الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يسعني لم أكفن إلا فيه، أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا، أو عريفا، أو بريدا، فكل القوم كان نال من ذلك شيئا إلا فتى من الأنصار كان مع القوم قال: أنا صاحبك ثوبان في عيبتي - حقيبتي - من غزل أمي وأحد ثوبي هذا الذي علي، قال: أنت صاحبي، فكفني (1).
هذه نبذة مختصرة من ترجمة هذا الصحابي العظيم، الذي استغل زهده وتقواه بعض من يريدون أن يجمعوا الأموال باسم الزهد فيها، وهو من السابقين الأولين في الإسلام كما تقدم، وهو من الذين وحدوا الله على الفطرة، وعبد الله قبل ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بمبعثه سارع إلى مكة واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ولحقه في سبيل ذلك من عذاب المشركين والجوع الشيء الكثير، ثم رجع إلى قومه - غفار - يدعوهم إلى الإسلام وترك الشرك والخرافات، ومما يدل على فضله أنه أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، فقال له:(السلام عليك).
الفصل الخامس: من مكائد اليهود للإسلام، واغترار المسلمين بالمظاهر
.
والذي يجب أن يعلم هنا وبهذه المناسبة، وبالخصوص استعمال كلمة أبي ذر السالفة الذكر، كدليل على دعوى ترك ادخار المال، والمقصود منها - تدعيم الغرض لا غير - إن أصلها ومصدرها من يهودي فنشير إلى أن كتب التاريخ سجلت والسير أوضحت ونصت على محاربة اليهود للإسلام، ودعوته من أول ظهوره إلى يومنا هذا، بل وإلى ما بعد يومنا هذا، واليهود لا يكفون عن عداوتهم ومحاربتهم للإسلام، فكم دسوا ودلسوا وزوروا على الإسلام ورسول الإسلام من أقوال وأحاديث نسبوها إليه - زورا وبهتانا - قاصدين من وراء ذلك فتنة المسلمين وتخليط الإسلام على المسلمين، وتشويه وجهه المشرق الجميل الطاهر، بأكاذيب وقصص ملفقة، فقد حفظ لهم التاريخ مكائد كادوها للإسلام ولرسول الإسلام، كإرادة تسميمه بواسطة لحم الشاة المعروفة ليموت بالسم - بواسطة امرأة يهودية - وكمحاولة قتله - غدرا - بإلقاء صخرة رحا عظيمة عليه وهو تحت حائط من حيطان ديارهم لتكون القاضية عليه، وكسحره على يد اليهودي لبيد بن الأعصم، وغير ما
(1) المصدر السابق ص 233 طبع داري بيروت وصادر.
ذكر من أنواع المكر والكيد المعروفة فيهم - إلى اليوم - والمذكورة في كتب التاريخ والسير، لكن الله الذي أرسله رحمة للعالمين حفظه ونجاه من جميع المكائد اليهودية، كما نجاه من مكائد المشركين، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (1) فكم لليهود من دسائس منكرة كشف عنها أولوا البصر الثاقب من علماء الإسلام الأجلاء الذين يغارون على دينهم، ولا يرضون أبدا أن ينال منه أحد أو ينتقصه منتقص - كائنا من كان - وغيرهم يسمع ويبصر ولا يتحرك للدفاع عنه، كمكيدة الاشتراكية اليهودية التي ارتمى في أحضانها بعض حكامهم الذين لا يخافون الله والتاريخ فرحم الله علماء الإسلام وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي به العاملين المخلصين.
وكم من يهودي ادعى الإسلام - ظاهرا - من غير أن يسلم في باطنه وواقعه وحقيقة أمره، بل أسر الكفر بالإسلام وبرسوله، ليتمكن من محاربة الإسلام وهو آمن لا خوف عليه.
والذي جعل اليهود يتظاهرون بالإسلام - بلا إسلام - إلا القليل منهم - هو تأمين حياتهم في الوسط الإسلامي الذي كانوا يعيشون فيه، مع أنهم أهل ذمة لهم الأمن والحفظ على المسلمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم - حسبما أوصى بذلك الإسلام - ففي وسط هذه المعاملة الحسنة لهم عملوا على جلب عدد من المسلمين إلى آرائهم وأفكارهم، حتى يأنس المسلمون إليهم ويثقوا فيهم، فيكونون بهذا الاختفاء والتستر بالإسلام قد قضوا أوطارهم، من إفساد دين المسلمين على المسلمين، مع التأمين على حياتهم.
فكثيرا ما اغتر المسلمون بالمظاهر، مكتفين بها من غير تعمق واستقصاء في البحث إلى دواخل الأمور: وذلك راجع إلى طهارة قلوبهم وحسن نياتهم، ونظرهم إلى الناس بمنظار الإيمان الصافي، لهذا ينخدعون سريعا بالمظاهر، وفي تاريخ الإسلام والمسلمين - القديم والحديث - أمثلة شاهدة على ما قلت إلى يومنا هذا.
وفي الجزائر - مثلا - وقعت أمور من هذا النوع، والأمثلة كثيرة - منها قصة بوشناق وبوخريص - باكري - اليهوديين الجزائريين الذين كانت لهما
(1) الآية 43 من سورة فاطر.
ديون على (فرنسا) فاتفقا معها - سرا - على خيانة الجزائر، وهما أحد أسباب احتلال (فرنسا) للجزائر عام 1830 م.
ومن أمثلة انخداع المسلمين بالمظاهر قصة ذلك الجاسوس الفرنسي "ليون روش" الذي أوفدته حكومته (فرنسا) ليكون عينا لها وجاسوسا على "الأمير عبد القادر" رحمه الله وعفا عنه عندما كان يخوض حرب الدفاع عن الجزائر إبان غزو فرنسا لها، عندما وطئت أقدام جندها تراب الجزائر سنة 1830 م - والوقت وقت حذر - فتقدم هذا الجاسوس - ليون روش - الفرنسي إلى الأمير مظهرا إسلامه، وأنه من المسلمين، وأن حكومته - فرنسا - اضطهدته من أجل إسلامه، والمثل العربي القديم يقول - لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ - فخصه الأمير بالعطف عليه، وجعله ضمن خاصته وحاشيته، وأخذ يتقرب إليه شيئا فشيئا مظهرا إخلاصه له حتى جعله كاتبه الخاص، فاطلع على كل شيء في محيط الأمير عبد القادر رحمه الله وعفا عنه، فقام بالمهمة التي جاء من أجلها وأسلم لها - ظاهرا - ولما غلب الأمير على أمره في النهاية واستسلم - بعد قتال مرير - لفرنسا كما هو معروف، رجع هذا المسلم الكاذب إلى دينه الأول كما كان، وترك دينه الثاني - الإسلام - لأنه لم يسلم حبا في الإسلام وإيمانا به، بل هو كما قيل:(صلى وصام لأمر كان يقضيه) وقد كتب كتابا ضمنه عمله هذا الذي قام به، والدور الذي لعبه في ذلك، وسمى كتابه هذا (ثلاثون عاما في الإسلام)، وقد طبع الكتاب بالفرنسية وبيع وإن كانت نسخه الآن قليلة، وسنأتي فيما بعد - إن شاء الله - بشيء مما كتبه عن مهمته، وعن الأمير عبد القادر، وعن الإسلام والمسلمين، وما فهمه من الإسلام، وثنائه على ما فيه من حلول للمشاكل الحاضرة لو وجد في المسلمين من يعمل به، وقد عرفت حكومته - فرنسا - منزلته، فأمست عليه نهجا في الجزائر تخليدا لاسمه واعترافا بخدماته لدولته، في سبيل احتلالها للجزائر، حتى لا ينساه أبناؤها.
ذكرت هذه القصة لأن الكثير منا لم يطلع عليها، ولنقارن بينهما وبين الوقائع الكثيرة من مثيلاتها، إذ لعل ما وقع لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه من هذا النوع، جاءه من يهودي أسلم، يلقب بابن السوداء - واسمه:
عبد الله بن سبأ، كما يأتي بيانه قريبا - بحول الله - وكان ابن السوداء هذا منافقا، ذلك أن هذا اليهودي - المسلم ظاهرا - قد اندس في صفوف المسلمين يفتنهم عن دينهم، ويفسد عليهم ذات بينهم، وقصته مشهورة أيام كان في الشام.
وحيث كانت قصته متصلة بابي ذر وكلمته تلك التي استغلت للدعاية يجمل بنا أن نوردها هنا - للاعتبار - منقولة عن المؤرخ القديم القدير الثقة ابن جرير الطبري والمذكورة في كتابه المشهور (تاريخ الرسل والملوك) قال:
(وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار، تكوى بها جباههم، وجنوبهم، وظهورهم، فما زال يرددها حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقونه من الناس)(1) ثم بعث معاوية بأبي ذر إلى عثمان بن عفان بالمدينة حتى لا يفسد عليه أهل الشام، ولما دخل على عثمان قال له:(يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذربك (2)؟ فأخبره بأنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا) (3).
ويوضح لنا الطبري كيف كان اتصال عبد الله بن سبأ اليهودي بأبي ذر الغفاري الذي وجد فيه ضالته، وكيف لم يجدها في الصحابيين: أبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، فيقول الطبري: (عن يزيد الفقسعي قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية!!! يقول: المال مال الله؟ ألا إن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين، هذا كلام اليهودي لأبي ذر، وهو يرمي إلى إشعال نار الفتنة بين المسلمين، فذهب أبو ذر إلى معاوية بعد أن سمع كلام اليهودي فقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال - يقصد معاوية -: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله؟ والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين.
قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له: من أنت؟ أظنك والله يهوديا. فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية فقال: (هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر)(4). فظهر مما تقدم أن هذا اليهودي المنافق لعب
(1) ج 4 من تاريخ الطبري ص 283 طبع المعارف.
(2)
ذربك شدة لسانك نفس المصدر ص284.
(3)
المصدر نفسه ص283.
(4)
المصدر والصفحة المذكوران.
دورا هاما في هذه القضية غير أنه صادف في أبي ذر بغيته، وخاب سعيه مع أبي الدرداء وعبادة بن الصامت.
وقال المرحوم أحمد أمين بعد أن نقل كلام الطبري المذكور: (ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذر الغفاري، وبين رأي (مزدك) في الأموال فقط) (1) وزاد أحمد أمين قائلا: (فترى من هذا أن رأيه - يعني أبا ذر - قريب جدا من رأي مزدك في الأموال، ولكن من أين أتاه هذا الرأي؟ ثم ذكر كلام الطبري المتقدم)(2).
وأضاف أحمد أمين إلى ما سلف هذا البيان فقال: (ونحن نعلم أن ابن السوداء هذا لقب لقب به عبد الله بن سبأ، وكان يهوديا من صنعاء أظهر الإسلام في عهد عثمان، وأنه حاول أن يفسد على المسلمين دينهم، وبث في البلاد عقائد كثيرة ضارة قد نعرض لها فيما بعد)(3) وزاد على ما تقدم فقال: (فمن المحتمل القريب أن يكون - يقصد ابن السوداء - قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق أو اليمن، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقاده، وصبغها بصبغة الزهد التي كانت تجنح إليها نفسه، فقد كان - يريد أبا ذر - من أتقى الناس وأورعهم وأزهدهم في الدنيا، وكان من الشخصيات المحبوبة التي أثرت في الصوفية). ومما تقدم ندرك يقظة بعض الصحابة وحذرهم، فلم ينخدعوا بقول اليهودي - ابن سبأ - كأبي الدرداء وعبادة بن الصامت ومال إلى قوله أبو ذر الغفاري رضي الله عنهم كلهم، لأن قول اليهودي وافق مذهبه في الزهد في الدنيا، وترك زينتها، فقد ظهر من هذه الأقوال والآراء سر هذه الدعوة ومغزاها التي دعا إليها الصحابي الزاهد أبو ذر الغفاري عن حسن نية، كما ظهر من ذلك أيضا منشؤها ومصدرها، وهم اليهود الذين لم يفتأوا يحاربون الإسلام بشتى أنواع الحروب والأسلحة، من أول ظهوره إلى الآن، حتى ولو ألزمهم ذلك الدخول فيه ظاهرا.
ويزيدنا يقينا فيما قلناه تلك الدعاية المسمومة بسم اليهود، وهي قول اليهودي لأبي ذر:(لماذا يقول معاوية: المال مال الله؟) وما قال هذا
(1) فجر الإسلام الطبعة الثانية ص 130.
(2)
المصدر السابق.
(3)
كالذي قبله.
إلا ليستحوذ على المال ويفعل به ما يريد، وكان الواجب عليه أن يقول:
المال مال المسلمين، فنرى هنا فطنة معاوية - المعهودة فيه - لهذه الكلمة المسمومة، ولهذا أجاب رغبة أبي ذر بجواب الحكيم والسياسي الخبير، من غير أن ينفي المال عن الله - كما هو الواقع - ومن غير أن يغضب أبا ذر - - لله دره من سياسي حاذق - فقال: لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين، فجوابه هذا إرضاء لأبي ذر - في الظاهر - وإن كان المال مال الله كما قال أول مرة، وهذه حيلة ودسيسة دسها اليهودي ليتوصل بها إلى الفتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فهذه إحدى دسائس اليهود الماكرين ومكائدهم للمسلمين.
ومثل ذلك في عصرنا الحاضر هذه النحلة الماركسية اليهودية الاشتراكية والشيوعية الملحدة التي أخذت مبادؤها الهدامة للعقيدة الإسلامية والأخلاق الكريمة الفاضلة تظهر وتنتشر في الأوطان الإسلامية في وقتنا هذا مستعملة كل وسائل الخداع والتمويه والتضليل في أوساط المسلمين الضعفاء في دينهم وأخلاقهم وعقيدتهم، وقد ألبسوها لباس التقدم والتقدمية، وأطلقوا على أنفسهم - التقدميين - وعلى من خالفهم في كفرهم بربهم - الرجعيين - ليجلبوا ضعفاء الإيمان إليهم، فيكونون ناجحين بإخراج طائفة من المسلمين من دينهم وكفرهم بدين الله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلا فقد انخدع بها البعض منهم كما انخدع أبو ذر بعبد الله بن سبأ اليهودي فيما دعاه إليه، كما مر آنفا. غير أن حقيقة الخداع والتمويه ستنكشف وتظهر الحقائق فيما بعد:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1).
(1) سورة الشعراء الآية 227.