المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم - المزدكية هي أصل الاشتراكية

[عبد اللطيف سلطاني]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديم:

- ‌الباب الأول

- ‌الفصل الأول:ما هي المزدكية

- ‌الفصل الثاني: من ابتدعها

- ‌الفصل الثالث: أين نبتت شجرتها

- ‌الباب الثاني

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث: وقفة هاهنا للتأمل والاعتبار

- ‌الباب الثالث

- ‌الفصل الأول:الشرائع السماوية وسعادة البشرية

- ‌الفصل الثاني: ما نتج عن توريد المبادئ الأجنبية الهدامة

- ‌الفصل الثالث: الصحافة تنشر ما يساعد على بعث المزدكية

- ‌الفصل الرابع: الصحافة وحماة الدين

- ‌الباب الرابع

- ‌الفصل الأول:ما قدمته الأمة الجزائرية من ضحايا في سبيل الإسلام لا يتفق مع توريد بعض المذاهب الإلحادية

- ‌الفصل الثاني: كيف يكون الدفاع عن الإسلام

- ‌الفصل الثالث: مضار الخمر وغض النظر عنها

- ‌الفصل الرابع: النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمرا

- ‌الفصل الخامس: إنتهاك الحرمات الشرعية سببه من المبادئ الإلحادية

- ‌الفصل السادس: في الحلال عوض عن الحرام {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}

- ‌الباب الخامس

- ‌الفصل الأول:العلماء والتعصب

- ‌الفصل الثاني: من لا يتعصب لمبدئه فلا خير فيه

- ‌الفصل الثالث: الأحزاب السياسية والتعصب

- ‌الفصل الرابع: لمن هذه الأصوات…؟ وما شأنها

- ‌الفصل الخامس:جندي جيش التحرير الجزائري كان صاروخا بشريا صارخا

- ‌الفصل السادس: موقف العلماء من هؤلاء الساخرين

- ‌الفصل السابع:الاحتفال بالآثار الرومانية تعظيم للشرك والمشركين: ما هو الداعي إلى هذا

- ‌الفصل الثامن: الشريعة الإسلامية تنهى عن تعظيم المشركين وآثارهم

- ‌الفصل التاسع: افتخار أمراء المسلمين بإسلامهم، واعتزازهم بدينهم

- ‌الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم

- ‌الباب السادس

- ‌الفصل الأول:المال في نظر (مزدك) واشتراكيته

- ‌الفصل الثاني: بالكد والعمل ندرك المآرب

- ‌الفصل الثالث: هل هذه بوادر المزدكية تلوح في الأفق

- ‌الفصل الرابع: من هو أبو ذر هذا

- ‌الفصل الخامس: من مكائد اليهود للإسلام، واغترار المسلمين بالمظاهر

- ‌الباب السابع

- ‌الفصل الأول:هل الإسلام قادر على حل جميع المشاكل

- ‌الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية

- ‌الباب الثامن

- ‌الفصل الأول:الاشتراكية والدين

- ‌الفصل الثاني: محاربة الاشتراكية الشيوعية للإسلام

- ‌الفصل الثالث: من التبشير المسيحي إلى التبشير الإلحادي

- ‌الفصل الرابع: الاستهتار بالقيم الروحية - وشهد شاهد من أهلها

- ‌الفصل الخامس: تمزيق المصحف، وإحراقه

- ‌الباب التاسع

- ‌الفصل الأول:الاشتراكية الشيوعية، والديموقراطية والحرية

- ‌الفصل الثاني: خداع العناوين

- ‌الفصل الثالث: من ذيول الاشتراكية تحديد النسل

- ‌الباب العاشر

- ‌الفصل الأول:مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية

- ‌الفصل الثاني: منزلة الحاكم في الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: من هو أبو مسلم الخولاني

- ‌الفصل الرابع: الإسلام دين ونظام حياة

- ‌الفصل الخامس: من هم المتهوكون

- ‌الفصل السادس:اعتراف جاسوس فرنسي، قال: "إن الإسلام دين المحامد والفضائل

- ‌الفصل السابع: مأساة اليمن

- ‌الباب الحادي عشر

- ‌الفصل الأول:مفهوم المدنية والتمدن عند جيل هذا العصر

- ‌الفصل الثاني: الإنسان العصري المتمدن والإيمان بالغيب

- ‌الباب الثاني عشر

- ‌الفصل الأول:هل في الاشتراكية خير للإنسانية؟ ازدياد عدد الفقراء فيها

- ‌الفصل الثاني: الاشتراكية والمرأة

- ‌الفصل الثالث: وصية الإسلام بالرفق بالضعفاء: اليتيم، والمملوك، والمرأة

- ‌الفصل الرابع: صون الإسلام للمرأة، وابتذال غيره لها

- ‌الفصل الخامس: مثال من حصافة رأي المرأة العربية المسلمة

- ‌كلمة ختامية:

الفصل: ‌الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم

ذلك أن العمل على إرضاء المخلوق - كيفما كان ولو كان هذا المخلوق ممن تجب طاعته كالأبوين - بما يغضب الخالق لا يقع إلا ممن لا يخاف الله ويخاف المخلوق، فهو يعمل - جاهدا - على إرضائه بكل الوسائل ولو فارق دينه في سبيل ذلك.

أخرج الحاكم في المستدرك عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أرضى سلطانا بما يسخط ربه خرج من دين الله)). هذا وعيد شديد لأولئك الذين لا يخافون الله فيغضبونه من أجل أنهم يعملون ليرضى عنهم ذوو السلطة والحكم، فقد أهلكوا أنفسهم وأهلكوا حكامهم من حيث زينوا لهم ما يفعلون، ولو خالف الشرع والحق، ولو أنصفوهم لنصحوهم حتى يبعدوهم عن الضلالة والخسران.

‌الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم

(1).

يتولى أمور المسلمين العامة - بالإصلاح والرعاية - صنفان من الناس:

العلماء المرشدون والحكام المسيرون، آمرين بالخير ومحذرين من الشر، وموجهين لإخوانهم، حتى لا يضلوا ولا يزلوا، لهم علماؤهم في توضيح السبيل وإنارة الطريق، وأمراؤهم وحكامهم في رعاية مصالحهم، من جلب خير، أو دفع ضر، فإذا أخلص العلماء في عملهم التوجيهي والإرشادي وإذا صدق الأمراء في إماراتهم وأحكامهم سعدت الحياة واستقامت الأمور، وكان كل واحد من هذين الصنفين في مستوى منصبه، الإخلاص رائده، والصدق قائده، وحب الخير والصلاح غايته، إذا كان ذلك كتب النجاح والفوز لكل واحد من الصنفين، وفاز بلذة نجاحه، وإذا انعدم الإخلاص وجاء الطمع والأنانية وحب الذات والهيمنة ساء الحال وخسرت الأمة المآل.

ومن لطف الله بهذه الأمة - أمة محمد صل الله عليه وسلم - أن فرض عليها صلاة الجمعة المسبوقة بخطبتين، فإذا حان وقتها أسرع المسلمون

(1) نشر هذا الفصل في صحيفة "الشهاب" اللبنانية تحت عدد 11 من السنة السابقة بتاريخ 7 شوال 1393 هـ الموافق لـ 1 نفمبر 1973 م.

ص: 90

إلى المساجد، الأمير والمأمور، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، فهي تجتمع - بعد كل أسبوع - اجتماعا واجبا مؤكدا، تجتمع لتتذكر فيه ما كانت سهت عنه في تلك الأيام الماضية، تستمع إلى أمر الله عباده بالطاعات، من آيات قرآنه، أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى نهيه عن مخالفة ما في شرعه، من اقتراف الذنوب والمعاصي، حتى يستقيم المسلمون على نهج الإسلام المستقيم، فيفوزوا بهناء الحياة ولذتها، في كنف الدين الذي اختاره الله لعباده، يسمعون ذلك يتلى عليهم من خطيب واعظ - يشعر بمركزه ومهمته - يعظ المسلمين، فيذكر الناسي، لقول الله تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} فيوقظ الغافل الساهي، ويرشد الحيران، لأن كلمة الواعظ مسموعة من الجميع، لا فرق بين الأمير والمأمور، فلا ينتهي من موعظته إلا والقلوب واجفة، والأبصار خاشعة، فيبقى أثرها في النفوس المؤمنة، فتستقيم على النهج القويم في سلوكها، فلا تتراخى في فروض دينها، ولا تقترف ما يشينها، وهكذا تتجدد الموعظة في كل أسبوع، فيقوى في القلوب الإيمان، وتضعف في النفوس دواعي الشرور والآثام، هذه هي النتيجة المرجوة إذا وجدت أسبابها، وهي تتمثل في حسن سلوك الخطيب الواعظ، فإن كان سلوكه حسنا وإخلاصه كاملا أفاد واستفاد، وإلا كانت الخسارة على المتكلم والسامع، وما هذا من مقاصد الشريعة.

من أجل هذه المقاصد الشريفة فرضت صلاة الجمعة على كل مسلم، فوجب عليه أن يسعى إليها إذا نادى مناديها، لا يشغله عنها بيع ولا شراء، ولا عمل إداري ولا غير ذلك، ولكن مع شديد الأسف رأينا الكثير من المسلمين والكثير من حكامهم - إلا القليل من هؤلاء - زهدوا في أداء هذا الركن الجليل، وفي هذا اليوم الذي هدى الله إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ضل عنه اليهود والنصارى كما جاء في الحديث النبوي الشريف، فاشتغلوا فيه بالأعمال الدنيوية - وهي كثيرة لا تنتهي - فلم يعطلوا فيه أعمالهم ساعة الصلاة، وصار من يقصدها منهم قليلا، ولكنه مؤمن صادق الإيمان، فضاعت حكمة هذا اليوم في فلاة شتى الأغراض وحب الكسب، هذا من جانب الموعظة وتأثيرها.

ص: 91

وفي الجانب الآخر من حياة المسلمين، هناك حكام جلسوا فوق كراسي السلطة والحكم، يتولون أمور المسلمين، يحمونهم من كل مكروه ويسوسونهم بالرفق واللين، يوجهونهم وجهة الخير والسعادة، يعطفون عليهم كما يعطفون على أبنائهم أو أشد، يحافظون على حرماتهم، ويسهرون من أجل راحتهم، ويتعبون من أجل سعادتهم، وفي أيديهم كتاب الله وسنة رسوله، بهما - لا بغيرهما - يسوسون أمتهم، لأن الكل مسلمون.

هؤلاء وأولئك هم صفوة هذه الأمة، وهم منارها وكهفها، وقد كان الوفاق تاما شاملا بين من اعتلى منبر الخطبة الجمعية وبين من تربع على كرسي السلطة الزمنية - لا يعلو أحدهما على الآخر علو عتو واستكبار - يأمر الخطيب وينهى، وما أمره ونهيه إلا بما فيه طاعة الله ورضوانه، فيسمع الحاكم والمحكوم، سماع قبول ورضى وطاعة، في قلوب الحكام حب للعلماء واحترام لجانب العلم والدين، وفي قلوب العلماء إخلاص وولاء وطاعة لجانب الحكام، بل كان في الأزمان الزاهرة للإسلام الحاكم هو الإمام وهو الخطيب، ولذلك لقب بالإمام، جمع في يديه السلطة الروحية إلى جانب السلطة الزمنية، يسترشدون العلماء فيرشدونهم، ويستفتونهم فيما يحدث لهم من قضايا ومشكلات فيفتونهم، فيتعاون الجميع على حلها، لا يعادي أحدهما الآخر، إلا إذا اعتدى ذلك الآخر على حرمة الشريعة، فعند هذا يقف الآخر في وجهه، أن قف عند حدك

ولا تتجاوز الحدود، فيصير كل واحد من الصنفين يرهب الجانب الآخر ويخشى غضبه، فيعمل كل واحد منهما على إصلاح نفسه، حتى لا يكون عرضة لغضب الله والأمة المسلمة، وبصلاحهما تصلح الأمة وبفسادهما تفسد كذلك، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء)) والسر في هذا ظاهر، لأنهما محل القدوة ومحط أنظار العامة، إننا في زمان تأله فيه بعض حكام المسلمين وصاروا كالأوثان التي كانت تعبد من دون الله، تقرب لها القرابين، ويقدم قولها على قول الله الخالق العزيز، تطاع ويعصى الله.

إننا رأينا العجائب والغرائب في عصرنا هذا، فقد خرج الكثير من

ص: 92

الصنفين المذكورين عن طوره وخطة عمله المحددة له في الشريعة الإسلامية، فلم تبق تلك الصلة المتينة - صلة الدين - قائمة بين الصنفين، فالوعاظ تركوا ما هم مطالبون به - دينا - والحكام احتقروهم ولم يقيموا لهم وزنا، فكانت الشحناء والبغضاء بينهم، وصار الحكام لا يمتثلون لمواعظ العلماء، بعد أن كانوا يأتمرون بأمرهم، وينتهون لنهيهم، فضعف قول العلماء فيهم لضعفهم، وقويت سلطة الحكام عليهم حتى تجاوزت الحدود، وصاروا هم الكل في الكل، حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى أن صار يفرض على الوعاظ خطبة الجمعة، فمنهم من يرسلها مكتوبة إلى الخطباء حسبما يشتهي ويريد، ومنهم من يأمر الوعاظ بأخذ موضوع خطبة الجمعة من خطابه السياسي الذي تعود أن يلقيه كل أسبوع، ومعنى هذا وذاك أن هذا الحاكم أراد أن يخضع خطباء الجمعة إلى سلطته لا إلى سلطة الدين والواجب والضمير، وهذا كما قلنا آت من ضعف العلماء الخطباء - وأسباب ضعفهم كثيرة - وفي بعض البلدان الإسلامية تصدر خطبة الجمعة - كاملة - مكتوبة من وزارة الشؤون الدينية إلى خطباء المساجد، وما على الخطيب إلا أن يصعد إلى المنبر ليلقي خطبة - بل أمرا - ليست من إنشائه ولا من رأيه، تقرأ في الوطن كله، حتى إذا حدثت حادثة في بلد ما وأراد الخطيب أن ينبه عليها - كما هو الواجب - ويلفت النظر إليها لم يجد لها وقتا يبلغها فيه للمصلين، فيكون حال الخطيب كحالة آلة التسجيل، تسجل ما يلقى إليها، أو كالببغاء تعيد من الكلام ما تسمعه، وهذا أحد المواقف التي ضعف فيها العلماء - وما أكثرها - وقد يبعد بعض الخطباء عن المنابر لأنهم لم يرضوا بهذه المعاملة المهينة والبعيدة عن المغزى الديني، وقد يكون موضوع تلك الخطبة في شيء لا صلة له بالحياة الإسلامية.

وهنا ظهر أن الكرسي - وأعني به كرسي الحكم الحزبي - سيطر وتحكم في المنبر وعلى المنبر، لتكون كلمته - النافذة - نافذة يطل منها على الأمة.

ولولا حب الهيمنة والتسلط لكان المنبر حرا محترما من الجميع، كما هو الشأن فيما سلف من الزمن، غير أن الكرسي أراد أن يعتلي على المنبر - منبر خطبة الجمعة - لتكون له السلطة عليه، حتى يملي إرادته كما يشاء ويحب.

وفي هذه الحال نرى أن مقام المنبر مقام جليل - لمن عرف قدره -

ص: 93

فهو أرفع وأعلى منزلة من غيره - من غير احتقار لأحد - نظرا لما يلقى منه.

وفي صنعهما على الهيئة التي نراها عليهما الآن حكمة خفية دقيقة لمن تدبرها، تلك هي أن النجار الذي صمم هيئة المنبر ألهمه الله بأن يجعل درجاته أكثر عددا حتى يرتفع عاليا وليبلغ صوته بعيدا، وأقلها ثلاث درجات كما كان منبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما الكرسي ليس له درجات كالمنبر، فدل هذا على أنه دونه وأنه خاضع له خضوع استماع وعمل لا خضوع سلطة وهيمنة، وهذا يرجع إلى معرفة والتزام كل واحد من الصنفين المذكورين لمنصبه، واحترامه لمنصب الآخر، فقد قص علينا تاريخ علمائنا وأمرائنا قصصا تصلح لأن تكون مثالا يحتذى من الجانبين، فالأمراء والحكام عليهم أن يعرفوا فضل علمائهم، فيضعونهم في المقام الذي وضعهم فيه منصبهم من غير أن ينتقصوهم حقهم أو يعتدوا عليهم، والعلماء عليهم أن يدركوا منزلة أمرائهم وحكامهم ويكونوا في عونهم على إصلاح الأمة وإرشادها من غير أن ينتقص أحدهما الآخر، وعلى كل واحد منهما المحافظة على مقامه.

وعندما كان كل واحد منهما يعرف منزلة غيره كانت الكلمة الأخيرة للإسلام الذي يمثله العلماء العاملون، وهي الكلمة الفصل في كل شيء، الأمراء والحكام يستمعون إلى نصائح العلماء، ويأخذون برأيهم، لأنه رأي الشرع وعلى الجميع احترام الشرع والخضوع له.

وهذه بعض المواقف التي وقفها بعض العلماء العاملين من بعض أمراء زمانهم عندما رأوا منهم انحرافا عن الصراط المستقيم.

1 -

ناظر أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فرفع المنصور صوته عاليا، فقال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، ومدح قوما فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} الآية، وذم قوما فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية، وأن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان أبو جعفر ورضي بما قاله الإمام مالك.

2 -

ذكروا أن الخليفة هارون الرشيد حلف على شيء وحنث، فجمع

ص: 94

العلماء واستفتاهم في كفارة يمينه فأجمعوا على أن عليه عتق رقبة، وسأل مالكا فقال له: عليك صيام ثلاثة أيام كفارة يمينك، فقال له الرشيد: لم أأنا معدم؟ وقد قال الله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} فأقمتني مقام المعدم

فقال له: نعم يا أمير المؤمنين، كل ما في يديك ليس لك، فعليك صيام ثلاثة أيام.

3 -

ولا ننسى كذلك موقفه المشهور عندما طلب منه الرشيد أن يأتي إليه ليقرأ عليه وعلى أولاده كتابه - الموطأ - فأبى مالك وأمره بأن يأتي هو وأولاده ليحضروا مجلس القراءة مع عامة الناس - احتراما للعلم ورجاله - فامتثل الرشيد، وحضر هو وأولاده إلى مجلس العلم حتى لا يميز عن غيره في هذا الباب.

4 -

ومن هذا القبيل موقف تلميذه العالم الفقيه راوي الموطأ يحيى بن يحيى الليثي - عاقل الأندلس كما سماه مالك بن أنس إمامه - فقد استدعى الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالمرتضي صاحب الأندلس - العلماء عندما ارتكب في نهار رمضان ما أفسد عليه صومه، ذلك أنه عبث بجارية له كان يهواها حتى واقعها، فندم، واستدعى العلماء إلى قصره، فلما أتوه سألهم عن كفارة ما فعله - بعد أن تاب وندم - فأول من تكلم من الحاضرين يحيى بن يحيى اللثي، فقال للأمير: يكفر عنك ذلك صيام شهرين متتابعين، فسكت كل من كان في المجلس من العلماء، ولما خرج الجميع من عند الأمير قال الفقهاء ليحيى بن يحيى - وكان محترما مهابا -: ما لك لم تفته بما في مذهب مالك؟ ففي مذهبه أنه مخير بين العتق، والإطعام، والصيام؟ فقال لهم: لو فتحت له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة فيه، ولكني حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.

5 -

ولا يغيب عنا موقف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - أمير المؤمنين في الحديث - مع سلطان بلده - بخارى - خالد بن أحمد الذهلي، فإنه أرسل له رسوله فقال له: إن السلطان يقول لك: أن أحمل إلى كتابيك، "كتاب الجامع" وكتاب "التاريخ" لأسمعهما منك، فقال للرسول: قل له:

إني لا أذل الغلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي أو داري.

6 -

وهذه مواقف العالم المجتهد الشيخ "عز الدين بن عبد السلام" سلطان

ص: 95

العلماء شيخ القرافي وابن دقيق العيد، وهذا الأخير هو الذي لقبه بسلطان العلماء، فقد كانت له مواقف دلت على تقواه وخوفه من ربه وشجاعته، منها أنه لما كان خطيب الجامع الأموي بدمشق - وكان الذي ولاه الإمامة الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل - حدث أن سلم الملك الصالح إسماعيل إلى الفرنج قلعتي صيدا والشقيف على أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب ملك الديار المصرية، فساء ذلك التسليم المسلمين وشق عليهم، فذمه الشيخ ونال منه وأنكر عليه وقوع ذلك منه في خطبة الجمعة - وذلك دأب العلماء العاملين إذا رأوا منكرا فإنهم ينكرونه ولا يسكتون عنه، ولو صدر من أعلى شخص في الأمة - ولم يدع له كالعادة، وبذلك الاتفاق بين الملك إسماعيل وبين الفرنج صار هؤلاء يدخلون دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين، فشق هذا أيضا على الشيخ واستفتاه الناس في بيع السلاح للفرنج فقال لهم: يحرم عليكم مبايعتهم السلاح لأنهم سيقاتلون به إخوانكم المسلمين، ولما بلغ السلطان إنكار الشيخ عليه تسليمه حصون المسلمين - بواسطة أعوان الشيطان - إلى الفرنج أمر بعزله من الخطابة واعتقاله فبقي معتقلا إلى أن جاء الملك إسماعيل إلى دمشق فأفرج عنه، فأقام مدة بدمشق ثم تركها وارتحل عنها إلى بيت المقدس.

ثم جاء الصالح إسماعيل ومعه ملوك الفرنج إلى بيت المقدس قاصدين الديار المصرية، فسير الملك إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ، وأوعز إليه بأن يصلح بينهما ويعود الشيخ إلى مناصبه، بشرط أن يذهب الشيخ إلى السلطان إسماعيل وينكسر له ويقبل يده، فأجابه الشيخ سلطان العلماء بهذا الجواب الذي دل على همته العالية ونفسه العظيمة وأنه فوق هذه السفاسف .. (والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلا عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به)، فقال له الرسول:

إنه رسم لي إن لم توافق على ما طلب منك أن أعتقلك، فقال له: افعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان.

وكان الشيخ عز الدين يقرأ القرآن والسلطان إسماعيل يسمعه، فقال يوما لملوك الفرنج: تسمعون الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا نعم، قال هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره على تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء إلى القدس،

ص: 96

وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم

فقال له ملوك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتهما

) (1).

ثم أفرج عنه فهاجر إلى القاهرة، فولاه ملكها نجم الدين أيوب خطة القضاء في مصر فأعطى للقضاء حرمته وهيبته، حيث أراد أن يجعل القضاء مستقلا عن تدخلات الأمراء.

ومن مواقفه أنه أراد بيع الأمراء المماليك، وقال لهم أنكم مملوكون للأمة أبيعكم في الأسواق أمام الملأ بالمزاد وأجعل ثمنكم في بيت مال المسلمين، فشق ذلك عليهم - وهم الأمراء - ولما حضرت العامة لتبايع الملك الظاهر ركن الدين أبا الفتح بيبرس أبى أن يبايعه - وهو القاضي - فقال له: يا ركن الدين أنا أعرف أنك مملوك "البندقدارى". ولم يبايعه حتى جاء من شهد له بالخروج عن ملك البندقدارى إلى الملك نجم الدين أيوب وهذا أعتقه، ولما قامت عنده هذه البينة العادلة بايعه، وفي مدة توليه القضاء بمصر بني بعض الأمراء بيتا فوق سطح مسجد بمصر أعده لغير مصلحة المسجد، فأنكر ذلك عليه سلطان العلماء واعتبره إهانة لبيت، من بيوت الله، وحكم بفسق من فعل ذلك وجاء بجماعة إلى ذلك البيت وهدمه، ثم أقال نفسه من منصب القضاء ولزم بيته إلى أن توفي في جمادى الأولى سنة (660) هـ عن ثلاث وثمانين سنة قضاها في خدمة العلم والدين، أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر رحمه الله ورضي عنه.

هذه مواقف وقفها بعض العلماء الأعلام في وجه من حاول من الحكام إهانة الدين والعلم، وفي بعضها توقير بعض الأمراء للعلماء واحترامهم والأخذ برأيهم والامتثال لنصائحهم، وفق الله العلماء لإعزاز الإسلام، وهدى الأمراء والحكام لنصرة الحق والدين، وفي هذا وذلك خير الجميع.

ويعجبني في العلماء العاملين اعتزازهم بعلمهم، وشحهم بدينهم، وحفظهم لكرامتهم من الابتذال.

وتجمع هذه المعاني أبيات من قصيدة القاضي الشيخ أبى الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني رحمه الله وهي:

(1) طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي ج 8 ص 244 ترجمة 1183 طبع الحلبي.

ص: 97

يقولون لي فيك انقباض وإنما

رأوا رجلا عن موقفه الذل احجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم

ومن أكرمته عزة النفس أكرما

وما زلت منحازا بعرضي جانبا

من الذم اعتد الصيانة مغنما

ولم أقض حق العلم إن كان كلما

بدا طمع صيرته لي سلما

وما كل برق لاح لي يستفزني

ولا كل من لاقيت أرضاه منعما

إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى

ولكن نفس الحر تحتمل الظما

انهينها عن بعض ما لا يشينها

مخافة أقوال العدا فيم؟ أو لما؟

ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي

لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة؟

إذن فاتباع الجهل قد كان احزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا

محياه بالأطماع حتى تجهما

ص: 98