ 1445 م، وتوفي سنة 911 هـ/ 1505 م، وقد ترجم السيوطي لنفسه مرتين؛ الأولى في كتابه (التحدث بنعمة الله) سنة 896 هـ[1] ، وهي ترجمة واسعة، تحدث فيها عن والده ومكانته وعلمه، وعن نفسه، ورحلاته، ومسموعاته، ومؤلفاته، وعلمه، وتبحره في العلوم، وبلوغه رتبة الاجتهاد فيها، وخلافاته مع بعض معاصريه، ولهذه الترجمة قيمة كبيرة في التعريف بحياته، والجوانب التي لا يدركها من ترجم له من معاصريه.
والترجمة الثانية، في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) ، كتبها سنة 903 هـ، أي قبل وفاته بقليل، وهي ترجمة ليست وافية كالأولى، ولكنها عبرت عن حياته العلمية وثقافته خير تعبير، فقد تحدث فيها عن حياته وأصله ونسبه وعلمه، وحفظه القرآن في صغره، وقراءته على الشيوخ، والكتب التي قرأها، وبدء تأليفه، ومقدار ما ألف في ذلك الوقت، ثم ذكر رحلاته وحجه لبيت الله، والعلوم التي برع فيها، والعلوم التي نهل منها ولم يبلغ فيها شأوا بعيدا، وكذلك العلوم التي عزف عنها كالفلسفة والرياضيات، وذكر مسردا بمؤلفاته موزعة حسب الفروع.
وخير من يرسم معالم حياته هو السيوطي نفسه، وقد أعجبتني هذه الترجمة الصريحة المباشرة، ولذلك أدون طرفا منها، وإليك حديثه عن نفسه في كتاب (حسن المحاضرة) ، وفي بدء كلامه يمهد لذلك بتبرير لهذه الترجمة، وبأنه ليس مبتدعا في هذا الأمر، بل هو يقتدي بمن قبله من العلماء الذين ترجموا لأنفسهم، وأشهر هؤلاء: الإمام عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور، وياقوت الحموي في معجم الأدباء، ولسان الدين ابن الخطيب في تاريخ غرناطة، والحافظ تقي الدين الفارسي في تاريخ مكة، والحافظ أبو الفضل ابن حجر في قضاة مصر، وأبو شامة في الروضتين، ويقول:
[1] كتب اليزابث ماري سارتين رسالتها عن هذه الترجمة، ونالت بها درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج.
«أما جدي الأعلى همام الدين، فكان من أهل الحقيقة، ومن مشايخ الطرق، ومن دونه كانوا من أهل الوجاهة والرياسة، منهم من ولي الحكم ببلده، ومنهم من ولي الحسبة بها، ومنهم من كات تاجرا في صحبة الأمير شيخون، وبنى مدرسة بأسيوط ووقف عليها أوقافا، ومنهم من كان متمولا، ولا أعرف منهم من خدم العلم حق الخدمة إلا والدي، وسيأتي ذكره في قسم الفقهاء الشافعية، وأما نسبتنا بالخضيري، فلا أعلم ما تكون إليه هذه النسبة، إلا الخضيرية محلة ببغداد، وقد حدثني من أثق به، أنه سمع والدي رحمه الله تعالى، يذكر أن جده الأعلى كان أعجميا، أو من الشرق، فالظاهر أن النسبة إلى المحلة المذكورة.
وكان مولدي بعد المغرب، ليلة الأحد مستهل رجب، سنة تسع وأربعين وثمان مئة، وحملت في حياة أبي إلى الشيخ محمد المجذوب، رجل كان من كبار الأولياء، بجوار المشهد النفيسي فبرك عليّ، ونشأت يتيما، فحفظت القرآن ولي دون ثمان سنين، ثم حفظت العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، وشرعت في الاشتغال بالعلم من مستهل سنة أربع وستين، فأخذت الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ، وأخذت الفرائض عن العلامة فرضي زمانه، الشيخ شهاب الدين الشارمساحي، الذي كان يقال إنه بلغ السن العالية، وجاوز المائة بكثير، والله أعلم بذلك، قرأت عليه في شرحه على المجموع، وأجزت بتدريس العربية في مستهل سنة ست وستين، وقد ألفت في هذه السنة، فكان أول شيء ألفته شرح الاستعاذة والبسملة، وأوقفت عليه شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البلقيني، فكتب عليه تقريظا، ولازمته في الفقه إلى أن مات، فلازمت ولده فقرأت عليه من أول التدريب لوالده، إلى الوكالة، وسمعت عليه من أول الحاوي الصغير إلى العدد، ومن أول المنهاج، إلى الزكاة، ومن أول التنبيه إلى قريب من باب الزكاة، وقطعة من الروضة من باب القضا، وقطعة من تكملة شرح المنهاج للزركشي، ومن أحيا الموات إلى الوصايا، أو نحوها، وأجازني بالتدريس والإفتاء من سنة ست وسبعين، وحضر تصديري، فلما توفي سنة ثمان وسبعين، لزمت شيخ الإسلام شرف الدين المناوي، فقرأت عليه قطعة من المنهاج، وسمعته عليه في التقسيم، إلا مجالس فاتتني، وسمعت دروسا من شرح البهجة، ومن حاشية عليها، ومن تفسير البيضاوي.
ولزمت في الحديث والعربية، شيخنا الإمام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي، فواظبته أربع سنين، وكتب لي تقريظا على شرح ألفية ابن مالك، وعلى جمع الجوامع في العربية، تأليفي، وشهد لي غير مرة بالتقدم في العلوم، بلسانه وبنانه، ورجع إلى قولي مجردا في حديث فاته، أورد في حاشيته على الشفا، حديث أبي الجمرا في الإسرا، وعزاه إلى تخريج ابن ماجة، فاحتجت إلى إيراده بسنده، فكشفت ابن ماجة في مظنته، فلم أجده، فمررت على الكتاب كله، فلم أجده، فاتهمت نظري، فمررت مرة ثانية فلم أجده،
فعدت ثالثة، فلم أجده، ورأيته في معجم الصحابة لابن قانع، فجئت إلى الشيخ وأخبرته، فبمجرد ما سمع مني ذلك، أخذ نسخته، وأخذ القلم فضرب على لفظ ابن ماجة، وألحق ابن قانع في الحاشية، فأعظمت ذلك وهبته، لعظم منزلة الشيخ في قلبي، واحتقاري في نفسي، فقلت: ألا تصبرون لعلكم تراجعون، فقال: لا، إنما قلدت في قولي ابن ماجة، البرهان الحلبي.
ولم أنفك عن الشيخ، إلى أن مات، ولزمت شيخنا العلّامة أستاذ الوجود محيي الدين الكافيجي، أربع عشرة سنة، فأخذت عنه الفنون، من التفسير والأصول والعربية والمعاني، وغير ذلك، وكتب لي إجازة عظيمة، وحضرت عند الشيخ سيف الدين الحنفي دروسا عديدة في الكشاف والتوضيح وحاشيته عليه، وتلخيص المفتاح والعضد، وشرعت في التصنيف في سنة ست وستين، وبلغت مؤلفاتي إلى الآن ثلاث مئة كتاب، سوى ما غسلته ورجعت عنه، وسافرت بحمد الله تعالى، إلى بلاد الشام، والحجاز، واليمن، والهند، والمغرب، والتكرور، ولما حججت شربت من ماء زمزم، لأمور منها: أن أصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.
وأفتيت في مستهل سنة إحدى وسبعين، وعقدت إملاء الحديث من مستهل سنة اثنين وسبعين، ورزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، على طريقة العرب والبلغاء، لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلا عمن هو دونهم، وأما الفقه، فلا أقول ذلك فيه، بل شيخي فيه أوسع نظرا، وأطول باعا، ودون هذه السبعة في المعرفة، أصول الفقه، والجدل، والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض، ودونها القرآات، ولم آخذها عن شيخ، ودونها الطب، وأما علم الحساب، فهو أعسر شيء عليّ، وأبعده من ذهني، وإذا نظرت في مسئلة تتعلق به، فكأنما أحاول جبلا أحمله، وقد كملت عندي الآن آلات الجهاد بحمد الله تعالى.
أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى، لا فخرا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر، وقد أزف الرحيل، وبدا الشيب، وذهب أطيب العمر، ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا، بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها، لقدرت على ذلك، من فضل الله، لا بحولي، ولا بقوتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.
وقد كنت في مبادي الطلب قرأت شيئا في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه، فتركته لذلك، فعوضني الله تعالى عنه علم
الحديث، الذي هو أشرف العلوم، وأما مشايخي في الرواية سماعا وإجازة، فكثيرا ما أوردتهم في المعجم الذي جمعتهم فيه، وعدتهم نحو مئة وخمسين، ولم أكثر من سماع الرواية، لاشتغالي بما هو أهم، وهو قراءة الدراية» . ثم يذكر مصنفاته حسب الموضوعات، وسيرد الكلام عليها [1] .
عاش السيوطي حياة حافلة بالنشاط العلمي والاجتماعي، وقد شغل مناصب جليلة، وقامت بينه وبين منافسيه خصومات ودرس على كثرة من شيوخ عصره، كما أخذ الحديث عن نساء فضليات، وقد مر في ترجمته لنفسه أنه نشأ يتيما، وكفله كمال الدين ابن الهمام الذي كان وصيا عليه، فتعهده بالرعاية والتعليم، ومن ذلك أنه حفظ القرآن وهو دون
[1] حسن المحاضرة 1/155- 157، ط مطبعة الموسوعات، مصر، و 1/335- 337 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1967 م.
وانظر في ترجمة السيوطي في:
الضوء اللامع 4/68، بدائع الزهور 4/83، مفاكهة الخلان 1/301- 302، ترجمة السيوطي، شمس الدين محمد الداوودي، مخطوطة توبنجن رقم 10134، النور السافر ص 54، الكواكب السائرة 1/228، شذرات الذهب 8/53، البدر الطالع 1/333، فهرس الفهارس والأثبات 2/352، تاريخ الأدب الجغرافي، كراتشكوفسكي، 2/488، المؤرخون في مصر القرن التاسع الهجري ص 56، مؤرخو مصر الإسلامية ص 142، وممن ألف عن السيوطي أو عن جانب من علمه: قبر الإمام السيوطي وتحقيق موضعه، أحمد تيمور، القاهرة 1927، أدب السيوطي، دراسة نقدية، قرشي عباس دندراوي، القاهرة 1974، السيوطي النحوي، عدنان سلمان، بغداد 1976، جلال الدين السيوطي، بحوث ألقيت في ندوة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة 1976، جلال الدين السوطي مسيرته العلمية ومباحثه اللغوية، مصطفى الشكعة، القاهرة 1981، مكتبة الجلال السيوطي، أحمد الشرقاوي إقبال، الرباط 1977، جلال الدين السيوطي، منهجه وآراؤه الكلامية، محمد جلال شرف، بيروت 1981، دليل مخطوطات السيوطي وأماكن وجودها، أحمد الخازن ومحمد الشيباني، الكويت 1983، جلال الدين السيوطي وفن المقامات، السيد علي حسن، مجلة كلية الآداب، سوهاج 1983، شرح مقامات جلال الدين السيوطي، سمير الدروبي، بيروت 1989، جلال الدين السيوطي، عصره وحياته وآثاره وجهوده في الدرس اللغوي، طاهر سليمان حمودة، القاهرة 1989، جلال الدين السيوطي وأثره في الدراسات اللغوية، عبد العال سالم مكرم، بيروت 1989، السيوطي وجهوده في علوم القرآن، عبد الحليم هاشم الشريف، القاهرة 1991، فن المقامة بين البديع والحريري والسيوطي، أحمد أمين مصطفى، القاهرة 1991، ترجمة الشعراني لشيخه السيوطي، تحقيق سمير الدروبي، مجلة جامعة مؤتة، 1993، حياة جلال الدين السيوطي مع العلم من المهد إلى اللحد، سعدي أبو جيب، دمشق 1993، عناية السيوطي بالتراث الأندلسي، صلاح جرار، مجلة مؤتة 1995، أشعار أندلسية ومغربية مستخرجة من كتاب المحاضرات والمحاورات للسيوطي، فايز القيسي، عمان 1999، السيوطي ورسالته:
فهرست مؤلفاتي (العلوم الدبنية) ، سمير الدروبي، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني 1999، الرمز في مقامات السيوطي، سمير الدروبي، عمان 2001، وغير هؤلاء ممن فاتنا الاطلاع عليه، هذا فضلا عن الدراسات التي كتبت في مقدمات كتب السيوطي، التي كتبها المحققون، وهي كثيرة.
الثامنة من عمره، وحفظ كثيرا من المتون والكتب، في الفقه والنحو واللغة وغيرها من الفنون، وأتاحت للسيوطي كثرة أسفاره أن يأخذ عن مشايخ من مصر والشام والحجاز، بلغ عددهم كما يذكر السيوطي ست مئة نفس، وقد أجازه أكثرهم، يقول:«وأجاز لي خلق من الديار المصرية والحجاز وحلب، وقد جمعت معجما في أسماء من سمعت عليه أو أجازني، أو أنشدني شعرا فبلغوا نحو ست مئة نفس» [1] ، ومن شيوخه الذين أخذ عنهم ولازمهم مدة طويلة شهاب الدين الشارمساحي، وشرف الدين المناوي، ومحيي الدين الكافيجي، وجلال الدين المحلي، وعلم الدين البلقيني، وتقي الدين الشّمنّي، وعبد القادر ابن أبي القاسم الأنصاري السعدي، وغيرهم، أما النساء اللواني سمع منهن وأخذ عنهم الحديث فيذكر منهن: أم الهنا المصرية بنت القاضي ناصر الدين محمد البدراني، وعائشة بنت عبد الهادي، وزينب بنت الحافظ عبد الرحيم العراقي، وأم الفضل بنت محمد المقدسي، وأم هاني بنت الهوريني، وغيرهن [2] .
لقد أجيز السيوطي للتدريس سنة 866 هـ، وبدأ نجمه في الصعود، وصار يفتي من سنة 871 هـ، ثم أملى الحديث بالجامع الطولوني، وكان إملاء الحديث قد توقف بموت ابن حجر العسقلاني، فجدده السيوطي [3] ، ويقول السيوطي إنه في سنة 875 هـ، تنازع الناس في أمر الشاعر الصوفي عمر بن الفارض، واسهم السيوطي في هذا النزاع منحازا لابن الفارض، وعلى أثر ذلك لقيت مؤلفات السيوطي رواجا كبيرا، حتى إنها دخلت بلاد المغرب على يد ابن المجحود المصراتي، ووصلت كذلك إلى بلاد الروم والشام والحجاز وغيرها [4] ، وفي سنة 877 هـ بلغ رتبة الاجتهاد [6] ، ثم عين في مشيخة الخانقاه البيبرسية سنة 891 هـ[7] ، وكثر خصوم السيوطي كلما علت مكانته وذاع صيته، وكان أشد خصومه الشيخ السخاوي وابن الكركي، وكان السيوطي قد كتب مقامته (الكاوي في تاريخ السخاوي) ، وهي مقامة شديدة قاسية نال فيها من السخاوي وكتابه في التاريخ، ولم يبق له علما ولا قدرا، ومما قاله في وصف خصمه: «يا أرباب النّهى والألباب، وأصحاب المعارف والآداب..... ما ترون في رجل ألف تاريخا جمع فيه أكابر وأعيانا، ونصبه
[1] التحدث بنعمة الله ص 43.
[2]
حسن المحاضرة 1/338، وجلال الدين السيوطي لمصطفى الشكعة ص 15- 23، 27- 37.
[3]
التحدث بنعمة الله ص 88- 89.
[4]
التحدث بنعمة الله ص 155- 159.
[5]
السابق ص 90، وبدائع الزهور 3/82، وشرح مقامات جلال الدين السيوطي 1/33.
[6]
صون المنطق ص 1.
[7]
بدائع الزهور 3/228.
لأكل لحومهم خوانا؟ ملأه بذكر المساوىء وثلب الأعراض، وفوّق فيه سهاما على قدر أغراضه والأعراض هي الأغراض، جعل لحم المسلمين من جملة طعامه وآدامه، واستغرق في أكلها أوقات فطره وصيامه، ولم بفرّق فيه بين جليل وحقير، ولا بين مأمور وأمير، ولا بين مرؤوس ورئيس، ولا بين رخيص القدر وغال نفيس، وامتد حتى إلى العلماء الأعلام، وقضاة القضاة ومشايخ الإسلام، وأرباب المناصب والحكام، وهو على هذا حقير نقير، لا يباع في سوق العلم بقطمير، لا نسبه في الأنساب عال، ولا حسبه إذا قوّمت الأحساب غال، ولا يزداد إلا جهلا على كر الأيام وممر الليالي» [1] ، وعلى هذا المنوال يمضي السيوطي في هجاء السخاوي والنيل منه، وكان السخاوي شديدا على السيوطي حين ترجم له في كتابه الضوء اللامع، وقد اتهم السيوطي بسرقة بعض مؤلفاته، والإغارة على كتب المكتبة المحمودية، واغتصاب الكتب القديمة التي لا عهد للمعاصرين بها، وكان من خصوم السيوطي الأشداء فضلا عن السخاوي كل من: أحمد بن الحسين بن العليف، والبرهان ابن الكركي، وأحمد بن محمد القسطلاني، والشمس الجوجري، والشمس الباني، وقد أفرد السيوطي لبعض خصومه مقامة أو رسالة في الرد عليه وهجائه أقسى هجاء، فألف عن ابن الكركي مقامة باسم:(الدوران الفلكي على ابن الكركي)[2] ، وفي رسائله ومقاماته نجد ردوده على خصومه وإن لم يذكر في بعضها أسماءهم، من ذلك مقامة باسم:(طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة)، ورسالة باسم:(القول المجمل في الرد على المهمل) ، وغير ذلك، وكان ممن وقف ينافح عن السيوطي وينصره تلميذه ابن إياس (المتوفى سنة 930 هـ) ، وجاء بعد ثلاثة قرون محمد بن علي الشوكاني (المتوفى سنة 1250 هـ) ليدافع عن السيوطي وينصفه ويرد على مزاعم السخاوي [3] .
إن خصوم السيوطي لهم ما يبرر خصومتهم، فالسيوطي قد نال منزلة كبيرة في علمه وجاهه، وزاد حسد حساده وخصومة خصومه، حين عهد إليه الخليفة المتوكل على الله عبد العزيز، بوظيفة قاضي القضاة سنة 902 هـ، يولي من يشاء ويعزل من يشاء، فكبر ذلك على القضاة وقالوا: «ليس للخليفة مع وجود السلطان حلّ ولا ربط، ولا ولاية ولا عزل، ولكن الخليفة استخف بالسلطان لكونه حديث السن.. فلما قامت الدائرة على الخليفة، رجع عن ذلك، وبعث أخذ العهد الذي كتبه للشيخ جلال الدين السيوطي..
وكادت أن تكون فتنة بسبب ذلك» [4] .
[1] شرح مقامات السيوطي 2/933.
[2]
شرح مقامات السيوطي 1/371.
[3]
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/333.
[4]
بدائع الزهور 3/339.
وفي سنة 903 هـ ثار عليه صوفية الخانقاه البيبرسية، وكادوا أن يقتلوه، فقد حملوه بأثوابه ورموه في الفسقية [1] ، وفي سنة 906 هـ غضب عليه السلطان العادل طومان باي، وأراد أن يفتك به، فتوارى السيوطي، وبقي متواريا مئة يوم، وهي مدة سلطنة طومان باي [2] .
وفي غمرة هذه الأحداث، واشتداد هجمة الخصوم والحساد، قرر السيوطي أن يعتزل التدريس والإفتاء، ويلزم بيته للتأليف والعبادة، وكتب في ذلك المقامة اللؤلؤية التي يبين فيها سبب اعتزاله، والسيوطي يؤرخ لنفسه في كتبه ويسجل كل حدث ينزل به أو يقرره هو، سجل جل هذه الأمور في كتبه ورسائله ومقاماته، نقرأ ذلك في:(المقامة المزهرية المسماة بالنجح إلى الصلح)[3]، يقول فيها: إنه تصدى للإفتاء سبع عشرة سنة، وبقي في الإفتاء والتدريس إلى أن بلغ من العمر أربعين سنة، وبعد ذلك أعتزل، وكذلك في رسالة (التنفيس في الاعتذار من ترك الإفتاء والتدريس)، وفي مقامة:(الاستنصار بالواحد القهار)[4]، يذكر: أنه قاسى كثيرا من تصديه للفتوى، وناله بسبب ذلك ما يكون له عذر في ترك الإفتاء، وكذلك في مقدمة كتابه تنوير الحوالك، أما في:(المقامة اللؤلؤية)[5] ، فيزيد الأمر إيضاحا ويذكر لذلك أسبابا، ويقدم معاذير كثيرة، مبينا اختلال الموازين في ذلك الزمان، وغلبة الجهال والسفهاء على أهل العلم والتقى، يقول بنبرة غاضبة حزينة: «يا معشر الأحباب الصلحاء، وألى الألباب النصحاء، ومن لاح له أمر فلام عليه ولحا، إلى كم تكثرون عليّ الكلام، وتكبرون لديّ الملام
…
أليس هذا زمان الصبر، الصابر فيه كقابض على الجمر؟ رأينا فيه ما أنذر به الرسول، وصحت به الأحاديث والنقول لكل سئول، من آيات وعلامات، ما كانت تقع فيما مضى منامات، ويود كل لبيب لو أنه عند المنى مات، وما من آية إلا وقد أمر النبي، عليه الصلاة والسلام، بأن يلزم العالم عندها خاصة نفسه، ويجلس في بيته ويسكت، ويدع العوام من ذلك الشح المطاع، ودنيا مؤثرة، وهوى له ذو اتباع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وذلك عين الابتداع، قد مرجت الأمانات والعهود، وكثر القائلون بالزور والشهود، وجم الاختلاف، وقل الائتلاف، وكذّب الصادق، وصدّق الكاذب المائق، وخوّن الأمين وأتمن الخائن ومن يمين
…
وتعلم المتعلم لغير العمل، وكان التفقه للدنيا وليس
[1] بدائع الزهور 3/388.
[2]
بدائع الزهور 3/471، 4/5- 6.
[3]
شرح مقامات السيوطي 2/1041.
[4]
المصدر السابق 1/225.
[5]
السابق نفسه 2/996.
له في الآخرة أمل، وأهين الكبير، وقدّم عليه الصغير، ورفعت الأشرار، ووضعت الأخيار، فلا يتبع العليم، ولا يستحى من الحليم.. «وهكذا يمضي السيوطي في بيان ما آلت إليه أمور الناس، والسوء الذي عمّ وطمّ، ويجد لكل ذلك مبررا لترك التدريس والعزلة ولزوم البيوت، يقول: «فلنجلس في البيوت، ولنلزم السكوت، ولنتّق الله في خاصة نفسنا، ولندع عامة الأمور إلى أن نحل برمسنا» ، ولم يكن السيوطي في هذا القرار مبتدعا، بل سبقه إلى ذلك جلة من العلماء، وهو يقتدي بالفضلاء من الأوائل، يقول:
«وكم من عالم قبلي قد قبل هذه الوصية، إذ رأى ما ليس له به قبل، وترك الإقراء والإفتاء، وأقبل على خاصة نفسه والعمل، وقد اقتديت بهم ونعم القدوة، وائتسيت بالحديث الذي هو لكل مؤمن أسوة، طالما قطعت نهاري في التدريس والإفتاء، واستغرقت أوقاتي في نفع الناس، وقتا فوقتا، ولم أسلم على ذلكم من يوليني أذى ومقتا، ويرميني كذبا وبهتا» [1] ، والمقامة طويلة ونفيسة سجل فيها ما كان يعانيه من أهل زمانه من حسد وجور وأذى، وأمور دعته إلى لزوم العزلة وترك مخالطة الناس.
لقد اعتزل السيوطي الناس، واعتزل مجالس السلطان أيضا، وترفع عن قبول هدايا السلاطين، ومما يروى أن السلطان الغوري، وكان ذا ثقافة عالية ومشاركة في الشعر والأدب والتاريخ، وله مجالس مشهورة عرفت بمجالس الغوري، وقد حاول السلطان أن يقرب السيوطي إليه، وأن يسترضيه مما لحق به من أذى في عهد سلفه، ولكن السيوطي آثر العزلة والبعد عن مجالس السلاطين، وكذلك الاعتذار عن قبول هداياهم، فقد أرسل إليه السلطان الغوري هدية هي ألف دينار وخصي، فرد المال، وقال لرسول السلطان:«لا تعد تأتينا قط بهدية، فان الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك» ، وأما الخصي فقد أعتقه السيوطي وجعله خادما في الحجرة النبوية الشريفة [2]، وقد عزز السيوطي موقفه هذا بأن كتب رسالته:(ما رواه الأساطين في عدم التردد على السلاطين)، وقد رويت باسم آخر هو:(رواية الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) ، وروى نجم الدين الغزي أنه نظمها في منظومة لطيفة وأضاف إليها بعض الزيادات [3] ، وهكذا تتسم حياة السيوطي بالعلم والعفة والترفع عن موائد الحكام وعطايا السلاطين.
وفي سنة 911 هـ ودع السيوطي الدنيا بعد أن عاش فيها حياة عريضة خصبة حافلة بالنشاط والعطاء والعمل، وفارق الدنيا عن اثنين وستين عاما، وهو في أوج اكتماله العلمي
[1] شرح مقامات السيوطي 2/996- 1001.
[2]
بدائع الزهور 2/396، وجلال الدين السيوطي، لمصطفى الشكعة ص 108- 109.
[3]
الكواكب السائرة 1/228.