المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكاية القاضي واللص - المحاضرات والمحاورات

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌جلال الدين السيوطي

- ‌حياته

- ‌مؤلفات السيوطي

- ‌من ألف في المحاضرات والمحاورات وما أشبهها:

- ‌معنى المحاضرة

- ‌كتاب المحاضرات والمحاورات

- ‌نسخ الكتاب المخطوطة

- ‌1- نسخة الأصل:

- ‌2- نسخة ب:

- ‌3- نسخة ش:

- ‌4- نسخة ع:

- ‌5- نسخة ل:

- ‌6- نسخة ط:

- ‌من إنشاء الشهاب المراغي [3] في ذكر العلم

- ‌ذكر مستحسنات انتقيتها من طبقات ابن سعد

- ‌ذكر مراثي النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر مستحسنات انتقيتها من كتاب الزهد للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه

- ‌في تاريخ ابن عساكر [4]

- ‌منتقى من المصنف لابن أبي شيبة مما يحسن في المحاضرات

- ‌في تاريخ الصلاح الصفدي

- ‌ذكر مستحسنات انتقيتها من كتاب الغرر من الأخبار

- ‌ذكر مستحسنات انتقيتها من مصنف عبد الرزاق

- ‌أحاديث إعطائه صلى الله عليه وسلم القصاص من نفسه

- ‌من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه

- ‌[في العزلة]

- ‌في حياة الحيوان للكمال الدميري

- ‌[من تاريخ من دخل مصر للمنذري]

- ‌في كتاب البسملة لأبي شامة

- ‌في التذكرة المسماة كنوز الفوائد ومعادن الفرائد

- ‌في كتاب العشق والعشاق تأليف عبد العزيز بن عبد الرحمن بن مهذب

- ‌ذكر المسبحي [1] في تاريخه

- ‌[المختار من تذكرة ابن مكتوم]

- ‌في النهاية لابن الأثير

- ‌وفي تذكرة الوداعي

- ‌ذكر الأصل في المفاخرات

- ‌مفاخرة السيف والقلم

- ‌مقامة تسمى الحرقة للخرقة

- ‌قال وكيع في الغرر

- ‌في كتاب الأشراف لابن أبي الدنيا

- ‌أخرج ابن عساكر في تاريخه

- ‌في تاريخ الصلاح الصفدي

- ‌في كتاب الفرق الإسلامية لابن أبي الدم

- ‌من وضعيات شرف بن أسد المصري

- ‌في تذكرة الوداعي

- ‌في تذكرة ابن مكتوم

- ‌في تاريخ الصلاح الصفدي

- ‌في شرح البخاري للكرماني [1]

- ‌في تاريخ ابن عساكر

- ‌البخاري في التاريخ

- ‌قال البغوي [1] في معجم الصحابة

- ‌المقامة اللازوردية في موت الأولاد

- ‌المقامة المنبجية للإمام زين الدين عمر بن الوردي

- ‌المقامة الصوفية

- ‌منتقى من كتاب التدوين في أخبار قزوين

- ‌ذكر الشيخ أبو منصور الثعالبي في اليتيمة

- ‌رسالة السكين

- ‌قال البغوي في معجم الصحابة

- ‌وقال ابن عبد البر في كتاب العلم

- ‌[حديث أم زرع]

- ‌في التنوير لابن دحية

- ‌المغرب في أخبار المغرب

- ‌في كتاب نزهة المذاكرة وأنس المحاضرة

- ‌في تذكرة الإمام محيي الدين عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي

- ‌من كتاب (اللطائف واللطف) [1] لأبي منصور الثعالبي

- ‌من كتاب (لطائف المعارف) للقاضي أبي بكر النيسابوري

- ‌من كتاب (مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام)

- ‌في تذكرة المقريزي

- ‌حكاية القاضي واللص

- ‌في تاريخ المدينة الشريفة للحافظ جمال الدين المطري [2]

- ‌قال القاضي تاج الدين السبكي [1] في الطبقات الكبرى:

- ‌في تاريخ ابن عساكر

- ‌[الفهارس]

- ‌فهارس الكتاب

- ‌1- فهرس الآيات القرآنية الكريمة

- ‌2- فهرس الأحاديث النبوية

- ‌3- فهرس الشعر

- ‌4- فهرس الأعلام

- ‌5- فهرس القبائل والأمم والشعوب والجماعات

- ‌6- فهرس المواضع والبلدان

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌حكاية القاضي واللص

‌حكاية القاضي واللص

أخبرني شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البلقيني، إجازة عن أبي اليسر أحمد بن عبد الله بن الصايغ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن المردادي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد المقدسي، أخبرنا أبو المحاسن محمد بن السيد بن فارس الصفار، أخبرنا أبو القاسم الخضر بن الحسين بن عبدان الأزدي، أخبرنا أبو الفرج سهل بن بشر الأسفراييني، أخبرنا مشرف بن المرجى المقدسي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محبوب المنصوري [1] ، حدثنا أبو العباس أحمد بن الحسين القاضي بنهاوند [2] ، حدثنا محمد بن الحسين الرازي، حدثني أبي عن جدي، عن محمد بن مقاتل الماشغوري قال: كان محمد بن الحسين [3] يكثر الإدلاج إلى بساتينه، فيصلي الصبح، ثم يعود إلى منزله إذا ارتفعت الشمس وعلا النهار، قال محمد بن مقاتل: فسألته عن ذلك فقال: بلغني في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبّب إليّ الصلاة في الحيطان)[4] ، وذلك أن أهل اليمن يسمون البستان الحائط، قال محمد بن الحسين: فخرجت إلى حائط لي لأصلي فيه صلاة الفجر، رغبة في الثواب والأجر، فعارضني لص جريء القلب/ خفيف الوثب، في يده خنجر كلسان الكلب، ماء المنايا تجول على فرنده، والآجال تلوح في حدّه، فضرب بيده على صدري، ثم مكّن الخنجر من نحري، وقال لي بفصاحة لسان، وجرأة جنان:

انزع ثيابك، واحفظ إهابك، ولا تكثر كلامك فتلاقي حمامك، ودع عنك اللوم وكثرة الخطاب، فلا بد لك من نزع هذه الثياب.

فقلت له: يا سبحان الله، أنا شيخ من شيوخ البلد، وقاض من قضاة المسلمين، يسمع كلامي ولا تردّ أحكامي، ومع ذلك فاني من نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أربعين سنة، ومن علماء الإسلام بكل فريضة وسنّة، أما تستحي من الله أن يراك حين نهاك؟

فقال لي: بل يا سبحان الله، أنت أيضا، أما تراني شابا ملء بدني، أروق الناظر، وأملأ الخاطر، وآوي الكهوف والغيران [5] ، وأشرب ماء القيعان والغدران، وأسلك

[1] في ش: الأنصاري.

[2]

نهاوند: مدينة عظيمة في قبلة همذان، فتحت في زمن عمر بن الخطاب سنة 21 هـ فتحها النعمان بن مقرّن المزني. (ياقوت: نهاوند)

[3]

القاضي: محمد بن الحسين بن عبيد الله العلوي النصيبي، قاضي دمشق وخطيبها، ونقيب الأشراف فيها، كان أديبا بليغا له ديوان شعر، توفي سنة 408 هـ. (الوافي بالوفيات 3/7) .

[4]

مسند أحمد بن حنبل 1/245، 255، صحيح الترمذي، باب الصلاة ص 132.

[5]

الغيران: جمع الغور، كل منخفض من الأرض، والغور من كل شيء: قعره وعمقه. (اللسان: غور) .

ص: 431

مخوف المسالك، وألقي بيدي إلى المهالك [1] ، ومع ذلك فاني رجل وجل من السلطان، مشرد عن/ الأهل والأوطان، وحتى إني [2] أعثر في الندرة بواحد مثلك، وأتركه يمضي إلى منزل رحب، وعيش رطب، وماء عذب، وأبقى أنا ههنا أكابد التعب، وأناصب النّصب، وأجاهد السّغب [3]، وأنشد له [4] :[الوافر]

تري عينيك ما لم ترأياه

كلانا عالم بالترّهات

قال أبو العباس، قال له القاضي: يا هذا، إني أراك شابا فاضلا، ولصا عاقلا، ذا وجه صبيح، ولسان فصيح، ومنظر وشارة، وبراعة وعبارة. قال له اللص: هو كما تذكر، وفوق ما تنشر. قال له القاضي: فهل لك إلى خصلة تعقبك أجرا، وتكسبك شكرا، وتحقبك ذخرا، ولا تهتك مني سترا، ومع ذلك فاني مسلّم الثياب إليك، ومتوفز [5] بعدها عليك. قال اللص: وما هذه الخصلة؟ قال القاضي: تمضي معي إلى البستان، فأتوارى بالجدران، وأسلم إليك الثياب، وتمضي على المسار والمحاب.

قال اللص: يا سبحان الله، تشهد لي بالعقل، وتخاطبني بالجهل،/ ويحك، من أمّنني منك أن يكون لك في البستان غلامان جلدان علجان [6] ، ذوا سواعد شديدة، وقلوب غير رعديدة، يشداني وثاقا، ويسلماني إلى السلطان، فتحكم فيّ آراؤه، ويقضي عليّ ما يشاؤه، فاما أن يوردني الحتف، وإما أن يسومني الخسف.

قال له القاضي: لعمري إنه من لم يفكر في العواقب، فليس للدهر بصاحب، وحقيق بالرجل من كان السلطان له مراصدا، وحقيق باعمال الحيل من كان لهذا الشأن قاصدا، وسبيل العاقل أن لا يغتر بعدوه، بل يكون منه على حذر، وإن كان لا حذر من قدر، ولكني أحلف لك أليّة [7] مسلم، وجهد مقسم، أني لا أوقع بك مكرا، ولا أضمر لك غدرا.

فقال اللص: لعمري لقد حسّنت عبارتك ونمّقتها، وحسّنت إشارتك وطبّقتها، ونثرت [8] حبّ خبرك على فخ خيرك، وقد قيل في المثل السائر على ألسنة العرب،

[1] في ش: في المهالك.

[2]

في ش: ومتى إني.

[3]

في ب: وأشاهد الشغب.

[4]

البيت لسراقة البارقي في ديوانه ص 78 تحقيق حسين نصار، ط لجنة التأليف 7491. ورواية الديوان:

أري عينيّ ما لم ترأياه. والقياس أن يقول: ما لم ترياه، ويكون في الشطر زحاف.

[5]

متوفز: معجل، والوفز: العجلة، وتوفز لكذا: تهيأ له.

[6]

العلج من الرجال: الشديد الكثير الصّرع لأقرانه، المعالج للأمور، والعلج: كل جاف شديد من الرجال.

(اللسان: علج)

[7]

الألية: اليمين.

[8]

في ش: ونشرت.

ص: 432

والمستفيض في عرصات الأدب: (أنجز حرّ ما وعد)[1] ، ووفى بما عهد، أدرك الأسد/ قبل أن يلتقي على الفريسة لحياه، ولا يعجبك من عدوّ حسن محياه، وأنشد:[الخفيف]

لا تخدشن وجه الحديث فانّا

قد كشفناه قبل كشفك عنه

واطلعنا عليه والمتولي

قطع أذن العيار أعير منه [2]

ثم قال اللص: ألم يزعم القاضي أنه كتب الحديث زمانا، ولقي منه من الشيوخ كهولا وشبانا، حتى فاز ببكره وعونه، وحاز منه فقر متونه وعيونه [3] . قال القاضي:

أجل. قال اللص: فأي شيء كتبت في هذا المثل، الذي ضرب لك فيه المثل، وأعملت لك فيه الحيل؟ فقال القاضي: ما يحضرني في هذا المقام الحرج الالتزام، المؤذن صاحبه بالإرغام، حديث أسنده، ولا خبر أورده، فقد قطعت هيبتك كلامي، وصدعت قبضتك عظامي، فلساني كليل، وجناني عليل، وخاطري نافر، ولبي طائر.

قال اللص: فليسكن لبّك، وليطمئن قلبك، اسمع هذا ويكون بثيابك، حتى لا تذهب ثيابك إلا بالفوائد. قال القاضي: هات. قال/ اللص: حدثني أبي عن جدي ثابت البناني [4] عن أنس بن مالك، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يمين المكره لا تلزمه، فان حلف وحنث فلا شيء عليه) ، وأنت إن حلفت حلفت مكرها، وإن حنثت فلا شيء عليك، انزع الثياب.

قال القاضي: يا هذا أعييتني بمضاء جنانك، وذرابة لسانك، وأخذك عليّ الحجج من كل وجه وجانب، بألفاظ كأنها لسع العقارب، أقم ههنا حتى أمضي إلى البستان، فأتوارى بالجدران، وأدفعها إلى صبي غير بالغ، تأمن مكره، تنتفع أنت بها، ولا أنهتك أنا، ولا يجري على الصبي حكومة لصغر سنه، وضعف متنه.

قال اللص: يا إنسان، قد أطلت المناظرة، وأكثرت المحاورة، ونحن على طريق ذي غرر [5] ، ومكان صعب وعر، وهذه المراوغة لا تنتج لك نفعا، ولا تستطيع لما أرومه منك دفعا، ومع هذا فتزعم أنك من أهل العلم والرواية، والفهم/ والدراية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الشريعة شريعتي، والسنة سنتي، فمن ابتدع في شريعتي وسنتي

[1] المثل في مجمع الأمثال للميداني 2/332، والمستقصى في الأمثال 1/384، وفصل المقال ص 85.

[2]

العيار: جمع العير، وهو حمار الوحش.

[3]

قوله: (وحاز منه فقر متونه وعيونه) ، ساقطة من نسخة ب، ل.

[4]

ثابت البناني: ثابت بن أسلم البصري، روى عن أنس وابن الزبير وابن عمر، وغيرهم، له نحو مئتين وخمسين حديثا، وهو ثقة، توفي سنة 127 هـ. (تهذيب التهذيب 2/42) .

[5]

الغرر: الخطر، والتعريض للهلكة.

ص: 433

فعليه لعنة الله) [1] .

قال القاضي: يا رجل، وما ههنا من البدع؟ قال اللص: اللصوصية بنسيئة بدعة، انزع ثيابك، فقد رأيت لك، وأرخيت طولك، وأوسعت مجالك، ولم أشد عقالك، حياء من حسن عبارتك، وقوة بلاغتك، وتقلبك في المناظرة، وصبرك تحت المخاطرة.

فنزع القاضي ثيابه، ودفعها إليه، وبقي في السراويل. فقال اللص: انزع السراويل كي تتم الخلعة. قال القاضي: يا هذا دع عنك هذا الاغتنام، وامض بسلام، ففي ما أخذت كفاية، ودع هذا السراويل [2] ، فانه لي ستر ووقاية، لا سيما وهذه صلاة الفجر قد أزف حضورها، وقرب وقوعها، وأخاف أن تفوتني، فأصليها في غير وقتها، وقد تعمدت تركها رجاء أن أفوز بها في مكان يحطّ فيه وزري، ويضاعف فيه أجري، ومتى منعتني/ من ذلك، كنت كما قال الشاعر:[الكامل]

إنّ الغراب وكان يمشي مشية

فيما مضى من سالف الأحوال [3]

حسد القطاة فرام يمشي مشيها

فأصابه ضرب من العقّال

فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها

فلذاك كنّوه أبا المرقال

فقال اللص: القاضي أيده الله [4] يرجع إلى خلعة غيرها، أحسن منها منظرا، وأجود خطرا، وأنا لا أملك سواها، ومتى لم تكن السراويل في جملتها، ذهب حسنها، وقلّ ثمنها، ولا سيما والتكة مليحة وسيمة، ولها مقدار وقيمة، فدع عنك ضرب الأمثال، واقلع عن ترداد المقال، فاني لست ممن يلهى بالمحال، ما دامت الحاجة ماسة إلى السراويل، ثم أنشأ يقول [5] :[الرجز]

دع عنك ضربك سائر الأمثال

ولتسمعن إن شئت فضل مقال

لا تطلبن مني الخلاص فانّني

أفتي أذا ما جئتني بسؤال

ولأنت إن أبصرتني أبصرت ذا

قول وعلم كامل وفعال

جارت عليه يد الليالي فانثنى

يبغي المعاش بصارم قصّال

فالموت في ضنك المواقف دون أن

ألقى الرجال بذلّة التسآل

[1] الدارمي، المقدمة ص 23.

[2]

السراويل: لباس يذكر ويؤنث، جمعه سراويلات.

[3]

كلمة (يمشي) ساقطة من نسخة ع، في ش: من سائر الأحوال.

[4]

في ش: أيده الله تعالى.

[5]

في ش: يقول الشاعر.

ص: 434

والعلم ليس بنافع أربابه

أو لا فقوّمه على البقّال

ثم قال: ألم يذكر القاضي أنه يتفقّه في الدين، ويتصرّف في فتاوى المسلمين؟ قال القاضي: أجل، قال اللص: فمن صاحبك من أئمة الفقهاء، وصدور العلماء؟ قال القاضي: صاحبني محمد بن إدريس الشافعي، قال اللص: اسمع هذا ويكون بالسراويل، حتى لا يذهب السراويل بالفوائد، قال القاضي: أجل، قال اللص: يا لها من نادرة، ما أغربها، وحكاية ما أعجبها أن يخفى عنك مثل هذا المقدار، وأنت تعتزي إلى الفقهاء والنظّار، إنما أنت محنة على الإسلام، ومعرّة على الحكام، ثم قال: أي شيء قال صاحبك في صلاة الفجر وغيرها وأنت عريان [1]، قال القاضي: لا أدري.

قال اللص: حدثني أبي عن جدي عن محمد بن إدريس الشافعي، يرفعه باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:/ (صلاة العريان جائزة ولا إعادة عليه)[2] ، وتأول في غرقى البحر إذا أعطبوا، وسلموا إلى الساحل. فنزع القاضي السراويل، وقال: خذه، فأنت أشبه بالقضاء [3] مني وأنا أشبه باللصوصية منك، يا من درس على أخذ ثيابي موطأ مالك، وكتاب المزني، ومد يده ليدفعه إليه، فرأى الخاتم في أصبعه اليمنى، فقال: انزع الخاتم، فقال: إن هذا اليوم ما رأيت أنحس [4] منه صباحا، ولا أقلّ نجاحا، إذ رماني بهذا الأمر المنكر، وقصدني بأمر حبوكر [5] ، ويحك ما أشرهك، وأرغبك وأشد طلبك وكلبك، دع هذا الخاتم، فانه عارية معي، وإنما خرجت ونسيته في إصبعي، ولا تلزمني غرامته أكثر من قيمته.

فقال اللص: يزعم القاضي أنه شافعي المذهب، وهو فيه طويل الباع والمنكب، قال:

نعم، قال اللص: فلم تختمت به في اليمين؟ قال القاضي: هو مذهبنا، قال اللص:

صدقت، إلا أنه صار التختم في اليمين من شعار المضادين، فحصل فرق بين/ المخالف والموالف، قال القاضي: ومع هذا فاني أعتقد ولاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وتفضيله على كل المسلمين، من غير طعن على السلف الراشدين، ولا عدول [6] عن السنة والدين، وهذا حلية اعتقادي، وعلى مذهب الشافعي في الحكومة اعتمادي، وعليه سائر أهل بلادي.

[1](وأنت) سقطت من نسخة ب.

[2]

المدونة الكبرى 1/95.

[3]

في ب: أشبه بالقاضي مني.

[4]

كلمة (أنحس) ساقطة من الأصل، ب، ل..

[5]

الحبوكر: كغضنفر، رمل يضل فيه السالك، والداهية. (القاموس المحيط: حبكر)

[6]

في ش: ولا عدوان.

ص: 435

قال اللص: نعم ما ذهبت إليه واعتمدت عليه، إن قال لك قائل: بم استحق عليّ أن يكون أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال القاضي: الجواب في ذلك أن عليا إنما استحق الفضل على من سواه من الصحابة والقرابة، لأنه أقربهم منه لحمة، وأدناهم حرمة، وأزكاهم مركبا، وأطيبهم منصبا. قال اللص: ذلك الذي أوجب له الفضل على من سواه من المهاجرين السابقين والأولين الصادقين؟ قال القاضي: نعم، قال اللص:

فالعباس إذن أفضل منه لأنه أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم منه، لأن الله تعالى يقول في كتابه:

وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ

[1]

، وقد أجمع المسلمون/ أنه لو أن رجلا هلك وترك عمّا وابن عمّ، لكان المال للعم دون ابن العم، وهذا ما لا خلاف فيه.

قال القاضي: فان العباس لا هجرة له، وعليّ له الهجرة، قال اللص: فبطلت [2] علة القرابة، وصار الفضل للهجرة، قال القاضي: نعم، قال اللص: فجعفر بن أبي طالب له هجرة وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو نازعك منازع في أنه أفضل من علي، فما يكون جوابك؟ قال القاضي: فعليّ لم يشرك بالله طرفة عين، ولا علم منه خلف ولا مين [3] ، وهو أقدم إيمانا منه ومن العباس، قال اللص: فبطل إذن الوجه الثاني، وصار الفضل لقدم الإيمان، قال القاضي: نعم، قال اللص: فأبو بكر رضي الله عنه أقدم إيمانا من الكل، قال القاضي: أبو بكر انتقل عن شرك، قال اللص: أليس من لم يشرك، أفضل عندكم ممن أشرك؟ قال القاضي: بلى، قال اللص: فأيما أفضل، عائشة أو خديجة أو غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، اللواتي لم يشركن بالله؟ قال القاضي: خديجة، قال اللص: فبطل إذن/ قدم الإيمان، قال القاضي: إلا أن عليا مع قدم إيمانه، وحسن إيقانه، وإيضاح برهانه، له اتصال نسب وقوة سبب، قال اللص: أو كل من كان أقرب، كان أفضل؟ قال القاضي:

أجل، قال اللص: ففاطمة أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عليّ؟ قال القاضي: فاطمة، قال اللص: فبطلت علّيّة القرابة، قال القاضي: فانّ عليا مع تقدم إيمانه، له جهاد، قال اللص:

فكذلك أيضا إيمان أبي بكر، تقدم إيمان عليّ، وله جهاد وولاية، ولأنه أول من آمن بالله [4] ، وجاهد وسبق إلى الصدق، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين لا معين له من أهل بيته وأقاربه، وأدنى عشيرته وأصحابه، فهو أول من سارع إلى إجابته، ودعا الناس إلى تبعيته، وبذل بين يديه الأموال، ولاقى بمهجته الأهوال، قال القاضي: كيف تقدم أبا بكر على عليّ وهو يعترف أن له شيطانا يعتريه، يقول: ألا إن لي شيطانا يعتريني، فاذا رأيتم ذلك فلا تقربوني،

[1] الأنفال 70.

[2]

في ب: فتطلب علة القرابة.

[3]

في ب، ل: ميل.

[4]

في ش: آمن برسول الله.

ص: 436

لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم [1]،/قال اللص: لعمرك لقد قال هذا في ملأ من المهاجرين والأنصار، إلا أنه ليس على وجه الأرض ذو عقل فاصل، ولا لبّ حاصل، يرى أن أبا بكر رضي الله عنه كان مجنونا، ولا مغيرا مأفونا، ولو كان على مثل هذه الحال، لما خفي أمره على الصحابة والقرابة، ولا تركوا بأسرهم دفعه عن الخلافة [2] بالاحتجاج أنه مجنون، يحتاج إلى علاج، دون إمامة الأمة وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جهل ممن بلغ إليه، وتكلم عليه، وإنما قال ذلك كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما من أحد إلا وله شيطان)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم)[3] ، وإنما قال ذلك أبو بكر، ليتوقوا وقت غضبه، قال القاضي: أليس هو القائل: وليتكم ولست بخيركم؟ [4] قال اللص: في هذا وجوه، منها أنه قال ذلك محتجا على الأنصار، لأنه قد وليهم بالصلاة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر، ولعمري أنه لا يجوز أن يكون/ خير قوم أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: لا أليكم مع عدمه، وقد وليتكم في وجوده، ولست بخيركم، ومنها أنه أراد: ولست بخيركم قبيلة، لأن بني هاشم أعلى منه في ذروة النسب، وأقعد في الصيت والمذهب، يدلهم بهذا على أن هذا الأمر لا يستحقّ بعلو النسب، ولا هو مقصور على بني هاشم دون غيرهم من قريش، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(الأئمة من قريش)[5] .

قال القاضي: كيف تحقق هذا الأمر، وهو يقول: أقيلوني، أقيلوني. قال اللص:

قد قال ذلك لما في إقامة الأمر من تحمل [6] ثقل الإمامة، وذلك لفضله وعقله وورعه وخشيته وثخانة ديانته، لا لما يقعده عن ذلك، ولا ينبغي لفاضل عرضت عليه، أن يظهر المسارعة إليها والوثوب عليها، فان ذلك يلقيه في الظّنّة، ويورطه في التهمة.

قال القاضي: كيف تثبتون له هذا الأمر، وعمر بن الخطاب يقول على المنبر، فسمعه الأسود والأحمر:«ألا إن بيعة أبي بكر [7] كانت فلتة/ وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» . قال اللص: مهما شككنا في شيء، فانّا وإياكم لا نشك أن عمر رضي الله عنه، كان عاقلا، ولم يكن مجنونا مختلطا، وهذا الكلام إن حمل على ما قلتم، صار في حكم الجنون من قائله، لأن عمر يحتاج في إثبات إمامته، والدعاء إلى خلافته لعقد عهد أبي بكر

[1] في ش: أشعاركم وآثاركم.

[2]

في ب، ل: على الخلافة.

[3]

مسند أحمد بن حنبل 4/85، 86، 288، 5/54، 56.

[4]

الاحتجاج للطبرسي 2/152.

[5]

مسند أحمد 4/129، 183، 4/421.

[6]

في ش: من ثقل الإمامة. بدون (تحمل) .

[7]

قوله: (أبي بكر) ساقطة من ب. في ل: بيعة أبا بكر.

ص: 437

رضي الله عنه إليه، ودعاء الناس إلى إتباعه من بعده، فاذا كانت بيعة أبي بكر باطلة، وجب أن يكون عهده إلى عمر كذلك، ووجب أن تكون بيعة عمر باطلة، ووجب أن يقول له الناس من الصحابة والقرابة والأنصار، فأنت أيضا ممن يجب قتلك، ولا يجب العمل على عهدك في الشورى، والمعنى في هذا القول، أن عمر رضي الله عنه كان يعتقد أن أبا بكر كان أفضل الأمة، وإن كان يستحق أخذ [1] الخلافة بالحجة والمناظرة، وإن من بعده يتفاوتون في الرتبة، ولا يستحقون على ذلك الوجه، وقوله:(كانت فلتة) ، أي تمت على غير إعمال فكر وروية، واستوسعت فجأة،/ وقوله:(وقى الله شرها) أي شر الخلاف عليها، وشق العصا عند تمامها، وقوله:(من عاد إلى مثلها فاقتلوه)، إنما أراد إلى مثل قول الأنصار:(منا أمير ومنكم أمير) ، وإرادة إخراج الأمر من قريش إلى غيرهم، وهذان الأمران حرام فعلهما في الدين، وفتنة بين المسلمين.

قال القاضي: فاذا كنت قد فضلت أبا بكر على عليّ، فقد غضضت من عليّ، قال اللص: من قصد إلى ذلك فهو ضال، غير مرشد ولا موفق مسدد، ولو كان ما تذهب إليه وتظنه وتكنّه [2] ، لكان من فضّل عليا على فاطمة والحسن والحسين، فقد غضّ منهم، وعدل بالفضل عنهم، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولا يعتقده مؤمن، فان النبي صلى الله عليه وسلم قال، وقد حمل الحسن والحسين على عاتقه:(نعم المطي مطيكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبو كما خير منكما)[3] ، ولم يرد بذلك غضّا ولا عدولا بالفضل عنهما،/ ولكن تحرّى في ذلك الصدق، وقصد في كلامه الحق.

قال القاضي: فان النبي صلى الله عليه وسلم حمل عليا [4] يوم وقع الأصنام، فأظهر الله الإسلام، قال اللص: هذه فضيلة لعليّ غير مجحودة ولا مردودة، ولكنه قد حمل عائشة وهي صغيرة، وحمل أمامة [5] بنت العاصي بن الربيع على كتفه، وهذا في الرواية مأثور، عن ثقات أهل الحديث مشهور.

قال القاضي: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا من عليّ وعليّ مني)[6]، قال اللص: هذا ما

[1] في ش: يستحق الخلافة.

[2]

في ش: وتظنه وتضمره في نفسك وتكنه.

[3]

في تهذيب تاريخ ابن عساكر 4/207 جاء عن جابر قوله: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حامل الحسن والحسين على ظهره، وهو يمشي بهما، فقلت: نعم الجمل جملكما، فقال: نعم الراكبان هما) ، أما الجزء الأخير من الحديث فقد ورد في موضع آخر، هو قوله صلى الله عليه وسلم:(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما) . (تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/365) .

[4]

في ب: حمل علينا. وهو تحريف.

[5]

في ب، ل: وحمل بنت العاصي. بحذف (أمامة) .

[6]

شرح صحيح البخاري 8/27.

ص: 438

لا ندفعه، ولا نمنعه، ولكنه قال أيضا للعباس:(أنا من العباس والعباس مني)[1] ، فأيّ فضل لعلي على العباس، في هذا الاختصاص؟ قال القاضي: فقد قال لعلي: (أنت أخي)[2]، قال اللص: لعمري لقد قال ذلك مرارا، وأشار إليه سرا وإعلانا وإجهارا، ولكن قال ذلك له على مذهب الفضل له والرفعة لمكانته، أم على طريق الحقيقة؟ قال القاضي: على مذهب المجاز، قال اللص: فنحن وأنتم نروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(واشوقاه إلى إخواني الذين يأتون من بعدي، فيؤمنون بي ولم يروني)[3] ، فسمى المسلمين إخوانا، وقال لأبي بكر/:(أخي ورفيقي وصاحبي)[4]، وقال:(إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر والدا، وعليا أخا)[5] ، فالوالد في المبالغة في المدح والتقريب والفضل، أفضل من الأخ، كما أنه في الحقيقة كذلك، ثم قال:(وزنت بالأمة فرجحت بها، ووزن أبو بكر بالأمة فرجح بها)[6] .

قال القاضي: اسمع هذا، حدثنا حمزة الفوقلي قال، أخبرني عمي، عن أبيه، عن جده، قال، أخبرني الحسن بن علي، قال، أخبرتني فاطمة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبرني جبريل عن كاتبي عليّ أنهما قالا: لم نكتب عليه ذنبا منذ صحبناه، فكيف يساويه مساو، ويناويه مناو)[7] ، وهذا قوله صلى الله عليه وسلم فيه.

قال اللص: اسمع هذا، أخبرني أبي عن جدي، عن أبيه، عن مالك بن أنس، عن نافع عن عبد الله بن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنّ حافظي أبي بكر ليفخران على سائر الحفظة لكينونتهما في صحبة أبي بكر، وذلك أنهما لم يكتبا عليه منذ صحباه ذنبا)[8]، قال القاضي: فان عليا [9] بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة الغار، غير جزوع ولا فزوع، قال اللص: في كلامك هذا إيهام، أن أبا بكر كان مع النبي/ صلى الله عليه وسلم في الغار جزوعا فزوعا، وهو خلاف ما ذهبت إليه.

[1] تهذيب ابن عساكر 7/432.

[2]

الترمذي، مناقب 20، شرح صحيح البخاري 8/78، مسند أحمد بن حنبل 1/230.

[3]

النسائي، إيمان 18.

[4]

عمدة القاري في شرح البخاري 16/177. شرح البخاري 8/18.

[5]

الفوائد المجموعة للشوكاني 384، كشف الخفا للعجلوني 1/258، 508، الموضوعات لابن الجوزي 1/402.

[6]

أبو داود، رؤيا 10، مسند أحمد بن حنبل 4/63، 25، 44، 50، 576.

[7]

لم أجد هذا الحديث في كتب الحديث المعتمدة، وهناك حديث يقرب من معناه في اللآليء المصنوعة للسيوطي 1/189.

[8]

لم أجد هذا الحديث في كتب الحديث المعتمدة.

[9]

في ش: فان عليا رضي الله عنه.

ص: 439

قال القاضي: فالله تعالى يقول: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا

[1]

، قال اللص: الحزن غير الجزع، وإنما حزن أبو بكر [2] أن يصيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شيء، فينهدم سور الإسلام، وينحلّ نظامه، ويفرق التئامه، فلا يعبد الله، فلأجل هذا كان حزنه، وكان أكثر حزنه على دين الله سبحانه وتعالى، ولم يكن حزنه جزعا على نفسه، ولا على ماله وولده وعرسه، كيف يكون كذلك، وقد فارق الأهل والولد والمال والبلد، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعو القبائل، فأما قوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا

، فوجه الدلالة على فضل أبي بكر [3] في هذه الآية من ستة مواضع:

الأول: أن الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر، فجعله ثانيه في الرتبة، فقال:

ثانِيَ اثْنَيْنِ.

الثاني: أنه وصفهما بالاجتماع معا في مكان واحد، لتأليفه بينهما، فقال: إِذْ هُما فِي الْغارِ

. الثالث: أن الله تعالى أضافه إليه لذكره الصحبة، فجمع بينهما لمقتضى الرتبة، فقال: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ

./

الرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي صلى الله عليه وسلم، ورفقه به، ومحله منه، فقال: لا تَحْزَنْ.

الخامس: أنه أخبره أن الله تعالى معهما، على حد سواء، ناصر لهما [4]، فقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا.

السادس: أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر، لأن الرسول عليه السلام، لم تفارقه السكينة قط، قال: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ

، فهذه ستة مواضع، تدل على فضل أبي بكر من آية الغار، ولا يمكنك ولا لغيرك الطعن عليها، ولا النقض لها.

قال القاضي: فان الله تعالى يقول: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ

[5]

، وعنى في هذه الآية عليّا، قال اللص [6] :

فلأبي بكر مثلها، وهو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

[1] التوبة 40، وتمام الآية: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

[2]

في ش: حزن أبي بكر.

[3]

في ب، ل: رضي الله عنه.

[4]

في ش: ناصر لهما معا.

[5]

المائدة 55.

[6]

في ب: قال القاضي، وهو من سهو الناسخ.

ص: 440

وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ

الآية [1] ، فكانت الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكل عنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أبا بكر وحده، فانه لم تأخذه في الله لومة لائم في قتال أهل الردة، فقال له عمر: يا خليفة/ رسول الله، اقبل منهم الصلاة، ودع لهم الزكاة، فالصلاة أفضل قواعد الإسلام، فلم يقبل منه.

قال القاضي: فان الله سبحانه وتعالى يقول: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ

[2]

، نزلت هذه الآية في عليّ، وكانت معه أربعة دنانير، فتصدق منها بدينار سرا، ودينار علانية، ودينار ليلا، ودينار نهارا، فأخبر الله تعالى عنه بفعله، إعلاما بشأنه، وتنبيها على مكانه.

قال اللص: فلأبي بكر مثلها، فان الله تعالى يقول [3] : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى

[4]

، فجعل أعمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شتى، ثم قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى

[5]

، ثم قال: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى

[6]

، نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه، وما أرى [7] أن يخفى عنك، ولا عن مثلك من ذوي الألباب والعلم، فضل ما بين هاتين الآيتين، أنه لا خلاف بين المسلمين/ أن أبا بكر أنفق أربعين ألف درهم، يريد بها وجه الله ربه الأعلى، حتى تخلل بالعباء، فقرا في طاعة الله وطاعة رسوله.

قال القاضي: فان الله تعالى يقول: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ

[8]

، نزلت هذه الآية في عليّ، قال اللص: فلأبي بكر مثلها، قال الله سبحانه: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا

[9]

، نزلت هذه الآية في أبي بكر، وقد أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول من قاتل معه بمكة، وقد اجتمع المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر، فمانعهم عنه ودافعهم دونه،

[1] المائدة 54.

[2]

البقرة 274.

[3]

في ش: قال الله تعالى.

[4]

الليل 1- 4.

[5]

الليل 5، 6.

[6]

الليل 18- 21.

[7]

في ش: وما لدي أن يخفى.

[8]

التوبة 19.

[9]

الحديد 10.

ص: 441

فأخبر الله عنه بذلك.

قال القاضي: فحبّ عليّ فريضة على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم جميعا، فان كان أبو بكر من أمته، دخل في هذه الفريضة، قال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى

[1]

، وقد أجمع أهل البيت أن عليّا أفضلهم منزلة عند الله ورسوله. قال اللص: فلأبي بكر مثلها، قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ

[2]

ولا خلاف/ بين الأمة أن أبا بكر رضي الله عنه إمام السابقين، وأول الصادقين، وأوجب الله على كل مؤمن أن يستغفر له، ولا يستغفر لأحد إلا لمن يحب، فحبه إذن فرض، كما أخبر الله سبحانه، وبغضه كفر.

قال القاضي: فأوجد في ذكر خلافة أبي بكر في التنزيل. قال اللص: نعم، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ

[3]

، وقال تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ

[4]

، فأخبر أن الخلفاء أعظم منزلة، وأرفع درجة عنده من غيرهم، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

[5]

، فذكر خلافته في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم بأن يستخلفهم ووفّى لهم بذلك، وأوجب فرض طاعتهم على أهل زمانهم، وفي بعض هذه دلالة كافية، وحجة شافية، وما أراكم توردون فضيلة إلا ولنا أمثالها، ولا تظهرون منقبة إلا وعندنا أشكالها، ولا تختالون في دفع فضل لنا، إلا وعندنا/ في نقضه حجة قاطعة، وبراهين لامعة، وليس كل خبر يورد، ولا حديث يسند، إلا وعندنا من تأويله فنون، ومن علمه متون وعيون، فان جهلتم الفضل على مثل هذه الأخبار، قلنا: فقد قال في عمر بن الخطاب: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)[6]، وإن قلتم:

إنما الفضل بالشجاعة، فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بها، وقال في حمزة:(أسد الله)، وقال في خالد:(سيف الله)، ثم قال صلى الله عليه وسلم:(أنا في ميزان عمي العباس)[7] .

[1] الشورى 23.

[2]

الحشر 10.

[3]

الأنعام 165.

[4]

النمل 62.

[5]

النور 55.

[6]

المعجم الكبير للطبراني 17/310، وفي عمدة القاري قريب من هذا: عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر) وفي رواية: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك من أمتي أحد، فإنه عمر)(عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، للعيني 16/198) .

[7]

لم أجد هذا الحديث في كتب الحديث المعتمدة.

ص: 442

فلما سمع القاضي جودة منطقه، وحسن نسقه، وقدرته على الكلام، وثباته في الخصام، وقوته في النظر، ومعرفته بالأثر، وروايته للخبر، علم أنه عود بازل [1] ، وقضاء نازل، وعالم لا يجارى، وفقيه لا يمارى، ومتكلم لا يصطلى بناره، ولا يبصر في غباره، وأنه إنما حمله على ذلك ضرورة القلة والإعدام، والأنفة من الحاجة إلى السفلة واللئام، نزع الخاتم من إصبعه، وقال: هاك يا فقيه، يا متكلم، يا محدث، يا شاعر، يا لص، فأخذه منه، وحلّ عقاله، وأوسع مجاله، ونفس خناقه وأطلق/ وثاقه، ومضى عنه وهو يقول:[البسيط]

اعذر أخاك خلاك الذمّ من رجل

صلب المجسّ له ناب وأظفور

لولا تفقدني سلمى لما بكرت

بي نحو ما كنت تخشاه المقادير [2]

قالت وقد رابها عدمي ثكلتك من

راض ببرض معاش فيه تكدير [3]

مهلا سليمى سينفي العار عن هممي

همّ وعزم وإدلاج وتشمير

سأنزع الرزق من أيدي معاشرها

فيهم كريم له خيم ولا خير [4]

قوم إذا أحوج الدهر الخؤون فتى

إليهم مقلته أعين زور [5]

ماذا أوّمل من علم ومن أدب

مع معشر كلهم حول الندى عور

تا الله أطلب من أيديهم أبدا

رزقا ولي فاتك الحدّين مأثور [6]

ثم مضى القاضي إلى منزله، وقد ملأ قلبه ما رأى من شجاعته، وشاهد من براعته، وما راقه من علمه، وشاقه من فهمه، فلبس من فاخر ثيابه، وخرج إلى عدوله وأصحابه، فلما استقر مجلسه، وثاب إليه حسّه وأنسه، حدّث عدوله ما لقي في ليلته من التعب، وقاسى من النّصب، وأخذ في/ وصف اللص فأطنب، ومرّ في مدحه فأسهب، وأراق فأعجب، ثم قال: ولقد قلت فيه أبياتا أنعته فيها، وأذكر مقامه وموقفه [7]، فقيل له: وما الأبيات أيها القاضي؟ فأنشأ يقول: [البسيط]

[1] العود: المسن من الإبل، والبازل: الذي طلع نابه، وبزل الرجل: كملت تجربته، واستحكم رأيه، وأراد هذا المعنى.

[2]

في ب: لولا تعبدني سلمى. في ل: لولا تفندني سلمى.

[3]

في ب، ش، ل: برص معاش، بالصاد المهملة، والصواب: برض، بالضاد المعجمة، والبرض القليل.

[4]

الخيم: الأصل والسجية والطبيعة.

[5]

مقلته: رمقته ونظرت إليه.

[6]

في ش: (تا الله لا أطلب) ، و (فاتك الجنبين) ، ولا يستقيم بها الوزن، وتا الله أطلب: أي لا أطلب.

والمأثور: ذو الأثر، أي القاطع، والمأثور أيضا: الأثير، أي المفضل.

[7]

(وموقفه) ساقطة من ش.

ص: 443

لله لص جريء القلب محتنك

مجرّب العزم قتّال مع السّحر

أبصرته فكأنّ الموت صورته

في كفّه خنجر أمضى من القدر

ومدّ نحوي يدا كانت براحتها

تفيض نفسي من خوف ومن حذر

ومكّن النّصل من نحري وقال ألا

ألق الثياب ولا تقدم على الخطر

فقلت دونك عني إنني رجل

شيخ فقيه وقاض من بني عمر

يرى الورى كلّهم فضلي ويرفعني

علمي ويشهد لي في البدو والحضر [1]

أما تخاف أما تخشى الإله بأن

يراك من حيث لا يرضاك فاقتصر [2]

فقال لي بلسان ناطق ذرب

كأنّما قدّ ما يلقيه من حجر

أما تراني فتى لصا تعوّذ بي

من قد رآني من أنثى ومن ذكر

آوي القفار وأحميها ويؤنسني

سيفي وترسي وقلب محضر المرر

تنبو المضاجع عن جنبي لتحملني

نفسي عن الكرّ بين الورد والصّدر

سل إن جهلت مكان الليل عن خبري

يخبرك إن شئت أو لا فاقتحم أثري

أنا الذي أسبق الأقدار في مهل

مني وأكحل جفن العين بالسّهر

ولا أنام على ثأر يؤرقني

من الملوك ولا ثاري على القسر [3]

ما كنت أحسب أني قبل ذاك أرى

ليثا يحلّ لنا في صورة البشر

فلو أبو هاشم والشافعي وأبو

حنيفة وابن جهم المجبر القدري

ومالك مقلتهم عينه لقضى

على ثيابهم في مجلس النظر

أو لو تأبط أو لو أن عروة أو

عمرو بن معدي أو ذا النابل النمر [4]

لقيتهم ولظى الهيجاء مسعرة

ترمي رحاها حماة البأس بالشرر

لأوردتهم ظباه موردا كدرا

مرا وكيف لهم بالمورد الكدر

فمن عذيري ممّا قد بليت به

في صبح يوم بدا عن حيّة ذكر

فقال له القوم: ما يقول القاضي في هذا الرجل؟ فقال: ما أقول في رجل تفصح شمائله عن أبوّته، وتنطق مخايله عن مروء ته، هو من قبلي في أوسع عذر، وأفسح أجر، فاني لا

[1] في ب، ل: في العدو والحضر. وهو تحريف.

[2]

في ب، ل: لا يراك فاقتصر. وهو تحريف.

[3]

في ب، ل: على القمر.

[4]

يشير إلى لصوص العرب وفرسانهم وصعاليكهم: تأبط شرا، وعروة بن الورد، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وغيرهم.

ص: 444