الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفاخرة السيف والقلم
[1]
للإمام زين الدين عمر بن مظفر ابن الوردي الشافعي [2]، قال: لما كان السيف والقلم عدّتي العمل والقول، وعمدتي الدول، فان عدمتهما دولة فلا حول، وركني إسناد الملك المعرب عن المخفوض والمرفوع، ومقدمتي نتيجة العدل الدال الصادر عنهما المحمول والموضوع، فكّرت أيهما أعظم فخرا، وأعلى قدرا، فجلست لهما مجلس الحكم والفتوى، ومثّلتهما في الفكر حاضري الدعوى، وسوّيت بين الخصمين في الإكرام، واستنطقت لسان حالهما للكلام، فقال القلم: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها
[3]
، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها
[4]
، أما بعد حمد الله بارىء النسم، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
[5]
، وشرّفه بالقسم، وجعله أول ما خلق وجمّل الورق بغصنه، كما جمّل غصنه بالورق، والصلاة على نبيه القائل:(جفّت الأقلام)[6] ، وعلى آله وصحبه أعلم المعارف، وأعرف الأعلام، فان للقلم قصب السباق [7] ، فالكاتب بسبعة/ أقلام من طبقات الكتاب في السبع الطباق، جرى بالقضاء والقدر، وناب عن اللسان فيما نهى وأمر، طالما أربى على البيض والسمر في ضرابها، وقاتل في البعد والصوارم في القرب نائمة ملء أجفانها، وماذا يشبه القلم في طاعة ناسه، ومشيه لهم على أمّ رأسه.
قال السيف: باسم الله الخافض الرافع، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ
[8]
، فأما بعد حمد الله الذي أنزل آية السيف [9] ، فعظم بها حرمة الحرم، وآمن ضيفه الحيف،
[1] في ب، ل، ط: مفاخرات السيف والقلم.
[2]
ابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعري الكندي، مؤرخ، ولد في معرة النعمان، وولي القضاء بمنبج، وتوفي بحلب، له كتب كثيرة وديوان شعر من كتبه (تتمة المختصر) المعروف بتاريخ ابن الوردي وهو ذيل لتاريخ أبي الفداء وخلاصة له، و (شرح ألفية ابن مالك) ، و (شرح ألفية ابن معطي) و (منطق الطير) منظومة في التصوف، وغيرها، توفي سنة 749 هـ. (بغية الوعاة 365، فوات الوفيات 1/116، النجوم الزاهرة 10/240، الدر الكامنة 3/195، ابن إياس 1/198) . في ب، ط: الشافعي رحمه الله.
[3]
سورة هود آية 41.
[4]
الشمس 3، 4.
[5]
العلق 4.
[6]
المعجم الكبير للطبراني 12/238.
[7]
في ب، ط: فانا القلم.
[8]
الحديد 24.
[9]
يشير إلى قوله تعالى في سورة التوبة الآية 28- 29: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ.
والصلاة على نبيه محمد الذي نفذ بالسيف سطور الطروس، وأخدمه الأقلام ماشية على الرؤوس، وعلى آله وصحبه الذين أرهفت سيوفهم، وبنيت بها على كسر الأعداء حروفهم، فان السيف عظيم الدولة، شديد الصولة، محيي أسطار البلاغة، وأساغ ممنوع الإساغة، من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب، وكيف لا وفي حده الحدّ بين الجد واللعب [1] ، وإن كان القلم شاهدا، فالسيف قاضي، وإن اقترنت محاولته بأمر مستقبل قطعه السيف بفعل ماضي [2] ، به ظهر الدين وهو العدة/ لقمع المعتدين، حملته دون القلم يد نبيّنا، فتشرف بذلك في الأمم شرفا بيّنا، الجنة تحت ظلاله [3] ، ولا سيما حين يسلّ، فترى ودق [4] الدم يخرج من خلاله، زيّنت بزينة الكواكب سماء غمده [5]، وصدق القائل: السيف أصدق إنباء من ضده، لا يعبث به الحامل، ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأنامل، ما هو كالقلم المشبه بقوم عرّوا عن لبوسهم، ثم نكّسوا كما قال تعالى عَلى رُؤُسِهِمْ
[6]
، فكأن السيف خلق من ماء دافق، أو كوكب راشق، لا يشترى كالقلم بثمن بخس، ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس، كم لقائمه المنتظر من أثر في عين أو عين من أثر، فهو في جراب القوم قوام الحب، ولهذا جاء مطبوع الشكل، داخل الضرب.
قال القلم: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ
[7]
يفاخر وهو قائم على الشمال، الجالس عن اليمين، أنا المخصوص بالرأي، وأنت المخصوص بالصّدي [8] ، أنا آلة الحياة، وأنت آلة الردى، ما لنت إلا بعد دخول السعير، وما حددت إلا عن ذنب كبير، أنت تنفع في العمر ساعة، وأنا أفني العمر في الطاعة، أنت للرّهب وأنا للرّغب، وإذا كان/ بصرك حديدا، فبصري ماء ذهب، أين تقليدك من اجتهادي، وأين نجاسة دمك من طهارة مدادي.
قال السيف: أأنف في السماء واست في الماء، أم مثلك يعير مثلي بالدماء، فطالما
[1] يشير إلى قول أبي تمام:
السيف أصدق إنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
[2]
قاضي.... وماضي، كذا جاءت في جميع النسخ، والوجه: قاض وماض، ولعله أثبت الياء لأجل السجعة.
[3]
إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الجنة تحت ظلال السيوف) صحيح مسلم: الجهاد 20، كنز العمال 10482.
[4]
الودق: القطرات من المطر وغيره.
[5]
إشارة إلى قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ
الصافات 6.
[6]
قوله تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ
سورة الأنبياء 65.
[7]
الزخرف 17.
[8]
في ب، ط، ل: بالردى. وأراد بالصدى، أي الصدأ، وجعلها ألفا للسجعة مع الكلمة التي بعدها: آلة الردى.
أمرت بعض فراخي وهي السكين [1] ، فأصبحت من النفاثات في عقدك يا مسكين، فأخلت من الحياة جثمانك، وشقت أنفك، وقطعت لسانك، ويك، إن كنت للديوان فحاسب مهموم، أو للإنشاء فخادم لمخدوم، أو للبليغ فساحر مذموم، أو للفقيه، فناقص في العلوم، أو للشاعر، فسائل محروم، أو للشاهد فخائف مسموم، أو للمعلم، فللحي القيوم، وأما أنا، فلي الوجه الأزهر، والحلية والجوهر، والهيبة إذ أشهر، والصعود على المنبر، شكلي الحسن عليّ، ولم لا حملك الخطيب بدلي، ثم إني مملوك كمالك، فاتك كناسك، أسلك الطرائق، وأقطع العلائق.
وقال القلم: أما أنا فابن ماء السماء، وأليف الغدير، وحليف الهواء، وأما أنت، فابن النار والدخان، وباتر الأعمار، وخوّ ان الإخوان، تفصل ما لا يفصل، وتقطع ما أمر الله به أن يوصل، لا جرم سمّ السيف وصقل/ قفاه، وسقي ماء حميما، فقطع أمعاءه، يا غراب البين، ويا عدّة الحين، ويا معتل العين [2] ، ويا ذا الوجهين، كم أفنيت وأعدمت [3] وأرملت وأيتمت.
قال السيف: يا ابن الطين، ألست ضامرا وأنت بطين، كم جريت بعكس، وتصرفت في مكس [4] ، وزوّرت وحرّمت، ونكّرت وعرّفت، وسطّرت هجوا وشتما، وخلّدت عارا وذمّا، أبشر بفرط روعتك، وشدة ضيقتك، إذا قست بياض صحيفتي بسواد صحيفتك، فألن خطابك فأنت قصير المدة، وأحسن جوابك فعندي حدّة، واقلل من غلظتك وجبهك، واشتغل عن دم في وجهي بمدة في وجهك، وإلا فأدنى ضربة مني تروم أرومتك، فتستأصل أصلك، وتجتث جرثومتك، فسقيا لمن غاب بك عن غابك، ورعيا لمن أهاب لسلخ إهابك.
فلما رأى القلم السيف قد احتدّ، ألان له من خطابه ما اشتد، وقال: أما الأدب فيؤخذ عني، وأما اللطف، فيكتسب مني، فان لنت لنت، وإن أحسنت أحسنت، نحن أهل السمع والطاعة، ولهذا تجمع في الدواة الواحدة جماعة، وأما أنتم، فأهل/ الحدة والخلاف، ولهذا لم يجمعوا بين سيفين في غلاف.
قال السيف: أمكرا ودعوى عفّة، لأمر ما جدع قصير أنفه [5] ، لو كنت كما زعمت ذا أدب، ما قابلت رأس الكاتب بعقدة الذّنب، أنا ذو الصيت والصوت، وغراراي ليّنا
[1] في ب، ط، ل: وهو السكين. والسكين تذكر وتؤنث.
[2]
يريد أن عين الاسم من كلمة السيف وهي الياء حرف علة.
[3]
في ب، ط، ل: كم أفنيت وأقنيت. وأقنى: كسب وجمع.
[4]
المكس: نقص الثمن، والضريبة يأخذها المكّاس ممن يدخل البلد من التجار.
[5]
هو مثل، ينظر مجمع الأمثال 2/196.
مسّ، فيّ ترتحل غرائب الموت، أنا من مارج من نار والقلم من صلصال كالفخار، وإذا زعم القلم أنه مثلي، أمرت من يدق رأسه بنعلي، قال القلم: صه، فصاحب السيف بلا سعادة كالأعزل، قال السيف صه، فقلم البليغ بغير حظ كمغزل.
قال القلم: أنا أزكى وأطهر. قال السيف: أنا أبهى وأبهر.
فتلا ذو القلم لقلمه: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ
[1]
، فتلا صاحب السيف لسيفه:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
[2]
، فتلا ذو القلم لقلمه: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ
[3]
، قال القلم: أما وكتابي المسطور وبيتي المعمور [4] ، والتوراة والإنجيل، والقرآن ذي التبجيل، إن لم تكفّ غربك [5] ، وتبعد مني قربك، لأكتبنّك من الصم البكم، ولأسطرنّ عليك بعلمي سجلا [6] بهذا الحكم.
قال السيف: أما ومتني المتين، وفتحي المبين، ولسانيّ الرّطبين، ووجهيّ الصّلبين/ إن لم تغب عن بياضي بسوادك، لأسخّمنّ وجهك بمدادك، ولقد كسبت من الأسد في الغابة توقيح العين والصلابة، مع أني ما ألوتك نصحا: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً
[7]
.
قال القلم: سلّم إليّ مع من سلّم، إن كنت أعلى فأنا أعلم، أو كنت أحلى فأنا أحلم، أو كنت أقوى فأنا أقوم، أو كنت ألوى [8] فأنا ألوم، أو كنت أطرى فأنا أطرب، أو كنت أعتى فأنا أعتب، أو كنت أقضى، فأنا أقضب.
قال السيف: كيف لا أفضلك والمقر الفلاني شاد أزري. قال القلم: كيف لا أفضلك وهو عز نصره ولي أمري. قال الحكم بين السيف والقلم: فلما رأيت الحجتين ناهضتين، والبيّنتين متعارضتين، وعلمت أن لكل منهما نسبة صحيحة إلى هذا المقر الكريم، ورواية مسندة عن حديثه القديم، لطّفت الوسيلة، ودقّقت الحيلة، حتى رددت القلم إلى كنّه، وأغمدت السيف فنام ملء جفنه، وأخّرت بينهما الترجيح، وسكتّ عمّا هو عندي الصحيح، إلى أن يحكم المقرّ بينهما بعلمه، ويسكّن سورة غضبهما الوافر،
[1] سورة الكوثر الآية الأولى.
[2]
الكوثر 2.
[3]
الكوثر 3.
[4]
إشارة إلى قوله تعالى: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ
. الطور 1- 3.
[5]
في حاشية ب، ل: الغرب، الحد، وغرب الشىء حده.
[6]
في ط: ولأسطرن عليك سجلا. كلمة (بعلمي) ساقطة.
[7]
الزخرف 4.
[8]
ألوى الرجل: أكثر من التمني بإكثاره من حرف (لو) في كلامه.