الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقامة اللازوردية في موت الأولاد
إنشاء الفقير عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي [1] بسم الله الرحمن الرحيم وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
[2]
، فسر قوم من العلماء الثمرات بالأولاد [3] ، لأنهم ثمرات الفؤاد وفلذ الأكباد، ومصابهم من أعظم مصاب، ومماتهم يصدع القلوب والأوصال والأعصاب، يا له من صدع لا يشعب، وشعب لا يرأب، يوهي القوى، ويقوي الوهى [4] ، وينهي العافية، ويعفو النّهى [5] ، ويوهن العظم، ويعظم الوهن، ويرهن الأعلاق [6] ، ويغلق الرهن، مر المذاق، وصعب لا يطاق، يضيق عنه النطاق، شديد على الإطلاق:[الوافر]
وكيف أطيق أن أنسى حبيبا
…
قطّع ذكره برد الشراب
ألا لا لست ناسيه ولكن
…
سأذكره بصبر واحتساب
لا جرم أنّ الله تعالى حثّ على الصبر الجميل، ووعد على ذلك بالأجر الجزيل، قال الله تعالى، فيما ثبت من الأحاديث القدسية في صحيح السّنّة:(ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنّة)[7] .
وثبت في الأحاديث المتواترة عن النبي المختار: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسّه النار)[8]، وفي لفظ:(من مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، كانوا له حجابا من النار)[9]، وفي لفظ:(احتظر من النار بحظار)[10] ، وجاءت رواية أو اثنان أو واحد، بفضل رحمة العزيز الغفار.
[1] في نسخة ب: من إنشائي. جاءت المقامة ضمن مقامات السيوطي، تحقيق صديقنا الدكتور سمير الدروبي ص 972- 995، ط مؤسسة الرسالة، بيروت، وقد أفدنا من ملاحظاته وتعليقاته.
[2]
البقرة 155- 157.
[3]
منهم الشافعي، ينظر الجامع لأحكام القرآن 2/174.
[4]
الوهى: الضعف والشق في الشيء.
[5]
يعفو: يطمس ويمحو، النهى: العقول.
[6]
الأعلاق: جمع علق، وهو الكريم من المال. (اللسان: علق)
[7]
مسند أحمد بن حنبل 2/417، سنن الدارمي 2/27، الأحاديث القدسية 1/123.
[8]
صحيح البخاري 1/125، موطأ مالك 1/235.
[9]
صحيح البخاري 2/25، مسند أحمد بن حنبل 2/276، 3/306، الجامع الكبير 1/834.
[10]
صحيح مسلم 4/39، والموطأ 1/524.
أولا تطيب نفس الإنسان بما ورد: (أنّ الولد يتلقّى أباه، فيأخذ بثوبه، فلا ينتهي حتى يدخله الله الجنة وإيّاه)[1]، هم:(دعاميص الجنة)[2] ، دخّالون في منازلها بغير جنّة، يتلقون آباءهم من أبواب الجنة الثمانية، من أيّها شاء دخل، حيث سلموا من الحنث والإثم والدّخل [3] ، ما أثقل الولد الصالح في الميزان، وما أنفل غنمه [4] الرابح، حيث يفتح لأبيه أبواب الجنان، وما أسرّه إذ يتلقاه بكأس الشراب وهو في الموقف ظمآن، ذلك تخفيف من ربكم لذنوبكم، ورحمة بعباده المؤمنين، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
[5]
.
ألا إن الذي لم يقدم من ولده شيئا هو الرقوب [6] ، اذكروا ما ابتلى الله به من فراق ولده ثمانين عاما صفيّه يعقوب [7] ،/من حمد ربه واسترجع عند قبض ولده، بنت الملائكة له بيتا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد [8] ، فطوبى لمشهده، وكيف لا يوطن نفسه على فراق الأحباب، ولله كلّ يوم ملك ينادي بباب السماء: يا أيها الناس، لدوا للموت وابنوا للخراب، وأوحى الله ذلك إلى آدم حين أهبطه من الجنان، وصاح به من الطير ورشان [9] ، بحضرة النبي سليمان، قال بعض من تقدم في الزمان [10] :[الطويل]
وللموت تغدو الوالدات سخالها
…
كما لخراب الدور تبنى المساكن
وقال بعض من تأخر [11] : [الوافر]
بني الدنيا أقلّوا الهمّ فيها
…
فما فيها يؤول إلى الفوات
بناء للخراب وجمع مال
…
ليفنى والتوالد للممات
[1] صحيح مسلم 4/39، الموطأ 1/730.
[2]
النهاية في غريب الحديث 2/120، وفي المجازات النبوية للشريف الرضي ص 406 يقول:«هذه استعارة، والدعموص: دويبة صغيرة تكون في مياه العيون، يقال: إنها ضفدع، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبههم للعبهم في أنهار الجنة ومياهها بالدعاميص التي تعوم في قرارات الغدران وجمامها» .
[3]
الدخل: العيب والغش والفساد. (اللسان: دخل)
[4]
ما أنفل غنمه: ما أكثره.
[5]
يوسف 90.
[6]
في النهاية في غريب الحديث 2/249 قال: الرقوب في اللغة، الرجل والمرأة إذا لم يعش لهما ولد، فنقله النبي صلى الله عليه وسلم إلى الذي لم يقدم من الولد شيئا.
[7]
قصص الأنبياء لابن كثير، قصة يوسف 1/306.
[8]
ينظر: الجامع للأصول في أحاديث الرسول 1/349، الزهد، لعبد الله بن المبارك ص 28، وعمل اليوم والليلة لابن السني ص 218.
[9]
الورشان: طائر شبه الحمامة، أكبر قليلا منها.
[10]
البيت لسابق البربري في العقد الفريد 2/69، وتهذيب ابن عساكر 6/38.
[11]
البيتان دون عزو في رحلة الشتاء والصيف لابن كبريت ص 119.
وأعظم ما يسلي الوالد عن صفيّه، مصيبته بسيّده وهاديه ونبيّه، قال صلّى الله عليه، مرشدا بالقول الصائب:(من أصيب بمصيبة، فليذكر مصيبته بي، فانّها أعظم المصائب)[1]، وفي حديث آخر:(من أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن حملها، فانه لن يصاب أحد من أمتي من بعدي بمثلها)[2] .
ومن أحسن ما كتب به شاعر إلى أخيه، يعزيه عن ابنه ويسليه [3] :[الكامل]
اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد
…
واعلم بأنّ المرء غير مخلّد
وإذا ذكرت محمّدا ومصابه
…
فاذكر مصابك بالنبيّ محمّد
ومما يجلب الأسى، ويذهب بعض الأسى [4] ، تذكّر ما وقع للخلق من ذلك، فقلّ أحد إلا وقد سلك به هذه المسالك، كتب ذو القرنين [5] لأمه حين حضرته الوفاة مرشدا:
أن اصنعي طعاما للنساء، ولا يأكل منهن من أثكلت ولدا، فلما فعلت ودعتهن لم تأكل منهن واحدة، وقلن: ما منّا امرأة إلا وقد أثكلت ما هي له والدة، فقالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون هلك ابني، وما كتب بهذا إلا تعزية لي وتسلية عني [6] .
وقالت امرأة من العرب، أفنى الطاعون أهلها واستلب [7] :[الطويل]
ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعة
…
ولكن متى ناديت جاوبني مثلي
وقالت الخنساء وهي تتأسى [8] : [الوافر]
ولولا كثرة الباكين حولي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
[1] الجامع الكبير 1/748، كنز العمال 6655.
[2]
الجامع الكبير 1/956، تهذيب ابن عساكر 4/311، الكامل في الضعفاء لابن عدي 7/2625.
[3]
البيت الأول لأبي العتاهية في ديوانه ص 117، والثاني في هامشه، ونسب البيتان لإبراهيم بن المهدي في مناقب آل أبي طالب 1/205، وبدون عزو في الحيوان 3/473، والتعازي للمبرد ص 81، وعيون الأخبار 3/58.
[4]
الأسى بالضم: الصبر، وبالفتح: الحزن. (اللسان: أسا) .
[5]
ذو القرنين: هو الاسكندر المقدوني، القائد اليوناني المشهور، ترجمته وأخباره في تهذيب ابن عساكر 5/252، ومختار الحكم ومحاسن الكلم لابن فاتك ص 222- 251.
[6]
ورد الخبر في تهذيب ابن عساكر 5/285، ومحاضرات الراغب الأصفهاني 2/512، ومختار الحكم ص 242.
[7]
البيت للحريث بن زيد الخيل في التنبيهات لعلي بن حمزة ص 95، وشرح الحماسة للتبريزي 2/325، والشعر والشعراء ص 157، والأغاني 17/269، ونسب للشمردل بن شريك في شرح الحماسة للتبريزي 2/337، وشرح المضنون به للعبيدي ص 4354، ونسب لنهشل بن حري في شرح الحماسة للتبريزي 2/337.
[8]
ديوان الخنساء ص 84- 85.
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أعزّي النفس عنه بالتأسّي
يذكّرني طلوع الشمس صخرا
…
وأذكره لكلّ غروب شمس
وقالت امرأة مرجّعة [1] من بني عامر بن صعصعة: [البسيط]
ربّيتهم تسعة حتى إذا اتّسقوا
…
أفردت منهم كقرن الأعضب الوحد
وكلّ أمّ وإن سرّت بما ولدت
…
يوما ستشكل ما ربّت من الولد
كان بمكة مقعدان لهما ابن شابّ يقوم بأمرهما، ويسعى في الكسب عليهما وسترهما، فأدركه حمامه، وانقضت مدته وأيامه، فقال صلى الله عليه وسلم معزّيا لكلّ والدين:(لو ترك أحد لأحد، لترك ابن المقعدين)[2] .
أنشد خالد بن صفوان [3] وقد مات ابنه مرددا [4] : [الطويل]
وهوّن ما ألقى من الوجد أنّنى
…
أجاوره في داره اليوم أو غدا
هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، قبض الله أولاده في حياته، ليعظّم له الزّلفى [5] في درجاته، فمات له من الأولاد ستة أو سبعة أو ثمانية نجوم: القاسم، وعبد الله، والطيّب، والطاهر، وإبراهيم، وزينب، ورقيّة، وأم كلثوم، ولم يتأخر بعده من أولاده إلا فاطمة الزهرا، ولم تعش بعده إلا ستة أشهر وليالي زهرا، فكان موتها وموت أبيها وأخيها إبراهيم في تسعة أشهر، أو تنقص شهرا.
كتب الشافعي إلى عبد الرحمن بن مهدي [6]، وأرسل إليه يعزيه في ابنه وقد جزع عليه [7] :[البسيط]
[1] في ش: موجعة. ومرجعة: من الترجيع وهو ترديد الصوت في القراءة أو الانشاد أو النواح.
[2]
ضعيف الجامع الصغير 5/43، ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 2/402، السنن الكبرى للبيهقي 4/66.
[3]
خالد بن صفوان بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم التميمي: من فصحاء العرب المشهورين، كان يجالس عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك، وله معهما أخبار، ولد ونشأ بالبصرة، وكان أيسر أهلها مالا، وكان لفصاحته أقدر الناس على مدح الشيء وذمه، وكان يرمى بالبخل، كف بصره وتوفي سنة 133 هـ.
(وفيات الأعيان 1/243، أمالي المرتضى 4/172، نكت الهميان ص 148) .
[4]
استشهد خالد بن صفوان بهذا البيت وهو لعمر بن حفص، قاله يعزي عبد الله بن علي عم أبي العباس السفاح، والبيت في أمالي الزجاجي ص 9، وبدون عزو في البيان والتبيين 4/97، وحماسة الظرفاء 1/116.
[5]
الزلفى: الدرجة والمنزلة.
[6]
عبد الرحمن بن مهدي بن حسان: أبو سعيد البصري، من حفاظ الحديث، قال أبو حاتم: هو ثقة، توفي سنة 198 هـ. (حلية الأولياء 9/3، طبقات الحفاظ ص 139) .
[7]
دوان الشافعي ص 120.
إني معزيك لا أني على طمع
…
من الخلود ولكن سنّة الدين
فما المعزّى بباق بعد ميّته
…
ولا المعزّي ولو عاشا إلى حين
مات لسليمان عليه السلام ابن فاشتدّ عليه وجده، وتعاظم فقده، فنزل عليه ملكان عليهما السلام، وبرزا له في صورة أخصام، فقال أحدهما: إني بذرت بذرا لأحصده، فلما اشتدّ مرّ به هذا فأفسده، فقال الآخر: إنه بذر على الطريق، فأخذت عليه [1] ، ففسد للمضيق، فقال سليمان للأول: أما علمت أنّ مأخذ الناس على الطريق العابرة، فقال: يا سليمان: فلم تحزن على ابنك وأنت تعلم أنّك ميّت وأنّ سبيل الناس على الآخرة، ثم قال: ما كان ابنك يعدل عندك؟ وما قدره هنالك؟ قال: كان أحبّ إليّ من ملء الأرض ذهبا، قال: فانّ لك من الأجر على قدر ذلك [2] .
وفي تعزية معاذ [3]- وإن تضمن إسناد الحديث وهنا-: اعلم أن الجزع لا يردّ ميتا، ولا يدفع حزنا [4] . وقال الشافعي في تعزيته: أمضّ المصائب فقد سرور، مع حرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر [5] :[الطويل]
تصبّر فانّ الأجر أسنى واعظم
…
ورأيك أهدى للتي هي أقوم
ولو جاز فرط الحزن للمرء لم يفد
…
فما بالنا لا نستفيد ونأثم [6]
وإني عن ندب الأحبّة ساكت
…
وإن كان قلبي بالأسى يتكلّم
أعزيك عن غصن ذوى قبل ما ارتوى
…
وقامت به ورق الثّنا تترنّم [7]
على مثل هذا عاهد الدهر أهله
…
وصال وتفريق يسرّ ويؤلم [8]
وإن منع الغيّاب أن يقدموا لنا
…
فانّا على غيّابنا سوف نقدم
مات لأبي بكرة [9] من الأولاد دفعة واحدة أربعون، ولأنس بن مالك ثلاثة وثمانون ولدا، وذلك بالطاعون [10] . وقلّ أن يكون أحد ممن غبر، إلا وذاق طعم هذا الكأس
[1] أخذت عليه: أي سرت عليه.
[2]
إحياء علوم الدين للغزالي 4/489.
[3]
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري: صحابي إمام مقدم في علم الحلال والحرام، توفي بالطاعون سنة 18 هـ، وقيل 17 هـ. (حلية الأولياء 1/228، الإصابة 6/136) .
[4]
التعازي والمراثي للمبرد ص 148.
[5]
الأبيات لجمال الدين بن نباتة المصري في ديوانه ص 463- 464.
[6]
البيت ساقط من نسخة ب.
[7]
في نسخة ش: قبل ما ارتدى.
[8]
في ع: يسر ومغنم.
[9]
أبو بكرة: عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي، تابعي من أهل البصرة، توفي سنة 96 هـ. (الإصابة 5/226) .
[10]
التعازي والمراثي للمبرد ص 209.
الأمّر، من صحابة وأتباع، ورؤوس وأشياع، وعلماء وزهّاد، وقرّاء وعبّاد، كم من خليفة عهد لولده بالخلافة واستخلفه، فجاءه الموت فأخذه من بين يديه واختطفه. وكم من ملك دانت له الرقاب وذلّت، وفرّت منه الأسود وولّت، وأخذ القلاع والحصون، وحاز من الأموال كلّ كنز مصون، جاء الموت فاستلب ولده، والتهب كبده، ولم يقدر أن يفديه بما حوته يده؟
وكم طرق هذا الطارق من أمير ووزير، ومستشار ومشير، وكبير وصغير، وغني وفقير، وطبيب ولبيب، وعدو وحبيب، كلّ قد دارت عليه هذه الكأس، ولم تفرق بين عار وكاس، فلذلك تمنى أن لا يولد له من تمنّى، وتغنى به من تغنّى، لما تعنّى [1] :/ [الوافر]
أرى ولد الفتى ضررا عليه
…
لقد سعد الذي أضحى عقيما
فامّا أن يربيه عدوّا
…
وإمّا أن يخلّفه يتيما
وإمّا أن يوافيه حمام
…
فيبقى حزنه أبدا مقيما
وبعضهم استجاد الموت وأجاد إذ قال في الإنشاد [2] : [الطويل]
لئن أوحشت ممّن أحبّ منازل
…
لقد آنست ممن أحبّ المقابر
وكنت عليه أحذر الموت وحده
…
فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
وكيف لا يستحسن في هذا الزمان موت الأولاد، وهو الزمان الذي ظهر فيه الفساد، وكثر فيه العناد، ولا يظفر فيه بواحد من الألف ساد، وهو الذي أخبر عنه سيد بني كنانة بقوله:(لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه)[3] .
ولقد أبدع وشنّف [4]، قول العباس بن الأحنف [5] :[المنسرح]
يبكي رجال على الحياة وقد
…
أفنى دموعي شوقي إلى الأجل
أموت من قبل أن يغيرني الد
…
هر فاني منه على وجل
وعزّى رجل رجلا بابن له يسليه عنه، فقال:«الله خير له منك، وثوابه خير لك منه» .
وعزّى آخر بابنة له، فقيل له: «احمد الله على أمرك، حيث أعزها بوقوفك على
[1] البيتان الأول والثاني لأبي العلاء المعري في اللزوميات 2/306 من قطعة.
[2]
البيتان لأبي نواس في رثاء الأمين، في ديوانه ص 581، ورواية البيت الأول فيه:
لئن عمرت دور بمن لا أودّه
…
فقد عمرت ممن أحبّ المقابر
[3]
صحيح البخاري 9/73، مسند أحمد بن حنبل 2/236، كنز العمال 38487 صحيح الجامع الصغير 6/177.
[4]
شنف: أي أمال الأسماع، والشنف: قرط يلبس في أعلى الأذن (اللسان: شنف) .
[5]
البيتان في ديوان العباس بن الأحنف ص 221.
قبرها، ولا أذلها بوقوفها على قبرك» ./
ومما يهون أمر الولد في وفاته، حصول الراحة له من حوادث المرض وآفاته، وما يقاسيه من العنا، وما يكابده من شدة الضنى، حتى يقول الولد الرحيم، وليس له غير دمعة من حميم [1] :[البسيط]
يا ليت علّته بي غير أنّ له
…
أجر العليل وأني غير مأجور
وإذا تذكر الإنسان ما تلقاه به مولاه، وأكرمه به سيده وحباه، هان عليه فراقه وعذب عنده مذاقه، وعلم أنّ المولى خير لعبده من أبويه، وأنّه صار إلى ما هو خير له وأحبّ إليه، من ذلك: أنّ ملك الموت يقرئه من ربه السلام، ويتلقّى روحه حين تخرج الملائكة الكرام، وتلفّ في حريرة بيضاء من حرير الجنان، ويضمّ إليها المسك وضبائر الريحان، وتتلقاه أرواح المؤمنين، ويصعد به إلى السماء مع الآمنين، ولا يزال يعرج به من سماء إلى سما، وكلّ من مرّ عليه من الملائكة مسلّما، إلى أن يأتوا به إلى سدرة المنتهى، وإليها كلّ مؤمن وقف وانتهى، فيقف بين يدي مولاه، ويقولون هذا عبدك فلان توفيناه، فيؤمر بالسجود، فتسجد النسمة [2] ، فيا له من موقف ما أشرفه وأعظمه.
ثم يأتيه بأمانه من العذاب صكّ مختوم، وكتاب مرقوم، ويوسع له في قبره مد البصر، ويجعل له فيه نور مثل نور الشمس والقمر، وينبذ فيه الريحان،/ ويبسط فيه من الحرير ألوان، وتفتح له الملائكة بابا إلى الجنة عيّا، وينظر إلى مقعده فيها بكرة وعشيّا، ويكفيك ما ثبت في السّنّة:(أن القبر روضة من رياض الجنّة)[3] ، وتطلق الروح مرسلة من سجن الدنيا الذي كانت فيه، فانّ الدنيا سجن المؤمن، وخلاصه من ذلك السجن توفيه، ويعطى في قبره ما شاء من أنواع الإيمان، إن شاء أن يصلي صلّى، وإن شاء قرأ القرآن، ويعطى مصحفا من ذهب يقرأ فيه.
وناهيك بمن يحبّه الله من حملة كتابه ويصطفيه، ووردت أحاديث عديدة، إسانيدها مجيدة:(إنّ من حفظ شيئا من القرآن ومات قبل تتميمه، بعث الله إليه ملائكة في قبره يحفظونه ما بقي، ويقومون بتعليمه)[4] ، وكم للمؤمن في قبره من إكرام وامتنان، منها أن يكسى عند وضعه فيه حلّة من الجنان، ويؤذن له في الزيارة والمحادثة لمن في قبورهم من الإخوان، وإذا زاره أحد من معارفه في الدنيا حصل له استئناس، وإذا سلّم
[1] البيت لمسلم بن الوليد في ديوانه ص 323، ونسب البيت لأكثر من شاعر في المصادر الأدبية وكتب التراجم.
[2]
النسمة: نفس الروح. (اللسان: نسم) .
[3]
شرح صحيح الترمذي للأحوذي 9/284.
[4]
لم أجده في كتب الحديث المعتمدة.
عليه ردّ كما يردّ الحيّ من الناس [1] .
أما مقرّ الروح، وما أدراك ما مقرّ الروح، فمختلف بحسب الصاحب، ومتنوع على قدر المراتب، فأرواح في حواصل طير خضر، تسرح في الجنّة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب/ في ظلّ العرش، إذا باتت وباءت [2] ، وأرواح في قبّة خضراء سندسيّة، على بارق نهر بباب الجنة العيّة، يخرج إليهم رزقهم منها غدوة وعشية.
وأرواح الأطفال الذين لم يبلغوا الحنث ولم تجرح، عصافير من عصافير الجنّة ترعى وتسرح، وأرواح في السماء الدنيا أيضا، وأرواح في السماء السابعة، في دار يقال لها البيضا، وأرواح في كفالة جبرائيل [3] ، وأرواح في كفالة ميكائيل، وأرواح في خزانة رميائيل، وأرواح في سبب ممدود بين السماء والأرض، وذلك فيما بين المشرق والمغرب في العرض، وأرواح في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، ولا تلزم، وأرواح تجمع بأريحا [4] ، وتجيء إلى الجابية [5] ، وأرواح ببئر زمزم تتفاوت في المقرّ الأعظم، تفاوتا بحسب مقامها واختلفت على حسب أعمالها وأعظامها [6] .
ولكل روح اتصال ببدنها معنويّ، وتعلق بجسدها قوي، بحيث يصحّ أن يسلّم عليها، وتفهم ما يقع من الخطاب لديها، وتسمع الكلام، وتردّ السلام، وهي في الرفيق الأعلى، والفريق الأحلى، لأنّ الروح لها شأن، لا يشابه شأن الأبدان، بحيث تكون في محالّ متعددة في آن واحد، وعلى ذلك تتنزل مسألة تبدّل الوليّ، وأحاديث جمّة الموارد، وأقرب شبه في ذلك/ الشمس المنيرة فانّها في السماء وأشعتها في الأرض كثيرة [7] .
وقد صحّ الحديث من طرق غزيرة، وأخرجه أحمد والحاكم والبيهقيّ من رواية أبي هريرة:(أنّ أولاد المؤمن في جبل في الجنّة، له وسامة، يكفلهم إبراهيم وسارة، حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة)[8] ، فنعم الوالدان الكافلان هما، وهنيئا مريئا لولد فارق أبويه وأمسى عندهما.
[1] ينظر: الروح لابن القيّم ص 23، 28.
[2]
الروح لابن القيم ص 147- 148.
[3]
في ش: جبريل. ينظر في الملائكة: السيوطي الحبائك في أخبار الملائك ص 15، 26، 69.
[4]
أريحا: مدينة الجبارين في الغور من أرض الأردن بالشام، بينها وبين القدس يوم للفارس في جبال صعبة المسلك. (ياقوت: أريحا) .
[5]
الجابية: قرية من أعمال دمشق، ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان، قرب مرج الصفر في شمالي حوران. (ياقوت: الجابية)
[6]
الروح لابن القيم ص 158- 161.
[7]
الروح ص 150- 153.
[8]
الجامع الكبير 1/116، المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/384، الفوائد المجموعة للشوكاني 267.
وأما من مات من الأطفال وهو يرضع، فانّ له أن يغذى في الجنة، ويروى ويشبع، ورد في الحديث:(إنّ في الجنة شجرة من خير الشجر، لها ضروع كضروع البقر، فمن مات من الصبيان الذين يرضعون، رضعوا منها أجمعون أكتعون أبصعون)[1] .
وورد في الحديث عن سيد بني عبد مناف بن قصيّ: (كلّ مولود ولد في الإسلام فهو في الجنّة، شبعان ريّان، يقول: يا ربّ أورد عليّ أبويّ)[2] .
ومما يغبط فيه الأطفال أنهم ينجون في القبر من هول السؤال، وغيرهم من البالغين يسألون ويقلقلون ويتلتلون [3] ، ويكرّر عليهم السؤال سبعة أيام، ولهذا كان السلف يستحبون عنهم فيها الإطعام، فأعظم بالسلامة من هذا الهول من سلامة، وناهيك بالمعافاة من هذه الفتنة من كرامة، وقد قال النسفي [4]، وهو الإمام الجليل الكبير:«الأنبياء/ وأطفال المؤمنين ليس عليهم حساب، ولا عذاب القبر، ولا سؤال منكر ونكير» [5] .
وتمام النعمة والكرامة، أنهم يكونون في ظلّ العرش يوم القيامة، مأذونا لهم في الشفاعة، مجابا قولهم بالقبول والطاعة، ورد في الحديث من طريق الحفّاظ المتضلعين:(ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش شافعين ومشفّعين)[6]، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ
[7]
، قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر:«هم أطفال المسلمين» [8] . ثم إذا دخلوا الجنة كانوا مع أرفع الأبوين مكانا، وخير الوالدين فضلا وإحسابا.
وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود، وهو كمرفوع السنة:«إن أطفال المسلمين ملوك يخدمون في الجنة» ، وروى ابن حاتم عن خالد بن معدان [9] ذي الجلالة والإمامة:
[1] في نسخة ب: أبضعون. الحديث في التمهيد لابن عبد البر 4/208. أكتعون: تأكيد (أجمعون) ، ولا يستعمل مفردا عنه، واحده: أكتع، وهو من قولهم: جبل كتيع: أي تام (النهاية في غريب الحديث 4/149) أبصع: كلمة يؤكد بها، وهو توكيد مرتب لا يقدم على أجمع. (اللسان: بصع) .
[2]
إتحاف السادة المتقين للزبيدي 10/398.
[3]
يتلتلون: يصرعون. (اللسان: تلل)
[4]
النسفي: عمر بن محمد بن أحمد النسفي، نسبة إلى نسف، من فقهاء الحنفية، عالم بالتفسير والفقه والأدب والتاريخ، له مصنفات كثيرة، توفي بسمرقند سنة 537 هـ. (الفوائد البهية ص 149، لسان الميزان 4/327.
[5]
مجموعة الحواشي البهية على شرح العقائد النسفية 1/161.
[6]
الجامع الكبير 1/526، كنز العمال 39307، تهذيب تاريخ دمشق 5/329.
[7]
سورة المدثر 38، 39.
[8]
تفسير مجاهد 2/706.
[9]
خالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي: تابعي ثقة، ممن اشتهروا بالعبادة، من فقهاء الشام بعد الصحابة، قال خالد بن معدان: أدركت سبعين رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانت إقامته في حمص بالشام، توفي سنة 104 هـ. (تهذيب ابن حجر 3/118- 120، تهذيب ابن عساكر 5/86) .
«إنّ سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة، يتقلّب فيه حتى تقوم القيامة» [1] .
فيا أيها الوالد الجريح، والواله القريح، ماذا البكاء والصريخ، بعد هذا البر الصريح، وماذا العويل والضجيج بعد ما ثبت في الحديث الصحيح، وماذا التلهف والتأسّف، بعد هذا القضاء المربح المريح؟ [2] :/ [الطويل]
فان كنت تبكيه طلابا لنفعه
…
فقد نال جنات النعيم مسارعا
وإن كنت تبكي أنه فات عوده
…
عليك بنفع فهو قد صار شافعا
فطب نفسا بهذا الفضل العظيم، وقرّ عينا بنزول ولدك في جوار الربّ البرّ الرحيم، وانشد عن نفسك قول شاعر حكيم [3] :[الكامل]
جاورت أعدائي وجاور ربّه
…
شتّان بين جواره وجواري
وإن تلوت: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
[4]
، فاتل تلوها:
َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[5]
، واكثر من الاسترجاع كلما ذكرته تفز من الأجر بأوفى نصيب، ففي الحديث:(من ذكر مصيبته وإن تقادم عهدها، فاسترجع كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب)[6]، وورد في آثار حسنة: من استرجع بعد أربعين سنة، وورد في حديث مرفوع على إرساله:(مما يحبط الأجر في المصيبة تصفيق الرجل بيمينه على شماله)[7] .
فصبر جميل ورضى بما قضى المولى الجليل، وتسليم لمن هو أرحم بعبده من أبويه ونعم الكفيل، وتفويض إليه في كلّ صباح ومساء، وغدو وأصيل، وإذا نزع من الشيطان والنفس نزغ [8] ، فنعوذ بالله وحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
[9]
.
[تمت المقامة اللازوردية في موت الأولاد]
[1] الدر المنثور للسيوطي 1/158.
[2]
البيتان دو عزو في الدر الفريد 4/151.
[3]
البيت لأبي الحسن التهامي في ديوانه ص 53.
[4]
يوسف 84.
[5]
التغابن 15.
[6]
الجامع الكبير 1/748، وانظر: عمل اليوم والليلة لابن السني ص 208. واسترجع، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
[7]
لم أعثر عليه في المصادر المعتمدة.
[8]
نزغ الشيطان: وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي. (اللسان: نزغ)
[9]
من سورة آل عمران الآية 173.